أقلام ثقافية

رشيدة الركيك: السعادة المستعصية

rasheeda alrakikكثيرا ما تجتاحنا أحاسيس نستطعم من خلالها النعم ونتأمل أنفسنا في حضور غيرنا بنوع من الرضا.

نقرأ عن أنفسنا من خلال صفحات ذكرياتنا، نسطرها كما سطرت نفسها في أذهاننا الموشومة بلحظات من الألم والمعاناة، لكنها لم تكن لحظات يأس وسخط. وكأننا نتكلم عن موعد فرح محتوم وقد علق بأذهاننا انتظار ليسر بعد كل عسر، بل كلما اشتد العسر ندرك أكيد أنها ستفرج من ينابيع الأمل.

تعلمنا أن الألم من صفات الحياة ووجه من وجوهها، بل إنه صفحة من صفحاتها المطوية، والأكيد أنه لم يكن يوما أبديا.

تعلمنا أن في الحرمان مناعة، وأنه سر وجود الأماني والأمنيات، بل إنه كلما اشتد الحرمان كانت الرغبات أشد وعلى قدر الحرمان تأتي العزائم.

وكأنه نوع من التوازن النفسي، نستطيع من خلاله أن نستطعم كل جميل ونبحث عن جمال أكبر، وفي ذلك إقرار لكل الممكنات وإقرار لاستحقاقنا لنصيبنا من السعادة.

كنا نرى في لحظات الألم وقفة تأمل وتريث ومعالجة وتحليل . كان يختلط الفكر بالعواطف لتنتج كتابات قد نسميها هواجس أو خواطر. تمر السنين لنقرأها فنحس بأحاسيسها ولكن بلغة اليوم وبأحداث اليوم وبهمسات اليوم، لقد كان صمودا في وجه المستقبل المجهول، بل هي نوع من الاستمرارية بين الماضي والحاضر باعتباري أنا هو هو.

لقد اجتمع الفكر والإحساس ليخلق تناغما فريدا من خلال التواصل الإيجابي مع الذات وتقبلها وحسن تقديرها. إنه التصالح مع الذات الذي منحتها، فأعطتك قدرة على مواجهة التحديات وتقبل فكرة التغيير المستمر على صفحات حياتك. لقد كنت مقتنعا باستحقاقك لسعادة أكبر، ليتمظهر ذلك في سلوكاتك من ود للآخرين وحيوية في الإقبال على الحياة والتفاؤل عند المصائب والمرونة في الفعل والقدرة على التكيف مع البيئة المحيطة. إنها سمات الشخصية السعيدة كما نتمناها، إنها القدرة على النهوض وعلى التحكم في مجرى حياتنا باعتبار كل واحد منا فاعلا فيها وليس منفعلا بها.

هل تعلم أنني أنا أنت، إنه المجال المشترك، نحن نتذوق جميعا أحاسيس الحب والكره، الألم واللذة، اليأس والسعادة، العطاء والحرمان، الخوف والطمأنينة. هذا ما نجده بداخلنا ككهف يسوده الظلام، والغريب أن كل شرارة تنير المكان وتمنحنا الرغبة في الكشف عن المزيد.

 ولأن السعادة  هي غاية الوجود الإنساني، بوجودها تتغذى آمالنا وتؤجج مشاعرنا الإيجابية وتتقوى رغبتنا في الحياة بل وتعطي معنى لها من أجل الاستمرار ومن أجل غد أفضل.

نتكلم عن الإحساس بالسعادة كما عشقناه عشناه وكما تعلمنا أن نعيشه بالكثير من الإيمان بالقدر دون تغييب لقدرات البشر.

ألا ترى معي اليوم أننا لم نستطيع تحقيق المعادلة الصعبة، وأصبحت السعادة أمرا مستعصيا؟

ألا ترى معي أنه يحق لنا أن نقف عند مشروع أهم هو صناعة الإنسان، كمشروع يخدم الإنسانية بدل الضياع في البحث عن مصادر خارجية لإسعاده؟

نسمع من بعض الفقراء شكواهم أن المال يحل كل مشاكلهم وسبب في سعادتهم، مع أنه قد يكون سبب معاناة البعض وتخبطهم في الكثير من المشاكل. كما قد ينهار العاطل باحثا عن فرص العمل كمصدر لسعادته مع أنه قد يكون مصدر تعاسة بعض العمال وسبب للضغوطات النفسية والروتين اليومي. وقد يتألم العاقر باحثا عن ذرية تحمل اسمه من بنون غير أن الكثير من يعتبرهم مصدر هم وغم وشقاء...

و كأننا نعرّف السعادة بأنها هي ما نحتاج إليه لينقلب من جديد إلى مصدر للشقاء، فكيف يخرج الإنسان من مأزق السعادة المستعصية؟ ألا يمكن أن يكون جوهرها هو الرضا والتقبل للذات كنوع من المصالحة معها بحسن التواصل والانصات لأحاسيسها وذبذبات الحياة بداخلها بصوت الأمل والإيمان بالقدر ومواجهة الامتحان بالصبر والعمل باستمرارية وانضباط؟

كان على الذات أن تعرف أنها مصدر آلامها كلما تشبثت بمعتقداتها السلبية عن نفسها وعن مصيرها، وعن كونها مفعولا بها وأن الحظ يقفل أبوابه في وجهها...

لقد جعلت صفات الذات إذن من السعادة أمرا مستعصيا، فكان عملها عليها شهيد، عندما استكانت للأحداث وجعلتها توجهها حيث أرادت ولم تترك مجالا لإرادتها وقدراتها لتوجيه الأحداث، ولم تتعجل الفرج بالعمل المستمر، ولم تطرق باب الأمل ليزودها بحب الحياة وحب الذات وضرورة الاستمرار .

لقد اعتقد الإنسان أن البحث عن السعادة هو بحث عن قطعة ماس في الأعماق، والحقيقة أن بدرة الماس موجودة بذواتنا، هي ما يجعنا نصمد أمام الأمواج العاتية ونشعر بنشوة الغطس في أعماقها ونجيد السباحة ونطفو فوقها ونصل لبر الأمان بالكثير من الأمل وبالتحقيق الدائم للسعادة الموعودة.

 

بقلم: رشيدة الركيك

 

في المثقف اليوم