أقلام ثقافية

زهير اتباتو: الحكمة في شعر عنترة بن شداد

zuhair itbabtoإنه لا يخفى على ذي النظر الحصيف أن كل عصر عى امتداد الزمن قد عرف بعلمائه وفرسانه وشعرائه وأدبائه، وهكذا هي الجاهلية: حقبة أرخ لها بالامتداد إلى 150 سنة قبل الإسلام حسب شوقي ضيف في سلسلته:"تاريخ الأدب العربي-العصر الجاهلي"، عرفت بمجموعة خصال منها الطيب والسيء، وكذا برجالها فمنهم العالم ومنهم القائد ومنهم الحكيم...وخيرهم الشاعر، وهكذا كان الشاعر العبسي عنترة بن شداد من خيرة شعراء ذاك العصر، اعترف له الكثير بالجدة، وصنفت أشعاره ضمن ذرر الشعر العربي وخير دليل معلقته الشهيرة ومطلعها:

هل غادر الشعراء من متردم **** أم هل عرفت الدار بعد توهم

ولد وترعرع عبدا في كنف قبيلة عبس إحدى جمرات العرب الثلاث، وشهد في مسيرة حياته قيام حرب داحس والغبراء، ونال حريته في إحدى الغارات التي شنت عليه فقاومها مما جعل أباه فخورا به فنسبه إليه وللرواية تأكيد في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني،  الأساس أنه عاش فارسا مغوارا ومات كذلك.

لكن ما يهمنا في مقالنا هذا هو تحديد معالم الحكمة في شعر عنترة، والتي أغفلت طويلا، لكون الباحثين قد ركزوا في تحديداتهم على خصائص الذات في شعره الذي يكتنف في الغالب غرض البطولة والفروسية والفخر بالذات تارة وبالقبيلة تارة أخرى.

تأخذ الحكمة من النصيب في شعر عنترة الشيء القليل، فحديثه عنها حسب محقق ديوانه محمد سعيد كلوي: "ضعيف محدود الجوانب جدا لا يتعدى الحقيقة الواقعة التي يمكن أن تبرز لكل إنسان وأن يلم بها كل عاقل، لأنها مشهد الحياة الدائم الذي يكاد يغيب حتى يظهر، ولا يغدو حتى يروح، فحكمته تدور حول الموت وأنه نهاية كل إنسان وخاتمة كل مطاف والكأس التي لا بد من ورودها، والتي إذا جاء أوانها لا يمكن تداركها أو الحيدة عنها:

وعــرفــت أن مــنــيــتــي إن تـــأتــني  ****  لا يــنجي منــهـــا الـفــــرار الأســــرع

                                                 **** ****

     تعالوا إلى ما تعلمون فإننــــــي  **** أرى الدهر لا يـــنــجي مــن الــمــوت نـاجيا

وعنترة الفوارس نفسه كان يدري بأن الموت لا محالة سيدنو لها يوما ما رغما عن أنفه، وأنها منهل كل إنسان لا بد له أن تحل به، وعلى إثره يقول:

بكرت تخوفني الحتوف كأنني **** أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل

فأجبـــــتــها: إن المنية منــهل **** لا بــــد أن أســـقــــــى بـــــــذاك الـمــنهل

فاقني حياءك، لا بالك، واعلمي **** أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

إن المـــــنـــية لــــو مــثـــــــلـــــت **** مــثـــلـــــي إذا نــزلــوا بضنك المنزل

وبهذا فإن عنترة بن شداد كما مر بنا عبر كتب الأدب والتاريخ، فقد شهد من عن الرواة في حياته أنه قد مات بعد عمر مديد، فعلى حد تحديد محمد سعيد ملوي محقق ديوانه قال: "ولقد رأينا سابقا أن عنترة قد عاصر حروب داحس والغبراء كلها. وقد رجحنا أن تكون سنه حين اشترك فيها ثلاثين عاما. وقد استمرت هذه الحروب أربعين سنة، مما يجعل سن عنترة في انتهائها سبعين سنة ونحن نتصوره قد عاش بعد ذلك فترة لا تصل إلى عشر سنوات*، مما يجعل حياته قرابة ثمانين عاما، وهي سن تتلاءم مع ما نقلته لنا النصوص من أنه أصبح رجلا كبيرا لا يقوى على القتال. ومعنى هذا أننا نرجح أن يكون عنترة قد قتل قرابة سنة 608 للميلاد أي قبل الإسلام بقليل. ولسنا ندعي اليقين، وإنما هو مجرد الترجيح". والله أعلم.

فالموت علينا حق جميعا، لا حول لنا ولا قوة فيه، ذاك أمر الله يفعل ما يشاء، وعنترة كان يدري أن الموت لا مفر منه، فكم من فارس شرب جرعاتها وذاق مرارتها من يد فارسنا، وبهذا قد خلص أن الموت كتبت له أيضا، وعينها سيشرب منها مهما طال الزمان،مثلما شرب الناس قبله وكما سيشرب الناس من بعده.

وآية القول، إن الأغراض التي غاص عنترة في نظمها متعددة ومتنوعة، أطال في بعضها وأجاز في بعضها الآخر. لكن يبقى شعره جميلا طاهرا عفيفا، صوره صورا بهية المنظر منمقة النظم، ذات دلالات وإيحاءات، عانق الواقع ووصفه، وافتخر تارة ووعد تارة أخرى، جمع بين الغزل العفيف والفروسية الفذة، لتكتمل فيه صورة الفارس العربي الأصيل بأبياته الحكيمة.

 

......................

الهوامش:

- ديوان عنترة: تحقيق ودراسة محمد سعيد ملوي، المكتبة الإسلامية، القاهرة، 1964م، ص102-103.

- ابن قتيبة: الشعر و الشعراء، تحقيق و شرح أحمد محمد شاكر، دار المعارف-القاهرة، 1982م، ج1، ص:254

- : لأننا لو تصورنا أنه عاش عشر سنوات فمعنى هذا أنه قد أدرك البعثة وهذا ما لم يقل به أحد من أهل السير والتاريخ، ولم يثبته واحد من علماء الحديث (نقلا عن هامش: ديوان عنترة، تحقيق ودراسة محمد سعيد ملوي، المكتبة الإسلامية، ص52)

 

في المثقف اليوم