كتب واصدارات

كتب واصدارات

صدرت قبل أيام الطبعة الثانية من كتاب (القيامة العراقية الآن! كي لا تكون بلاد الرافدين بلا رافدين - خفايا وأسرار العدوان التركي والإيراني على أنهار العراق وسوريا) تأليف علاء اللامي.. هذه فقرات من مقدمة الطبعة الثانية يليها مسرد بمحتويات الكتاب... صورة غلالاف الكتاب تظهر فيها صورة ناظم البدعة على نهر الغراف الاصطناعي الذي شقَّه الرافدانيون العراقيون القدماء قبل أكثر من أربعة آلاف وثلاثمائة سنة في عهد الملك السومري أنتيمينا بن إيانا توم الأول، ملك مدينة لكش الجنوبية (حكم هذا الملك في فترة 2400 ق م)، وهو ملك من سلالة لكش الأولى"*صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في العراق سنة 2012 حين كنت مقيماً خارجه، وقد صدرت بمبادرة اثنين من زملائي المهتمين بهذا الموضوع وبإشرافهما ومتابعتهما، وبدعم خاص من رفيقنا الراحل قحطان الملاك، صاحب دار نشر "الغد"، التي أصدرت الكتاب. ويبدو أن نسخ تلك الطبعة لم توزع بشكل يتناسب مع أهميتها خارج العراق سوى ما بيع منها عبر سوق الكتب على الشبكة "الانترنيت". ومع تفاقم مظاهر مأساة جفاف الأنهار العراقية المصحوبة بنقص المياه وخروج معظم الأراضي الزراعية من الاستغلال رسميا وبقرارات حكومية وبلوغ الأزمة احتمال فقدان مياه الشرب، عدت إلى متابعة الموضوع بشكل حثيث مع انني لم أتوقف تماما عن متابعته والكتابة فيه، حتى وإنْ انخفض منسوب ومستوى المتابعة من قبل النخبة والإعلام، ولكن رؤية مشهد نهر الغراف، المار بقريتي الجنوبية "البدعة" خلال سفرتي الأخيرة بداية شهر آذار 2023، وقد تحول هذا النهر الجامح الغزير إلى مستنقع أخضر، أذهلتني وصدمتني بشدة، وجعلتني عاجزا عن التعبير عن مشاعري وأفكاري لثوانٍ قليلة بدت لي دهرا. حينها فقط، خطرت لي فكرة إصدار طبعة جديدة، منقحة ومزيدة من هذا الكتاب الذي يتخذ اليوم هيئة الشهادة والصرخة التحذيرية المبكرة!

ولهذا السبب ستتخذ هذه المقدمة للطبعة الثانية هيئة مختلفة عن المعتاد، ولن تكون تعريفية قصيرة، بل سأجعلها بمثابة فصل آخر استدرك فيه على الطبعة السابقة من الكتاب، فأضيف إليه ما استجد حول موضوعه، وأجري عليها بعض التعديلات والتوضيحات والمعلومات هنا وهناك.3734 علا اللامي

الرافدان يُحْتَضَران اليوم: بالعودة إلى أيامنا هذه، نجد أنَّ وضع النهرين دجلة والفرات وروافدهما والرواضع المتفرعة عنهما قد تفاقم سوءاً في الأشهر والأسابيع الأخيرة بشكل سريع. ودخلنا فعليا مرحلة جفاف وزوال هذه الأنهار من الوجود مبكرا، بعد أن توقعت دراسات المنظمات الدولية كاليونيسيف، والتي وثقناها في الطبعة الأولى، بدء هذا الزوال بعد سنة 2040. وتتالت تصريحات المسؤولين العراقيين عن ملف المياه تحذر من احتمال أن يواجه العراق في الصيف القادم "صيف 2023" خطر نقص أو فقدان مياه الشرب. فقد قال وكيل وزارة الخارجيَّة للشُؤُون الإداريَّة والفنيَّة عبد الرحمن الحسينيّ إنَّ: "الخزين المائيّ في العراق، أنخفض إلى مستوى خطير لم يشهده من قبل عبر تاريخه الحديث". وقال المتخصص في الشأن المائي، عادل المختار إنَّ: "العراق يمر بأزمة جفاف حقيقية وخطيرة، والصيف المقبل على البلاد سيكون شديداً جداً وقاسيا، في ظل هذا الجفاف، الذي قد تطول أزمته مياه الشرب".

أما رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني فقد أدلى بتصريح في هذا السياق وكأنه يبرئ دول المنبع التي تحتجز مياه النهرين من أية مسؤولية حيث قال فيه إن "شح المياه أزمة عالمية، لا تقتصر على العراق فقط، كما يجب أن لا تقتصر معالجتها على وزارة الموارد المائية". وأفاد الخبر أن السيد السوداني وجه بتنفيذ "جملة معالجات لتخفيف أزمة شح المياه، من بينها اللجوء إلى تقنية معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها في الري. أما وزير الموارد المائية وهو واحد من الكوادر القديمة وصاحبة الخبرة المديدة في الوزارة فقد قال إنَّ البلاد تمر بـ "أسوأ عام بسبب تراجع منسوب المياه في نهري دجلة والفرات، محذرا من أن القادم أصعب. أضاف عون ذياب، في تصريحات تلفزيونية محلية :"هذه السنة تعتبر أسوأ سنة نمر بها فيما يخص الواردات المائية وتخزين المياه منذ عام 1933، منذ بدء تسجيل البيانات الهيدرولوجية تاريخيا".

ولكن موجة مضطربة من التساقط المطري أنقذت ما تبقى من الزراعة العراقية وحققت ما تسمى "رية الفطام" للمساحات المزروعة، غير أن هذه الموجة لم تُدَعِّم خزين السدود العراقية الذي أعلنت وزارة الموارد المائية أنه انخفض الى مستويات قياسية بلغت ثمانية مليارات متر مكعب في حين يحتاج العراق سنويا إلى خمسين مليون مليار متر مكعب من المياه على الأقل. لنقارن هذا الواقع المائي المأساوي في العراق وهو نفسه تقريبا في سوريا، بما تختزنه تركيا خلف المئات من سدودها التي أنشئت خلال العقود الماضية دون تشاور أو تنسيق مع العراق أو سوريا، ولنتذكر أن بحيرة الخزن خلف سد أتاتورك فقط تحتوي على تسعة وخمسين مليار متر مكعب من المياه أي ما يفوق حاجة العراق السنوية من رافديه العظيمين!

نقول ذلك، ليس من باب الحسد والغل، فالخيرون يتمنون الخير لجيرانهم ويغبطونهم عليه، بل بهدف تفنيد أكذوبة يروجها الإعلام التركي ومعه الإعلام العراقي التبريري وعلى لسان المسؤولين العراقيين الكبار بمن فيهم رئيس السلطة التنفيذية، والتي مفادها أن الأزمة التي يعيشها العراق هي أزمة عامة وعالمية سببها ظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري! نحن هنا لا ننكر تأثير هذه الظاهرة الطبيعية التي تشمل العالم أجمع، ولكن هل أثرت هذه الظاهرة على كميات المياه الهائلة التي تحتجزها دولتا المنابع تركيا وإيران كما أثرت على العراق وسوريا؟ هل كانت هذه الظاهرة ستؤثر هذا التأثير القاتل على بلديِّ المصب لو ضمنت دولتا المنابع لهما حصصا عادلة ومنصفة من مياه النهرين المحتجزة كما توصي بذلك الاتفاقيات والقوانين الدولية السارية؟ كيف يمكن تعليق كارثة زوال الرافدين وفقدان العراقيين لمياه الشرب المحتمل بسبب التغيير المناخي والمياه متوفرة بمئات المليارات من الأمتار المكعبة ومستغلة من قبل تركيا لتوليد الطاقة الكهرومائية؟

اتفاقيتان دوليتان مائيتان

ناقشتُ في الطبعة الأولى من هذا الكتاب كل ما يتعلق بـ "اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية" هي وثيقة أقرتها الأمم المتحدة في 21 أيار - مايو 1997 تتعلق باستخدامات والحفاظ على كل المياه العابرة للحدود الدولية، بما فيها المياه السطحية والمياه الجوفية. ورغم عدم توقيع تركيا على هذه الاتفاقية، فإنها دخلت حيز القانون الدولي. الجديد في هذا الميدان هو توقيع ومصادقة العراق في 24 آذار/مارس 2023، على هامش مؤتمر المياه في نيويورك، حيث أصبح العراق بذلك أول دولة عربية وشرق أوسطية تنضم إلى هذه الاتفاقية، وبتسلسل 49 على المستوى الدولي، على هذه الاتفاقية التي تسمى اختصارا "قانون الأمم المتحدة للمياه" وأيضا "قانون هلسنكي"، واسمها الرسمي هو "اتفاقية حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية" . وسأحاول في هذه الطبعة توضيح أهمية هذه الاتفاقية وأوجه الفرق بينها وبين الاتفاقية السابقة والتي سأسميها اختصارا "اتفاقية المجاري المائية الدولية"

في هذه الطبعة الثانية أضفت فصلاً جديداً عن المستجدات في موضوع علاقة السدود المائية التركية المقامة في مناطق ناشطة زلزاليا وفي ضوء الزلازل المأساوية المحزنة التي حدثت جنوب تركيا وشمال سوريا. وكنت قد ناقشت هذا الموضوع مفصلاً في الطبعة السابقة في الفصل الخامس عشر، وانتهينا في الفصل الجديد المضاف إلى أن الواقع الراهن للسدود التركي في هذه المناطق هو واقع مرعب وشديد الخطورة، وهو يجعل هذه السدود أشبه بقنبلة مائية أو تسونامي هائل معلق فوق شعوب الشرق الأوسط وخاصة العراق وبلاد الشام وبلدان الخليج العربي، وهو يقول لنا شيئاً مختلفاً عما هو سائد من كلام مطمئن وغير علمي. إن الموضع برمته يتعلق بشبكة هائلة من السدود التركية يزيد عدد المنجز منها على 861 سداً قيد التشغيل، من بينهما 208 سدود كبيرة، يقبع خلفها عدد من البحيرات الاصطناعية التي ستحتجز فيها مياه الرافدين وروافدهما، وتبلغ كمياتها أكثر من 651 مليار متر مكعب، بما يحوِّل منطقة الأناضول الناشطة زلزالياً إلى بحيرة هائلة قلقة، بل إلى بحر من المياه المعلقة بين الجبال والمرتفعات، وإنَّ انهيار سد واحد منها يعقبه انهيار إحدى البحيرات ستتبعه سلسلة انهيارات للسدود الأدنى منه بما يؤدي إلى حدوث طوفان حقيقي وليس أسطوري هذه المرة.

* مسرد بمحتويات الكتاب

- مقدمة الطبعة الثانية

- -مقدمة الطبعة الأولى

- الفصل الأول: البدايات وجرس الإنذار الأخطر

-الفصل الثاني: شبكة السدود التركية

- الفصل الثالث: السد التركي العملاق "أليسو" ومخاطره المدمرة

-الفصل الرابع: المشاريع التركية قبل 17 عاما.

- الفصل الخامس: التجاوزات الإيرانية على أنهار العراق

-الفصل السادس: شط العرب

- الفصل السابع: بيع المياه و "الكهرومياه" من قبل دول المنبع

-الفصل الثامن: موقف القانون الدولي وإمكانية اللجوء للمحاكم الدولية

-الفصل التاسع: قراءات أخرى في القانون الدولي وإمكانية التحكيم

-الفصل العاشر: استكمال سد بخمة وملء وتحلية الثرثار  

-الفصل الحادي عشر: قراءة في مذكرات دبلوماسية عراقية وتركية

-الفصل الثاني عشر: قراءة في مذكرات دبلوماسية سورية وتركية

- الفصل الثالث عشر: إقليم كردستان العراق وقضية دجلة وروافده

-الفصل الرابع عشر: التلوث والعواصف الترابية

-الفصل الخامس عشر: احتمالات انهيار السدود بفعل الزلازل وغيرها

- الفصل السادس عشر: الجديد في العلاقة بين الزلازل وانهيار السدود

-الفصل السابع عشر: نحو استراتيجية عراقية شاملة للدفاع عن الرافدين.

- ملاحق الكتاب:

الملحق الأول: نص مذكرة الخارجية العراقية إلى السفارة التركية في بغداد

الملحق الثاني: نص مذكرة السفارة التركية في بغداد إلى الخارجية العراقية

الملحق الثالث: نص مذكرة وزارة الخارجية السورية إلى الحكومة التركية

الملحق الرابع: نص مذكرة السفارة التركية إلى وزارة الخارجية السورية

الملحق الخامس: نص الاتفاق العراقي السوري لسنة 1989 حول توزيع الوارد المائي لنهر الفرات

الملحق السادس: نص معاهدة الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا لسنة 1946

الملحق السابع: وثيقة بريطانية رسمية حول شط العرب "الادعاء الفارسي بحدود (ثالوج/ التالوك) في شط العرب".

الملحق الثامن: اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية.

الملحق التاسع: مختارات من " الكتاب الأحمر... لجنة الدفاع عن الرافدين 1995 "

- خلاصات لفصول الكتاب

 

تأويل مُغاير للشعرية المغربية الراهنة

عن عبور الثقافية للنشر، صدر حديثا للشاعر والناقد المغربي كريم أيوب، في طبعة أنيقة زانتها لوحة الشاعر والفنان العراقي المغترب، مهدي النفري، كتاب" الشعر المغربي في الألفية الثالثةـ من ظنون الفهم إلى يقين المتاه ـ"، والذي يقع في 150صفحة من القطع المتوسط، ويبسط تفصيلا في جملة من المفاهيم، استهلالا بإشكالات الحداثة (شعر الالفية الثالثة بالمغرب)، فمفهوم الحساسية (ماهية الشعرية في الراهن الشعري/ جنيالوجيا الذات التفكير الوجودي في النص الراهن/ القصيدة والواقع)، مرورا بتجليات التجزيء والتشظي (نبوءات الشعراء)، فإبداع البحث عن المصير (موت العنوان في القصيدة المغربية الراهنة)، ليختم بمفهوم شعريات أسئلة الكوني (شكوك المعنى)، موردا بعض النماذج للتدليل والبرهنة على ذلك، تبعا لكل فصل من هذا المنجز القيم، على حدة.

ومما جاء في تقديم الدكتورة الغالية ماء العينين للعمل، وهو ما ورد في ظهر الغلاف أيضا، نسوق الآتي:

في وقت يتعاظم فيه توجه الدراسات النقدية نحو السرد والنقد الروائي بشكل خاص، وتتعالى أصوات تحاول إثارة الانتباه، إلى ما يعانيه الشعر المغربي من قلة الاهتمام والمتابعة، تبرز أصوات تقبل على هذا الشعر إبداعا ونقدا.

أيوب كريم من بين هذه الأقلام الشابة التي خصصت جهدها وأبحاثها للشعر المغربي دراسة ونقدا. ورغم أن البداية كانت أكاديمية، على مستوى الماستر والدكتوراه إلا أن ما يميز أيوب كريم، أنه لم يسجن نفسه في الإطار النظري واجترار ما تعودنا عليه، في أغلب البحوث والأطاريح الجامعية، بتكرار التأريخ الأدبي للنقد المغربي وأهم مراحله ومدارسه، بل انطلق من وعي عميق بأن التجارب الشعرية، وخصوصا شعر الألفية الثالثة، تعاني من قلة المتابعة إن لم نقل انعدامها. فأعد العدة وشحذ أدواته متسلحا بمعرفة كبيرة ومتابعة جيدة، لما ينتجه الشعر المغربي اليوم، فامتلك جرأة النبش في هذا الابداع ومحاولة استكناه مجاهله ورصد خصوصياته...

يُشار إلى أن الإصدار والج في مبادرة إطلاق الدورة الأولى لجائزة المهندس المغربي الراحل رشيد الإدريسي، المنحدر من مدينة أوطاط الحاج، فضلا عن كتابين نقديين آخرين يريان النور قريبا، " قراءات في نماذج من المتن الأدبي المغربي" للباحث عبد النبي بزاز، وكتاب" الشعري والمنثور بين المنهج والأسلوب" للباحث لحسن ايت بها.

هذا في إطار بادرة هادفة من جمعية عبور وفي غياب الدعم من الجهات المسؤولة.

أخرجت العمل مطبعة النور، ومما يجب لفت العناية إليه، أن تصميم اغلفة الكتب الثلاثة الفائزة، تم بأنامل عراب عبور، الشاعر والفنان المغربي المبدع نور الدين الوادي.

نقتبس للناقد قوله:

وفي خضم هذه العناصر، الذات والواقع والآتي، نما شعر ألفيتنا وفق رؤيا يكون فيها الإشكال أكبر من المعنى، إنه التيه الذي يقمس فيه الشعر، كل ما وجد تخوم رؤاه أو وقف عند الطرق المسدودة، صحيح أن الشعراء، وإلى زمن غير بعيد عاشوا بتجارب الآخر، كالغربة والبعث والموت... ثم عاشوا بعد ذلك، سيما عند بروز قصيدة المثر بشكل واسع، عاشوا بتجاربهم وجدّدوا وتحّرروا، ولكنهم وجدوا أنفسهم على السبيل المسدود الذي لا بقدم لهم معنى ولا فهما ولا مساحة لبث النهضة المشتهاة، ولذلك نلاحظ في الغالب لجوء الشاعر إلى مستوى آخر من المعنى، هو اللامعنى، على أساس أن ذلك قد يشكل فهما في ذاته، يستنير به في لملمة جراح الذات والواقع، أو يكتفي به كمنفى، يعاش طوعا وقسرا.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وكاتب مغربي

......................

* أنظر كتاب" الشعر المغربي في الألفية الثالثةـ من ظنون الفهم إلى يقين المتاه ــ" للمغربي كريم أيوب، طبعة أولى 2024، منشورات عبور.

 

بقلم: لويس سانيير

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان هناك نقاش منذ بضعة أيام في مجلس الفلسفة حول الثلاثين كتابًا التي يجب على المرء قراءتها إذا أراد أن يصبح مدرسًا للفلسفة. كما تعلمون، هذا النوع من النقاش الذي لا معنى له والذي يجعل الإنترنت رائعًا وسخيفًا ومروعًا في نفس الوقت لى أية حال، لم أتمكن من المشاركة في المناظرة في ذلك الوقت، لكن ذلك جعلني أفكر. لذلك اعتقدت أنه سيكون من المثير للاهتمام، بطريقة غير مثيرة للاهتمام، أن أشارك أفكاري حول هذا الموضوع وأن أجعل ذلك منشوري الأول على Medium، لأنه، كما تعلمون، لا أحد يهتم بما أفكر فيه، لذا دعنا نشارك ذلك على أية حال . هذه قائمة الكتب التي يجب عليك قراءتها لتكون بداية الثقافة الفلسفية. الكتب التي تحتاجها لفهم سياق العديد من المناقشات الفلسفية (وأحيانًا حتى العلمية) اليوم، والكتب التي يمكن أن تمنحك الأدوات اللازمة لفهم عالمنا. بالطبع، تحتاج أيضًا إلى قراءة كتب عن العلوم والتاريخ وما إلى ذلك، لكن هذا ليس الهدف من قائمتي.

قبل أن أقدم القائمة، بضع كلمات من النصائح. لن يكون الأمر شاملاً، وهذا ليس الهدف. أعلم أن هناك كتبًا رائعة كتبتها نساء، لكن دعونا نواجه الأمر: لم يكن التاريخ لطيفًا مع النساء في الفلسفة قبل القرن العشرين. لن أحاول تضمين كتب غير غربية في الوقت الحالي. سأتابع الحديث عن الصين والهند والإسلام، لكن في الوقت الحالي سأبقي الأمر بسيطًا. والأهم من ذلك أنني قررت عدم إدراج الأعمال المنشورة في القرنين العشرين والحادي والعشرين (مع استثناء واحد مهم)، حيث كان الناتج متنوعًا للغاية. يمكنني إجراء متابعة حيث أتحدث عن الفلسفة الحديثة، ولكن مرة أخرى، سأبقي الأمر بسيطًا في الوقت الحالي.

حاولت أن أبقى متوازنًا قدر الإمكان وألا أكون متحيزًا لتفضيلاتي الخاصة. لقد حاولت ألا أدرج أكثر من كتاب واحد للمؤلف إلا عندما يكون ذلك مستحيلاً. بالطبع، جميع الكتب الموجودة في قائمتي موجودة هناك بسبب حوادث تاريخية سعيدة، ولكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها التاريخ. كل شيء هو عرضي، في بعض الأحيان نتذكره، وأحيانا لا. الكتب الموجودة في قوائمي ليست أكثر من ذلك: الحوادث التي نتذكرها.

هيا إلى القائمة:

* 3 كتب عن الأخلاق: هناك 3 تقاليد رئيسية في الأخلاق اليوم، ولكل منها كتابها التأسيسي. تعود أخلاقيات الفضيلة إلى الأخلاق النيقوماخية لأرسطو. تعود جذور الأخلاق الواجبة إلى أسس كانط لميتافيزيقا الأخلاق. وكتاب جون ستيوارت ميل النفعية هو الدفاع الأكثر شهرة عن نكهة معينة من  Consequentialism العواقبية. (العواقبية مصطلح يشير إلى فئة من النظريات الأخلاقية المعيارية والتي تحكم تصرف الشخص بناءً على عواقب هذا التصرف. وبهذا، يتبين أنه من وجهة نظر العواقبية، أن التصرف الأخلاقي السليم سوف ينتُج عنه نتائج حميدة. باختصار، فكرة العواقبية يمثلها المقولة الإنجليزية: «الغاية تبرر الوسيلة».)

* 6 كتب عن الفلسفة السياسية: تنقسم كتب الفلسفة السياسية عادة إلى فئتين. من يطالب بالديمقراطية ومن يعارضها. وفي الفئة الأخيرة هناك جمهورية أفلاطون (رغم أنني أميل إلى الاعتقاد بأنه ليس كتابًا عن السياسة على الإطلاق، بل عن علم النفس الأخلاقي) وكتاب هوبز الطاغوت. وكلاهما يقدم أكثر بكثير من مجرد أفكار حول النظام السياسي المناسب. إنها كتب عميقة ومعقدة عن حالة الإنسان والعالم. لا تتجنب قراءتها فقط بسبب تحيزها الاستبدادي. في الفئة الأولى، أود أن أضع "أطروحتان عن الحكومة" للوك (ولكن في الغالب الثانية)، و"العقد الاجتماعي" لروسو (على الرغم من أنه اعتمادًا على قراءتك، يمكن اعتباره بمثابة دفاع عن نوع معين من النظام الاستبدادي)، و"جون ستيوارت ميل" عن الحرية (ربما يكون أفضل دفاع موجود عن حرية التعبير)، ونظرية العدالة لجون راولز (العمل الفلسفي المعاصر الوحيد الذي أدرجته في هذه القائمة).

* 4 كتب في نظرية المعرفة: ما هي المعرفة، ومن أين تأتي، وما إلى ذلك. هذه أسئلة مركزية لعلم يفتخر بكونه يسعى  بلا هوادة للمعرفة، وقد تم طرحها جميعًا لأول مرة في كتاب ثياتيتوس لأفلاطون. وبعد ما يقرب من 2000 عام، قدم اثنان من الفلاسفة أوضح تفسير للإجابتين الرئيسيتين المحتملتين لسؤال أصل المعرفة. لا يعني ذلك أن هذه الإجابات لم يتم تقديمها من قبل، لكن إجاباتهم كانت الأكثر وضوحًا. دافع ديكارت عن الأطروحة العقلانية في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى. وقد قدم ديفيد هيوم أفضل دفاع عن التجريبية في كتابه «تحقيق في الفهم الإنساني». آخر كتاب عن نظرية المعرفة في قائمتي هو محاولة لحل الصراع بين الأطروحتين المتعارضتين المقدمتين في كتاب ديكارت وهيوم. يعد كتاب "نقد العقل الخالص" لكانط تحفة فكرية بها عيب رئيسي واحد فقط، وهو أن معظم العلوم الحديثة تتعارض معها.

* 3 كتب عن الميتافيزيقا: هذا الكتاب صعب. لا يوجد موضوع أكثر فلسفية من الميتافيزيقا، لكنني كنت أتساءل عما إذا كان يجب إدراجه في قائمتي لأن معظم ما هو ذي صلة عادة ما يتم تناوله في الكتب التي ذكرتها بالفعل. لكن على أية حال، كما قلت، لا يوجد موضوع فلسفي أكثر من هذا. لذا، إذا كنت تريد حقًا أن تقرأ عن الميتافيزيقا، فابدأ بكتاب بارمينيدس لأفلاطون واستمر بكتاب فيزياء أرسطو وميتافيزيقاه.

لو توقفت هنا لكان الأمر على ما يرام. ستمنحك هذه الكتب الستة عشر فهمًا جيدًا لموضوع الفلسفة والأطروحة المركزية التي أنتجتها. ولكن للحصول على فهم أعمق للموضوع، ستحتاج أيضًا إلى قراءة المزيد. لن أحاول تصنيف الكتب التالية حسب النوع، فسيكون ذلك بلا جدوى لأنها كلها كتب معقدة، لذا سألتزم بالتسلسل الزمني.

العصور القديمة/Antiquity: نبدأ بالآباء المؤسسين للفلسفة: هيراقليطس الأفسسي وبارمنيدس. ليس لدينا أي نص كامل للأول، ولكن هناك مجموعات من الشذرات التي تمكنت من إيجاد طريقها عبر الزمن. ولا يزال أقل من ربع قصيدة بارمنيدس في الطبيعة موجودة حتى اليوم.

في أثينا القديمة كانت هناك أربع مدارس فلسفية عظيمة. أكاديمية أفلاطون، صالة حفلات أرسطو، حديقة أبيقور، رواق زينون. لقد قدمت بالفعل الكثير لأقرأه عن الأولين (على الرغم من وجود الكثير). لذلك دعونا نذهب إلى الأخيرين. أفضل نص لاكتشاف الأبيقورية هو رسالة أبيقور إلى مينويسيوس، إنها قراءة سريعة ومذهلة. بالنسبة للرواقية، أود أن أقترح دليل إبكتيتوس (أو الإنشيريديون) على الرغم من أنه ليس في الواقع من تأليفه  ولكن من تأليف أحد طلابه، وتأملات ماركوس أوريليوس.

العصور الوسطى/Middle Ages: سأقترح كتابين فقط - أعلم أنهما قليلان جدًا لفترة تاريخية استمرت ألف عام، لكن معظم ما أنتجته الفلسفة آنذاك كان عبارة عن مناقشات مركزة للغاية على أشياء غريبة  (لا يعني ذلك أن أي شيء قبله أو بعده لم يكن غريبًا ولكن ...): اعترافات أوغسطينوس (كان بإمكاني أن أختار مدينة الرب لكنه طويل جدًا، وقراءة اعترافاته ممتعة. كم عدد الرجال الذين أدانوا الإنسانية لأنهم شعروا بالسوء لسرقة حبة كمثرى؟) وكتاب توما الأكويني الخلاصة اللاهوتية.

القرن السادس عشر إلى الثامن عشر: مع الاقتراب أكثر فأكثر من العصر الحديث، أصبح من الصعب التركيز على عدد قليل من الكتب. تصبح الاختيارات أكثر تعسفًا بعض الشيء. لكنني أعتقد أن الكتب الخمسة التي اخترتها كلها ضرورية للقراءة ولن يناقش أحد قيمتها. أولها كتاب الأمير لميكيافيلي/ Machiavelli’s The Prince، ويعتبره البعض أول معالجة حديثة للسياسة. لقد ناقشت إدراج مقال مونتين في هذه القائمة لأنه ليس كتابًا فلسفيًا كاملًا حقًا، ومع ذلك أدرجته هنا، لم لا،  لكنني لست متأكدًا من أنها على قدم المساواة مع الكتب الأخرى. إن كتاب سبينوزا للأخلاق هو خيار واضح. يجب أن تكون مقالة لوك حول الفهم الإنساني موجودة أيضًا. ربما كان الأمر كذلك مع كتاب هيوم في قائمتي المعرفية، لكنني أعتقد أن كتاب هيوم هو الأفضل. يجب أن يكون لدى لايبنتز كتاب في القائمة، لكن الاختيار صعب. هل يجب أن تكون محاولته الفاشلة للحوار مع لوك في مقالاته الجديدة حول الفهم الإنساني أم كتابه Théodicée؟  وبما أن كليهما يمثل إجابات لفلاسفة آخرين، فقد اعتقدت أنه من الأفضل استخدام نص أكثر أصالة، وهو كتابه المونادولوجي/ Monadology. أعرف بيركلي الذي تم استبعاده، لكن هيا، الأمر برمته مجنون ولم يعد أحد يقرأه حقًا بعد الآن! (حسنًا، ربما أكون مخطئًا، لكن لن يكون هناك بيركلي في قائمتي:p)

القرن التاسع عشر: الاختيار الأخير قبل تقديم مقدمات للفلسفة المعاصرة. إن كتاب هيغل "ظاهرية الروح" هو خيار واضح حتى لو كانت قراءته تجربة صعبة للغاية. يبدو لي أن كتاب شوبنهاور "العالم كإرادة وتمثل" نص مهم ولكن يبدو أن أهميته تتضاءل كما تظهر دراسة حديثة للفلاسفة المهمين. يجب أن يكون إما/أو لدى كيركجارد موجودًا. ويُعَد البيان الشيوعي لماركس أيضًا خيارًا واضحًا. بالنسبة لنيتشه، أعتقد أن ما وراء الخير والشر هو أفضل من هكذا تكلم زرادشت أو جينيالوجيا الأخلاق. هل يجب أن أضم ويليام جيمس وسي إس بيرس؟ لست متأكدا. ربما، ولكن أي كتاب؟ مبادئ جيمس لعلم النفس ليست كتاب فلسفة في حد ذاته. إنها براغماتية/Pragmatism، على الرغم من أن كتابًا من القرن العشرين يمكن اعتباره عملاً من أعمال القرن التاسع عشر. لم ينشر بيرس كتابًا قط، ولكن هناك عدة مجموعات من كتاباته الفلسفية.

هناك العديد من الفلاسفة والمفكرين الذين يمكنني إضافتهم إلى هذه القائمة، لكنني أعتقد أن هذا يعني الابتعاد كثيرًا عن نيتي المتمثلة في تقديم قائمة قراءة شاملة ومقدمة. إذن، يوجد لديك 33 كتابًا تمثل أفضل ما أنتجته الفلسفة. قد لا تتفق مع ما قاله كل فيلسوف (أنا لا أتفق بالتأكيد)، قد لا توافق على أن ما قالوه له أهمية (أعتقد أن بعض الفلاسفة الموجودين في قائمتي فلاسفة سيئون)، لكن التاريخ في صفهم، وليس في صفك (أو صفى).

(تمت)

***

.......................

* المؤلف: لويس سانيير/ Louis Sagnières هو أستاذ الفلسفة في كلية ماري دو فرانس الدولية في مونتريال. حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة مونتريال.

 

في جلسة إخوانية عذبة ، تبادلت اطراف الحديث مع زميل فاضل مهتم بالبحوث الانسانية والصرفة، حول المنجز الجديد للعزيز الباحث عمر علي حيدر، الذي حمل عنوان (أثر الاديان في تربية وتعليم الصبيان) وبعدد صفحات بلغت 792 من القطع الكبير.. وكنا قرأناه منفردين مؤخرا، وقد تحدثنا بأعجاب عن قدرة وتحمل وصبر الباحث على التبحر والسياحة الفكرية والجدلية مع 518 مصدرا مهما، لكبار الباحثين المعروفين في الجد والعمق البحثي ..

وليس جديدا قولي، ان الباحث المتميز يحصل من خلال المصادر والمراجع المعتمدة، على كافة المعلومات المتعلقة ببحثه العلمي الذي يتم إجراؤه، كونها توفر قدرًا كبيرًا من المفاتيح التي تسهم في إثراء البحث العلمي بشكل كبير، فيجب على الباحث الذهاب إلى أكبر عدد ممكن من المصادر والمراجع، وهذا ما سعى اليه الباحث، تعزيزا لما اراد ان يصل اليه، وفق تصور راق لمضامين جديدة في الرؤى لموضوع الاديان واثرها في تعليم الصبيان ..

ويشير د. خزعل الماجدي في تقديمه للكتاب، بالقول ان الكتاب يضعنا امام مشهد واسع من تقصي مظاهر التربية والتعليم والكتابة والاساتذة والطلبة والمدارس بأنواعها، وكل اوجه العملية التربوية والتعليمية عند الشعوب القديمة والوسيطة بشكل خاص ومدى مساهمة الاديان في هذا الجانب الحضاري المهم، وخصوصا في فئات الاطفال والصبيان والشياب ..

لقد اعتمد الباحث على القرآن الكريم، في العديد من النقاط، اضافة الى عدة مباحث مهمة، منها مدخل الى الدين، والدين لغة واصطلاحا وتعريفات الدين ومصادر نشأته ونظريات تلك النشأة وتصنيف الاديان وانواع الاديان المتبوعة وعلم الدين ومقوماته، وضم ايضا المدرسة في الاديان والحضارات القديمة، وخص بها المدرسة في العراق القديم ومصر القديمة، والمدارس الكنسية في العصور القديمة، والمدرسة الرومانية القديمة الخ .

ثم عرج بعلمية رائدة، الى تسلسل المراحل الدراسية للمدارس القديمة، والسن الدراسية فيها وعن معلميها ودوامها وعطلها، ومناهجها وطرق التدريس والشكر والعقاب فيها، وتربية وتعليم البنات في مدارس العصور الوسطى، واستمر في تسليط الضوء بانتباه ورؤية علمية على مراحل التربية والتعليم الديني في التاريخ الحديث والمعاصر، وشمل التعليم وكتاتيب البلاد العربية .

كتاب ليس ككل الكتب، فالجهد المبذول في اصداره بهذا الشكل البحثي، شاسع المدى، دلالة على تأمل فكري واستقصاء عالي المستوى، وقراءات جدلية في مئات الطروحات والمصادر، وهنا اشير الى مدى الامانة البحثية التي اتسم بها الكتاب، حيث لم يغفل اي مصدر بحثي، حتى المصادر الفرعية، التي اشتملت على الأبحاث التي تمت كتابتها في العصر الحديث، والتي اعتمدت في أساسها على المصادر الأصلية الأولية، فالمصادر الفرعية اشار اليها، ومن ثم قام بشرحها وتفصيلها ونقدها وتلخيصها، وبهذه الامانة يؤكد الباحث ابا خالد أن تنوع مصادر البحث العلمي تلعب دورا كبيرا وهاما في إثراء البحث العلمي بعدد كبير من المعلومات، بالإضافة إلى ذلك فإنها تمنح الباحث ثقافة عالية تجعله يتفوق بما يقدم من بحث علمي مستوف لكل عناصر الرصانة، وفي الختام اقول، ان سطوري هذه ، ليست قراءة لهذا الكتاب الكبير في طروحاته، واسلوب كتابته، انما هو اشهار صحفي، يناسب حجم هذا العمود .. فللباحث عمر علي حيدر اقول تهاني العميقة لسفرك الثقافي والتراثي والبحثي الكبير، وامتناني الخاص لإهدائه كتابه لأبيه، صديق شبابي ويفاعتي الزميل علي حيدر طيب الله ثراه، بسطور تؤكد بره بأبيه، فبر الاب، مقامه عظيم ، وأجره عند الله جزيل ..

 

صدر عن مؤسسة دار الصادق الثقافية في العراق كتاب (مباحث في التأمل الفلسفي) للأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي، وهو الإصدار الثالث عشر له، ويقع الكتاب في (145) صفحة وعشرة مباحث تقع في خمسة فصول، ويتناول الكاتب في هذا الكتاب مقدمة عن التأمل الفلسفي في الفلسفة الإغريقية ما قبل السقراطية، من خلال معنى التأمل الذي يقصده الكاتب بشكله الأولي للصيغة التي جعلت من الفيلسوف ينظر إلى الأشياء والموجودات والنظام العام للكون بنظرة مختلفة عما سبقه من نظرات اسطورية وغيرها التي تخضع إلى معطى طقسي مرتبط بالعبادات الأولى عند البشر . تضمن الفصل الأول التأمل في التحول من الأسطوري إلى الفلسفي في فكر (طاليس) من خلال تناول أفكاره العامة وطبيعة التأمل الفلسفي لديه كون أن دراسة التأمل الأول تدخل في البحث عن طبيعة الإنتقالة الحقيقة على وفق الأطر التاريخية بين ما هو أسطوري، وبين ما هو تأملي فلسفي، كون أن التأمل هو الصيغة التي تمت من خلالها الإنتقالة والتغيير في نمط التفكير، وهي اللحظة الأولى التي تغير فيها البحث عن حقيقة الأشياء والكون، وهو ما سعى اليه (طاليس) في حقبته الزمنية في بدايات الحضارة الإغريقية، حتى وإن كانت هذه الإنتقالة بصيغتها الأولى والبسيطة، لكن أهميتها تأتي من كونها غيرّت مسار الفكر والرؤية إلى العالم وأنماط التفكير من حال كان فيه البشرية تركن إلى الأسطورية في أرجاع الأشياء إلى أصلها الأول، وحولها إلى تفكير آخر أكثر تشغيلاً للعقل والفكر في صيغ البحث عن الحقيقة، وماهية التفسيرات التي تشكّل منها الوجود . وتضمن الفصل الثاني التأمل في اللامحدود عند الفيلسوف اليوناني (أناكسيماندر) على وفق الرؤية في اللامحدود ومفهوم الأبيرون، وأهم طروحات (أناكسيماندر) الفلسفية في ضوء هذا العنصر، على أعتبار أن التأمل جاء في كون أن الأشياء لا يمكن أن تأتي من مصدر واحد يكون موجود في مكان ولا موجود في مكان آخر، وحسب المعطيات التي دعت (أناكسيماندر) لتبنيها في نظرته التأملية للموجودات، لهذا السبب بحث الفيلسوف الثاني عن مرجع نشأ منه الكون والأشياء والموجودات معاً . أما الفصل الثالث تناول من خلاله المؤلف التأمل في تحول العنصر الأول في الموجودات من خلال (التكاثف والتخلخل) عند (أناكسمانس) من خلال الملامح العامة لفلسفته وسمة التأمل في صيرورة العنصر الأول لديه  أما فيما يخص سمة التأمل لديه أتت من خلال رؤيته للمادة الأولى فإنها هي المتعينة من خلال أثارها، وكذلك من خلال تحولاتها في الأشياء والموجودات وأشكالها وصورها المتكونة من هذا التحول . أما الفصل الرابع فتناول الكاتب فيه مفهوم التأمل في تحول من الطبيعي إلى التجريدي في فلسفة العدد والإنسجام الفيثاغوري من خلال فكرة التجريد في تأسيس الفكر الديني والروحي لدى (فيثاغورس)، وكذلك في التأمل في الفكر التفسيري للظواهر والموجودات من خلال فلسفة العدد والقضية الرياضية التأمل الفلسفي الفيثاغوري، والهندسة وأبعادها الفلسفية التأملية لدى الفيثاغوريين، والموسيقى وجماليات الانسجام في التأمل الفلسفي، والفلك والبعد الكوني في التأمل الفلسفي وأخيراً تناول الكاتب في الفصل الخامس التأمل في الصيرورة والتغير الدائم في ضوء تصورات الوجود في فلسفة هرقليطس من خلال أفكار هرقليطس العامة في فهم الإنسان والكون، والصيرورة وعدم الثبات في فهم الوجود في فلسفته . ويعد هذا الكتاب الجزء الأول في سلسلة سيتناول من خلالها الكاتب فلاسفة إغريق في المرحلة الأولى من التأمل في الفلسفة الإغريقية ما قبل السقراطية .

***

صدر قبل أيام عن مؤسسة "أبجد" العراقية للنشر والترجمة والتوزيع "معجم اللهجة العراقية - الجذور العربية الفصحى والرواسب الرافدانية" تأليف علاء اللامي.

يعرض المعجم هذه الأيام في معرض العراق الدولي للكتاب – دورة "صارت تسمى فلسطين" على أرضية معرض بغداد الدولي - مؤسسة "أبجد" للترجمة والنشر والتوزيع - قاعة نابلس - جناح N1.

يقع المعجم في ستمائة وست وأربعين صفحة من القطع المتوسط. هذه أدناه فقرات منتقاة من مقدمة المعجم التي تقع في مائة وخمسين صفحة يليها مسرد بمحتويات المعجم وفي التعريف بالمعجم على الغلاف الخلفي للمعجم نقرأ: "يضم هذا المعجمُ سهل الاستعمال أكثر من تسعمائة فقرة ومرتبة ألفبائياً، تحتوي على مئات المفردات من اللهجة العراقية مع شرح معانيها وتأثيل جذورها بالرجوع إلى معاجم عربية فصيحة قديمة كلسان العرب والصحاح والعين والجمهرة والعباب الزاخر ...إلخ، مع الإشارة إلى بعض الكلمات المشابهة لها في لهجات بلاد الشام والجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي. مَهَّدَ لها المؤلف بدراسة ألسُنية مفصلة حول العلاقة بين اللغات واللهجات عموماً، واللغة العربية واللهجة العراقية خصوصا.

هذا المعجم بما يحتويه من تخاريج تأثيلية "إيتمولوجية" دقيقة، ومعلومات لغوية وتأريخية شائقة مستمدة من المعاجم القديمة وكتب التراث، سيكون دون ريب مناسبةً ممتعةً ونادرةً للتعرف على جذور مفردات اللهجة العراقية الجميلة والغنية بالجواهر المترسبة من اللغات الرافدانية المنقرضة وخصوصا الأكدية.

ينتهي المعجم بثلاثة ملاحق؛ الأول عن حياة وإنجازات الخليل الفراهيدي البصري، واضع أول معجم عربي في التأريخ، والثاني قويمس يضم عشرات الكلمات العربية الفصحى المنقرضة ولكنها حية في اللهجة العراقية، والثالث يضم كلمات سومرية وأكدية ما تزال حية في العربية واللهجة العراقية".

ومن مقدمة المعجم اخترنا هذه الفقرات:

*قد يبدو هذا الكتاب -المعجم، لمن قرأ كتابي السابق "الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام"، مناقضاً ومعاكساً من حيث مضمونه لسابقه. ففي كتابي "الحضور" كنت أحاول بشيء من الحماس إظهار غنى وثراء لهجاتنا العراقية والشامية المعاصرة بما تمتلكه من تراث معجمي ضخم ورائع من رواسب مجموعات اللغات الجزيرية "السامية" الشقيقة الثلاث المنقرضة، أو التي على وشك الانقراض.

*أما في هذا الكتاب، الذي اتخذ هيئة معجم لهجوي مضاد ودفاعي، فالمهمة الأرأس هي تفنيد ودحض المبالغات الشعبوية في تقدير حجم وكثافة تلك الرواسب من اللغات الشقيقة الجزيرية "السامية" والأجنبية في لهجاتنا، حتى بلغ الأمر درجة التشكيك الصريح بعروبة اللهجة العراقية، واعتبارها "لغة مشتركة" نتجت عن امتزاج "لغة أمٍّ أساس" هي المندائية مع لغة أخرى دخلت عليها هي العربية في العصر الإسلامي، فنتج عن ذلك - كما يقول المبالِغون - تركيب لغوي جديد هي "اللغة العامية العراقية" كما يزعم السيد قيس مغشغش السعدي، صاحب معجم جديد نسبياً يحمل عنوان "معجم المفردات المندائية في العامية العراقية". وهذا لعَمري كلام خاطئ من الناحيتين اللغوية والتأريخية. وستكون لنا معه وقفات نظرية وتطبيقية مفصلة لتبيان خطله وتهافته.

* إنَّ هذا الكتاب ليس معجماً شاملاً لكل مفردات اللهجة العامية العراقية، ولا فائدة أصلا ولا حاجة من وجود معاجم كهذه، بل هو معجم تأثيلي لمئات المفردات المهمة (أكثر من تسعمائة مفردة) حاول السيد قيس مغشغش السعدي - مؤلف المعجم المندائي سالف الذكر - إخراجها من أصولها وجذورها ومعجميتها العربية إلى معجم اللهجة المندائية الآرامية، أو من كونها مفردات مشتركة في عدة لغات جزيرية "سامية" شقيقة، فحاول المؤلف حصرها في لهجته المندائية قسرا، إضافة إلى نزر يسير من المفردات الدخيلة من لغات أجنبية غير جزيرية "سامية" أخرى كالفارسية والتركية وغيرهما. أي أن معجمي هذا ليس أكثر من محاولة سجالية للرد التفصيلي والتأثيلي الموثق وفق مبادئ العلوم الحديثة اللغوية واللهجوية على معجم السيد السعدي، على أمل أن يكون هذا الجهد خطوة على طريق تطوير وتبسيط وتأثيل مفردات لهجتنا العامية العراقية وإعادة موضعتها وكشف جذورها العربية الفصحى والفصيحة ودحض محاولات الساعين للتشكيك بهذه الجذور وتلك الهوية اللغوية أو التشويش عليها، يحدوني الأمل بأنْ يكون هذا المعجم السجالي خطوة على طريق إعادة الاعتبار للمنهجية العلمية في التأليف المعجمي ودراسة اللهجات العربية المعاصرة مقاربةً للحقيقة أولا، ودفاعا عن عروبة لهجة العراقيين الجميلة والغنية بالجواهر المترسبة فيها من اللغات واللهجات الرافدانية الشقيقة المنقرضة.

مِسْرَد الكتاب -المحتويات

الإهداء

المقدمة

لماذا هذا الكتاب - المعجم؟

لغات جزيرية "سامية" شقيقة

الآرامية والنبطية والمندائية

أقدمية اللغات واللهجات

استراتيجية تأليفية مريبة

استهداف عروبة اللهجة العراقية

سرديتان لحدث تأريخي واحد

العرب في العراق قبل الإسلام

من بدأ حرب الفتح؟

عرب العراق المسيحيون ينقسمون

تحرير العراق قبل القادسية

اللهجة العراقية وعلاقتها بالفصحى

اللغة العربية وتحولاتها

جدلية اللغة واللهجة

الفرق بين اللغة واللهجة

الفرق بين الحروف والأصوات

ظواهر خاصة بالعاميات العربية

أنواع الإبدال الشائعة

الأصيل والدخيل والمهمل والرديف

التعطيش وأنواع الجيم السبعة

المضارع المستمر في العاميات

من مميزات العامية العراقية

السعدي يتهمني بالحسد والحقد

خاتمة

معجم المفردات حسب الترتيب الأبجدي

ملاحظات وتنبيهات

حرف الألف

حرف الباء

حرف الجيم والجيم المثلثة (چ)

حرف الدال

حرف الهاء

حرف الواو

حرف الزاي

حرف الحاء

حرف الطاء

حرف الياء

حرف الكاف

حرف الخاء

حرف اللام

حرف الميم

حرف النون

حرف السين

حرف العين

حرف الفاء

حرف الصاد

حرف القاف

حرف الراء

حرف الشين

حرف التاء

الملحق الأول

ملحق الثاني

قويمس عربي قديم / عراقي

الملحق الثالث

رواسب أكدية في العربية والعامية العراقية

من كتاب "من تراثنا اللغوي القديم" للعلامة طه باقر

المصادر والمراجع

صدر للمؤلف

 

عن منشورات منتدى الأدب لمبدعي الجنوب فرع ايت ملول ومطبوعات مطبعة "بلال" بفاس صدر للشاعرة المغربية ابنة سوس العالمة لطيفة أثر رحمة الله ديوانها الموسوم ب"أوراق الشمس" وهو باكورة أعمال الشاعرة في مهيع الشعر، يضم ما يقارب 15 قصيدة في 119 صفحة من الحجم المتوسط.

يضم الديوان قصائد متنوعة مبنى ومعنى، حيث قاربت مواضيع متعددة اجتماعية  وعاطفية، معنونة إياها ب"أوراق الشمس" على اعتبار الشمس أو "أخت يوشع" منحة الاهية تعمل على موازنة طاقات الحب والحظ والنور لتحقيق الانسجام  الذي تفتقده الذات الشاعرة في خضم التمزق الواقعي الذي تعيشه، فالشمس رمز متجدد للقوة والسلطة والحكمة والمعرفة وهي مصدر مهم للطاقة في عمق كوني مبهر يسم الحياة بالتجدد والأمل  لهذا فقد أقبلت عليها الأقلام والقلوب بالمناجاة، مذ تعلم الإنسان قرض الشعر وتقصيد القصيد فهي روضة المحبين وفيء المتعبين، وهي ايدان بصباح أمل تُحَرِّر النفس من أوهاق الحياة ومن سيزيفية الواقع فإن لم يكفك منها الهيبة  وسلطان السمو مكسوفة أو مخسوفة يصبك شعاع منها ظاهر، وكم أنصفها محمد إقبال وصفا جميلا حين أنشد :

منكِ الحرارَةُ للْحَيَاةِ وبَعْثُها  

    ونضالُها في موْجِها المَوَّار

تجدر الإشارة أن عنوان الديوان هو عنوان لإحدى القصائد التي ضمها.

تقول الشاعرة في القصيدة التي اختارت عنوانها عنوانا لديوانها:

أوراق الشمس

أبحث عن أوراق الشمس

عن ليالي معتقة

عن" نخيل صنوان

وغير صنوان "

فما وجدت إلا قطعة من وجْدٍ

من صحوة سُكْر

أرمم بها ما شاخ من ملامحك

أجرّ شاماتك

سترا لعري المدائن

حجابا فاصلا

بين مكرك الطاعن في المرارة

مكر ومزق منثورة

من الشيطان

تلغي غيابك

بحضور لافت

كنافورة أندلسيّة

تدفن في متاهاتها

سرا عتيقا

تشاكسها الشمس...لا فائدة

فالسر دفين ...عصيّ

لقد ملأت الشاعرة أوراق ديوانها بانشغالات المرأة بعيدا عن المِرْوَدِ والمِكحلة، متجاوزة ذلك إلى هموم أكبر متصلة الأسباب بالمعيش اليومي على مستوى الذات التي تجيش بخواطرها السانحة وبوارحا الجارحة، وقد اختارت شاعرتنا، من حيث المبنى، القصيدة بنموذجيه العمودي التقليدي و النثري، وقد أجادت فيهما صنعا دون أن تظهر عليهما ملامح التكلف نقشا ونحتا، فجاءت قصائد الديوان شبيهة بقطار نظم من مرتاض الشَّوارد كما قيل، فما أصعب ترويض اللغة تجري في النفس جريان لواعجها في سمط واحد، حتى وإن توفرت القراطيس والأقلام، وكم أبدع الداهِّية المتنبي قائلا:

وقد وجدْتَ مجالَ القولِ ذا سعة   

   فإنْ وجَدْتَ لسَاناً قائِلاً فَقُلِ

لقد أفردت الشاعرة قصيدتين خليليتين _على البسيط والمتقارب_ كأنهما جوهرتا الديوان، وهما كذلك إذ تضمنتا من جودة السبك وحسن العبارة ما جعل الشاعرة تعيد أمجاد القصيد التقليدي المقيد بالقافية وبالوزن، فأجادت الخطو بين القيود دون تعثر، وليس هذا يعجز ابنة سوس العالمة، أستاذة اللغة العربية العارفة بأسرار ماضي الشعر منذ أُنشد بين الخباء في الفدافد والفيافي، أما من حاضر الشعر المتحرر من كل قيد وشرط، فقد ألهمت الشاعرة ثلاث عشْرة قصيدة كأنها معزوفات مضبوطة النوتات على أوتار الذات وما تحوكُهُ  فيها حوادث الأيام حلوها ومرِّها، حزنها وفرحها، ضيقها وندحتها، وإن كان معجم الوجع والأسى طاغيا، ولك في قصيدة "خطيئة معلنة" و "ألا ترأفين" و "طقوس" و "أنا ويح أنا" وقصائد أخرى نماذج بوح شاعري تحاول فيه المرأة المعاصرة فك قيود البحر الموزون من جهة، وقيود ما حمَّلها أمسُها من أعباء الأسرة والعمل والثقافة المذكرة... هذا دون أن ننسى بعض القصائد التي يمكن ادراجها في التفاصيل النسوية الصرفة كقصيدة " بوح خاتم " و "فستان" و"المرآة " وإن كانت فيهن الشاعرة غير حبيسة خِدْرِهَا الضيق، موسعة طوق المعاني إلى أن تبلغ آفاقا بعيدة، والشاعرة وحدها القادرة على جعل خاتمها البسيط خاتمَ سليمان الأسطوري، وهذا لعمري إحدى معاجز النِّسوة وملمح كاف على نبوَّتِهِن الأدبية.

إنّ لحظة القلب، كما قال ابن المُعتزّ، أسرعُ خَطْرَةً من لحظة العين، وأبعدُ مجالا، وهي الغائصة في أعماق أودية الفكر... والقلب كالمُملي للكلام على اللسان إذا نطق، واليد إذا كتبت، والعاقل يكسو المعاني وَشْيَ الكلام في قلبه، ثم يُبديها بألفاظٍ كَواسٍ في أحسن زينة؛ وإن القارئ سيدرك أن ديوان "أوراق الشمس" مِصداقٌ أمينٌ من مصاديق كلام ابن المعتزّ، فالشاعرة، وهي عاكفة على ورقها، كأنها تعدّ نبض قلبها نبضةً نبضةً ليُملي على قلمها ما يجعل الشعور مسطوراَ ومقروءاً، وقد أصاب أبو عثمان في تعريف هذه المضغة قائلا :" وإنما اللّسان تُرجمان القلب، والقلب خزانةٌ مستحفِظةٌ للخواطر والأسرار، وكلّ ما تُنتجه الحكمة والعلم."؛ والمرأة إذا حزنت صدقت، وإذا توجّعت صدقت، وإذا زَحَرَت صدقت...وهلُمّ إليك كلّ ما يمرّ على شِغافها وسويدائها على مدار اليوم والسّاعة، والمرأة  كالرّغيف، لا يبلغ النضج إلاّ بعد لفحٍ من النار، لهذا سيبقى شعرُ المرأة أصدق شعرٍ يمكن أن  يكتبه بشر... كيف لا وهو مكتوبٌ بسفّود حامٍ وليس بقلم بارد؟

وبعد، فلو كانت السّعادة تُقاس بمقدار ما تراه من أمجاد يصنعها أبناء الوطن، فإنّنا بلغنا غايتها ونحن نزفّ لقراء صحيفة المثقف بصفة خاصة و للقرّاء العربِ غامة  بعض ما ضمّته دفَّتا" أوراق الشمس"، وكذا بتقديم هذا الدّيوان الأنيق أناقةَ الخطّ بحَرْفِهِ والنّخلِ بسَعْفِهِ؛ شاكرين بالمَثاني وبالمَثالِث  شاعرة الجنوب لطيفة أثر رحمة الله، التي أدهشتنا نتصفح قصائدها بشغف  لكأنها سرّ من أسرار الحياة، وهي كذلك بلا شك، وقد صدق بعضهم حين قالوا: "لو سألوا الحقيقة أن تختار  لها مكانًا تُشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر..".

 

لقد أشعل الشاعر بدوي الحاج شمعة عواطفه وذاكرته وصاغ عباراته في طواف روحي، زماني ومكاني مترامي المسافات بين مرابع الطفولة وأقاصي الغربة.. فهو المحب، العاشق، الانساني، الثائر،المقيم والمغترب.

 في نصوصه وقصائده يأتلف المعنوي مع المادي جامعاً تعابيراً واشكالاً واجناساً تشمل معاناة الانسان والوطن في الحاضر والماضي وبين الرحيل والغربة والإقامة… لم يترك قلبه على قارعة الحب بل غرف من معين الحب كل ما استطاع اليه سبيلاً…

 يقتص من الحياة تجاربها الحلوة والمرة، احزانها وافراحها، ولا يتملكه اليأس، يثور على المألوف وعلى الظلم وهو يمضي الى أحلامه…

 إستل الشاعر قلمه  ليدون قصائده ونصوصه فوق صفحات كتابه الجديد  "أنا لم أكن أنا" الصادر عن دار المؤلف في بيروت عام 2023 ويقع في 174 صفحة من الحجم الصغير ويتضمن87 قصيدة ونص بالإضافة الى مقدمة الناشر.

قال بدوي الحاج الكثير في كتابه، وباح بأكثر ما يجول في نفسه ودون ما يدور حوله… وهو العارف انه عابرٌ في هذه الحياة حيث يقول : لم نأت لنبقى./ والكون محضُ صدىَ./ قل ما تشعر به،..(ص10).

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل قال الشاعر كل ما لديه على دروب الرحيل  والهجرة والغربة ؟ وهوالقائل الهجرة: حفنة مني ومِنك في حَقيبَة/ الهجرة تبتلعنا والحَقيبة (ص82). والملفت ان المفردات الاكثر ترداداً في الديوان السفر، الوداع، الرحيل، الهجرة، العبور والحقيبة.

 يقول في قصيدة أنا لم أكن أنا والتي أعطى للكتاب اسمها :انا الولد العاق (ص 15) هذا الولد العاق يملك فيضاً من الحنين والشوق والمحبة والغيرة والحرص لمدينة بيروت ويقول في قصيدة هنا بيروت : خذني هُناك/ حيث تنام الشمس على شرفة البحر/ بين يديها أسرار الأنبياء/ بين يديها مفاتيح السماء..(ص21).

فلسطين القضية بأبعادها الإنسانية، الوطنية القومية حاضرة في الكتاب ففي قصيدة فلسطين (ص28) فعلى الرغم من بشاعة الإحتلال وهمجيته وعنصريته يقول الشاعر:سبعون عاماً ولم يأت الربيع/ سبعون عاماً وشبابيكنا ثورة/ أبوابنا ثورة/ وكل أغنية لحنها ثورة/ الدار دارنا/ والأرض أرضنا…

 لكن الشاعر لا يدانيه الشك بأن الليل سوف ينجلي ويرى ان نوافذ الأمل وابوابه مشرعة للحلم الفلسطيني، لأن الفلسطيني لم يستكن ولم يهن وبقي قابضاً على جمر قضيته ويقول: أنا طفل فِلسطيني،/ أنا موسم الخير المنتظر/ أنا الزهر/ أنا النهر/ أنا زخات المطر.. وفي قصيدة لحن القضية(ص43) يقول : لن يموت من قلبه على الزناد…/من يؤمن بأرضه…وبعناد.

الشاعر العاشق حتى الرمق الأخير وحتى حدود الأنانية يقول في قصيدة زائرة صيف (ص31): كزائرة موسمية،/ أعود بك/ بلا فواصل/ بلا استئذان../ أسيرة لشهواتي،/أنانيٌّ في العشق أنا. وها هو في قصيدة عيناكِ (ص75) يهجر معتقدات الجاهلية ويتغزل بحبيبته على الملأ قائلاً: وعيناك كل المدى/ كل المدن والواجهات../ عيناك تتلويان/ نشوة/ كشهيقٍ في آخر نغمات الحب..! وأجمل ما في هذا الحب ان الشاعر جعل من حبيبته  غابة ونهراً وبحراً ففي قصيدة آخر الزهر(ص150 ) يقول: كنت غاباً يعبره النهر/ كنت بداية لكل بحر/ كنت اول الرجيق/ وآخر الزهر…

لا يرضى الشاعر ان يعيش على قارعة النسيان ولا يتهرب من الإضاءة على مثالب رجال الدين والدنيا،  ويسلط جام غضبه على الفاسدين الذين أتوا على كل ما في الوطن من معنى ويتساءل في نص بعنوان : ماذا فعلتم بنا ؟!(ص134) ماذا فعلتم بنا، بمستقبل اولادنا، بأحفادنا؟!/ ماذا فعلتم بأرضنا، بديارنا، بأشيائنا؟!/ ماذا فعلتم بأهلنا، بوطننا؟! ماذا فعلتم بنا؟!..

لكن الشاعر لم يوفر الشعب الذي بقي خاملاً ولا تهتز مشاعره كأنه يعني كما تكونوا  يولى عليكم، ويقول بغضب في نص بعنوان ثورة (ص58) كيف لنا أن نقود ثورة…/فنحن حفنة من الشعوب المكدسة مذهبياً، طائفياً وسياساً…

الوصية

ففي نص بعنوان الرحيل (ص40) وما ادراك ما الرحيل الذي لا يألفه الا من اقتلع من أرضه واجتثت جذوره،  يقول الشاعر: ما اكثر الحزن في الزوايا..! الرحيل يحتاج الى حقيبة، لا أكثر.. نملأها بتراب طفولة شرسة، لم تدمل جراحها… وفي ختام النص يقول : قبل الرحيل، خذ كمشة من الحبق الصيفي، خذ منديل امك وخصلاً بيضاء من شعرها، وأحشر حقيبتك بك جميل.. قد تعود يوماً وقدلا تعود.

فعلى أمل العودة التي ينتظرها الشاعر، كما كل الذين شردوا من أوطانهم ، لم ينتظر بدوي الحاج تلك العودة واقفاً على الأطلال لكنه أضاء شمعة في ظلام الليل الطويل،   فالتجأ الى الشعر  معبراً عما يختلج في النفس معبراً عن تجربته الإنسانية والذاتية مخففاً على نفسه وعلى من سيقرأ كتابه الغني بصور شعرية تحاكي المعاناة والألم والحب…

***

كتب عباس علي مراد

 

صدر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل كتابي الموسوم (تاريخ الأكراد في العراق) وهو وهو دراسة تاريخية سياسية اجتماعية، للحقبة من عام 2230 ق.م ولغاية عام 2015م؛ بجزأين، تضمن الجزء الأول (368) صفحة والجزء الثانية (392) من الحجم الوزيري.

بالنظر للأختلاف الواسع والأفتراضات المتعددة بين العلماء والباحثين حول أصل الأكراد وأسلافهم، والمواطن التي استوطنوها بعد انتشارهم من مهدهم، إلاّ إننا نستطيع أن نقول بصورة عامة، أن الأكراد والجبال لا يفترقات، كلما بدأت السهول يترك الأكراد الأرض للعرب، وحوالي بحيرة وان للأرمن، هذا ما يؤكده العالم الآثاري مينورسكي، أما كردستان فهي قديمة قِدم الزمان.

كانت لي الرغبة منذُ أكثر من عشرة سنوات بالبحث في هذا المجال، فبدأت بتوفير المصادر للبحث والتحليل للوصول إلى قناعة تامة ورأي قاطع بصدد هذا الموضوع، وقد اطلعت على رأي الباحثين والمستشرقين امثال: جليلي جليل ومحمد أمين زكي والدكتور شاكر خصباك والدكتور عبد الرحمن قاسملو والاستاذ جلال الطالباني والدكتور كمال مظهر أحمد والمقدم السوري منذ الموصلي والدكتور جمال رشيد أحمد والدكتور فوزي رشيد والأستاذ حمه رشيد، والروسي الأصل ق. ف. مينورسكي، وباسيل نيكيتين، م.س لازاريف، ن،أ خالفين، مايكل إم غينتر، مارتن فان بروينسن، كيو موكرياني، كريس كوجيرا، سي جي. ادموندز، ستيف لونكريك، ديفيد ادامسن.

إن أكثر المعلومات القيِّمة عن الكُرد موجودة بشكل رئيسي في المؤلفات المكتوبة باللغة العربية خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين. ومن المعروف أن اللغة العربية في الفترة ما بين القرنين الثامن والتاسع خرجت عن كونها لغة البلاط وأصبحت بشكل رئيسي اللغة الرسمية للعالم الإسلامي.

كلما راجعت تاريخ الشعب الكُردي واطلعت على ما حملهُ من هموم واضطهاد، اشتدت بيّ الحاجة للبحث أكثر في هذا المجال. فالشعب الكُردي تعرض للنزعة الشوفينية القومية على مدار تعاقب الحكومات، وعلى مر الأزمان، لذلك تعرضت حركة التحرر الكُردية لأضطهاد وتهجير دائم، حتى وصل الأمر بحكومة البعث إلى استخدام السلاح الكيمياوي الفتاك وضرب المدن والقرى الكُردي، وخاصة مدينة حلبجة، حيث قتل خمسة آلاف من سكانها، ثم ابتدعت حكومة البعث اسلوباً قذراً آخر بمطاردة المدنيين الكُرد والتي اطلقت عليه عمليات (الأنفال)، فكان لقوات الجيش والمرتزقة المسلحين من الخونة ما يسمى (الجاش) بمحاربة ابناء الشعب الكُردي في المناطق والقرى، فضلاً عن تخريب حوالي (4500) قرية ومدينة كُردية، فقبضت على الرجال والنساء والأطفال بأكثر من مائة ألف، لتقتلهم بأساليب بشعة، وكذلك صور المقابر الجماعية شاهدة على إجرام النظام السابق، من خلال دفنهم في خنادق وهم أحياء، وأرض صحراء السماوة شاهدة على ذلك، كل هذه الأعمال الوحشية والعالم صامت وساكت دون استنكار، فضلاً عن قيام نظام البعث بتعريب المناطق الكُردية من خلال اسكان العرب واجلاء أهل الأرض الأصلاء الكُرد، وخاصة في مدينة كركوك وخانقين وسهولهما.

يقول الجنرال (بيير روندوث Rondot) في كتابه (كُردستان قلعة منسية): "في قلب آسيا القديمة وفي سالف الزمن، تقف قلعة كبيرة حيث ينتظر ملايين الرجال الأشداء إشارة من القدر، ولكن تلك القلعة ليست بين حساباتنا، فلم تكن كردستان دولة... كما أن اسمها لا يوجد في معظم أطالِسِنا، بل وتخترقه الحدود وحيث نسينا أصوله ووحدته النفسية، بل ووجوده حتى... وها هي أربعة قرون قد مضت حيث كوزنوفون عن قيمة الكاردوك Karduques أجداد الأكراد الحاليين".

لقد نال الظلم وأنواع مظاهر الجور الشعب الكُردي، وهو الشعب الذي يمتلك تأريخاً مشرقاً ومكتوباً بالدم، وكانوا عرضة للتشنيع والسَب والقدح على مر الحكومات السابقة، ولذلك كانت الحركة الوطنية الكُردية اسباباً لوجودها، وتستند قوميتهم على حق جميع الشعوب وكل الأمم في تقرير مصيرها، والتحكم في مواردها الخاصة، كما أقرت ذلك الأمم المتحدة في قرارها الصادر في السادس من ديسمبر 1952م. فالمجتمع الكردي المعاصر اليوم يختلف كلياً عما كان عليه الوضع قبل خمسين عاماً خَلت.

ويرى الدكتور كاظم حبيب حول الموقف من المسألة الكُردية قد "نشأ مع نشوء الدولة العراقية، هذا النشوء غير الديمقراطي والتربية العثمانية الاستبدادية والرؤية القومية والدينية المتعصبة والقاسية والعنيفة في آن واحد.. وأزداد في الطين بلّة موقف سلطات الاحتلال البريطانية الاستبدادي والاستعمار الاستغلالي من القضية الكُردية، وسعي هذه السلطات إلى تهميش دور الكُرد في المنطقة ومنع إقامة دولتهم الوطنية المستقلة على أرض كُردستان، والإصرار على تجزئتها.. وهذا يعني أن النُظم السياسية التي وجدت في العراق كانت كلها تسير على خط واحد إزاء المسألة الكُردية، إذ بَرز بعض التباين عند النُظم المختلفة، ولكن الموقف الجوهري من حقوق الشعب الكُردي ومن حقه في تقرير مصيره.

علماً أن الآراء حول أَصْل الأكراد، ونشأتهم لم تتوحَّد، وكذلك في بداية ظُهورهم في كُردستان؛ فقد ظهرت العديد من الفرضيّات، والدراسات حول أَصْل الكُرْد، وتاريخهم القديم، عِلماً بأنَّ بعض هذه الدراسات استدلَّت على أَصْل الكُرْد من خلال رَبْط الخصائص القوميّة للشعب الكُرديّ، كتَسمِيَة "كُرْد" التي كان لها مفاهيم ومعانٍ مُختلِفة عمَّا هي عليه اليوم، أو من خلال استكشاف التأثيرات الحضاريّة التي ظهرت في الحياة اللُّغويّة، والدينيّة، والثقافيّة لمُختلَف شُعوب الشرق الأدنى القديم، أو من خلال تحليل حوادث التاريخ القديم للأكراد، ودراستها، مُنذ العُصور القديمة، وحتى العَصْر الحالي وبمفهوم الكُرْد بصيغته القَوميّة الحاليّة، وبالنظر إلى المُعطَيات التاريخيّة، واللُّغوية، فإنَّ تصنيف الكُرد يعود إلى ما هو ضِمن الشُّعوب الإيرانيّة، إلّا أنَّ هذا لا يعني ثَبات أَصْل الأكراد بأنَّهم من إيران؛ فقد يكون عُنصر الكُرد قد امتدَّ من منطقة غرب بلاد فارس (إيران) إلى أواسِط كُردستان، أو قد تكون هناك قَوميّة أُخرى ذات تَسمِيَة مُشابِهة للكُرد، ولكن من أَصْلٍ مُختلِف ظهرت قَبل مَجيء الكُرد من إيران، واندمجت معهم، ومن الجدير بالذكر أنَّ كُلَّ ذلك كان دافعاً لظهور آراء، واعتقادات عِدَّة حول أَصْل الأكراد.

وحول أصل الأكراد يَعتقد مُعظمهم أنَّ نَسبهم وأُصولهم تعود إلى الكوتيّين الذين عاصروا السُّومريّين، وسكنوا مَدينة (بَابِل) الواقعة في العراق، واستطاعوا السيطرة عليها في عام 2649 ق.م، إلّا أنَّه مع مُرور الوقت سَقَط حُكمُهم، وتراجعوا إلى الجِبال، واستقرُّوا فيها، وأنشأوا نظاماً داخليّاً خاصّاً بهم، ويَعتقد الكُرديّ (مُحمَّد أمين زكي) أنَّ الأكراد القُدَماء هم من الشُّعوب القوقازيّة، إلّا أنَّهم تحوَّلوا إلى آريّين، واقتبسوا اللُّغة الميديّة الآريّة؛ وذلك بسبب اختلاطهم مع الأكراد الجُدُد (الميديّين)، ويَذكُر المُؤرِّخ الكُرديّ (محمود بايزيدي) أنَّ أَصْل الأكراد يعود إلى العرب، حيث يَرى أنَّ الأقوام الكُرديّة تعود في الأصل إلى القبائل البَدَويّة، وأنَّهم تحدَّثوا لُغتَهم (اللُّغة العربيّة)، ومع مُرور الوقت انفصل جُزءٌ من الأكراد عن البَدو، واستقرُّوا في مَناطِقهم الحاليّة.

أما رأي المُستشرقين فهناك بعض الفرضيّات المُتضارِبة التي تتَّفق فيما بينها ببعض النقاط، إلّا أنَّها تختلف في كثيرٍ من مَضامينها حول تحديد أَصْل الأكراد، ومن أهمّ هذه الفرضيّات: نظريّة مينورسكي: وهي نظريّة وَضَعها السيّد مينورسكي، وأكَّد فيها أنَّ أَصْل الأكراد يعود إلى الفُرس؛ أي الأَصْل (الهندو-أوروبّي)، وقد صنَّفهم مع الشعب الإيرانيّ، كما أنَّه اعتقد أنَّ الأكراد انتقلوا في القرن السابع عشر من منطقة (بُحيرة أرومية) إلى جزيرة (ابن عمر)، إلّا أنَّ مينورسكي في فرضيّته هذه لم يأخذ بالحُسبان أَصْل السُّلالات المُعقَّدة التي لم تختلط بالأكراد. أما فرضيّة السوفيتي مار: والتي تَنصُّ على أنَّ الأكراد الأصليّين لهم طبائع مُشابهة لطبائع الأقوام الآسيويّة الأُخرى، مثل: قبائل الأرمن، والكلدانيّين، والقوقازيّين. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ أَحد المُؤرِّخين المُستشرقين يرى أنَّ الأكراد هم في الأصل أحفاد الخالديّين الإيرانيّين من سُكّان الجِبال، وقد اشتهروا بشِدَّتهم، وقُوَّتهم. في حين يَرى البروفيسور (لهمان هوبيت) أنَّ الأكراد هم أجداد الجورجيّين، وهناك من يُرجِّح أنَّ أصل الأكراد يعود إلى الميدويستي، عِلماً بأنَّ البعض يعتقد أنَّهم يعودون إلى سُلالة الكاردوخيّين.

أما الدكتور حسين قاسم العزيز فيعتقد أن الأكراد هم من أصول السومريين، وقد هاجر بعضهم إلى بلاد الرافدين وأسسوا الحضارة السومرية فيها. أما رأي عُلَماء الأجناس والتاريخ يعتقد بعض عُلَماء الأنثروبولوجيا أنَّ الأكراد هم الجماعات البشريّة التي زَحفت إلى مناطق وَسَط آسيا ذاتها، وهي الأقوام (الهندو-آريّة)، وقد استدلُّوا على ذلك من خلال مُلاحَظة الصِّفات الخَلقيّة للأكراد الحاليّين؛ حيث إنَّهم يتَّصفون بطول القامة، وطول الرأس، وقِلَّة استدارته، بالإضافة إلى مُشابهة لون بشرتهم، وعيونهم، وشعرهم للصفات ذاتها لدى تلك الجماعات، ويرى الجغرافيّ (سترابو) أنَّ بِلاد الكُرد تَقَع في أرض فارس، وميديا، كما تُشير اللوائِح الطينيّة التي وُضِعت في عام 2000 ق.م إلى أنَّ الكُرد هم أقدم المُجتمعات الأرستقراطيّة في العالَم، كما يرى المُؤرِّخ الإغريقيّ (هيرودوت) أنَّ الشعب الكُرديّ ينحدر في الأصل من سُلالة الكروديوني، والعِرْق الآريّ.

فضلاً عن إن ما هو لافت للنظر أسماء بعض الأماكن التي ورد ذكرها مراراً في المصادر العربية، لكن تحت تسميات مختلفة نسبياً. فجبال منطقة كوردوك، نجدها قد وردت بعدة أشكال مثل (قردى) أو (قرد) أو (بقردى)، إن هذه التسميات المتعددة لذلك المكان المذكور هي التي شدت انتباه الباحثين في الدراسات الكُردية في سياق بحثهم لتحديد أصل نشأة العرق الكُردي. وقد أشار الجغرافي ابن رسته إلى أن أول المواقع التي شيدها نوع وأبناؤه هو (قرية بقردى) وتسمى (سوق الثمانين).

ومما تجدر  بالاشارة هو أن الأموريين حاولوا الاستيطان في مناطق كركوك وأربيل وعَبرَ قسم منهم نهر دجلة، لكن الملك (ادي سين) ملك (سيمورروم) المتاخمة لكركوك، وكان قسم من كردستان الجنوبية تحت حكمه قاتلهم وهزمهم وأسرَ خمسة من رؤسائهم وردهم على أعقابهم، وذلك منذ حوالي أربعة آلاف سنة. خلد الملك (ادي سين) انتصاره المنسي هذا على لوحة حجرية عثرت عليها اسرة مام ناصر في مزرعتها بقرية (قه ره چه تان) الواقعة في شمال غرب السليمانية بقرب جبل پيره مه گرون وذلك سنة 1984م.

أما اللهجات الكردية الحالية فتنقسم إلى أربع لهجات رئيسية هي: الكرمانجية والجوزانية والكلهرية والسورانية. كما توجد لهجة الزازا ما بين ديار بكر وأذربيجان. فاللهجة الكرمانجية يستعملها أكثر من 50% من الأكراد وتستعمل في الكتابة والتعليم خاصة في المنطقة الكردية الشمالية في العراق، كما يتكلم بها معظم الأكراد في تركيا وسوريا والاتحاد السوفياتي. وأمّا في المنطقة الجنوبية من كردستان العراق فتوجد بها قسمان من اللهجات:

أ– القسم الموكري: أي لهجة قبائل الموكري وسوران.

ب– القسم السليماني: أي قسم السليمانية وأردلان ويلاحظ أن اللهجات الكردية جميعاً مقسّمة جغرافياً.

وتعتبر لهجة موكربان التي هي أساس اللهجات المحلية التي يتكلم بها أكراد مناطق موكربان وسنه وسقز والسليمانية وأربيل وكركوك أنقى اللهجات الكردية وهي اللهجة الأكثر تطوراً في منطقة السليمانية حيث هي غنية باشتقاقات ومصطلحات جديدة خاصة خلال الخمسين عاماً المنصرمة وبها تكتب الكتب والقصص والمجلات. فلهجة سليماني تمّ الإجماع على أنها التعبير الأدبي الأول لا في العراق وحده، بل في الجهة الأخرى من الحدود الإيرانية. وربما عزى جانب من هذا التفوق اللغوي إلى الرعاية التي بسطها أمراء بابان على الأدب الكردي في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما يعزى بعضه إلى إنشاء الأتراك مدرسة عسكرية في السليمانية يرسل خريجوها إلى كليتي الأركان والحربية في إسطنبول، فوصلت الثقافة إلى مستوى لم يبلغ شأوه مجتمع كردي آخر. والأكثر من هذا أن اللغة الكردية اعتبرت سنة 1918م ولأول مرة في السليمانية مصدراً لتخريج عدد كبير من موظفي الأقاليم الكردية ومنذ العام 1925م؛ بدأت مطابع السليمانية وأربيل وراوندوز، فضلاً عن مطابع بغداد تصدر صحفاً ومجلات أسبوعية وشهرية مستمرة بأعداد كبيرة جداً. وطبعت أيضاً دواوين شعرية قديمها وحديثها وكتب تاريخية ودينية وسياسية.

ومن خلال ما ذكرت سابقاً من معلومات، والتي أوردناها في هذه الدراسة، فإن قضية الأمة الكُردية تتعلق بحقيقة اساسية هي أن شمال وادي الرافدين ومرتفعات جبال زا گروس (سوبارتو) هي المهد الذي نشأت فيه، وإن كنية ولغة ودين الكُرد، وعُرف وعاداته توفرت نتيجة امتزاج دم وثقافة السكان المحليين القدماء كالكوتيين والخوريين والكاشيين مع دم وثقافة المهاجرين من الهنود الآريين الذين سادوا على هؤلاء سياسياً في البداية. وهكذا فالكُرد المعاصرون ما هم إلا حصيلة الأحداث التأريخية التي شهدتها بلاد سوبارتو عِبرَ التأريخ.

وإذا كانت كُنية (كوردا) هي أقدم صيغة خورية للتسمية القومية الكردية، فإن اللغة الكُردية المعاصرة ظهرت وتكاملت في إطار هندي-إيراني، بينما سادت التأثيرات الدينية السامية من خلال البابليين والآشوريين واليهود والمسيحيين والمسلمين على البنية الذهنية لأغلب شرائح المجتمع الكُردي. وبمرور الزمن، وبعد أن أدى حلف القبائل الذي صاحبه تعزيز الصلات الاقتصادية والثقافية بين أفرادها، امتزجت بطون القبائل المهاجرة مع أُسر السكان المحليين تدريجياً، واستبدلت الروابط الدموية بينهم بروابط اقليمية حيث ظهر على إثر هذه الظاهرة شكل جديد للتجمع في شمال وادي الرافدين عُرف بـ(الكُرد) توفرت اساسه من وحدة الاقتصاد والسوق والإقليم واللغة والحضارة المشتركة.

وقد ألتزمنا في دراستنا هذه بمبدأ النهج العلمي مع مناقشة كل الآراء المطروحة حول المواضيع التي نحن بصددها، وابتعدنا بقدر ما يسمح لنا هذا النهج عن العواطف والأحاسيس القومية والدينية التي تسود أوساط الكُرد. وعلى كل حال فإن المواضيع التي ستطرح في هذا الكتاب تتعلق بنشأة الشروط القومية الكُردية في مرتفعات جبال زا گروس وكُردستان التي شهدت أحداثاً تأريخية معقدة لا يمكن الالتزام بجانب واحد منها. وبناءً على الحقائق فإن القاعدة التي نمت عليها القومية الكُردية في التأريخ لم تكن في موطن الآريين بجنوب روسيا أو في إيران أو في أواسط آسيا وإنما في مرتفعات جبال زاگروس وطوروس وسهول سوبارتو بشمال وادي الرافدين، ففي الوقت الذي بدأت القبائل الميدية تستقر في مرتفعات جبال زاگروس وشمال وادي الرافدين سائدة لهجتها على السكان المحليين لهذه البلاد خلال القرن السابع وخاصة بعد انهيار الإمبراطورية الآشورية عام 612 ق.م كانت هناك عدد من مقومات الأمة الكُردية متجسدة في هذه المقاطعات منذ أمد بعيد ومنها:

أ‌-  وجود الكُنية الطوبوغرافية الحورية القديمة (مات كوردا كي- mat Kurda ki ) أي (أرض بلاد كوردا)، التي كانت تقع حوالي مناطق جغجغه وتل الأسود في حوض نهر خابور (بكردستان الغربية)، كما حددتها لنا السجلات السومرية والأكدية في الألف الثالث قبل الميلاد. وعندما بدأت هذه الكُنية الطوبوغرافية تُعبر قبل العصر الهللنستي عن مفهوم أثني، بدأت تتوسع حدودها، فشملت المقاطعات الوسطى والشمالية من كردستان الحالية، حيث دَوّنَ المؤرخون الكلاسيكيون اسمها بصيغة Cordya, Kordya.

ب‌- استقرار العناصر الآرية (الميتانية) في أرض كوردا منذ الألف الثاني قبل الميلاد وتجسيدهم لقاعدة لغوية ودينية هندية- آرية فيها، وعند حلول انسبائهم من الميديين في أواسط الألف الأول قبل الميلاد في هذه الأرض حدثت عملية أمتزاج بين المجموعتين بشكل طبيعي حيث تطورت لهجتيهما (وهما من نفس الشعبة اللغوية) معاً واصبحتا قاعدة لأولى بوادر اللغة الكُردية.

ت‌- بما أن موطن الزاگروسيين الذي جرت عليه عملية الامتزاج الحضاري بين الهنود الآريين القدماء من الميتانيين مع الميديين فيما بعد، كان يتمتع برقي حضاري منذ قيام الثورة الزراعية في مرتفعاته، فإن ظهور بوادر المجتمع المدني القديم في سهوله كان أمراً طبيعياً، ومُنذ هذا العهد المبكر غدت بلاد كورديا Kordya ومرتفعات جبال زاگروس المهد الذي استكرد فيه أقدم المستوطنين الزاگروسيين من الكوتيين واللولوبيين والحوريين والكاشيين تحت ظل طغيان اللهجات الميتانية والميدية على لغات هؤلاء الأقوام، ونمت في هذا المهد الشروط القومية للكُرد المعاصرين من كُنية ولغة وأرض مشتركة.

بعد هذا العرض تضمن الكتاب على مقدمة وجزأين، وكُسِرَ على سبعة عشر فصلاً، أحتوى الجزء الأول: الفصل الأول على الفرضيات حول أصل الكُرد، والفصل الثاني أقوام كردستان القدماء، والفصل الثالث أصل اللُغة الكُردية، والفصل الرابع علاقاتهم بالديانات الأخرى، والفصل الخامس أحوالهم الاجتماعية، والفصل السادس الأكراد وكُردستان العراق، والفصل السابع انتفاضات الإمارات الكُردية. وتضمن الجزء الثاني: الفصل الثامن الأكراد في الحرب العالمية الأولى، والفصل التاسع الانتفاضات البارزانية الوطنية، والفصل العاشر الأحزاب والجمعيات الكُردية، والفصل الحادي عشر حركة الملا مصطفى البرزاني، وفصل الثاني عشر الكُرد والأحداث السياسية في العهد الملكي (1934-1958م)، والفصل الثالث عشر موقف الكُرد من انقلاب 8 شباط 1963م، والفصل الرابع عشر الأكراد بعد 17 تموز 1968م، والفصل الخامس الحركة الكُردية بعد عام 1975م، الفصل السادس عشر الأكراد بعد حرب الخليج الثانية، والفصل السابع عشر الأكراد وتاريخ تواجدهم في المدن العربية.

لا يسعني إلا أن اقدم الشكر الجزيل لأخي ضياء عبد الأمير الربيعي في توفيره المصادر المهمة لي، وكذلك شكري وامتناني للأخ العزيز علي عبد الرضا عوض، في توفير المصادر المهمة من مكتبته والده رحمه الله، فضلاً عن تنضيد الكتاب واخراجه بالشكل اللائق.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

صدر في بيروت عن دار روافد «كتاب الفكر الإسلامي المستقبلي: مقاربات في المنهجية» للدكتور علي المؤمن. وجاء في كلمة الناشر: ((كتاب الفكر الإسلامي المستقبلي، محاولة في طريق التأسيس لفكر إسلامي مستقبلي، وهو حصيلة محاولات بحثية نظرية وتجربة مؤسسية عملية، بدأها المفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن في العام 1998، ولا تزال جزءاً من اهتماماته الفكرية، وكان من أهم نتاجاتها تأسيس «المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية»، الذي وضع القواعد النظرية لمحاولات أسلمة الدراسات المستقبلية والمقاربات التمهيدية لقواعد الفكر الإسلامي المستقبلي، ونشر بعضها في مجلة «المستقبلية» البحثية، وفي الكتب والدراسات الأُخر. وقد أطلق المؤلف على قواعد هذا الفكر: «المستقبلية الإسلامية»، وهي منهجية جديدة في التفكير الإسلامي، تناول الكتاب مداخلها ومفاصلها الأساسية، إضافة الى بحث مدخلية حركة التاريخ في صناعة المستقبل، ومحاولة تجسير المسافة بين الفكر الإسلامي المعاصر والمستقبلي)).

وفي الإجابة على سؤال: ((هـل هنـاك فكر إسلامي معاصر حتى نتحدث عن فكر إسلامي مستقبلي، أو عن عمليـة نقـل الفكـر الإســلامي من مقـولة المعـاصرة إلـى مقولـة المستقبلية؟!))، قال الدكتور علي المؤمن في مقدمة كتابة: ((لا يمكن الإجابة عن السؤال بنعم أو لا؛ لأنّ هناك نتاجاً فكرياً إسلامياً يلتزم بمقومات الانسجام مع العصر، وهناك فكر تجاوزه العصر؛ ولا يزال كم هائل من المسلمين يتمسكون به. ومن هنا، فالأفضل أن يتركز الحديث عن المقولة وليس عن الإنتاج. وكي لا تلتبس الأُمور؛ فما نقصده بالفكر الإسلامي هنا، هو النتاج الفكري البشري الذي يعتمد الأُصول الإسلامية مصادر وقواعد يستند إليها في المعالجات وحل الإشكاليات والإجابة عن التساؤلات. وتدخل في هذه المجالات؛ معادلات وثنائيات ترمز إلى صعوبة التعاطي مع عملية الإنتاج الفكري الإسلامي؛ باعتبارها خاضعة للاجتهادات الشخصية والانتماءات الجغرافية والزمانية والسياسية والاجتماعية، فضلاً عن الضغوطات العامة والمصالح الخاصة.

وعليه، يظل أي نتاج فكري إسلامي عرضة للتساؤل والنقد والمصادرة والإلغاء والإقصاء؛ بالرغم من أنّ جميع المنتجين يؤكدون انتماءهم إلى المرجعية الإسلامية. وربما؛ لا ينفع هنا كثيراً، وضع ضوابط نظرية تركز على ما نسميه بالثابت والمتغير، والملزم وغير الملزم، والمقدس واللا مقدس، والإلهي والبشري وغيرها؛ لأنّ هذه الضوابط، رغم كثرة مصاديقها، هي أيضاً عرضة لاختلاف الرأي. بيد أنّ قدراً متيقناً من المعيارية يوضح انتساب المنتج الفكري إلى الإسلام ورؤيته الكونية.

وبناءً على حقيقة التبدل والتغير في الموضوعات الحياتية؛ على مختلف أسمائها ومضامينها؛ فإنّ نوعية الناتج الفكري، أو بالأحرى، الحلول والمعالجات التي يطرحها؛ ستكون هي الأُخرى عرضة للتبدّل والتطور. وقد تكون الظروف المحيطة بصاحب الإنتاج ضاغطة إلى درجة تجعل هذا التطور قهقرائياً وتراجعياً، أو تجعله قفزة غير موضوعية إلى الأمام؛ فيكون في كلا الحالتين هروباً من الواقع وحرفاً لحقائقه. وهذا ـ دون شك ـ لا ينطبق على الإبداع الفكري والتجديد الموضوعي الذي يلتصق بالواقع ويعمل على تطويره وتحديثه، وهذا ما يمكن تسميته بالفكر الإسلامي العصري الواقعي والعملي والتطبيقي؛ حتى وإن كان يعالج موضوعات كلامية نظرية.

والفكر الإسلامي الإبداعي العصري هو فكر للحاضر والمستقبل؛ وليس فكراً للواقع المعاش وحسب؛ لأنّه فكر لصيق بالزمان والمكان. وإذا كان الواقع يعيش ـ بشكل أو بآخر ـ في المستقبل؛ فإنّ ذلك الفكر سيكون فكراً ينطلق من الحاضر لمعالجة إشكاليات المستقبل، ويجيب عن تساؤلات الإنسان المستقبلي، وهذا ما يؤكد بقوة جدوى الفكر الإسلامي، وأنّه ليس أدبيات ترفيّة.

ويتمتع الفكر الإسلامي بجملة من العناصر التي تؤهله لتطويع الواقع وضغوطاته، والاستجابة لتحديات المستقبل أياً كان شكلها أو مضمونها؛ فيما لو أحسن أصحاب الاختصاص التعامل مع القواعد الأساسية التي يستند إليها والتي تتدخل في تشكيل بنيته. ولعل الدينامية والمرونة والحصانة من أهم هذه العناصر، والتي تدفع الفكر الإسلامي باتجاه التجدد والاكتشاف والتأسيس، وتحول دون خشيته من المراجعة المستمرة؛ هذه المراجعة التي تضمن له احتفاظه بعناصر القوة فيه وبقابليته على إخضاع الزمان والمكان للشريعة وأحكامها.

ولا نريد هنا تكرار المقولات التي تؤكّد أهمية التجديد وضرورته؛ لاعتقادنا بأنّ هذه المقولات قد تم استيعابها استدلالاً وشرحاً. ولكن نجد من الضروري إعادة التأكيد على ما تقتضيه متطلبات المستقبل واستدعاءاته ومشاكله الأكثر تعقيداً، من مراجعة نوعية للفكر الإسلامي من خلال أدوات ومناهج أصيلة؛ تفرزها طبيعة المرحلة التي يراد استقبالها وتشوّف حاجاتها. ونقصد بالمراجعة النوعية هنا: إعادة قراءة الفكر الإسلامي بنظرة موضوعية شمولية تنطوي على استيعاب الحاجات الجديدة والتي ستُستجد، والاستجابة لها من خلال عمليات الإصلاح والتأصيل والاكتشاف والتأسيس. وتتمثل شمولية هذه النظرة أيضاً في استيعابها لكل مفردة من مفردات الفكر الإسلامي، بما في ذلك علوم الشريعة ومناهجها. فالنظرة المنفعلة والتجزيئية للواقع وللفكر الإسلامي هي التي تؤدي إلى ألوان من اللا توازن والإفراط والتفريط والخلل. وبالطبع فإنّ هذه المراجعة تتوقف عند المتغيّر الفكري، أمّا الأُصول الإسلامية فهي الثابت الإلهي المقدس الذي لا يخضع لضغوطات الزمان والمكان، وهو أمرٌ أُشبع بحثاً أيضاً، ولا نجد بعد ذلك ما قد يتسبب في حصول لبس أو سوء فهم خلال الحديث.

وتنطوي متطلبات المستقبل على معرفة جملة من الحقائق النسبية، من خلال استطلاع المعطيات التي ستؤدي إليها، واستشراف طبيعة العناصر التي شكلتها. ومن أبرز هذه الحقائق: حقيقة الزمن الذي سنعيشه، أي عالم المستقبل، والتحديات الداخلية التي ستبرز في واقع هذا الزمن، والتحديات الخارجية التي ستواجهنا. ففي الإجابة عن تساؤل: «في أي زمن سنعيش؟!» تكمن عملية الاستشراف المستقبلي، التي تكشف لنا عن نوعية الزمن الذي سنعيشه وشكله وضغوطاته وتحدياته. والإجابة عن هذا السؤال ستجرّنا بصورة طبيعية إلى سؤال آخر هو: «كيف سنعيش؟»، وهذه الكيفية إمّا نصنعها نحن وإمّا نساهم في صنعها، ويستلزم ذلك ألواناً من التخطيط، أو نكون مسلوبي الإرادة ولا نمتلك أيّ برنامج وتخطيط لحياتنا.

والحقيقة أنّ معرفة الزمن الذي سنعيشه، وطبيعة ممارستنا للحياة فيه، يتطلب معرفة دقيقة بالزمن الذي نعيشه الآن، ومعرفة أُخرى بآليات التطور ومعادلاته وقوانين الانتقال من الحاضر إلى الغد؛ لأنّ هذه المعرفة هي القناة التي توصلنا إلى الزمن القادم؛ إذ إنّ الزمن القادم تصنعه معطيات الحاضر وقراراته وتخطيطه. وعلى هذا الأساس؛ ستكون المعرفة بالزمن أو العصر شاملة ومتكاملة. في حين إن عجزنا عن دخول عصرنا ومعرفته، سيؤدي إلى عجز آخر؛ يتمثل في عدم توقع الآتي وكيفية استقباله؛ وبالتالي عجز عن التخطيط له. ويعود هذا إلى أنّ المسلمين لم يصنعوا حاضرهم، ولم يساهموا في صناعته؛ لأنّهم لم يخططوا له فيما مضى، وإذا خططوا له فهو تخطيط يستبطن ألواناً من الإحباط وعدم الثقة بالنفس والخوف)).

يضم كتاب «الفكر الإسلامي المستقبلي: مقاربات منهجية» ستة فصول:

الفصل الأول حمل عنوان: «مداخل الفكر الإسلامي المستقبلي»، والتي تتضمن قواعد هذا الفكر القائمة على محاولات أسلمة الدراسات المستقبلية، والتي أسميناها (المستقبلية الإسلامية) وهي منهجية جديدة في التفكير الإسلامي، لا تزال بحاجة إلى مزيد من التنظير؛ من أجل أن تنضج وتتبلور وتتكامل. وفي الفصل الثاني: «حركة التاريخ وصناعة المستقبل»، بحثنا في المدارس الأساسية التي أُسست لدراسة التاريخ وحركته، وذهبنا إلى تبنّي المدرسة التكاملية. والفصل الثالث عنوان: «المشترك الإنساني للفكر الإسلامي المستقبلي»، والذي أكد وحدة المصير الإنساني الذي ينبغي أن يأخذه الفكر الإسلامي بنظر الاعتبار. أمّا الفصل الرابع: فقد قارب بعض المفردات الفكرية الإسلامية ذات العلاقة بسحب الفكر الإسلامي من دائرة المعاصرة إلى دائرة المستقبلية. بينما كرّس الفصل الخامس موضوعاته لدراسة تجربة: (المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية)، الذي مثل محاولة مؤسَّسية لأسلمة الدراسات المستقبلية والتمهيد لمقاربة الفكر الإسلامي المستقبلي. وتخصّص الفصل السادس: في عرض عدد من المقابلات التخصصية مع الباحث حول منهجية المستقبلية الإسلامية في وسائل الإعلام العربية.

***

 

صدر قبل أيام كتاب "سفر التكوين العلمي: الوجود بين العلم والميثولوجيا الدينية" للكاتب والباحث العلمي  المغترب المقيم في باريس د. جواد بشارة  عن دار أهوار للنشر والتوزيع في العراق في بغداد  شارع المتنبي وتضمن تمهيداً عن أصل الحياة والإنسان ونظرية التطور الداروينية ونشأة الكون. كرّس المؤلف الفصل الأول لموضوع التطور لحساسيته وتصادمه مع الفكر الديني  وشرح فيه مفهوم التطور كما صاغه تشارلز داروين في كتابه " أصل الأنواع " ومبدأ الانتخاب الطبيعي وتطرق للمحاولات التي سبقته عند عدد من العلماء مثل العالم الفرنسي لامارك الذي كان رائداً في هذا المجال لكنه لم يجد الصدى الكافي لأفكاره في ذلك الوقت لأن الفكر العلمي لأوروبا آنذاك لم يكن جاهزًا لاستقبال أفكاره. ثم عرج الباحث  على موضوع الداروينية ونظرية الأعقاب والأنساب والأسلاف  والتي صاغت نظرية نشأة الحياة من الخلية الأولى إلى الإنسان. وبالطبع لم ينس الكاتب  التطرق  للداروينية الجديدة بعد الإنجازات العلمية والتكنولوجية الحديثة التي عززت من أهمية وتماسك النظرية وأثبتت صحتها وفق أطروحات ريتشارد دوكنز صاحب الكتاب الشهير " وهم الإله" وكتاب " الجين الأناني". .توغل الباحث في الفصل الثاني في موضوع معضلة الأديان في تعاطيها مع العقل والأوهام الخطرة ودور الأديان في تعطيل العقل وترهيبه بالخرافات وتناول بإسهاب موضوعة العقل البشري وإمكانياته ونشأة الوعي والذكاء وملكة التفكير عند البشر وموقف الأديان السماوية من قدرة العقل في التوصل للحقيقة وإثبات وجود أو عدم وجود " الله" . ويأخذنا في رحلة مع  أساطير وخرافات الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية والإسلامية وعلى سبيل المثال الحكايات الأسطورية للتوراة من خلال قصة الطوفان وسفينة نوح التي روتها التوراة على شكل ملحمة. هناك نص طوفان مشابه حدث في أفريقيا قبل 100000 سنة وهذا ما أظهرته دراسة phylogénétique النشوء والتطور للأساطير وهي دراسة تعتمد على النظرية التطورية وتأخذ في الحسبان معالجة الإحصائيات والتدقيق في المعطيات والمعلومات. وعلينا أن نعود في هذا السياق إلى الأصل التاريخي للأسطورة التي دونت على ألواح طينية رافدينية يعود تاريخها إلى 2600 قبل الميلاد، أي قبل تدوين التوراة، وهي الأسطورة المعروفة بــ " ملحمة كلكامش" عن رحلة الملك كلكامش للبحث عن الخلود ولقائه بأوتونابشتم ، الذي روى لكلكامش أن آلهة الحكمة أنذرته بأن طوفاناً وشيكاً هائلاً سيضرب الأرض ويدمر كل شيء وعليه أن يصنع قارباً وأن يصطحب معه زوجين من كافة أنواع الحيوانات معه لإنقاذها وإنقاذ النوع البشري من الهلاك والإبادة التامة. وهي قصة مطابقة تماماً لأسطورة نوح والطوفان التي تحدث عنها العهد القديم ما يعني أن الكتاب المقدس سرقها حرفياً من التراث الأسطوري الرافديني. وهناك أكثر من 300 أسطورة طوفان أحصيت في العالم، كما ذكر المؤرخ والباحث في الأساطير بيرنارد سيرجنت Bernard Sergent وعالم الأنثروبولوجيا جون لويك لوكليك Le Quellec Jean Loic في كتابهما المعنون " القاموس النقدي للميثولوجيا". وفي الفصل الثالث يعرض الكاتب  رأي العلماء في أصل الكون ونشأة المادة ونظرية الانفجار الكبير والتضخم الكوني والتوسع المستمر والمتسارع للكون المرئي  وتساءل فيه باختصار عن : ما هو الوجود ؟ ومن اين اتى الكون المرئي وكل شيء فيه؟ . في الفصل الرابع قام بمقاربة فكرية فلسفية من وجهة نظر علمية حول مفاهيم أولية عن الحتمية والنظرية الجبرية والإرادة الحرة. الحتمية والإرادة الحرة بين العلم والدين : ملخص وجهة نظر عالم الرياضيات والفيلسوف برتراند رسل. وارتباط ذلك بمفهوم الإحتمالية 'probabilité، خاصة فيما يتعلق بحرية الاختيار أو الارادة الحرة ونقيضها الحتمية وقوانين السبيبية، ونظرية الاحتمالات الممكنة الحدوث . ويتساءل الباحث د. بشارة في الفصل الخامس هل البشر هم مركز الكون؟ لأن البشر هكذا كانوا يعتقدون ويعطون لأنفسهم أهمية جوهرية وكأن الكون وجد لأجلهم كما أخبرتهم النصوص الدينية. بينما تحدث في الفصل السادس عن  الواقع المحجوب  والواقع الظاهر حيث توفق هذه الأطروحة بين حاجتنا إلى تفسير حقيقي لمنظومات الظواهر (النقطة التي تفتقر فيها الوضعية الجوهرية لمجرد ملاحظتها) مع معرفتنا العلمية. تكمن الصعوبة في جعلها ذات معنى وإثارة. لهذا من الضروري الاتصال بشكل من الأشكال بالتقاليد الفلسفية أو الثقافية لمعرفة مالمقصود بالواقع الظاهر  الذي تدركه الحواس؟ ومالمقصود بالواقع الخفي أو غير المرئي ، والذي قد يكون رقمي أو افتراضي، كم في  ألعاب الكومبيوتر أو في ماتريكس. الكون المرئي الذي نعيش فيه وندرسه يتوسع ولابد من معرفة كيف يتوسع ولماذا ومالذي يقوم بتوسعه وبتسارع توسعه وأين يحدث التوسع هل هناك " مكان" آخر خارج الكون المرئي ، أي حيز مكاني يقع ما وراء الأفق الكوني يتوسع داخله الكون المرئي؟ و هل توسع الكون متناحي متجانس ومتسق حقا؟ هذا ملخص فحوى الفصل السابع من الكتاب. وهذا يجرنا لطرح  مفهوم المكان والزمان في الكون حيث يعالج الفصل الثامن  موضوع الكون المحدود والكون اللانهائي ونتعرف في هذا السياق  بسهم الزمن وماهيته  وأبعاد المكان  وحقيقة الزمكان.  الفصل التاسع يشكل قفزة نوعية في محتويات الكتاب لأنه يتحدث عن موضوع لم يألفه القاريء العربي يتعلق بالحاجة إلى الثورة الشمسية الثانية  كما عُرضت علينا في رسائل ناصحة ومُحذّرة من حضارة  فضائية غريبة ودودة. الفصل العاشر يعود لمقاربة أكثر تفصيلية لموضوع بداية الزمان والتعدد الكوني: والتي تطرح مشكلة صورة الكون المرئي بين العلم والدين من خلال معرفة هيكيلية الكون المرئي وبنيته الهندسية من الناحية العلمية الفيزيائية  وفق ما توصلنا إليه عبر  المحاكاة الحاسوبية   المتطورة جداً. يقابلها التصور الميثولوجي للكون كما عرضه الفصل الحادي عشر الذي حمل عنوان الآلهة الأسطورية التي ابتدعها البشر والغوص في أساطير العصور القديمة ماقبل التاريخ وظهور الكتابة عن عملية خلق الكون والإنسان. الفصل الثاني عشر عالج موضوع التحيز العصري ضد مجتمعات العصر الحجري القديم، حيث كان لدى  البشر في العصر الحجري القديم الأعلى ، منذ حوالي 15000 عام ، فهم متطور لعلم الفلك - وهو ما يعني بالنسبة لي أنه ربما كان لديهم فهم متطور للزمن ، لأن النجوم والقمر والسماء كانت ساعتهم. وإذا فعلوا ذلك ، فأنا أريد أن أفهم ذلك - لأن إحساسهم بالزمن قد يلقي الضوء على فهمنا المعاصر للزمن كما يقول الباحث. ويعود المؤلف إلى  عملية التطور مرة أخرى ولكن من ناحية تطبيقه على الكون ومناقشة أطروحة الكون التطوري في الفصل الثالث عشر بينما تناول الفصل الرابع عشر الاحتمال الكمومي أو الكوانتي  وعالم مادون الذري في اللامتناهي في الصغر. وفي الفصل الخامس عشر واصل الباحث تعقّب الطاقة  المظلمة أو السوداء أو المعتمة والبحث عن ماهيها ودورها في توسع الكون. الذي وضع له العالم والفيلسوف برتراند رسل تصوراً وتصميماً كونياً  كان موضوع الفصل السادس عشر ومحاولة فهم الغرض الكوني  حسب تصور اللاهوتيين ، والعديد من الفلاسفة الذين والصوفيين الذين تحدثوا في مبدأ " وحدة الوجود" . وكان لابد من عرض الجذور الخرافية لولادة الكون المرئي كسياق موازي لقصة نشأة الكون المرئي العلمية  في الفصل السادس عشر. مما استدعى إلى عرض الكوسمولوجيا الأثرية والنماذج الكونية المتنافسة في الفصل السابع عشر والاطلاع على الثورة العلمية الأولى وحيرة البشرية بين العلم والدين والعودة لدراسة نشأة المادة.

وهكذا اصطحبنا الكاتب في رحلة ممتعة لقصة الوجود بين الخرافة والعلم في سفر التكوين العلمي  هذا.

صدر في بغداد، كتاب (حرية المرأة.. دراسة في انثروبولوجيا عصر التقنية) للكاتب عدي عدنان البلداوي. يقع الكتاب في 155 صفحة واشتمل على عدة مواضيع منها:

1- مستقبل الحياة في عصر التقنية

2- مفاهيم جديدة للموت والحياة والحرية

3- اعادة برمجة الحياة

4- الحرية الشخصية والتقنية

5- عندما يدعو رجل دين الى خلع حجاب المرأة

6- شخصية الرجل العربي

7- المرأة في الإسلام

8- الحجاب والعدالة الاجتماعية

9- الايمان الفطري والايمان الفكري

وغيرها من العنوانات..

جاء في الكتاب:

في عصر التقنية، لم تعد الحياة طبيعية كالسابق بعد أن فرّط الإنسان في إستغلال الطبيعة ليثبت قدرته على انتاج تقنية متطورة قادرة على إدارة وتنظيم وإعادة برمجة الحياة في مناخ رقمي تكنولوجي أوصله الى إنتاج الآلة المتطورة والحاسوب الذكي والروبوت فائق الدقة في محاكاته للكائن الحي، ترك ذلك آثاره على طبيعة الحياة، ولمّا التقت الإنسان الى ما أحدثه فيها حاول استغلال التقنية المتطورة في ترقيع الحياة وهو ماضي في إثبات قدرة هذه التقنية على فرض قوة الترقيع، واقعاً تحت تأثير عاملين أولهما إن الرجوع إلى الطبيعة لم يعد سهلاً، وثانيهما إن المفاجآت المتوقعة في طريق الذكاء الإصطناعي والتطور التقني العالي تثير فيه رغبة الإستمرار، ولكي يمضي في هذا الطريق كان عليه أن يعالج الأعراض الجانبية التي ظهرت على طبيعة حياة الناس ومنها إرتباك تصورات الشخص عن مفهوم الحياة، ومفهوم الحب، ومفهوم الحرية، فأرتكب خطيئة التعرض لبنية الإنسان الفطرية وهويته التي حدّدها الخالق العظيم سبحانه وتعالى في قوله:(يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى) الآية 13 من سورة الحجرات، فدخل من خلال مفهوم الحرية ليثير فكرة استبدال الأدوار البيولوجية بين الذكر والأنثى ليصبح من حق المرأة أن تتحرر من تكوينها الأنثوي إذا وجدت في نفسها الرغبة في ذلك بعد أن طالت الفكرة ذكورة الرجل وصار بمقدوره وبمساعدة التطور العلمي أن يغيّر بعض أعضاء جسمه كي يبدو أقرب إلى الأنثى منه إلى واقعه الذكوري، ثم ظهرت فكرة إكساب الإنحراف الجنسي طابعاً رسمياً أقرّته حكومات بعض دول العالم، فقد صارت المثلية من معطيات الحرية التي يحق للمرء أن يبديها ويصرّح بها ويعلن عنها ويعرّف بها ولم يعد إلتقاء الذكر والأنثى تحت سقف الزوجية الشرعي شرطاً حياتياً، فبعد فرض ترقيع الحياة صار ممكناً لرجلين أن يتزوجا من بعضهما أو إمرأتين ان تتزوجا من بعضهما ويجري العمل على تذليل كل معوقات فشل هذا الزواج المثلي، فالعلم يعمل على تحقيق نتائج الزواج الطبيعي عند المثليين حيث تجري بحوث لتهيئة جوف الرجل ليحاكي في وظيفته رحم المرأة، وتعمل بعض الأنظمة السياسية على إعطاء هذا الترقيع طابعاً رسمياً..

في ظل أجواء الترقيع هذه يدخل مفهوم حرية المرأة مدخلاً حرجاً من شأنه أن يصل بالواقع إلى فهم مغاير لما ينبغي له، فقد توهمت المرأة أن قيادتها للشاحنة وتدخينها الأركيلة في المناطق العامة تعد من علامات تحررها، كما توهم بعضهم حين ظن أن حرية المرأة متعلقة بحجابها وإنها متى ما خلعته بدأت مشوار تحررها، ويتوهم المجتمع حين يظن أن لحرية المرأة محاذير وضوابط لا تنبغي للرجل..

في زمن يُراد فيه اختزال الحياة في برامج الكترونية عالية الدقة والسرعة يُعطى فيها للإنسان رقماً في عالم تظنه التقنية المتطورة آلة ميكانيكية ضخمة يمكن تفكيكها وإعادة تجميع أجزائها بصيغ مختلفة حسب الظروف، والمرأة ذلك المزيج الإنساني العاطفي الذي يمنح الوجود حيويته، ويمتلك وعي الحياة ووعي المصير، تواجه تحدياً قد يصل إلى حدّ تهديد حريتها في عصر تقني يركز اهتمامه على الجسم من بين ثلاثية - الجسم والروح والنفس - التي يقوم عليها وجود الإنسان، ليصل بها حسب دراسات ومشاريع إلى مرحلة الإندماج بالآلة وإنتاج روبوت أنثى يتمتع بنظارة وجهٍ، ونعومة صوتٍ، وعبارات عاطفة ٍ، وحبٍّ وقدرة على المحاكاة حدّ صعوبة التمييز بينها وبين إمرأة حقيقية، عبر معادلات رياضية وبرامج الكترونية تعطي لمفاهيم مهمة مثل الحياة والخلود والحرية معاني جديدة تنحرف عن المألوف في سلم التطور الثقافي والفكري الذي نشأت فيه هذه المفاهيم..

إننا نسعى إلى إقرار نظام عالمي يعتمد لغة إنسانية قواعدها أخلاقية، روحية، نفسية، يبحث في تحرر المرأة من التسلط، وليس نظاماً عولمياً قواعده إعلامية، تقنية، معلوماتية، تبحث في تغيير أنماط سلوك المرأة وملابسها..

إذا كان الإعتقاد في السابق ان كل شيء في الطبيعة آلي عدا الإنسان، فإن الإعتقاد اليوم يمضي بإتجاه مكننة العالم والكون..

طالما تحرك عصر التقنية بعيداً عن الإيمان بخالق الكون الذي عدّه اينشتين " أقوى قوة باعثة ومحركة للبحث العلمي"، فإن إنحرافاً سيمضي بالناس إلى مستقبل مجهول باتت علاماته تظهر، حذر منه كثير من العلماء، وقد يجري اليوم التخلي عن تعريف الإنسان بأنه كائن حي يبني نفسه بنفسه ويبحث عن ذاته بذاته ويكتشف طاقته وقوة وجوده في الحياة بمساعدة محيطه وبيئته، دون الخضوع لتأثير أي شكل من أشكال القوى التي تنتجها ظروف مرحلية في حياته..

في عصر التقنية المتطورة يجري إعطاء مفاهيم جديدة للحياة والموت والحرية والضعف والشيخوخة، فمثلا لا ينبغي فهم الموت على انه نهاية حياة الكائن الحي، بل هو بداية اندماجه بالآلة ودخوله عالم ما بعد الإنسان.. ولا ينبغي تقبل الشيخوخة كأمر طبيعي يقتضيه التقدم بالعمر، بل هي مرض ينبغي إيجاد علاج له بأتمتة الجسم أو بعض أجزاء.. ولا ينبغي للحرية ان تفهم في حدود وعي الوجود والكرامة واكتشاف الذات والقدرات الشخصية، بل هي تمكين الجسم من المتع المتاحة والتفكير بإنتاج متع أخرى يتجاوز بها معاناته التي يفرضها عليه واقع الحال محلياً وعالمياً..

إن عصر التقنية يقوّض بهذا العمل أسساً إنسانية مهمة في المجتمع ويستبدلها بأسس إصطناعية، فهو يعمل على إنتاج روبوتات صغيرة يمكن زرعها داخل دماغ الإنسان لتعمل على توازن منظومته الجسمية ومراقبة نشاطها بشكل يضمن له التخلص من مفاجآت الإصابة بأمراض الجلطة أو السكتة أو ارتفاع ضغط الدم أو مستوى السكر وتبرمج ذاكرته رقمياً بعيداً عن حيوية الشعور والإرتباط بالجذور.. زمننا لم يعد زمن الأسئلة الكبيرة، انه زمن الأسئلة الصغيرة والأجوبة الكثيرة..

لم يعد تعريف التقنية مقتصراً على تعامل الإنسان مع الأجهزة والآلات الضخمة والأدوات والمصنوعات لقد صارت تعنى بمحاولات الإنسان إجراء تعديلات وتغييرات على الأشياء التي يتعامل معها في الطبيعة من أجل الوصول إلى نتائج مفيدة تخدم واقع حياته بظروفها المتقلبة بشكل يضمن حركة بقائه واستمراره في الحياة من خلال المزاوجة بين المعطيات النظرية والتطبيقات العملية للأفكار، فالتقنية كأدوات ووسائل مرتبطة بتاريخ الإنسان وثقافته وتطور حياته بدءاً من اختراع الفأس والمحراث والحرف اليدوية الأخرى وصولاً إلى الصناعة ودورها في تحسين أوضاع معيشته..

تجري اليوم في العالم بوجهيه الواقعي والإفتراضي تغيرات، فيها من الخطورة ما يطال طبيعة التكوين النوعي والنفسي والعقلي للجنس البشري، ويبدو ان مشاريع عالمية كبيرة تقف وراء ذلك فقد وصف مسؤول إحدى دول الغرب الكبرى الأشخاص الذين يعلنون عن رغباتهم في التحول الجنسي أو المثلية بالأبطال، لأنهم تمكنوا من مواجهة مجتمعاتهم وصرّحوا برغباتهم، ويرى بعض أصحاب القرار حول العالمان ما يقومون به من شذوذ يندرج ضمن الحريات الخاصة التي ينبغي إحترامها ودعمها..

إن ما لا يمكن تجاوزه اليوم هو إننا بشكل أو بآخر صرنا ملزمين بالتبعية لحركة العالم في كل المجالات بعد أن أسهمت الماكنة الإقتصادية الصناعية في عصر التقنية ونظام العولمة في معالجة مشاكل كثيرة مثل نضوب المصادر الطبيعية للطاقة، وإرتفاع معدلات الفقر والبطالة، وأزمة الغذاء والماء والتصحر وإحتباس الأمطار وغيرها، كان من أبرز مخاوف المعنيين بدراسة علم الإنسان (الإنثروبولوجيا) هي محاولات تلك المشاريع إعادة برمجة حياة الناس على وفق تقنيات حديثة تخدم عالم الأشياء الذي يندرج فيه الإنسان كرقم الى جانب الكائنات الأخرى..

يرى الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي المتوفى عام 2012م إن كل شيء في نظام العولمة قابل للبيع والشراء وان المفاهيم السلبية كالفساد والشذوذ والإنحراف ستكون من قوانين ذلك النظام..

تحتمل التقنية جانبين. جانب إيجابي، وجانب سلبي.

على الرغم من المخاوف التي أبداها عدد من الباحثين والمفكرين من تداعيات عصر التقنية على إنسانية الإنسان، فإننا نحاول من خلال التقنية التي تمثل روح العصر الذي نعيشه، أن نقف عند مفاهيم مهمة كالحرية، ونبحث فيها من أجل الإنسان العاقل المنتج قبل أن تمضي به التقنية على وفق رؤى مستقبليين ليصبح متحداً بالآلة، وربما متحولاً اليها، أو مندمجاً فيها..

يتهم عصر التقنية بأنه يهيمن على عالمنا بشكل مختلف عن تفكير الإنسان التقليدي القاضي باختراعه الآلة والصناعة لصالح إنسانيته وتحرره وتطوره كمنظومة فكر وقيم وأخلاق، فقد باتت التقنية من خلال ما تقدمه من غزارة الإنتاج وصناعة الخبر وسهولة الوصول إلى المعلومة تهدد الوجود الإنساني وتحيله إلى وجود بشري استهلاكي رقمي يصل بالفرد الى حد فقدان الذات والشعور بالدونية أمام التوقعات المستقبلية في مشاريع الذكاء الإصطناعي الذاهبة باتجاه إنتاج حاسوب شخصي له قدرة ألف دماغ بشري في عام 2029م كما يقول المخترع وعالم الحاسوب الأمريكي" كورزويل"، وترى التقنية إمكانية تحوير الإنسان الحالي أو بعض أعضاء جسمه وإعادة إنتاجها بمواصفات جديدة توفر له فرص البحث في مفاهيم جديدة بشكل مختلف تماماً عن معانيها المعروفة كالوجود والحياة والموت، يقول الدكتور" السكندر لوران " الكاتب في مجال الإنسانية العابرة: " سنملك القدرة التقنية على ترقيع الحياة ولن يمنعنا أي شيء من استخدام هذه القوة "..

بعد النجاح الكبير الذي حققته التقنية المتطورة، ذهبت بعض الأفكار إلى عالم ميكانيكي ضخم يمكن فيه تجميع وتفكيك موجوداته وإعادة تشكيلها وتركيبها وتحويرها حسب الظروف والحاجة.

***

علي علي – كاتب عراقي

صدر اليوم عن دار الفرات بالمشاركة مع دار سما كتابي الموسوم (الإيزيدية أقدم الديانات التوحيدية الشرقية) الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة، وقد تم  مراجعة وتقديمه للقراء من قبل الكاتب والإعلامي والناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإيزيديين والأقليات، ورئيس المؤسسة الإيزيدية الدولية لمناهضة الجينوسايد والتي تحمل المركز الاستشاري في الأمم المتحدة (حسو هورمي)، الذي دعم الكتاب بالصور النادرة حول تأريخ الديانة الإيزيدية، ومن ضمن ما كتبهُ في تقديم الكتاب للقراء ما يلي: (سعادتي لا توصف بتشرفي ولمرتين بالاطلاع على هذا الجهد العلمي المتميز الذي يمكن وصفه بدراسة ذات طابع توثيقي-تحليلي، المرة الأولى عند مراجعة الكتاب "عندما كان مسودة فوضعت ملاحظاتي" ثم هذه المرة الثانية لتقديمه إلى القراء، والمتخصصين والباحثين منهم. يعد هذا الكتاب إسهام جوهري وعالي القيمة للمعنيين، والتي حرص الكاتب على تسليط الضوء حين عرض الخطوط الرئيسة للموضوعات، ضمن دراسة تأريخية، روحية معمقة للدين الإيزيدي توضح فلسفة تعاليمه وجوهر حكمته وأثر معتقداته وعراقة عقيدته وعمق تاريخه، إذ أخذ الباحث نبيل الربيعي على عاتقه مهمة تقديم صورة معرفية للقارئ العربي عن الديانة الإيزيدية مستنداً في استقاء معلوماته من مصادر وتقارير ودراسات وكتب سابقة، لايسع القارئ الموضوعي إلا تثمين جهده الدؤوب في إزالة الشبهات وتبديد الشكوك وتصحيح المغالطات وتصويب الصورة النمطية وتفنيد الشائعات من منطلق إحساسه العالي بالمسؤولية لتوضيح الحقائق).

وتعتبر دراسة الديانات القديمة في هذه المنطقة من العالم، يمكن مسك بعض خيوط التماثل والتقارب الواقعي بين الديانة الإيزيدية من جهة، والديانات السومرية والبابلية والأكدية والآشورية والكلدانية، من جهة أخرى، أو بين غيرها من الديانات القديمة، كالديانات الهندية والديانة الفرعونية التي كانت قائمة في المجتمعات الرعوية، ومن ثم في المجتمعات الزراعية من جهة أخرى.

فالتعرف على تاريخ الإيزيديين في إطار الشعب الكُردي وتاريخه وحضارته، يطلّعنا على الجرائم التي ارتكبت بحقهم باسم الدين، وخاصة ما حصل بعد اجتياح مقاتلي داعش عام 2014م من أحداث كارثية ومآسي رهيبة بحق ابناء الديانة الإيزيدية ، لقد ارتكب أوباش داعش في سنجار و سهل نينوى ومدن إيزيدية أخرى ومارسوا أبشع الجرائم الكبرى بحقهم من النساء والرجال والأطفال، واستباحتهم القتل والتهجير والسلب والسبي للنساء واغتصابهن وبيعهن في سوق النخاسة.

حَزمَ الكتاب في جوفه عشرة فصول، الفصل الأول، ضمّ مختصراً لتأريخ الإيزيدية في العراق، وجاء التركيز على دورهم الرائق في هذه النشأةِ. أما الفصل الثاني، فثبتنا فيه حياة الشيخ آدي بن مسافر ودوره في الديانة الإيزيدية. وأفردنا الفصل الثالث من الكتاب المعتقدات والأوضاع الدينية للديانة. وحشونا الفصل الرابع من الكتاب كتب الإيزيدية المقدسة. وأختصَّ الفصل الخامس ببنية النظام الديني الإيزيدي. وحَمِلَ الفصل السادس عقيدة الديانة الإيزيدية . واهتمَ الفصل السابع بدور المرأة في المجتمع الإيزيدي وعادات الزواج. أما الفصل الثامن فشملَ الأعياد الدينية لأبناء الديانة الإيزيدية . وضمَّ الفصل التاسع مراقدهم الدينية المقدسة. وأفردنا في الفصل العاشر والأخير الإحصاء السكاني ونفوسهم في العراق وأوضاع الإيزيديين في العهود المتعاقبة مما حصل من اضطهاد وسبي وإبادة.

ولا نسى شكرنا وتقديرنا للصديق والباحث حسو هورمي لمراجعة وتقديم الكتاب.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

جمع هذا الكتاب بين التأليف والترجمة، والغرض هنا هو الأخذ بمهمتين: متابعة خط البحث لدى باختين والكشف الواضح المتميز بالسلاسة لفكر باختين النقدي، كذلك قام زهير شليبة بترجمة نص لعالم روسي آخر كان قد كرسه للرواية في آسيا وأفريقيا. وعلينا القول إن دراسة شليبة حول فكر باختين والتي سبق أن نشرها في عام 1985

كانت من أولى النصوص العربية التي تناولت منهجية هذا الباحث الروسي المعروف. ويلمس القاريء هنا تناولا جادا لأهم أبحاث باختين في الرواية وأنواع النثر الأخرى أيضا. ويلاحظ شليبة قصور النقد العربي في تناول آراء باختين الأساسية بسبب غياب ترجمة أعماله. ومعلوم أن من عوائق الترجمة صعوبة الأسلوب. وقد وجد شليبة أن الأخذ بمنهج العرض يسد لحد ملموس الفراغ الناشيء بسبب افتقاد التراجم. ويلتفت المؤلف بشكل خاص الى ما جاء به باختين من إبراز القيمة النظامية لأهم المفاهيم والمقولات النقدية الأمر الذي يميّزه عن المنظرين الأكاديميين الآخرين الذي قال باختين عنهم بأنهم يخشون، في أكثر الحالات، المغامرة النظرية...

يتناول زهير شليبة موقف باختين من إشكاليات جوهرية مثل أشكال الزمن والهرونوتوب والكلمة في الرواية كما يتناول مقولاته عن تأريخ الكلمة الروائية والملحمة والرواية ثم المنهجية في دراسة الرواية وابحاثه المعروفة عند تناوله أعمال رابلييه وغوغول والكلمة والثقافة الشعبية الساخرة. وفيها جميعا عالج باختين مسألتين وجدهما أساسيتين أي الرواية كصنف بالغ الخصوصية وأساسي في الأدب المعاصر، ومسألة الكلمة النثرية الأوربية. معلوم أن (الكلمة في الرواية) هو بحث كبير كان باختين قد كتبه في عام 1934 ولم ينشر الا في عام 1972. وكان باختين قد عاد الى هذا الموضوع في عام 1940، في محاضرة طويلة نشرت فيما بعد في كتابه المعروف (قضايا الأدب والجمال). ويرى زهير شليبة أن فكرة المقال الرئيسية هي تجاوز الهوة الكبيرة بين المدرسة الشكلية المجردة والأخرى الأيدولوجية المجردة أيضا عند دراسة الكلمة الفنية. فباختين مقتنع بأنه ينبغي فهم الكلمة كظاهرة إجتماعية في كل المجالات بدءا بالصورة الصوتية وإنتهاء بطبقات الصوت ذات المعنى الخاص. كما انتبه الى الظاهرة شبه الدائمة: تتم دراسة النبرات الذاتية والإتجاهية للأسلوب فقط بينما تترك النبرة الإجتماعية بعيدا عن اهتمام النقاد. وبرأيه ترتبط المصائر التأريخية للكلمة الفنية بمصائر الأنواع الأدبية وتختفي في المصائر الصغيرة للتغيرات الأسلوبية المرتبطة بالإتجاهات والكتاب الذاتويين. ولذلك فعلم أساليب الكلام يفتقر الى المنهج الفلسفي والسوسيولوجي عند معالجة مختلف جوانبه ولأن أكثر الدراسات مغرقة في الصغائر البلاغية ولا تقدر على الإحساس بمصائر الكلمة الفنية الكبيرة والمجهولة التي ظهرت كنتيجة للتحولات الذاتية والإتجاهية.

في ذات الوقت يبرز شليبة النقاط المهمة الأخرى في المقالة نفسها مثل إيضاح أن علم أساليب الكلام يعنى ببلاغة أسلوب الفنان ومهاراته المحددة ضمن مشغله، فهذا العلم لايعير أي أهمية الى الطابع الإجتماعي أو الحياة الإجتماعية للكلمة ونشاطها خارج مشغل الكاتب أي في الشارع والمدينة والقرية والجماعات والأجيال والعصور. ويرى باختين أن علم أسلوب الكلام لايملك صلة بالكلمة الحيّة بل بجهاز الهستولوجي (علم الأنسجة الحيّة) وبالكلمة اللغوية المجردة بينما تحصل النغمات الإضافية الذاتية والإتجاهية للأسلوب عن طرق حياة الكلمة الإجتماعية. وفي دراسته يتناول شليبة مقالة باختين (أشكال الزمان والمكان"الهرونوتوب"في الرواية) مشيرا الى أن المقالة هي في حقيقة الأمر قسم مأخوذ من دراسة كبيرة أعدها باختين عن رواية التربية الأوربية الا أنها فقدت ونشر ما تبقى منها تحت هذا العنوان الذي وضعه باختين نفسه. وفي الثلاثينات إعتبر هذا البحث أول بحث تطرق الى أهمية الزمكان. ويتوقف شليبة عند إشكالية الزمكان الروائي. يقول إن عملية إستيعاب ظرفي الزمان والمكان التأريخيين الحقيقيين وموقع الإنسان لم تنته بسهولة بل مرت بطريق وعر. لقد تم إستيعاب بعض جوانب الزمان والمكان التي حصلت في مرحلة معينة من تطور الإنسانية وأسست الأنواع الأدبية طرقها المناسبة لتصوير قضايا المجتمع وللصياغة الفنية لجوانب الواقع التي يدركها الفنان. ويجد زهير شليبة ضرورة إيراد التعرف الباختيني الكامل لهذا المصطلح أي العلاقة المتبادلة والملموسة بين المكان والزمان. يشير هنا الى إستخدام المصطلح في علم الرياضيات على يد آينشتاين في نظرية النسبية مثلا، كما أن الهرونوتوب يفهم كمقولة ضمنية شكلية للأدب، وفيه نلمس الإرتباط المتبادل بين العلاقات الزمانية والمكانية في الكل المدرك والملموس. ونلاحظ هنا أن الزمان يتكثف ويتقلص ويصبح ناضجا فنيا، أما المكان فيصبح بدوره قويا ويمتد حتى يصل الى حركة الزمان والمضمون والتأريخ. وهنا تتضح علامات الزمان في المكان. وفي الأخير يمكن إدراكه وقياسه بواسطة الزمان. وهكذا فالهرنوتوب، كما يقول شليبة موضحا طروحة باختين، يتسم بتقاطع مجموعة من العلامات وإتحاها، وله أهمية واضحة وملموسة في بناء الصنف الأدبي إذ يساعدنا على تحديد هويةهذا الصنف والأشكال المتفرعة منه، إضافة الى كون الزمان هو البداية الرئيسية في هرنوتوب الأدب. كذلك يوضح أن هذا الهرنوتوب بإعتباره مقولة شكلية - مضمونية يحدد الى درجة كبيرة صورة الإنسان في الأدب التي وجدها باختين موسومة بطابع هرنوتوبي. ومعلوم أن باختين تابع هرنوتوبه من خلال تطور مختلف أنواع الرواية الأوربية بدءا بما يسمى بالرواية اليونانية وإنتهاءا برواية ربلييه. وكان باختين قد اقترح بعض أنواع الهرنوتوب الذي وجده ما يحدد الوحدة الفنية للعمل الأدبي في علاقته مع الواقع، كذلك فكل التحديدات الزمكانية في الفن والأدب مترابطة فيما بينها وهي (ما يصبغ بصبغة عاطفية ذات قيمة). أما التفكير التجريدي فيستطيع التعامل مع الزمان والمكان منفصلين عن بعضهما. الا أن العمل الفني الحيوي لايفصل شيئا ولا يتجرد من أي شيء. إنه يحيط بالهرنوتوب بكل تكامله وتمامه الفني. وعامة فالأدب والفن مشبعان بالقيم الهرنوتوبية بمختلف الأحجام والأشكال والدرجات. وفي بحثه هذا يحدد باختين انواع الهرنوتوب مثل هرنوتوب اللقاء والطريق والافتراق وهرنوتوب الزمان الديني (ميستريون) والكرنفالي. ويجدر التوقف عند تناول زهير شليبة لمنهجية باختين فيما يخص إشكالية الهرنوتوب الذي يملك كل واحد منه سمته الخاصة، مثلا هرنوتوب اللقاء يتميز بصبغة زمانية وبمستو عال من الفاعلية العاطفية للقيم ولكن لدرجة أقل مما هي في هرنوتوب الوداع. وهرنوتوب الطريق ذو حجم واسع وكبير. فكل اللقاءات العابرة تحدث في الطريق وهو ما يوفر الفرص لحبك الأحداث، والزمان يصب هنا في المكان. ويذكر زهير شليبة نعوت باختين للطريق: (طريق الحياة)، (السير في طريق حياتي جديد) أو (طريق تأريخي). وأمثلة باختين هنا كثيرة بينها (ساتيريكون) بيتروني (والحمار الذهبي) لأبولو التي مرت أحداثها في الطرق اليونانية القديمة. بالطبع فالطريق كان مسرحا لمغامرات أبطال الفروسية في العصر الوسيط، ويصادف أن تجري كل أحداث هذا الشكل الروائي منذ البداية حتى النهاية في الطرقات (رواية"بارسيفال"لآشنباخ). كذلك فالطريق جدّد مضامين رواية المكر والخداع وقصص الشطار الإسبانية، وهناك (دون كيخوت) البطل النموذجي لهرنوتوب الطريق.. وفيما يخص هرنوتوب (الافتراق) يجده باختين مرتبطا، بوثوق، بباعث الإلتقاء الا أن رباطه أوثق بهرنوتوب الأزمة النفسية والإحباط وانكسار الأحلام، كما أنه يتسم بالرمزية والمجازية ويمارس حضوره في أعمال دوستوييفسكي بالذات. وفي (قضايا الأدب وعلم الجمال) يكتب باختين: عند دوستوييفسكي مثلا نرى أن عتبة الباب والسلالم والغرف المجاورة للدهاليز والشوارع والساحات أهم الأمكنة التي تمر بها الأحداث (الأزمات، السقوط، التعميد، التجديد، التكفير عن الذنوب، اتخاذ القرارات إلخ) أي التي تقرر حياة الإنسان كلها. وفي مثل هذا الهرنوتوب يمر الزمن كلمح البصر كما لو أنه لايمكن أن يكون طبيعيا بطيئا طويلا كما هو في حياة الإنسان الطبيعية. وتدخل هذه اللحظات السريعة الحاسمة عند دوستوييفسكي في هرنوتوبات كبيرة لأخرى خاصة بالإحتفالات الدينية والكرنفالية. وهذه الأزمنة تتداخل وتتشابك وتمارس حضورها سوية وبشكل متنوع في أعمال هذا الكاتب الروسي. ويذكر شليبة أنه سبق لباختين أن ميّز دوستوييفسكي عن تولستوي الذي اهتم بالهرنوتوب السيري(بكسر السين)، بأماكن سير النبلاء كالقصور والحدائق. كما لاحظ أن تولستوي لم يكن يهتم بما هو سريع وفجائي، ولهذا نادرا ما كان يستعمل كلمة (وفجأة) على العكس من دوستوييفسكي. ومن ملاحظات باختين الأخرى أن تولستوي ينسج أحداثه ببطء وهي كثيرا ما تجري في (الخارج): ظلال الأشجار وفي الغابات والحدائق بعكس أحداث دوستوييفسكي السريعة التي تمر في الدهاليز وأمام عتبات البيوت وغيرها. وينتبه زهير شليبة الى أن باختين أكد قبل غيره من الباحثين على النزعة الهجينية التي إتسمت بها الرواية اليونانية أي تآلف عناصر كثيرة لمختلف الأنواع النثرية الأخرى. و يلاحظ هو أنه إذا كان باختين قد أكد في مقاله المذكور على مكانة التجارب والإختبارات والإمتحانات الحياتية التي تجابه البطل الروائي في بناء الروايات اليونانية فإنه فعل الشيء نفسه فيما يتعلق برواية الفروسية، أي أن تجربة الأبطال ومجابهاتهم لصعاب الحياة بمثابة إمتحان عصيب تكشف فيه الشخصيات عن جوهرها وقدراتها بل أن باختين يعتقد أن لفكرة (إمتحان) الشخصيات أهمية كبيرة في بناء الرواية الحديثة. يورد شليبة هنا أن غائب طعمة فرمان ذكر مرة بأنه تناول في روايته (خمسة أصوات) خمس شخصيات تمثل عوالم روحية مختلفة، وكان (الفيضان) في الرواية خير امتحان واختبار لجوهرها. يجدر التنويه بأن شليبة كان قد أعد أول دراسة اكاديمية مكرسة لرائد الرواية الفنية العراقية هذا (د. زهير شليبة: غائب طعمة فرمان - دراسة مقارنة في الرواية العراقية، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1996 (.

يتناول شليبة منهجية باختين في بحث الرواية التي لمس فيها ثلاث سمات أساسية تميّزها عن بقية أنواع النثر الأدبي، وهي تعدد أساليب الرواية المرتبطة بالوعي المتنوع اللغات والمتحقق في الرواية ثم التغيير الجذري في إحداثيات الزمان للشخصية الأدبية في الرواية. والسمة الثالثة هي منطقة جديدة لبناء الشخصية الأدبية في الرواية وجدها مرتبطة الى أقصى حد بالزمن الحاضر، بالواقع المعاصر في لاتكامله.

وتشير السمة الأولى الى أن الرواية من زاوية الأسلوب تمثل عملا فنيا متنوع الأصوات والنغمات أي أنها تحوي أشكالا مختلفة للحديث اليومي، كأشكال التعبير اللغوية واللهجية والنبرات الإجتماعية لنفس اللغة القومية. ويلاحظ شليبة أن لهذه السمة بالغ الأهمية بالنسبة لدراسة الرواية العربية بالذات نظرا لسعة اللغة العربية الفصحى، وعمقها وتعدد أشكال التعبير اللغوية فيها، وكثرة المرادفات وتنوعها مما أدى الى تكوّن اللهجات التي ترجع في أغلب مفرداتها الى الفصحى.

يتوقف شليبة عند دراسة باختين المعروفة (رابلييه وغوغول) التي قارن فيها بين (الكتاب الرابع - رحلة بانتيغريول) و(نفوس ميتة). وقد وجد طابعا مشتركا تتسم به القصتان ألا وهو طابع الهزل بكامل نقائه. ويرى باختين ضرورة تحليل مؤلف غوغول (تحليلا دقيقا وشاملا لإستنباط كل أشكال الترحال الكرنفالي المرح في بلاد الموت الجهنمية). وكان باختين قد أوضح بأنه يدرس في أعمال غوغول، جانبا معيّنا حسب: كشف عناصر الثقافة الشعبية الهزلية في هذه الأعمال. ويكتب شليبة أن باختين إعتبر الرحلات الهزلية التي قام بها تشيتشيكوف بطل (النفوس الميتة) أساسا تقليديا عميقا لهذه القصة ومكتنزا بمعلومات كثيرة من نوع آخر وتقاليد أخرى، ومن هنا جاءت تعقيداته. وبالرغم من الطرح الموجز لآراء باختين بشأن علاقة عالم غوغول الإبداعي بالثقافة الشعبية الهزلية نجده يساعد على تكوين اساس نظري لدراسة كل المسائل المتأتية منه. فلقد اصبح بمكنة الباحث الإسترشاد بفكرة باختين عن إرتباط غوغول بالتراث مما يعمل على إيضاح الأشكال الملموسة للإتحاد والتفاعل بين الجديد والقديم، وبين عناصر التقاليد والتراث وبواعث تجديد أخرى مارست حضورها في (نفوس اميتة) بعد أن ألقت بتأثيرها على غوغول مما ظهر واضحا في أسلوبه. ويشير شليبة الى أن ظاهرة الهزل في التراث الشعبي والإبداع الأدبي على السواء تملك بالغ الأهمية مما إنعكس حتى في التفسير اللغوي لهذه الكلمة الذي قدّمه القاموسي والعالم اللغوي الروسي الشهير فلاديمير دال، حيث عرّفهما كما يأتي: لا حزن بلا فرح ولا فرح بلا حزن، ويقال أيضا (المضحك المبكي). إنه الضحك المبكي الذي يكون الأساس الفني لكل أعمال غوغول. وبرأي شليبة فإن الضحك عند غوغول يتبوأ مراكز الصدارة وينتصر على كل شيء يكون الى حدّ ما تطهيرا (كاثارسيس) من نوع خاص لتنقية جسم الإنسان من الخساسة على حد تعبير باختين. بهذه الأداة هدف غوغول الى مسك تناقضات مجتمع النفوس الميتة.

كذلك تطرق شليبة في بحثه الى الجانب المهم من جهود باختين أي دراسته المعروفة عن دوستوييفسكمي التي كرس لها أغلب قوته (أكثر من أربعين سنة). يذكرنا شليبة بمقولة باختين عن الحوار بإعتباره حدثا مهما في العلاقات الإنسانية، وفي هذا المكان يقدّم تفسيره للوحدة التامة في رواية دوستوييفسكي المتعددة الأصوات كحدث للعلاقات المتبادلة بين مختلف الإدراكات المتساوية فيما بينها والتي (لاتكتفي بالتفسير المضموني البراغماتي) أي أنه لايمكن للحدث الجمالي أن يتقوقع أو ينحصر ضمن أطر العمل الفني بل له امتدادات بعيدة خارج النص الأدبي، ولذلك، كمالاحظ شليبة، يتحدث باختين في بحثه عن سعة النشاط الجمالي و(طابعة القيّم) فيرى أن البطل وعالمه الداخلي يكونان مركزا قيّما للنشاط الجمالي ويمتلكان واقعيتهما المرنة، ولايمكن أن يخلقا بفضل نشاط الكاتب الابداعي فقط، كذلك لا يمكن لهما أن يصبحا بالنسبة له موضوعا ومادة حسب.

كان اهتمام باختين بعالم دوستوييفسكي الروائي قد بدأ في عام 1922، وفي عام 1929 نشركتابه (قضايا ابداع دوستوييفسكي) وأعيد طبعه في عامي 1963 و 1970. وكان الكتاب أول بحث يعتبر دوستوييفسكي مؤسسا للرواية المتعددة الأصوات (البوليفونية) وكونه من صمم العالم من جديد بأسلوب البوليفونيا والديالوغيا (الحوارية)، وكان باختين قد وضع أبطال دوستوييفسكي على قدم المساواة مع المؤلف نفسه واعتبرهم وجهات نظر متنوعة ومختلفة ومستقلة شأن دوستوييفسكي تماما. ويتوقف شليبة طويلا عند رودوالفعل من جانب النقد السوفييتي، وكانت مختلفة الا أن جزءا لا يستهان قد كشف عن صلابة تلك المسطرة الأيدولوجية بنتوءاتها الحادة التي صنعتها (الواقعية الإشتراكية) آنذاك. وكان ستالين قد حكم على باختين بالنفي للسنوات 1929 - 1936..

يكتب شليبة مقدمة لدراسة المستشرق الروسي بافيل غرينتسر بعنوان (عصر الرواية) والتي قام بترجمتها أيضا. وهذه الدراسة تخص مختلف جوانب نشأة الأداب في آسيا وأفريقيا وبواكير الأشكال الروائية في التراث وبضمنه العربي. فيما يتعلق بهذه المقدمة التي تملك بحد ذاتها مقومات البحث العلمي القصير نلقى في البدء ملاحظته حول افتقاد الرواية المعاصرة لنظريتها الكلاسية. فوجود مثل هذه النظرية يعني وجود ثوابت ومباديء متفق عليها من قبل علماء الأدب ومؤرخيه ونقاده. برأي شليبة يمثل باختين رد الفعل العنيف ضد هذه الحالة. واعتبر موقف باختين خطوة كبيرة على طريق تكوين نظرية مستقلة للرواية، ومن ناحية أخرى يرى باختين أنه بسبب حداثة العمر لم يتصلب عود الرواية بعد ومن الصعوبة التنبؤ بمستقبله..

يستعرض شليبة عبر لمحات سريعة تأريخ ظهور الرواية الذي بدأ في العصر الوسيط وبعدها إنتشرت الرواية وتكونت وترسخت في عصر النهضة وازدهرت بعد ظهور الطبقة المتوسطة. كذلك يشير الى سمة أخرى للرواية وهي المقارنة المطلقة بينها والملحمة أي مقابلة نوع أدبي حديث لنبوغ أدبي قديم. وكان جورج لوكاش قد وجد الرواية (شكلا ناقصا للملحمة). وكان أمرا طبيعيا ومتوقعا أن ينحاز النقد الماركسي الدوغمائي الى رأي مثل هذا المنظر المعترف به رسميا. وكان باختين قد كرس لهذه الإشكالية مقالته (الملحمة والرواية) كما تناولها في كتابه (أشكال الزمان والعلاقة الزمكانية في الرواية). ويذكر شليبة أن السمة التي لايختلف عليها أحد هي أن الرواية نوع أدبي هجين ومتفاعل مع كل الأنواع الأدبية التقليدية الأخرى.

في ما يتعلق بالبحث الآخر الذي ترجمه شليبة يكون بمثابة عرض سريع لما أنجز في هذا الصنف الأدبي في آسيا وأفريقيا. ويتفق كاتبه هنا مع أغلب علماء الأدب بأن الرواية ظهرت في الشرق بدون اي موروث لكنها كانت محملة بتقاليد نثرية غير متبلورة، وتقاليد قص محلية تطورت في أنواع أدبية أخرى. ويرى الباحث من ناحية أخرى أن الرواية الشرقية ومن بعدها الأفريقية ظهرت على الغالب بتأثير مباشر من الغرب. بالطبع لايعني هذا إنعدام الجذور في حالة الرواية الشرقية. ويطرح هنا الاجتهادات المتعلقة بظاهرة الرواية في المنظورين اللغوي والتاريخي قائلا إن هناك أصنافا أدبية قديمة تقترب تعاريفها من تعريف الرواية المعاصرة مثلا. كذلك ليس هناك من إمكانية للحصول على أي صنف من الرواية بشكله النقي الأمر الذي يدفعنا الى الحديث عن إتجاه التطور وليس الأصناف. ويتوقف الكاتب عند اللحظات الإنعطافية والظواهر الجوهرية في الخط التطوري للروايتين الآسيوية والأفريقية. وفيما يخص روايتنا العربية يأخذ الباحث بتقسيم معيّن. يذكر أن هناك روايات ظهرت في أساطير الجاهلية وبعدها في تقاليد العصر الوسيط وكلها تنتمي الى القسم الأول من التصنيف الذي يأخذ به الباحث الروسي. وفي القسم الثاني وجد أن سيرة الظاهر بيبرس خير نموذج هنا. برأيه جاءت المضامين بشكل مؤوّل وفنتازي مرتبط أشد الإرتباط بالبواعث الفولكلورية والإضافات التي لاتملك صلة بالحياة الحقيقية. ويقول إن هذه هي الأسباب التي تدفعنا الى عدم اعتبار هذه السير أو الروايات روايات تأريخية بالمعنى المعاصر للكلمة. كذلك تتجسد مغامرات الرواية العربية، في هذه الحالة، في نظام معروف، في الشكل البنائي للروايات اليونانية القديمة وروايات الفروسية والروايات السنسكريتية (الهندية). ويقول غرينتسر إن هناك أوجه شبه كثيرة بين السير العربية والرواية الأوربية القديمة ورواية العصر الوسيط نذكر منها الأسباب الغامضة التي تؤدي الى موت البطل والبطلة والهجوم على السفن وتلك الأحلام الكهنوتية إلخ، وجميعها من خصائص هذه السير. الا أن تسميتها بروايات تفتقر الى الدقة وسابقة لأوانها. أما أصل السير الشفاهي (الفولكلوري) فيكشف عن نفسه في غزارة الدوافع الملحمية الخالصة وفي شكل اللغة الملحمية. ومن الطبيعي أن الرويات العربية في العصر الوسيط ليست ملاحما، إذ لا نجد فيها لوحات ملحمية شاملة للعالم، وأن البطل الخاص العادي يحل مكان البطل الأسطوري، وأن السمة التشويقية تبقى من أهم سماتها بالنسبة لمؤلفيها وقاريئيها وسامعيها على حد سواء. يرى غينتسر أن هذه السير كغيرها من الروايات - الملاحم الصينية، كبيرة الشبه بروايات الفروسية بما فيها الرواية الجديدة (ديوما، سكوت) التي تقع، على حد تعبير باختين، على حافة الحدود بين الملحمة والرواية ولكنها مع ذلك تتجاوز هذه الحافة صوب الرواية. وينتبه الباحث الى عامل مهم في تشكيل أولى التجارب الهادفة تشكيل ملامح الرواية، العربية مثلا، الا وهو كل ما يرتبط بقضية الإختيار والتفضيل المقصودين من قبل الناقلين والمترجمين. ففي مصر وسوريا مثلا ترجمت في البداية (بول وفرجيني) و (الكوخ الهندي) و(مغامرات شيل بلاس) و(روبنصن كروزو) إضافة الى روايات لأكسندر ديوما وهيغو وسكوت وفيرن وسيو وبول دي كوك وروايات بوليسية وغيرها. وهذا يعني أن إهتمامات المترجمين توجهت كالعادة نحوروايات المغامرات العاطفية والمخاطرات بغض النظر عن الدور الحقيقي الذي لعبته سواء أكان ثانويا أم رئيسيا. وعن الرواية التاريخية من منتصف القرن التاسع عشر يقول بأنها لعبت دورا كبيرا في الأدب العربي. فهي من ناحية تكون شكلا شبه روائي لتسجيلات الرحلات التاريخية ووصفها مما يمت بصلة الى صنف (الرحلات) المنتشر في العصر الوسيط والذي إزدهر، بشكل خاص، في القرن السابع عشر. وعن سليم البستاني وجرجي زيدان يقول بإنهما اعتمدا في كتاباتهما على علم تدوين التأريخ العربي الذي ظهر وانتشر في القرون الوسطى وتأثرا عند إدخالهما القصص العاطفية بالتقاليد العربية المتجسدة في الرواية الشعبية. وبالرغم من إشارة الباحثين لأكثر من مرة الى تأثير ديوما وسكوت وفولتير على تصميم البناء المضموني والأسلوب اللغوي الا أننا نلمس أيضا سمات الكتابة التقليدية عند العرب. ويستشهد هنا برأي مستعربة روسية حول أن علاقة جرجي زيدان بالأدب التقليدي واضحة، إضافة الى قدرته على التوفيق بين العنصر التعليمي الوعظي والعناصر التشويقية. ويعتبر غينتسر أن نمط السرد في روايات زيدان ومضامينها تعد بحد ذاتها مرحلة من مراحل تطور النثر العربي الحديث لا بل الرواية الشرقية عامة، ومن هنا انتشارها في الشرق كله ومحاولات تقليدها في كل مكان بسبب تمشيها مع نزعات تطور النوع التأريخي حتى في الدول الشرقية الأخرى.

يلاحظ الباحث الروسي أن الرواية الإجتماعية - الحياتية الانتقادية في الشرق هي نوع جديد يختلف مبدأيا عن أنواع روايات القرون الوسطى التقليدية، إلا أن هذا لا يعني بأن الرواية الاجتماعية لم تكن منعزلة، في بدايتها، عن التقاليد القومية. ويفسر شيوع الرواية الوعظية التعليمية المباشرة بكونها قد قدّمت مثالا نموذجيا للسلوك. وعامة ظهرت الرواية في الآداب الشرقية كرد فعل سريع ثم حلت محلها الأخرى الاجتماعية ذات المضمون المعقد الذي يتسم في معظم الحالات بطابع الميلودراما، وعلى العكس من الرواية التقليدية التي تفضل الحدث على الصفات الشخصية، والخطة الخارجية على الداخلية في ظروف متغيرة باستمرار تصوّر في الحقيقة بطلا مثاليا. وفي الواقع فالروايتان الجديدة والقديمة تنتميان الى نوع أدبي واحد لكنهما تملكان أشكالا مختلفة وكثيرة. ويقول هنا: يصوّر هذا النوع فكرة اصطدام الإنسان (الخاص وليس العام) مع الظروف الملموسة لا الخيالية المأخوذة من الأساطير، أي أن فكرة الاختبار التي تتجسد في الرواية التقليدية في تصميم بنائي ثابت: افتراق - تضحيات ومآثر - لقاء. أما في الرواية الحديثة فإن هذه الفكرة تأخذ شكل البحث الروحي. بيد أن الرواية التقليدية كانت على الأغلب من طراز رواية المغامرات والمخاطرات التي ساعدت على تبلور أصناف روائية اخرى. وبالنتيجة هيأت الرواية التقليدية التأريخية الخيالية تربة خصبة لتطور الرواية التاريخية الحقيقية، أما رواية الحياة المسالمة فقد مهدت الطريق لظهور الرواية الساخرة.. ومعلوم أن الحد الفاصل بين الرواية التقليدية والأخرى الجديدة غير مرسوم بوضوح وهو كثيرا ما يكون مشروطا من الناحيتين النفسية والتسجيلية. ونقرأ في خاتمة البحث: إن هذا ما يميز بشكل خاص المرحلة الإنتقالية وبداية العصر الجديد في أوربا (رواية التسلية والرواية الاتساعية) وفي الشرق تستند الرواية على علاقتها المباشرة مع التقاليد القصصية ولكنها تبدو فيما بعد كما لو أنها تترك هذه التقاليد نهائيا وبدون أيّ خط رجعة. الا أن وحدة النوع تبقى تمارس حضورها في المستقبل ونادرا ما تجد نفسها كشبكة مترابطة من المضامين والموضوعات. والآن عندما نسمع من حين الى آخر تصريحات مثل:(أزمة الرواية) و(ماتت الرواية) و(مضى وقت الرواية) فإن هذه الأصوات هي في الحقيقة إن دلت على شيء فإنما تدل على نضج أشكال جديدة في تطور أصناف الرواية القديمة والمجرّبة.

أكيد أن كتاب زهير شليبة يقرّبنا بشكل ملموس من هذه النماذج لعلم الأدب في روسيا وبأسلوب يحقق قناعة الاثنين: القارىء غير المختص والآخر المختص.

***

عدنان المبارك

روائي وناقد ومترجم عراقي

مقيم في الدنمارك

................................

* صدر كتاب "ميخائيل باختين ودراسات أخرى في الرواية" للمؤلف والمترجم د. زهير شليبة عن دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق-2001

صدرت قبل أيام الطبعة الأولى من كتابي" نقد الخطابين السلفي الانتحاري والطائفي الانعزالي" عن "دار فضاءات" في العاصمة الأردنية عمّان وهو متوفر في معرض عمان الدولي للكتاب الجاري هذه الأيام. وسيصل خلال أسبوع تقريبا إلى مكتبات بغداد ومنها مكتبة "النهضة العربية" في مدخل شارع السعدون، وكتبة كريم حنش في شارع المتنبي، ومكتبة "طريق الشعب" في ساحة الأندلس. أنشر أدناه مسرد الكتاب ومقدمته لأخذ فكرة عنه.

المحتوَيات

(لَزوالُ الدنيا أهونُ على اللهِ من سفكِ دمِ مسلمٍ بغيرِ حقٍّ. حديثٌ نبوي)[1]

الدراسة الأول: نقد الخطاب السلفيّ الانتحاريّ وتفكيك مصادرات الاستشراق

الفصل الأول

مقدمات وتعاريف نظرية

قراءة في المصطلحات الرائجة

مقدمات نظرية تاريخية

تحفظات الاصطلاحية

تعريف السلفية

السلفية الجهادية

السلفية الانتحارية

السلفية السياسية البرلمانية

تعريف الأصولية

العنف السلفي التكفيري والآخر الطائفي

الفصل الثاني

الاستشراق المعاصر والإسلام

التفريق بين استشراق وآخر

مقاربات استشراقية للجهاد

الاستشراق المعاصر والإسلام

فرضيات وليم بولك

شهادة منصفة لآرمسترونغ

"الحرية" كصرخة حرب غربية

الفصل الثالث

"الإسلاموفوبيا" ثمرة السياسات الإمبريالية

ركائز أيديولوجيا الإسلاموفوبيا

عنصرية بيولوجية وأخرى ثقافية

أكذوبة تحيز الإسلام الجنسي ضد المرأة

عنصرية بيولوجية وأخرى ثقافية

أكذوبة الإسلام دين العنف البنيوي

جذور مقولة الاستبداد الشرقي

خلط الإسلام بالاستبداد الشرقي

إدوارد سعيد: لماذا الإسلام دون غيره؟

أصوليات العصر الحديث

الفصل الرابع

نقد مقولة الانتصار الغربي النهائي على العالم

مقدمات المقولة

الفرق بين الثقافيتين الغربية والحديثة

هشاشة مقولة "الانتصار الغربي النهائي"

السلفية الأميركية والقدر المتجلي

الفرق بين العلموية والعلمانية

نقد العلموية من اليسار

الوضعية القديمة بثوب جديد

تحويل العلم إلى دين جديد

أسئلة لا تبحث عن إجابات

زيف مقولات العقلانية والعلمية

الفصل الخامس

السلفية الانتحارية جذورها وتجلياتها

الجذور التاريخية للمقاتل الانتحاري

أول انتحاري في التاريخ المعروف

العربات المفخخة اختراع أميركي

حكم الانتحار في الإسلام

عمليات انتحارية في المشرق العربي

الفصل السادس

السلفية الانتحارية والاحتلال الأميركي للعراق

الزرقاوي وبدايات السلفية الانتحارية:

البرقاوي والتأسيس النظري

خلافات الشيخ ومريده

الخلاف يتفاقم والمضمون يترسخ

جردة بالفروق والخلافات

الفصل السابع

تفكيك المصادرات السلفية الانتحارية

عقيدة داعش القتالية

فقهاء داعش والانتحار

الجديد الميداني الانتحاري

هل كان البراء بن مالك انتحارياً؟

حقيقة الصحابي البراء بن مالك

أبو بكر الصديق يمنع تولية البراء القيادة

التتريس والانغماس في الصف

انقسام فقهاء وشيوخ السلفية

الفصل الثامن

تكفير الجميع إلا المبايع

استهداف المسلمين السنة

السلفيّة الانتحارية بنسختها الزرقاوية

تعريف الحشوية وتاريخها

التبرؤ من الحشوية

الزرقاوي يخالف ابن تيمية

الفصل التاسع

مصادرات السلفية الانتحارية

القتال النكائي الثأري والعصمتين

البرقاوي يحذر الزرقاوي

التطرف الليبرالي الاستشراقي المقابل

التكفير وحكم المرتد قديما وحديثا

الفصل العاشر

التكفير عند السلفية الشيعية

الفقه الشيعي والتكفير

تكفير بنكهة سياسية طبقية

سجال شيعي حول تكفير المخالف والمختلف

نقطة لقاء إيجابية

تجريم التكفير وإهدار الدم دستوريا

الدراسة الثاني: نقد الخطاب الطائفي دفاعاً عن صلاحِ الدينِ

الفصل الأول

صعود الخطاب الطائفي الانعزالي

الطائفة المجتمعية والطائفية السياسية

صراع اجتماعي أم طائفي؟

نشأة التشيع العراقي

نشأة التسنن العراقي

بدايات التأليف الطائفي

الشيعة من عهد البويهي إلى العثماني

رموز الاستفزاز السنية والشيعة

الفصل الثاني

عصر صلاح الدين الأيوبي

اتهامات بالجملة لصلاح الدين

وزارات وإمارات التغلب

البويهيون في بغداد

الأيوبي يتصدى للفرنجة بمصر

الفصل الثالث

اتهامات باطلة أخرى لصلاح الدين

هل أحرق صلاح الدين المكتبة الفاطمية؟

تهمة العزل الجنسي للأسرة الفاطمية

المجازر وحرب الإبادة

ملحقان

الملحق الأول: فقرات من مقالة تعقيبية للمؤرخ اللبناني الشيخ جعفر المهاجر

الملحق الثاني: فقرات من رد علاء اللامي على مقالة الشيخ جعفر المهاجر.

المقدمة

يعتمد هذا الكتاب في مقاربته لظاهرتي السلفية الانتحارية والطائفية الانعزالية، منهجية يمكن وصفها بأنها نقدية تحليلية منهجا، وتاريخية اجتماعية موضوعا، في تعاملها مع المادة التراثية موضوعها واستطالاتها المعاصرة. وهي مقاربة لا تخفي نوعاً من الانتقائية المنحازة التي تدعو إلى استلهام ما هو مضيء وإيجابي وكفاحي في التراث العربي الإسلامي والشرقي بعامة، وناقدة ومفكِّكة لكل ما هو معتم وسلبي ورجعي معيارياً وحضاريا فيه، وأيضا، وفي الوقت عينه للنزعة الاستشراقية العنصرية في تناوله أحيانا. ولكنها في تناولها للحَيْثِ التاريخي تحاول أن توازن بين هذه الانتقائية النقدية التحليلية والموضوعية الدقيقة، فلا تغلب رؤية أيديولوجية معينة على قراءة الوقائع والشخصيات التاريخية، بل ستعمد إلى الأخذ بالصرامة المنهجية المطلوبة في البحث التحليلي المقارِن التاريخي.

يضم هذا الكتاب بين دفتيه دراستين مستقلتين موضوعياً إلى درجة يمكن اعتبارهما كتابين منفصلين؛ ولكن الجامع بينهما، والمهيمن عليهما مضمونياً، يبقى هو الهمُّ المعرفي التاريخي والتراثي، الباحث عن الحقيقة بوقائعها وأفقها السياسي المَعِيش، ضمن أجواء السجال "السيافكري" المستمر والمتساوق مع صراع اجتماعي بلغ درجة الاقتتال الدموي والقتل والتهجير على الهوية الدينية الطائفية منذ عقود في المشهد الثقافي العربي والعراقي بخاصة، والبالغ ذروته العُنفيَّة الدموية مع صعود وانتشار الجماعات السلفية الانتحارية والأخرى الطائفية السياسية والاجتماعية المتواشجة بنيويا ووظيفيا مع مشاريع دول العدوان والاحتلال الغربي، التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية منذ 2003؛ سنة احتلال العراق، وما قبلها.

لقد ترافقت تلك المشاريع الغربية المعادية، وبشكل قصدي ومخطط له غالباً من قبل مؤسسات العدوان، مع تفاقم انقسام المجتمعات العربية والإسلامية التعددية دينياً وطائفياً ومذهبياً، انقساماً سياسياً ونفسياً عنيفا، بلغ درجة الاستقطاب والتناحر والاشتباك المسلح في حروب أهلية واقتتال داخلي مرير، وخصوصاً في ليبيا واليمن حيث استمر التآكل والتدمير الذاتي للدولة والمجتمع عبر الحروب بالوكالة لزمن طويل، وفي العراق وسوريا اللذين لم يَشفع لهما واقعُ أنهما بلدان ومجتمعان عريقان في التعددية الدينية والطائفية والإثنية، التي وسمت المجتمعات الشرقية والإسلامية عموماً في عصر الحضارة العربية الإسلامية البالغة ذروتها في بغداد العباسية، وميزتها بقوة عن المجتمعات الواحدية واللافظة للمختلف والمخالف في أوروبا.

ففي أوروبا انتهى التنوع الموروث والتعددية الدينية والإثنية غالبا بعد سلسلة الحروب الدينية إثر الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر وخاصة في حرب الثلاثين عاما وتوجت بمجازر طائفية دامية بلغت ذروتها في مجزرة "سانت بارتيليمي"، في فرنسا، وقد استمرت موجة الحروب الدينية التي عاشتها القارة العجوز حتى بدايات القرن الثامن عشر. ولم يبقَ فيها، وخصوصا في غربها إلا "جزر" تعددية مجتمعيا كالدولة الاتحادية السويسرية. لقد حافظت هذه الأخيرة على نوع رجراج من الثنائية الطائفية الدينية والتعددية اللغوية والقومية المستقرة والراسخة، ويمكن تعليل ذلك الرسوخ والاستقرار بكون سويسرا بلداً داخلياً لا يطل على بحر أو محيط، وقد انفرد بأنه ليس له ماضٍ استعماري وينفرد بنظام حكم نادر المثيل، يتمثل في ما يسمونه نظام "الديموقراطية المباشرة" القائمة على التناوب في الشأن التنفيذي، وحكم الشعب عبر الاستفتاءات الدورية حول جميع الشؤون الحياتية التي تهم المجتمع والدولة، مهما صغُرت، ومحدودية صلاحيات مؤسسات الحاكمة ورؤسائها. غير أن النهوض الأوروبي الغربي الذي تلا تلك المرحلة، جعل تلك الحروب والانتهاكات الدينية والطائفية التي دامت لعدة قرون شيئاً من الماضي ومخزناً للذكريات السوداء، وحلَّت محلها تداعيات وإفرازات عصر الغزو الخارجي واستعمار القارات الأخرى واضطهاد شعوبها بل وحتى إبادة بعضها حتى إزالتها من الوجود كما حدث في الشعوب الأصلية في القارتين الأميركيتين وأستراليا، وقد ترافق ذلك مع نشر وتعميق التجارب الانتخابية ودولة المؤسسات وترسيخ المبادئ العامة لحقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة في بلدان الداخل الأوروبي الغربي والأميركي بدايةً.

معنى ذلك، ضمن معانٍ أخرى، أن مقاربة هذه العناوين بالتحليل والحفر المنهجي والتفكيك النقدي، ليست من الترف الفكري المحايد برطانته الأكاديمية المعقدة وتردده في المسِّ بجذور المشكلات المتفاقمة، بل هي تستمد راهنيتها و"كفاحيتها" من راهنية وعمق المأساة التي تعيشها شعوبنا اليوم، في ظل دول فاشلة، ناقصة السيادة والاستقلال، ومُهَيْمَن عليها من قبل دول إمبريالية أو إقليمية استبدادية، ومهددة على الدوام بالعدوان المسلح من قبل الكيان الصهيوني "حاملة الطائرات الثابتة وغير القابلة للغرق"؛ على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي الأسبق ألكساندر هيغ.

تتطلب هذه المقاربة النظرية التحليلية النقدية التاريخية، في الدراسة الأولى التي تحمل عنوان "نقد الخطاب السلفيِّ الانتحاريّ وتفكيك مصادرات الاستشراق"، والتي لا تخلو من التعقيد والتشابك أحيانا، حلَّ وتفكيك العديد من المشكلات والإشكالات المنهجية النظرية والاصطلاحية السلفية والأصولية، واستطلاع وتبيين الفروق بينهما ضمن سياقهما التاريخي والموضوعي العام. وسنناقش فيها المقدمات التعريفية والسياقية - النسقية للسلفية والأصولية، والفرق بينهما في اللغة العربية واللغات الأجنبية وفي الاستعمال الاصطلاحي السائد؛ محاولينَ تفحص التفرعات الداخلية للسلفية الإسلامية ودوافعها وجذورها الحقيقية والمزيفة، حسب محتوها وماهيتها المضمونية الاجتماعية والفكرية وتجلياتها الممارساتية شبه الفاشية.

ننتقل بعد ذلك إلى قراءة تحليلية لنماذج من النظريات والآراء والمقولات التي عبرت عنها كتابات بعض المستشرقين الأوروبيين حول ما يتعلق بمقولة "الجهاد" في الإسلام والحركات الإسلامية الجهادية المعاصرة؛ متوقفين نقدياً بشكل خاص عند فرضيات الباحث الأميركي وليم بولك، لنحلل بعد ذلك نماذج منتقاة من التحليلات واستنتاجات المنصفة للباحثة البريطانية كارين آرمسترونغ، وكيف شرَّحت بعمق العلاقة بين هذه الحركات الجهادية السلفية والسياق الجغراسياسي العالمي المعاصر الذي نشأت ونشطت فيه؛ مستعرضين تحليلها لجذور شعار "الحرية" كصرخة حرب عدوانية غربية، وكيف ولدت في القرن السادس عشر الميلادي مع بدء غزوات الفرنجة "الحرب الصليبية"؛ مقدمين قراءة تحليلية أخرى في محاور محددة من كتاب الباحثة الأميركية الهندية ديبا كومار في كتابها الموسوم "فوبيا الإسلام والسياسة الإمبريالية"، معرفين ببعض مظاهر الاستشراق الغربي وأسسه، متطرقين الى ما تسميه كومار "العنصرية الحيوية /البيولوجية" والأخرى الثقافية، ثم نتابع محاولات الباحثة نقد وتفكيك ما تسميه الأكاذيب الخمس التي يستند ويقوم عليها الخطاب الإسلاموفوبي كالتحيز الجنسي ضد المرأة، وامتزاج الإسلام بالعنف المتأصل فيه، وخلط الإسلام بالاستبداد الشرقي، واتهامه كدين بالعداء البدئي المزعوم للديموقراطية، خاتمين هذه القراءة بإضاءة على جذور ظاهرة الإسلاموفوبيا "الرُّهاب من الإسلام"، كما سلطها الراحل إدوارد سعيد في نقده لجوهر وآليات وتمظهرات الاستشراقية العنصرية الموجهة ضد الإسلام دون غيره من أديان، ووضع هذا العداء في سياقه التاريخي الاجتماعي الجغراسياسي العالمي الصحيح.

كما سنناقش ونحلل عناوين أخرى في السياق ذاته منها: أصوليات العصر الحديث ذات القشرة الليبرالية المزيفة كما ظهرت في ما يسمى نظرية القدر المتجلي (Manifest destiny) ذات الجذور السلفية البيوريتانية الإنجليكانية "التطهيرية" في الولايات المتحدة، وسنقوم بحفريات تاريخية للجذور التاريخية للمقاتل الانتحاري الذي لم يكن له وجود في كل التراث العربي الإسلامي. دارسين بعض الأمثلة على الأفعال الانتحارية الحربية في التاريخ القديم والحديث، متوقفين بإسهاب عند الحركات والتنظيمات السلفية الانتحارية والتي بلغت ذروتها في صعود "تنظيم قاعدة الجهاد" التي استقر اسمها في الإعلام لاحقا عند اسم "تنظيم القاعدة" التي تأسست في أفغانستان بين آب- أغسطس 1988 وأواخر 1989 / أوائل 1990، ثم "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"، التي أمست تسمى اختزالا "داعش". وسنتوقف بشيء من التفصيل والتوثيق عند تجربة منظمة أبي مصعب الزرقاوي المسلحة وبدايات السلفية الانتحارية وعلاقة مؤسسها بالشيخ عصام البرقاوي، وبدايات التأسيس النظري وخلافاته مع الزرقاوي. وفي الدراسة ذاتها سنتصدى بالتفكيك والكشف لمحاولات التنظيمات السلفية الانتحارية المعاصرة مصادرة وتوظيف عدد من الشخصيات والوقائع التراثية الإسلامية التي أرادت احتسابها على الفكر السلفي الانتحاري، وما هي كذلك على الإطلاق. حيث سنحاول أثبات براءة صحابة النبي العربي الكريم الأجلاء وتنزيههم بالأدلة التأريخية الموثقة من شبهة القتال الانتحاري التي ألصقتها بهم زورا السلفية الانتحارية المعاصرة، ومن هؤلاء الصحابة: البراء بن مالك، وعامر بن الأكوع، وهشام بن عامر، متطرقين إلى موضوعة التكفير وحكم المنتحر في الإسلام وحكم المرتد في الفقهين السني والشيعي الاثني عشري، مستعرضين سجالا إعلاميا فقهيا حول تكفير المخالف. ومحاولين إماطة اللثام عن محاولات السلفية الانتحارية المعاصرة توظيف بعض الوقائع والمصطلحات التراثية توظيفا انتهازيا لا علاقة له بسياقها التاريخي ولا بتفاصيلها الحقيقية التي تم تزويرها وتحريفها ومنها مثلا؛ القتل النكائي والتتريس والانغماس في الصف وقضية العصمتين في الحرب.

الدراسة الثانية في هذا الباب، هي بعنوان " نقد الخطاب الطائفي الانعزالي دفاعا عن صلاح الدين الأيوبي"؛ وفيها سنتصدى بالنقد لحملة الهجاء المذهبي والطائفي والاتهامات الباطلة أو المبالغ ببعضها لهذا الرمز المسلم المقاوِم الكبير، والقائد الملهِم لأجيال المقاومين العرب والمسلمين خلال الحروب العدوانية التي شنها عليهم الغرب الاستعماري والإمبريالي في عصرنا. وسنحاول في هذه الدراسة وضع شخصية القائد الفذ  عسكريا وأخلاقيا حتى باعتراف أعدائه الفرنجة "الصليبيين" صلاح الدين الأيوبي في سياقها التاريخي الحقيقي، وكيف بدأت شخصيته تتشكل في عصرها شديد الاضطراب والتقلب، وعن طبيعة علاقته قائدا، ومن ثم أميراً لإمارة شبه مستقلة في مصر بدولة الخلافة العباسية ببغداد، وقبلها بدولة الخلافة الفاطمية في مصر منذ أن دخلها متضامنا عسكريا معها ضد الغزو الصليبي، وصولا إلى قراره بإلغائها وإلحاق مصر بالدولة العباسية ومن ثم إقامة الإمارة الأيوبية، متابعين أرجح وأدق الروايات عن مسيرته الحربية ضد الغزو الإفرنجي "الصليبي" للمشرق العربي، ونقاط قوته وتألقه دون أن نغفل بعض أخطائه وكبواته أو نتجاوزها، متوقفين عند المعارك الملحمية التي خاضها، ومعاهدات الهدنة والصلح التي عقدها، مفندين الكثير من الاتهامات الباطلة التي ألصقت به حديثا بالتوثيق الدقيق والرجوع إلى أمهات الكتب التاريخية العربية الرصينة والمشهورة؛ خاصِّين ما سمي "صلح الرملة" بوقفة خاصة، ومثلها ثمة وقفة أخرى لتفنيد الاتهام الكاذب بمسؤولية الأيوبي عن إحراق المكتبة الفاطمية وفرض العزل الجنسي على ذكور الأسرة الفاطمية لمنع تناسلها.

أود في هذه المناسبة، أن أعبر عن جزيل شكري وعميق امتناني لجميع الأصدقاء والصديقات الذين اطلعوا على مخطوطة هذا الكتاب وأمدوني بالكثير من الملاحظات والنصائح والاقتراحات المفيدة، متمنيا على القراء والقارئات أن يتفاعلوا مع نصوص هذا الكتاب في بالكتابة النقدية المباشرة لي على عنواني الإلكتروني في نهاية الكتاب، ولهم ولهنَّ جزيل الشكر سلفا.

***

علاء اللامي

جنيف: صيف 2022

..................

 [1] - يُروى هذا الحديث النبوي الشريف بصيغ أخرى منها "لهدمُ الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من قتل مسلم من دون حق". ذكره بالصيغة الأولى البيهقي في "شعب الإيمان"، وبالثانية الطبراني، ورواه أيضاً الترمذي ومسلم، ورواه النسائي من حديث بريدة مرفوعاً: قدر المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا. وعدّهُ بعضهم حديثاً صحيحاً، وآخرون اعتبروه "يرتقي إلى الصحيح".

 

الإخوةُ الأعداءُ في السَّرد الغربيِّ والعَربيّ.. مقاربةٌ نفسيَّةٌ جديدة

عن دار كنوز المعرفة بالأردن، صدرَ اليومَ للباحث المغربيّ الأستاذ الدكتور حسن المودن كتابٌ جديدٌ بعنوان: الإخوةُ الأعداءُ في السَّرد الغربيِّ والعَربيِّ، مقاربةٌ نفسيَّةٌ جديدة.

والكتاب عبارةٌ عن دراسةٍ نفسيّةٍ تطبيقيَّةٍ على أسسٍ نظريَّةٍ معمَّقةٍ ومُحكَمةٍ تنطلق من افتراض أنّه من الممكن أنْ نستمدّ من النصوص الأسطورية أو الدينية أو الأدبية مفهومات وتصورات نفسانية مختلفة ومغايرة لتلك التي صرنا نُسقطها على الكثير من النصوص؛ فبدلَ أنْ نُسقط مفهومًا نفسانيًّا ما على نصٍّ ما، سيكون من الأفضل أن نتساءل: ألا يمكن لهذا النصّ أن يسمح لنا بأن نستمدّ منه مفهومًا نفسانيًّا جديدًا، فنسجّل للنصّ الأدبيّ أصالته وفرادته، ونُسهم، انطلاقًا منه، في تطوير معرفتنا بالإنسان، بلغته وأدبه، وخاصّة من الناحية النفسانية؟

والنصوص التي اقترحَتْها الدّراسةُ حجّةً على زعمها إمكانية استيحاء مفهومات نفسانية أخرى، هي نصوص دينية وأدبية، قديمة وحديثة، موضوعتها المركزية هي: الإخوة الأعداء؛ والسؤال الذي تفرضُ هذه الموضوعةُ طرحَه على التحليل النفسيّ هو: ما هو السؤال الذي ينبغي له أن يحظى بالأولوية: أهو سؤال الأب أم سؤال الأخ؟ ما هي الجريمة الأولى في أقدم المحكيات الإنسانية: أهي جريمة قتل الأب، كما يدّعي التحليل النفسيّ، أم جريمة قتل الأخ كما تؤكّد العديد من النصوص الأسطورية والدينية والأدبية؟ ما هي العقدة الأصلية المتجذّرة في النفسية الإنسانية: أهي عقدة أوديب في التراجيديا الإغريقية أم عقدة قابيل في القصص الدينيّ؟ أعقدة أوديب هي التي تميّز مسرحيات شكسبير أم أن عقدة الأخوة هي التي تحاول هذه الأعمال المسرحية أن تلفت إليها الانتباه؟ ماذا عن عقدة الأخوة في الأدب الروائي: ماذا لو استحضرنا رواية الكاتب الفرنسي دو موباسان: بيير وجان، ورواية فرنسيّ آخر ألكسندر دوما: السيدة الشاحبة، وفرنسيّ ثالث ماكس جالو في روايته: قايين وهابيل، الجريمة الأولى، ورواية الكاتب اليوناني كازانتزاكي: الإخوة الأعداء، ورواية الروائي المصري نجيب محفوظ: أولاد حارتنا؛ ورواية الكاتب الجزائري محمد ديب: هابيل، ورواية الكاتب البرتغالي ساراماغو: قايين، ورواية الكاتب السوري فواز حداد: السوريون الأعداء...؟ والأكثر من ذلك، ماذا لو أخذنا بعين الاعتبار أنّ المسرحيات الأولى في التراث الإغريقيّ تثير، بشكلٍ لافتٍ، مسألة الإخوة الأعداء، ويكفي أن نستحضر ثلاثية الأوريستيا للتراجيديّ الإغريقيّ أسخيلوس، وهو يُعَدُّ أبـاً للمسرح الإغريقي؟

لكن قبل أنْ تدخلَ هذه الدّراسةُ في تحليل هذه الأسئلة والافتراضات، بما يسمح لها بأن تستوحي من بعض النصوص الأسطورية والدينية والتاريخية والأدبية صورةَ مركَّـبٍ عُـقديٍّ جديد، وتُعيِّن له اسماً رمزياً: "عقدة قابيل"، فهي قد عملت على التوسّع في توضيح افتراضاتها النظرية والمنهجيّة في مدخل عامّ بعنوان: مداخل وافتراضات؛ على أنّ الكتاب في مجموعه يتوزّع إلى ثلاثة فصول:

* الفصل الأول، وهو مكرَّسٌ لمسألة الإخوة الأعداء في المحكيات الدينية، ويتألّف من ثلاثة مباحث: يفترض المبحث الأول أنّ قصّة النبي يوسف الدينية(كما هي في القرآن الكريم) هي عكس أسطورة أوديب التي مَسرَحها التراجيديّ الإغريقيّ سوفوكليس؛ ويعود المبحث الثاني إلى قصّة قابيل وهابيل الدينية، بافتراض أنّ قتل الأخ هو الخاصية الراسخة في العائلة الأولى. أما المبحث الثالث، فهو يتناول بالدرس المحكي الإبراهيميّ، وعلاقة إبراهيم بابنيه: إسماعيل وإسحاق، والصراع بين الأخوين حول مَنْ يَحقُّ له أنْ يَرثَ الأب؛ والسؤال المركزيّ في هذا المبحث هو: أيتعلّق الأمر بعقدة أوديب أم بعقدة إبراهيم أم بعقدة قابيل؟

* الفصل الثاني، ويتناول مسألة الإخوة الأعداء في الآداب الغربية الحديثة، ويتألّف من أربعة مباحث: ينطلق المبحث الأول من كتاب رولان بارت: عن راسين، ويتساءل بخصوص الاثنين معًا (بارت وراسين): أيتعلّق الأمر بعقدة أوديب أم بعقدة الأخوة؟ أمّا المبحث الثاني، فهو يتساءل بخصوص مسرحية: هاملت: أيتعلّق الأمر بعقدة أوديب أم بعقدة الأخوة؟ في حين يتناول المبحث الثالث مسألة الإخوة الأعداء في الرواية الغربية الحديثة، وخاصّة عند دوستويفسكي وكازانتزاكي وساراماغو..أما المبحث الرابع، فهو يكشف عن الموضوع الأكثر حضورًا في الرواية البوليسية، وخاصة عند أجاثا كريستي: الشرّ العائلي..

* الفصل الثالث، وهو مكرَّسٌ للرواية العربية، ويتألّف من أربعة مباحث: يتناول المبحث الأول مسألة صراع الإخوة في رواية: أولاد حارتنا للروائيّ المصريّ نجيب محفوظ، بوصفها الرواية التي تدشّن انتقال هذا الروائيّ العربيّ من الاهتمام بسؤال الأب إلى الانتباه إلى أهمية سؤال الأخ. والمبحث الثاني مكرَّسٌ لهذه الشخصية الجديدة: شخصية الإرهابيّ، بوصفها شخصية جديدة في الرواية العربية المعاصرة، من خلال رواية الروائيّ المغربيّ خالد أقلعي: خريف العصافير، وهو مبحثٌ يتساءل إنْ كان الأمر يتعلّق عند الإرهابيّ بعقدة أوديب أم بعقدة الأخوّة. أمّا المبحث الثالث، فهو يتناول مسألة الأخ المنبوذ في الرواية العربية، من خلال رواية الروائيّ السعوديّ عبد الله زايد: المنبوذ؛ في حين يدرس المبحث الرابع سؤال الأخوّة في الرواية النسائية العربية، من خلال رواية: غرف متهاوية للكاتبة الكويتية فاطمة يوسف العلي.

* وفي خاتمة الدراسة، سؤالٌ مهمٌّ: لماذا لم يهتمّ فرويد بعقدة الأخوة؟ لماذا ركّز على عقدة أوديب؟ ما علاقة ذلك بروايته العائلية؟ كيف كانت علاقته بإخوته داخل عائلته الحقيقية؟ وكيف كانت علاقته بأقرانه وإخوته داخل بيت التحليل النفسي؟

وإجمالا، ففي هذه الدراسة اشتغل الباحث المغربي الأستاذ الدكتور حسن المودن بنماذج من أقدم المحكيات الدينية والأسطورية، وبنماذج من أحدث المحكيات الأدبية، والروائية بالأخص، من أجل أنْ يتقدّم بهذا الافتراض المركزيّ: إذا كان التحليل النفسيّ، وخاصّة عند فرويد، قد استمدّ من الآداب القديمة والحديثة ما أسّس به انقلابًا جذريًّا في فهم الإنسان وتفسيره؛ فإنه يزعم أن إعادة قراءة الآداب الإنسانية، القديمة والحديثة، يمكنها أنْ تساعد على تطوير مفهوماتنا النقدية والنفسانية، بما يغيِّر من تصوراتنا للآداب الإنسانية التي كانت دومًا تولي عناية خاصّة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان..

وفي جملة واحدة، ألم يحن الوقتُ بعدُ لكي يمنح التحليلُ النفسي انتباهَـه إلى "عقدة قابيل" التي يفترض الباحث المغربي الأستاذ الدكتور حسن المودن أنها القادرة على تفسير ظواهر العنف والقتل والإرهاب والإجرام في المجتمع الإنساني المعاصر، خاصّة وأننا في مسألة "الأخوة" أمام عقدة أخطر وأهمّ في تكوين الذات الإنسانية وبنائها النفسي والاجتماعي، ذلك لأن عقدة قابيل تسمح لنا بأن نتجاوز التصورَ الفرويدي، الذي يركّز على النمو النفسي ــــــــ الجنسي القائم على دينامية نفسية داخلية وفردية، إلى تصوّرٍ نفسيٍّ يحاول أن يؤسِّس تحليلا نفسيًّا قادرًا على وصف هذا الفضاء العِلاقِـيِّ التفاعليِّ بين الذوات الإنسانية في فضائها العائلي الاجتماعي المشترك؟

***

صدر الكتاب عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل، وقد احتى على (238) صفحة من الحجم الوزيري. مهمة الكتاب تقوم في الكشف عن حقائق الباطن التي مَثلّها الإمام علي في حياته ومماته، وعن روح المعاني في أقواله وأفعاله. وبالتالي ضرورة إيجاد الصلّة الفعلية ونموذجها الممكن بين قوة مثاله وشخصيته الواقعية، أي نفيها الحقيقي في الفعل المعاصر. فليست هناك من شخصية كبرى في تاريخ الإسلام استطاعت أن تستثير خفايا الوعي والضمير وتضارب المشارب والتقييمات كشخصية الإمام علي بن أبي طالب. فهو يبدو في كيانه الواقعي لُغزاً، وفي صورته التاريخية كياناً يصعب احتوائه أو المسك به. فهو الشخصية التي يصعب التعامل معها على أساس قواعد المنطق الصارمة أو الإنتماء المذهبي، فكلاهما يضعفان البحث.

كُسِرَ هذا الكتاب على مقدمة وستة فصول وخاتمة، شمل الفصل الأول دور الإمام علي في المصير السلطوي ومفارقاته، أما الفصل الثاني فتعلق بخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. أما الفصل الثالث فشمل عناصر التفاوض في مدرسة الإمام علي. وخصص الفصل الرابع صفات المفاوض الناجح وفق مفهوم الإمام علي، أما الفصل الخامس فتضمن محطات من حياة الامام علي. ثم الفصل السادس دور الامام علي في معركة الجمل.

اعتمدت في اصدار هذا الكتاب على مصادر متنوعة تراوحت في أهميتها بين مصادر وثيقة الصِلّة بموضوع شخصية الإمام علي، وأخرى برزت أهميتها في موضوعات خاصة من الكتاب، كانت في مقدمة تلك المصادر الكتب العربية مصدراً مهماً للكتاب، ومن أبرز هذه الكتب: شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد، وأمالي الصدوق لأبن بابويه القمي، وتهذيب التهذيب لأبن حجر العسقلاني، وتاريخ ابن خلدون، ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبن خلكان، وتحف العقول عن آل الرسول لأبن شعبة الحراني، والإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء لأبن قتيبة، وكشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي، والإمامة والقيادة لأحمد عز الدين، والغدير في الكتاب والسُنة والأدب للأميني، وحلية الأبرار في أحوال محمد وآله الأطهار للبحراني، والطبقات الكبرى للبغدادي، والكامل في التاريخ للجزري، ووسائل الشيعة للحر العاملي، ومصادر أخرى مهمة اعتمدت عليها في كتابي هذا.

لقد حدد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب معايير المفاوضات وعناصرها، وأسَسَّ لواقعية السياسية قبل مئات السنين، أي قبل توماس مور في كتابه (اليوتوبيا)، ونيقولا ميكافلي في كتابه (الأمير) الذي كان صاحب الواقعية السياسية، والفارابي في كتابه (المدينة الفاضلة)، وتوماس هوبز في كتابه (ليفيثان في الدولة والسياسة)، وروجر فيشر، وقبل مفهوم السيدة في كتب (الجمهورية الستة) لجان بودان، فضلاً عن جان لوك وكتابه (العقد الاجتماعي)، ومونتسكيو و(الفصل بين السلطان والدساتير والحريات)، وفولتين وجان جاك روسو. أما الهداية والحكمة والمعرفة والشجاعة والجرأة والقوة الجسدية فجميعها اجتمعت به، فضلاً عن آداب الفروسية والنخوة، والحق والشرف، والسلام والحرب، فكان يلتزم بالحكم الشرعي في كل قول وفعل.

ولتوضيح المزايا لأهدفنا في هذا الكتاب، هو تم تسليط الضوء على أسلوبه التفاوضي بصفته ابن عم النبي محمد بن عبد الله، وصحابياً يلتزم بالأحكام الشرعية، كأساس في حياته وافعاله وسلوكه، فضلاً عن كونه صاحب قرار بالحكم الشرعي ملتزماً به، فقد طالب بتسليم قتلة الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وكان لهُ موقف في وجوب عزل معاوية بن أبي سفيان عن ولاية الشام، وفي معاملة طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام، وفي قبول التحكيم.

في هذا الكتاب نركز على مواقف الإمام علي بن أبي طالب التفاوضية انطلاقاً من فهمه للأحكام الشرعية، سواء في قوته أو ضعف سلطانه. فكان مثالاً للصحابة في عناصر المفاوضات التي كانت من بديهيات فهم الصحابة للأحكام الشرعية، ولو قارنا ذلك مع عناصر التفاوض في الفكر الغربي التي كُتبت بعد حوالي 1300 عاماً بعد استشهاد الإمام علي. وعناصر التفاوض التي وثقها العالم الأمريكي روجر فيشر السبعة لأي مفاوضات، هي: 1- المصالح، 2- الخيارات، 3- الشرعية، 4- العلاقات، 5- الإتصال، 6- الإلتزام، 7- البدائل. وإن الإمام علي بن أبي طالب قد وضعها قبله بألف وأربعمائة عام، وهي اثني عشر عنصراً، أي بزيادة خمسة عناصر على فيشر؛ وعناصر التفاوض الكاملة هي: 1- المصالح، 2- الخيارات، 3- الشرعية، 4- العلاقات، 5- الإتصال، 6- الإلتزام، 7- البدائل، 8- العلم والمعرفة، 9- القيادة والمسؤولية، 10- المُتغيرات، 11- الصبر والثبات، 12- العدل. وهناك من يعتقد أن توماس هوبز هو أول من أسس العلاقة بين الدولة والناس والدولة والسياسة، لكن الحقيقة العلمية واضحة لنا أن الإمام علي جاء بها قبل هوبز، فقد حدد مفهوم السيادة بوضوح.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

كتاب فني جمالي فيه بوح عميق تجاه الطبيعة صونا لجمالها وتصديا لأعدائها

".. للحفاظ على الطبيعة يجب أن تلقن الناس أولا كيفية التمتع بطاقتها وجمالها ومتطلباتها.. ان صفاء الروح مشروط حتما بصفاء الطبيعة.. ".. هكذا كان الصوت العالي وسط الركام المتراكم من الفضلات والمهملات حيث عاشت بلادنا وما تزال مشكلة بيئية عانت منها مدن شتى ومنها خاصة مدينة صفاقس التي صدحت فيها الفنانة التشكيلية مو ضوع هذا الكتيب الفني حيث الذهاب بالصورة والكلمات الى جوهر الأزمة وفق دعوة عميقة للتحدي وعدم الخضوع لمد الاهمال وتدنيس الطبيعة وتلويث المحيط الى جانب الوعي بضرورة تثمين هذا الكم الهائل من الفضلات المنزلية والقادمة من المصانع وغيرها في تعدد مصادرها.. هذا التثمين المهم في رسكلتها والافادة منها في توليد الطاقات وما الى ذلك..

هذا الكتيب في سياق تجربة فنية جمالية ومن سنوات عملت عليها الفنانة موضوع الكتاب للتوعية والتحسيس بالموضوع البيئي من حيث دور الفن والفنان في محيطه المهدد وقد كانت الكلمات والصور معبرة وهي تنبع من وجدان ووعي دفين وحرص على التنشئة للأطفال واليافعين والشبان وحتى الكبار على حب الطبيعة والحفاظ على جمالها.. فهي تتكلم ويجب الاصعاء اليها على عبارة فيكتور هيقو ".. من المحزن ان نفكر في أن الطبيعة تتكلم والجنس البشري لا يصغي لما تقول.. " قولة جميلة بها شاعرية عالية تفتتح هذا الكتيب الفني التحسيسي وهو بعنوان دلالي " مناجاة " أنجز بالتعاون مع اتحاد الفنانين التشكيليين ومن قبل عايدة الكشو صاحبة الفكرة التي تسكنها من سنوات وتواصل الاشتعال ضمنها في عدد من الفعاليات والأعمال الفنية الجمالية.. و الدكتورة ألفة معلى التي ضم الكتيب نصوصها وصور جميلة للحبيب دلنسي وقام بالترجمة الدكتور هادي مهدي.. في الكتيب وضمن سياقات نصوصه ورد هذا الجزء لكلود برونات ".. عموما يعتقد الناس أن الانتحار أمر غير مقبول. غير أننا وكلما دمرنا محيطنا يوما بعد يوم فنحن بذلك نكون قد انخرطنا شيئا فشيئا في مسار انتحار جماعي.. ".. و في نصها بهذا الكتيب تشير الدكتورة ألفة معلى الى اهمية ما تقوم به الفنانة عائدة الكشو خروف في رسالتها الفنية والبيئية والحضارية في هذا العمل بعنوان- مناجاة - ".. في مناجاتها تؤمن عائدة الكشو بأن المصير يرسم باليد وأن الحياة حق يفتك لذلك تأبى أن تلتزم الصمت فتتخذ من الفن سبيلا للنقد ولسانا يفصح عما يوجد في السر من حزن ووجع ومن غضب وحب.. ".هكذا هي الفنانة عائدة الكشو في هذه التجربة ضمن كتيب " مناجاة " تتوصت ركام الفضلات في كل اعتداد ومحبة مستعينة بالموسيقى وبالرسم وأكثر من ذلك هي تزرع زيتونة كشاهدة على الأمل المنبثق من الحزن بل انها تحتسي قهوتها في أريحية وكأنها تقول للآخرين وللعالم لا تخشوا فضلاتكم فهي منكم فقط أقيموا معها وتجاهها علاقات استثمار وتثمين لكي تحافظ الحياة على طبيعتها السليمة لأجل حياة عالية الجودة.. كل ذلك تفعله عائدة بالفن وعبر جمال الفن وفق احساس عميق وصادق بالراهن والمعيش..

هكذا هي عائدة تخاطب الكائن ليبتكر لونه وصوته وشجنه الدفين وهو يمضي بين الآخرين حالما بخطاه وهي تنحت دربه.. كيف له ذلك في هذا الكون المحفوف بالجمال والبهاء المبثوث في الجهات.. في العناصر والأشياء.. و ليس للكائن هنا غير القول بنشيده وهو يشير للآفاق بحثا عن القيمة وقولا بالجوهر.. جوهر التفاصيل التي تفضي الى ايقاع الذات في حلها وترحالها ترتجي فكرة الأعماق ونظر الدواخل وكل ما به يتزين العالم حيث اللون والكلمات والمعاني وهي تنحت مجاريها في الصخر كحال الأنهار العظيمة..

" مناجاة " كتيب فيه الحلم والأمل والتوعية والصمود وفيه أيضا ألق وقلق وذهاب ملون بالبهجة العارمة وفق نظر للفن على أنه ضفة أخرى للسفر تجاه أرض عليها أطفال يلونون أناشيدهم بالحلم النادر والغناء الخافت.. يرقصون ويرقصون مثل زنوج قدامى.. انه الرقص على أرض ناعمة.. نعومة الموسيقى الطالعة من التواريخ والأزمنة..

و الفن هنا وفي تجربة عائدة الكشو خروف سفر وعنوان لافت حيث الرسم مجال شغف ودأب وما به تنبت الأحلام في البساتين التي رآها البستاني في خياله وهي تأخذه الى طفولة عابرة فيها العالم علبة تلوين ورسم وتلبس بالكنه.. كنه الابداع والامتاع والمؤانسة.. هي هكذا لعبة اللون والحلم منذ براءة اولى.. و الى الىن في هذه الحدائق اللونية ذات الأسوار العالية.. الفنانة التشكيلية عايدة الكشو خروف تنوعت لوحاتها الفنية وأعمالها وفق مسيرة سنوات عديدة أخرها أعمال فنية لمواجهة أعداء الطبيعة واقتلاع الأشجار والقضاء على الغابات لها مشاركات ضمن معارض فردية وجماعية واقامة معارض شخصية في تونس وخارجها.. في لوحاتها موسيقى ملونة تمتح من مفردات تشكيلية فيها الحركة وتسعى للتفاعل مع المتلقي ليقرأها وفق تأويل متعدد الالوان.. ثمة عبارة تشكيلية في لوحاتها بينة في جمال تلوينها وسحر قولها الجمالي وعذوبة فكرة النظر تجاهها.. لوحات وأعمال فنية متعددة الأحجام والمواضيع فقط يجمع بينها شغف الفنانة عايدة وحلمها الذي أخذها الى التلوين حيث أطلقت هي العنان لنشيد ملون يسكنها منذ طفولة عابرة.عايدة الكشو خروف فنانة تشكيلية تلقت تكوينا لتخرج سنة 1991 من معهد الموضة والديزاين وشهادة حصلت عليها بعد تكوين في اختصاص فن تشكيلي في ثلاث سنوات مع جمعية قنطرة الفنون وذلك بمعهد الفنون والحرف بصفاقس مسؤولة العلاقات الدولية باتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين ومنسقة نشاطه بصفاقس وعضو الصالون السنوي بصفاقس منذ خمس سنوات ورئيسة لجنة الثقافة بجمعية حماية الشفار وعضو جمعية صيانة مدينة صفاقس الى جانب ترأسها لعدد من الفعاليات الثقافية والجمعيات ومنها ملكة جمال صفاقس وكوميسار معرض المجلس الوطني للفنون والثقافة بالكويت وكوميسار المعرض لجمعية " بصمات عربية " بالقاهرة ومعرض كاروسيل اللوفر ومشاركة في معرض الدورة 35 لصالون الفن المعاصر بنيويورك وفي المهرجان الدولي بسيول في كوريا الجنوبية ومعرض أوزاكا باليابان فضلا عن مشاركات في ندوات ومهرجانات وفعاليات ثقافية وفنية عن البيئة والمرأة وغيرها م العناوين.. هذا الى جانب جوائز وتكريمات بالكويت والقاهرة وباريس والشارقة .. كما عرضت أعمالها في منلسبات عديدة وبمدن تونسية مختلفة فضلا عن مشاركاتها في معارض وصالونات اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين الدورية.

و من نشاطها الفني التشكيلي نذكر معرضها بعنوان "طاقة البحر" الذي يمنح المتلقي علاقة مخصوصة من خلال ثنائية البحر والانسان وعوالم جمالية من وحي اللون الأزرق..

و في المعرض الجماعي الدولي للفنانين التشكيليين “اوزاكا ارت ايكسبو” برواق الفنون “سيستاما غاليري” بأوزاكا اليابانية مع 70 فنانا من ايطاليا واليابان وفرنسا برزت مشاركة الفنان عايدة من خلال لوحتين وفق تعبيراتها الجمالية التي عرفت بها بين الشأن الوطني والشأن الابداعي الجمالي كما تميزت مشاركتها بمعرض بمتحف اللوفر في باريس من خلال حصولها على الجائزة الثانية.. ان هذه المشاركات والمعارض التي انطلقت سنة 1995 بمعرض خاص مع الفنان علي بن سالم برواق فني بمدينة صفاقس تعتبرها الفنانة التشكيلية عايدة مجالا لمزيد التعريف بتجربتها الى جانب كونها تلمس من خلالها تقبل وذائقة جمهور الفنون والمعارض تجاه أعمالها الفنية وهو ما يسعدها ويجعلها تواصل هذه التجربة. وخلال الظروف الصعبة للحياة الفنية التشكيلية والثقافية عموما كانت للفنانة التشكيلية أصيلة مدينة صفاقس عايدة الكشو خروف مشاركات عبر الوسائط السمعية البصرية والرقمية .. انها بقعة النور في حياة الفنانة عايدة تتفاعل مع ما يحدث تجمل الاشياء وتقاوم بالفن كل فعل عدو للطبيعة وجمالها الالاهي الأخاذ حيث الانسان مطالب بأن يحمي الأرض لتحضنه وتحميه.

***

شمس الدين العوني

صدر حديثاً عن دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة في شهر شباط 2023 المجموعة الشعرية " بغداد ارجوزة النشيج" ، المجموعة الشعرية السابعة عشر للشاعر والكاتب العراقي مصطفى محمد غريب ، تقع في 122 صفحة من القطع المتوسط ضمت 20 عشرون قصيدة شعرية متنوعة عالجت قضايا مهمة ما بين الهموم الوطنية والعالمية لقضايا العدالة والحقوق والحرية ، كما رصد فيها مصطفى ما آلت له أوضاع وطنه العراق وقصائد رثاء وذكريات لكتاب وشعراء رحلوا بعدما أغنوا الشعر والثقافة بتلك الأيقونات الشعرية المميزة.. وفي مقدمتهم مظفر النواب وسعاد خيري.

للشاعر ايضاً روايات ومجموعات قصصية قصيرة طبعت في بغداد وسوريا ولبنان والقاهرة والنرويج‘ عالج الشاعر فيها العديد من القضايا والاحداث وتمكن من الربط ما بين التغييرات التي طرأت على الواقع الاجتماعي وتداعيات الغربة... المجموعة الشعرية " بغداد ارجوزة النشيج " عبارة عن مقاطع لحنية كأنها نسيج من العقد المركبة بين التأمل والامل والغربة الداخلية التي تمتاز ليس بالهروب والتخلي إنما في الاقتحام والثبات على الرغم من اللواعج والانكسارات النفسية وبدايتها في النص " صومعة المدينة البحرية" الذي يبدأ " هذا النص الذي بدأ به مصطفى هو عبارة عن توضيح لتلك اللواعج التي يعيشها الانسان في جو من الحيرة والتساؤل والقلق من خلال صور جمالية تتداخل في رؤيا جدلية  لتوضيح القيم ما بين الطبيعة وتعاريجها حيث  تنطلق من الصومعة بمعناها التعريفي الصوري والرومانسي وملامسة الانعكاسات القريبة  "  في الشارع القديم الملاصق للمحطة الشرقية / كانت قاطرة التهميش الصوري / تحملُ زرافات من مخلوقاتٍ نصف هلامية / ترسم كنيسةً قديمة على بحيرة تونة فانا Tunevannet / ناقوسها الأحد والموتى تُظهرها ظلال بناية قديمة الطراز / تقطنها حمامات المراقد.."هو الارتباط بين ظلال الذكريات تمسكاً بما هو وكأنها صور هلامية.. هي اطلالة من " نافذةٌ خضراء بلون العشب الشتوي أعيش عالم البصير الأعمى في الرؤيا. /  من كوة صغيرةٍ تطل من صومعتي، / صومعتي التي تقوم في البناية القديمة تاريخها يعود للفايكنك* / القراصنة الذين حاربوا الطبيعة باللجوء اليها وإخضاعها للرغبات / قراصنة بحر الشمال الذين يرتدون جلود الدببة ويغطون الرؤوس بقرون غزال الرنة./ صومعتي تطل من مأوى يرتدي ثوباً من الاغصان قرب حديقة أشجار التفاح الخمسة../ في جانبها الشرقي مدينة السمك المالح، وحانة البحارة الحقيرة، وسكارى إدمان الغيبة /لم أكن يوماً فقيهاً ولا مكتشفاً ولا عارفاً / بحياة البحار والخمور البيضاء والسمك السلمون" قد تكون الرؤيا متفرعة لها ابعاد في التصور إلا أن المذهل لا يغيب كما في الخاطرة المتماسكة بالإبحار عن عالم صار باكورة للألم ولهذا فهو يصرخ " آه يا ميناء العمر المملوء بسفن الإبحار" فتظهر الذكريات كأنها شلالات من خدش الذاكرة وتحويلها الى مشهد " كيف لا اذكر طرطوس واللاذقية البحر" انه التعميد في صفاء صوفي " كنت اغسل روحي كلما يشتد حزني وكآبتي في ليل الامطار الدمشقية" إلا أن هذا الحنين ينتقل انتقالات تراجيدية نحو " يا عراقي المذبوح من الوريد إلى الوريد/ عصافيرك الدوري / تختبئ هنا من الثلوج والامطار/ من الافراد والاشرار/ من المقولات في زمن الغبار / كيف يمكن ان أنسي أبو النوّاس وحانة الغاردينيا والسمك المسقوف؟!" العصافير في اللوحة الداخلية على الرغم من وجودها في هاجس الذكر والتذكر " كيف قَدمتُ مع عصافير الدوري من العراق/ عصافير هاجرتْ في شجون /الفرار من الاندثار!/  لسقوط في اغتراب الاندثار/ كيف أنسي ما فعله القوالين؟ أكثرية القصائد لها ارتباطات بوشائج دليل على قيام شبح الغربة الذي حاول التمويه لكنه فشل في إخفاء طابع الرفض والإصرار وهي إشارة واضحة في قصيدة سلام عادل الشهيد الحي في ذاكرة الناس والذي ارتبط اسمه  بالقدسية في التضحية والإصرار " تئن من وجع التغير في الفصول/ يا رجل القرن العشرين / يا مرآة لحفاة الكدح الموروث/ يا رمز هتافات الوجع الممدود إلى كل جهات المعمورة/ عبر تواريخ القحط المفجوع / سجلت التاريخ باسمك / في هذا التاريخ المقبول / سُجل اسمك في النور" هذا التسجيل هو المعنى الحقيقي للثوري ومقاومة الأشرار التي تستشرق الحاضر والمستقبل " في عمق الصورة" صورة واضحة حفظتها ذاكرة الثوريين" ونشيد العمال المأثور/  قامات في صرح الحزب / حزب الكدح الشامل والمنثور/ الماشي رغم ظلام الديجور/ يا دهشة تاريخ الموقف/ يا لؤلؤةً في جيد الأجيال/ انت جدار الفولاذ سقاه الكدح البرهان" ان الموقف الوطني والطبقي الذي تميز في موقف الشهيد الشيوعي دلالة على الإيمان الثابت بعدالة النضال ضد القوى الرجعية والإمبريالية " يا رمز الموقف للأجيال/ وسطوع الفكر الإنسان/ ها أنت الغائب والحاضر في الساحات/ تجوب بيوت الفقراء/ تُسجل ذكراك على الابداع/ ونضالك نبراساً فوق الهامات/ يا نور الكلمات" وتخطو القصائد التالية  " ــ تباعد الرؤيا/ ــ حتمية إدراك الفكرة/ ــ مسرح الحلم القادم/ ــ قلب الوجود /ــ رغبة" تخطو نحو الاندماج ما بين العام والخاص في النضال وفي الصراع والعلاقات الاجتماعية، ثم تقوم قصيدة سعاد خيري في أيار "تحرير مفهوم أحادية الموقف المبدئي في التضحية حيث إشارة واضحة لقيم المرأة وعدالة موقفها الذي تجلى في مواقفها الرافضة للظلم والطغيان منذ الحكم الملكي الذي غيبها عشرون عاما في سجونه ومواقفها المتتالية دليل على قيم وقوة نضال المرأة " دعني أفصح عن ذاك التاريخ/ كنا ننشد هبوا، هبوا.. وسنمضي نمضي قدماً ونهز الرايات/ وضحايا الحرس الأسود في بغداد../ وسعاد الخيري مثل القامة/ تتحدث عن تموز البطل الواقف في اوروك/ تموز على الالواح/ تموز الواقف في المحراب/ تموز المذبوح على الأبواب/ والرايات الحمراء/ وأبو يحيى حدثنا عن سلمان / الصوت الدافئ في المرثيات" انها المناضلة الشيوعية التي لم تئن من اضطهاد التعذيب والاعتداء وكانت مرفوعة الرأس متفاخرة بأبجدية النضال الطبقي لشغيلة اليد والفكر "سعاد الخيري/ بيضاء كلون الثلجِ/ حمراء كحبِ الرمان / طلبت مني أن اقرأ شعراً/ فقرأت الأبيات الزنبق في أيار../ طلبت تاريخ الأمم المقهورة / قالت هل ننسى؟ أيار على الأبواب/ هل ننسى الكدح الموروث بحكم طغاة الاوغاد /ومقاصل رأس المالْ/ تنصب في الاعداد " والقول المأثور " وسنمضي نمضي قُدماَ/ ومضينا نحمل عزماً وعناد/ فينا أمل التغيير وفي الانشاد" الانتقال من الحالة الفردية الى فضاء الفكرة الواسعة دليل على إمكانية غور النص في اغوار الشخصية والجماعة وهي ما ظهر من قصائد « نص ــ دهشة في التاريخ ، الادراك في التنويع ، إسراف في الرؤيا "،لقد توضحت بشكل ملموس الفكرة التي طغت على اهداف الشاعر في قضاياه الخاصة به والقضايا الخاصة بسمات المعارف تجاه الآخر، الوطن، المنفى، العلاقات الإنسانية، النظرة الخارجية في تلك العُقد من وجود الانسان ومركباته ووسواس السر نحو عالم مجهول وهذا التوضيح برز في قصيدة العنوان " بغداد ارجوزة النشيج " النشيج الدائم منذ الازل في زواياه التي تخص بغداد والنكبات التي اصابتها فمنذ البداية تظهر بغداد " بغداد حريق.. بغداد غريق / بغداد نواح.. بغداد جراح / بغداد القادمة من عمق التاريخ /   تستيقظ مذعورة / من لوعة تفخيخ" وتظهر الأسئلة دون مقدمات " هل صوتها نعيق ودمعها زهيق؟ / تُقصف بالراجمات وبالمجانيق؟ النخل عريق.. في فن التحديق / فيما قال ضرير العينين / ذو العقل الراجح والمفتوح / وبصير العقل المرموق * / وعريقٌ في الأمجاد / في ذكرى بغداد الاسفارْ / والحلم العابر للأسرار"... نعم فيما قاله أبو العلاء المعري عن نخيلها الذي هو الرمز الخالد لوجود الشجر " وردنا ماء دجلة خير ماءٍ وزرنا أشرف الشجر النخيلا " هذا الوصف الدرامي بما أصاب حالها من الاحتلالات والحروب والحصار وامام الجفاف الذي يبرز كأعظم مشكلة تواجهها والعراق اجمع، إلا أن ذلك لم يمنع كونها " بغداد الثورات " مع تساؤل " كيف لووا رقاباً في حد مأفون/ رقاب الأجيال سليل الطوفان " إلا أن الجواب يكمن في السؤال نفسه " كيف لووا؟ وهي "سلالة رؤيا / ودماء الشعب على الجدران / وسجون بني الشيطان " الا ان المآسي لن توقف " لكن بغداد واقفة من جرح فلول الأجداد / حافلة بالرواد / حافلة بالوعد الموعود / فهنا يأتي التحدي بالإنذار "انذركمْ ! / انذار بصير العقل / الحافة فيما كنتمْ / أو اصبحتم / لا حيلةْ / في الإنذار / فسليل الموروث من المبعوث الأمريكي / القادم معروف / وله شغف في التحقيق المكشوف / وله شرف إيراني في التدقيق / لكن والحق يقال ــــ لن تصبر بغداد / بعد الهرج المصنوع / في أروقة المال التمليق / الذل رسوم كارتونية " الكثير من الإجابات تبدو لأول وهلة على شكل تداعيات من أسئلة على شكل شحن الهمم " هل تنسين النسيان؟ / مشانق من غسلين / هل ننسى ما فعلوا؟ / ها همْ احفاد / افراد الحرس القومي، احفاد الجيش الشعبي، وفدائي الجيف ميليشيا الدعوات / هم جاءوا بالآيات / وسيوف من جمرات النار / يدعون الثمن الثأر/ يصرخ باغيهم يا للثأر / من شعب قمامة في المنحنيات " وتبقى بغداد الأساس لكن " ننذركمْ / لا نبصركمْ / هذا الفجر نراه / ذاك الفجر نشاهد مغزاه" فنزف بغداد يصاحبه مدن اخرى " لا يمكن أن تبقى بغداد تنزف دون وقوف / المدن الحاملة هم عراق التجديد / لن تبقى في خانات القتل الاستبداد / والبصرة تئن على حدباء التاريخ / والحدباء لها صوت أنين المطمورات" وماذا في نهاية المطاف هل سيكون الاستسلام الابدي

" الحقد المتوارث أصبح قانون / قانون يتمركز في الطبقات / لحسم خلاف بين الأقوام / كي تخرج من بغداد مشاعل من حكمة / وعراقٌ يصدح من رايات.." اما قصيدة مظفر النواب في رحلة الطواف يبدأ الشاعر بشطر عائد الى مظفر النواب " يسعود احنه عيب انهاب يا بيرغ الشرجية « ويعني التحدي والشجاعة والوقوف بوجه الطغاة " في الطواف الأخير

نطبع القبلاتْ / قبلة / في اللقاء القريب البعيد / كلما الشعْر جاء النشيد. / نذرفُ دمعةً

في الفراق الذي صار تاريخاً مرير/ عندما الحزن شاء أن يكون المديد /أن يكون الغطاء

فرسٌ في تخوم السماءْ" انها تذكرة للراحل في تشابك البعد الشعري ومواقف مظفر المعروفة حيث أن القصيدة قسمت الى أرقام في كل رقم تذكرة عن مواقف ليس لها إلا السير وعدم الوقوف حتى يصل الى الرقم الرابع " يا ربيب الأسود / ثم صوت الحقيقة

يا ربيع الوجود / ثم حب الخليقة / يا سليل الفهود / في الخطوط الدقيقة / فكرةٌ / عزمها يبتدئ / وكما يبتغي حرفها / في المثال.. / ظافرٌ / إن ترى فَخرها / في الحياة / فارسٌ يمتطي فرساً من شهاب / في عميق الهدوء الظلام / هالةٌ من ضياءٍ ينير الحتوف" ليس قصيدة النواب وحدها تتحدث عن تاريخ الصراع في العراق والمنطقة إنما نجد بغداد القدر الطويل في الذكرى والمواقف وفي الختام ان القصائد الأخرى (في رحلة الطواف وبغداد في عمق الجب و التألق في الوجود وقصائد اخرى من بينها ، إشارات النصوص المنفصلة والتي تتكون من 86 نص الذي يشير فيها مصطفى " هذا الفضاءُ/ نظلُّ نطْرقُهُ / حتى نرى / في الفَسْحة العَلَما / كيما يكون الطيرُ نُطْلِقُهُ / نحو النجومْ / لِيُطْلِقَ القَسَما".. وتختم المجموعة بقصيدة (خصلتان) « في مشهد الوضوح / كنت أراها في الصباح / بالقرب من حديقة الدار / قرب مخبزٍ صغير / تقضم قرصاً من شعير / تقول سكري المثير / يضرب في العروق كالسعير / كنت أراها في المساء / تفلي رأسها في مشهدٍ مثير / تنزع ثوبها الصغير / وترتدي دشداشة الكتان /في منظرٍ يثير

    ـــ 2 ـــ

كنت أراها منظرين / تفاحتين / كمثرتين / كنت أراها قدحاً من الشراب / من كرمتين / مختلفتين/ في الكأس كانت مسرحين

وعيني كانت كالبراق

تراها حباً وعناق

سمراء كالدقيق

حمراء كالعقيق

كنت أراها حبة الضياء

تشع مقلتين

" على الجبين اللجين"*

تقول حزناً وبعاد

"إن كنت تقصد قتلي"*

فأنا القتيلة مرتينْ

فكلما أراك قادم

أصاب من صبري عليك

وكلما اشتاق من بعاد

يا سالب العقد الثمين.

أقول ضوء قادم من ظلمة الوجه الحزين "

** المقاطع للشاعر اللبناني بشارة الخوري ( الاخطل الصغير )..

تبقى اجتهادات القارئ والنقاد من خلال الاطلاع والقراءة والتعمق لأن النصوص تحتاج الى الاجماع ولا يكفي ما نقدمه من رؤيا دقيقة والنفاذ لجوهر المواضيع التي تتخللها نوع من التراجيديا الشبيه بمسرحية لها فصول مرتبطة ببعضها على الرغم من عناوين النصوص المختلفة والمنفصلة ظاهرياً

***

نضال صبيح مبارك

5 / 6 / 2023

المترجم: بنيامين يوخنا دانيال (عن الإنكليزية)

عدد الصفحات: (203) صفحة من القطع المتوسط

المطبعة: بيشوا – أربيل – العراق 17 / 7 / 2023

***

المحتويات:

المقدمة

ليودميلا خريستوفا

مينكو تانيف

مايا كيسيوفا

جيرغانا يانينسا

ديانا تينيفا

رادكا ميندوفا

فانيا ستيفانوفا

ليليا راشيفا دينشيفا

ديميتار ستيفانوف

بيتار لوبوميروف تشوهوف

لودميلا بالابانوفا

إيفانكا يانكوفا

فيكتوريا مارينوفا

ستويانكا بويانوفا

رادوستينا دراجوستينوفا

أوميلا – تسفيتا داجاروفا

ناديجدا كوستادينوفا

رولاندا سفيتلانوف

فلاديسلاف خريستوف

نيللي دوبرينوفا

أنطونيتا بافلوفا

كريستينا تودوروفا

زورنيتزا هاريزانوف

جينشو جينشيف

ستانكا باروشيفا

ميلينا فيليفا

ستانكا بونيفا

سفيتلا باتشيفا

جينكا بيليارسكا

أنطوانيتا نيكولوفا

فيكتوريا كابدوليفا

ايكاترينا كونوفا

كانشو فيليكوف

مايا ليوبينوفا

فيسلافا ليوبوميروفا سافوفا

إيلينا ايفانوفا

كريستينا بانجاريديس

تزاتزكا إلييفا

إيليانا ديليفا

ادفين سوجريف

تسانكا شيشكوفا

ديميتار غورسوف

ستيفان جيتشيف

إيرينا ديميترووا

أتاناس راشكوف

بيبا أودياكوفا

تسفيتا أوميلا

هريستينا باندجاريدي

ماريكا كولسيفا

روزيتسا يانكيموفا

إلينا إليفا

ألكسندرا إيفويلوفا

أكسينيا ميخائيلوفا

فينيليانا بيتكوفا

المصادر المترجمة عنها

الملحق رقم (1) كتب هايكو بلغارية

الملحق رقم (2) جوائز فاز بها شعراء وشاعرات من بلغاريا

الملحق رقم (3) قصائد هايكو لشعراء بلغار

***

جاء في المقدمة:

تعود أولى الترجمات المنشورة لشعر الهايكو الياباني إلى اللغة البلغارية إلى عام 1922، وعلى يد (نيكولا دزيروف)، وعن الفرنسية والألمانية، ولنصوص تعود في معظمها إلى القرون (7 و8 و9)، وضمن كتيب متواضع متكون من (38) صفحة فقط، وتحت عنوان (الحصان الأزرق)، وكان الإصدار الأول في حقل الترجمة لهذا الشكل الشعري في بلغاريا. والمحاولة الثانية ل (نيكولا دزيروف) لترجمة ونشر الهايكو الياباني عن اللغة الفرنسية كانت في عام 1937 ومن خلال كتابه الموسوم (أغاني ياماتو: مختارات يابانية)، وحمل بين صفحاته إضمامات من قصائد الهايكو للشعراء ماتسو باشو ويوسا بوسون وكوباياشي إيسا وماساوكا شيكي وغيرهم. أما أول إصدار بالبلغارية لشعر الهايكو المترجم عن اللغة اليابانية الاصلية فقد شهد النور في عام 1985 وبعنوان (اكتمال القمر)، أنجزته (ليودميلا هولوديفيتش) و(جورجي فاسليف)، مع مقدمة مسهبة ل (كروم أتسيف). وكان (ديميتار ستيفانوف) (1932 – 2018) المعروف بـ (عميد الهايكو البلغاري) أول شاعر أصدر مجموعة شعرية مستقلة في عام 1988 وبعنوان (غابة الهندباء)، بالإضافة إلى أكثر من (20) كتابا من القصائد والسونيتات والمقالات و(10) كتب في أدب الأطفال وترجم نحو (50) كتابا في الشعر والنثر. ومن كتبه (الجواهر البريئة – هايكو 1996 وغير مرئية – هايبون 2005). وهو كاتب ومترجم ومحرر معروف. قام بتحرير أول اضمامة هايكو بلغارية بعنوان (بذور المطر) في عام 2001. وكان عضوا مؤسسا ورئيسا لنادي الهايكو البلغاري الذي شهد النور في عام 2000. علما صدرت للشاعر (لادفين شوجريف) مجموعة شعرية في عام 1990، وكانت قصائدها من ثلاثة أسطر ومستوحاة من الزن مع التمتع ببعض خصائص الهايكو.

و قد توالت بعد ذلك المحاولات لكتابة صيغة بلغارية للهايكو وعلى يد شعراء بلغار كثر، صدرت لهم مجموعات شعرية مستقلة ومشتركة، أو نشروا في المجلات والدوريات الوطنية والدولية، وترجمت قصائدهم للعديد من اللغات. ومنهم من شارك في مسابقات هايكو دولية وحصل على جوائز وتكريمات واشادات، مثل (رادكا ميندوفا، ليودميلا خريستوفا، زورنيتزا هاريزانوفا، ديانا تينيفا، جينشو جينشيف، جورنا أورياهوفيتسا، ستانكا باروشيفا، ليليا راشيف، نيللي دوبرينوفا، ميلينا فيليفا، مينكو تانيف، بيبا أودجاكوفا، ستانكا بونيفا، مايا كيسيوفا، إيفانكا يانكوفا، فانيا ستيفانوفا، ناديجدا كوستدينوفا، فيكتوريا مارينوفا، رولاندا سفيتلانوفا ستيفانوفا، ستويانكا بويانوفا، رادوستينا دراجوستينوفا، أوميلا – تسفيتا داجاروفا، أنطوانيتا بافلوفا، كريستينا تودوروفا، أنيا سودابيس، سفيتلا باتشيفا – كارابوفا، جينكا بيلبيليارسكا، أنطوانيتا نيكولوفا، فيكتوريا كابديلوفا، أيكاترينا كونوفا، كانشو فيليكوف). وبحسب الشاعرة البلغارية (جينكا بيليارسكا) بلغ عدد المجموعات الشعرية المنشورة بالبلغارية حتى عام 2005 (70) مجموعة شعرية ل (40) شاعرا مقابل عشر مجموعات شعرية لعشرة شعراء حتى عام 2000. كما صدرت مجموعات شعرية ثنائية اللغة (البلغارية – الإنكليزية) مثل (بقع الزرقة – مايا ليوبينوفا 2010) و(دبابيس الأمان – بيتار تشوهوف 2010) و(صباحا في أيار – مايا كيسيوفا 2014)، وثلاثية اللغة (البلغارية – الإنكليزية – الروسية) مثل (القوارب – ديليانا جيورجيفا ودارينا دينيفا وفيسيسلافا سافافو 2014) لتعريف أوسع وأشمل بالهايكو البلغاري. وهناك كتاب جامع وقيم صدر ل (بيتار تشوهوف) في عام 2012، وضم بين صفحاته (159) قصيدة هايكو ل (55) شاعرا ولدوا خلال الفترة (1932 – 1993)، وهي مختارات تمثل تاريخ الهايكو البلغاري الحديث وفقا للشاعر الشاب (فلاديسلاف خريستوف). أما الكتاب المهم الآخر فقد صدر باللغة الإنكليزية في عام 2022 وتحت عنوان (الانسان: مختارات من الهايكو البلغاري)، وقد حرره الشاعر والكاتب (ديميتار غريغوروف أناكييف) ويقع في (96) صفحة. ويضم بين صفحاته إضمامة كبيرة من قصائد الهايكو لكوكبة من الشعراء البلغار.

لقد أسست أول منظمة بلغارية معنية بالهايكو في 14 سيبتمبر 2000 وعلى يد (ديميتار ستيفانوف) والأمريكي (جيم كاسيان) تحت اسم (نادي الهايكو البلغاري). وقد استبدل اسمها في عام 2008 ليصبح (اتحاد الهايكو البلغاري). وهناك منظمة أخرى اسمها (نادي هايكو بلوفديف) أسست في عام 2003 وترأسها الشاعرة والمحررة (إيفانكا يانكوفا) العضوة في الرابطة العالمية للهايكو.     كما أسس (نادي هايكو صوفيا) في عام 2005، والذي يقيم المؤتمرات منذ عام 2007، ومنها: اللغة والوعي في الهايكو 2009 والصمت في الهايكو 2012 والهايكو، التصور الغربي للروحانية الشرقية 2019.

وقد أقيمت الكثير من المسابقات والمعارض وورش العمل للتعريف بالهايكو، وللوقوف على واقعه في بلغاريا، ولتشجيع التأليف في هذا الفن الشعري الذي استهوى ذائقة الشعراء والقراء في معظم أنحاء العالم، وصار مكتوبا بكل اللغات تقريبا. ومن أجل مجاراة حركة الهايكو في البلدان المجاورة والعالم. ومنها المسابقة السنوية للهايكو المقام من قبل نادي صوفيا للهايكو منذ عام 2008. وأنشأت أيضا مجلة (بي اج يو) للهايكو التي ترأست تحريرها الشاعرة والناقدة (صوفيا فيليبوفا) بالاشتراك مع الشاعرة والمترجمة (إليانا إليفا).

كما شارك العديد من الشعراء البلغار في مسابقات ومهرجانات وفعاليات هايكو عالمية، وحققوا فيها الكثير من النجاحات، ومنها مسابقة (كوكاي) الأوروبية السنوية. وأدرجت أسماء العديد منهم في قائمة ل (شعراء الهايكو ال 100 الأكثر ابداعا ونشاطا في أوروبا) المنظمة من قبل الشاعر البولندي (كرزيستوف كوكوت) المشرف على المسابقة المذكورة بالاشتراك مع (روبرت كانيا). وتضمنت القائمة المعلنة لعام 2021 أسماء الشعراء والشاعرات:

1 - ستويانكا بويانوفا

2 - رادوستينا دراجوستينوفا

3 - فلاديسلاف خريستوف

4 - ليودميلا خريستوفا

5 - ناديجدا كوستدينوفا

6 - تسانكا شيشكوفا

و أدناه قائمة بعدد مشاركات الشعراء الكروات في المسابقة المذكورة لبعض الدورات: -

14 مشاركة من أصل 170 من 40 دولة في الدورة 8

مشاركة من أصل 186 من 38 دولة في الدورة 12 12

12 مشاركة من أصل 220 من 45 دولة في الدورة 16

17 - مشاركة من أصل 238 من 43 دولة في الدورة 17

أما مسابقة الهايكو البولندية الدولية الأخيرة (12 / 2022) فقد بلغت عدد المشاركات البلغارية فيها (11) مشاركة من مجموع (318) مشاركة من (54) دولة. مقابل (20) مشاركة من مجموع (420) مشاركة من (59) دولة في مسابقة (11 / 2021)، وقد فازت بالجائزة الأولى فيها الشاعرة البلغارية (ناديجدا كوستدينوفا) عن قصيدتها التالية: -

تسود السكينة على جانب البحر

ثمة سلطعون رملي صغير

يحمل ضوء القمر

كما تم الإشادة بالشاعرة (ستويانكا بويانوفا) عن قصيدتها التالية:

أوراق الشجر الخريفية

تبعثر الرياح

أحبتي

و تم الإشادة أيضا بالشاعرة (ناديجدا كوستدينوفا) عن قصيدتها:

مساء خريفي

لم أزل أفتش عن بيتي

في أعين الناس

و تم الإشادة أيضا بالشاعرة (ليودميلا خريستوفا) عن قصيدتها:

شمس الشتاء

تسطع على البيانو

كالغبار الفضي

ضياء نافع: فهرس بالروسية لكتابي: سبعون مقالة عن تشيخوف

صدر كتابي الموسوم: (سبعون مقالة عن تشيخوف) في حزيران / يونيو 2023 عن دار نوّار للنشر، وهو الطبعة الثانية المزيدة لكتاب (احدى واربعون مقالة عن تشيخوف)، الذي صدر عام 2019، وكما هو الحال بالنسبة للكتب كافة، الصادرة عن دار نوّار للنشر، فان الغلاف الاخير (الايسر) يكون عادة باللغة الروسية، وهكذا كان الامر- طبعا - مع كتاب (سبعون مقالة عن تشيخوف)، الا ان الاضافة الجديدة في هذا الكتاب، هو ان الفهرس صدر ايضا بالروسية، وذلك باقتراح من الاصدقاء الروس حولنا، الذين غالبا ما كانوا يبدون اعجابهم بالغلاف الروسي، ولكنهم لا يستطيعون الاطلاع غلى مضامين تلك الكتب بنصها العربي، وهكذا قررنا (بالنسبة لكتابنا المذكور) اضافة الفهرس باللغة الروسية، كي يتسنى للقارئ الروسي – في الاقل – معرفة عناوين المقالات تلك، وذلك (أضعف الايمان!)، كما علّق احد الاصدقاء مبتسما، وقد اطلع بعض القراء الروس على (أضعف الايمان!) هذا فعلا، وطرحوا استفسارات واسئلة عديدة حول عناوين تلك المقالات ومضامينها، وهي استفسارات واسئلة طريفة حقا وتستحق التأمل في رأينا، ونود هنا ان نتوقف عند بعضها، اذ انها تعكس وجهات نظر روسيّة حول كيفية تناولنا للادب الروسي، وربما (ونؤكّد على كلمة ربما !) تؤدي هذه الاستفسارات والتعليقات حول هذا الموضوع المحدد جدا الى توسيع الحوار بصورة عامة بين ثقافتنا العربية وثقافتهم الروسية، وبالتالي، بين حضارتنا وحضارتهم عموما، هذا الحوار الذي يجري لحد الان بشكل عشوائي وعفوي وغير متكافئ بتاتا بين الجانبين العربي والروسي مع الاسف رغم مرور حوالي القرن منذ ان ابتدأ هذا الحوار، وكلنا، اي الروس والعرب، مذنبون في ذلك بلا شك، اذ اننا (واكرر - نحن وهم) لا نتفهّم واقعيا اهمية هذا الحوار وقيمته المادية والمعنوية، ولا ضرورته الحيوية لروسيا وللعالم العربي على حد سواء في الوقت الحاضر وفي المستقبل ايضا، ولا نتصوّر آفاق هذا الحوار بين روسيا العملاقة (الاورآسيوية) والعالم العربي الكبير (الاسيوافريقي) .

نتوقف قليلا عند مقالة أثارت الاستفسارات والتعليقات من قبل هؤلاء القراء الروس وهي بعنوان – (تشيخوف وخادمته المغفلة والوضع في العراق)، اذ قالوا وهم يضحكون، لم تكن لتشيخوف خادمة اصلا، لا مغفلة ولا ذكية، ولم يكتب قصة او مسرحية بهذا العنوان ابدا، فمن أين جاء هذا العنوان الغريب في كتاب عربي حول تشيخوف ؟، وكل هؤلاء القراء لم يفهموا طبعا، ما هي علاقة تشيخوف بالوضع في العراق، وأشاروا الى ان تشيخوف كان يتجنب المواقف السياسية حتى في وطنه روسيا، اضافة الى ان تشيخوف قد توفي عام 1904، اي قبل تأسيس الدولة العراقية اصلا، فكيف يقدر ان يؤثّر على الوضع في العراق هذا، وهو الذي عاش في روسيا وبرز مبدعا في نهاية القرن التاسع عشر؟ . اضطررت طبعا الى توضيح عنوان تلك المقالة، وقلت لهم، ان الترجمة العربية لاحدى قصص تشيخوف القصيرة جاءت بعنوانين، هما (المغفلة) و(الخادمة)، لان عنوانها الروسي كلمة عسيرة على الترجمة العربية، واوضحت لهم، ان القراء في العراق ربطوا مضمون تلك القصة حول مدبّرة شؤون المنزل، التي يسرقون حقوقها وهي صامتة ولا تحتج او تعترض، بالوضع السياسي في العراق، حيث يسرقون حقوق الشعب العراقي وهو ايضا صامت ولا يحتج، ومن هنا جاء عنوان هذه المقالة . وبعد مناقشات تفصيلية طريفة جدا مع هؤلاء القراء الروس، تفهّموا عنوان تلك المقالة ومضمونها، بل انهم اقترحوا ترجمتها الى الروسية، لأن مضمونها يضيف الى تشيخوف اهمية جديدة للقراء الروس، وتكمن هذه الاهمية - حسب رأيهم – في ان ابداع تشيخوف يمكن ان يكون رمزا يستخدمه القارئ الاجنبي في مجالات مبتكرة بكل معنى الكلمة ولا تخطر على بال القارئ الروسي بتاتا، وان ذلك يدخل في موضوعة (تشيخوف والادب العالمي)، وفي موضوعة (انتشار الادب الروسي ومكانته خارج روسيا) .

استمرت المناقشات التفصيلية مع هؤلاء القراء الروس حول عناوين مقالات اخرى في الكتاب المذكور، منها مثلا، المقالات التي ترتبط باسماء عراقية مثل بدري حسون فريد وعادل كاظم، وتعجبوا، كيف استطاعا ان يحوّلا قصتين لتشيخوف الى مسرحية ذات فصل واحد، واعتبروا عملهم هذا ابداع كبير يستحق الاشادة والتقدير والثناء، واشاروا، الى ان القارئ الروسي يجب ان يعرف هذه الوقائع المجهولة لمكانة تشيخوف في الادب العالمي، ولا مجال للتوقف عند مقالات اخرى حول تشيخوف أثارت اعجابهم، وقد اقترحوا عليّ – في ختام تلك المناقشات - ان اترجم هذا الكتاب الى اللغة الروسية، وان اطلق عليه تسمية (الموسوعة العراقية حول تشيخوف)، وقد فوجئت طبعا بهذا المقترح، وشكرتهم جزيل الشكر، وقلت لهم – لا تعليق لديّ على هذا الاقتراح الغريب ...  

***

أ.د. ضياء نافع

صدرت في بريطانيا، عن دار لندن للطباعة والنشرLondonbook ، مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ (هذا الألمُ الذي يضيءُ)؛ بـ 375 صفحة، في طبعة ثانية، جديدة ومزيدة - تموز/جولاي 2023.

ضمت المختارات 116 قصيدة من مجمل تجربته الشعرية الممتدة لأكثر 40 عاماً، من خلال اصداراته: انتظريني تحت نصب الحرية 1984 بغداد / أغنيات على جسر الكوفة 1986 بغداد / العصافير لا تحب الرصاص 1986 بغداد / سماء في خوذة 1988       بغداد / مرايا لشعرها الطويل 1992 بغداد / غيمة الصمغ 1993 بغداد / تحت سماء غريبة 1994 لندن / تكوينات 1996 بيروت / نشيد أوروك (قصيدة طويلة بـ 550 صفحة) 1996 بيروت / تأبط منفى 2001 السويد / و.. 2011 بيروت / نَرْد النَصِّ (نص طويل مفتوح بـ 1380 صفحة) 2022 بيروت وبغداد..

صمم الكتاب: الفنان رياض راضي، والغلاف: الفنان محمد الصفّار، مع لوحة الغلاف الأخير: بورتريه "فوانيس الشاعر" للفنان علاء جمعة.

هذا وجرى حفل توقيع له، ضمن كتب عديدة، في المهرجان الثالث لتوقيع الإصدارات الجديدة للدار، في مساء الجمعة 7/7/2023 في:

The Stowe Center, Harrow Road, London, UK

مقالات منوّعة ومراجعة نقدية للدراما العراقية والعربية لهذا العام

صدر في بغداد العدد الثاني من مجلة "سومر السينمائي" وهي مجلة إليكترونية شهرية تصدر عن مهرجان سومر السينمائي الدولي وتُعنى بشؤون السينما عراقيًا وعربيًا وعالميًا. يتضمّن العدد 18 مقالاً بضمنها 7 مقالات مُكرّسة لملف "الدراما التلفازية". كتب رئيس التحرير نزار شهيد الفدعم افتتاحية العدد التي جاءت تحت عنوان "في عالم اليوم تتلاشى الحدود بين الشاشتين السينمائية والتلقزيونية" ليمهد للملف الدرامي الذي كرّسته المجلة الوليدة التي تنطلق نحو المستقبل بخطوات رصينة محسوبة. كما سلّط المحرر السينمائي الضوء على "مهرجان أيام السينما العراقية الثاني". فيما خصّ الناقد السينمائي رضا الأعرجي المجلةَ بموضوع مهم وشائق جدًا أدرجهُ تحت عنوان "محاولة أوليّة للبحث عن ريادة عربية في السينما" أكد فيه أنّ السينما لم يخترعها شخص بعينه وإنما اشترك في اختراعها مئات من العلماء من بلدان متعددة. وتوقف عند الحسن بن الهيثم؛ مكتشف علم الضوء من دون منازع، ونوّه إلى المبدأين الأساسيين اللذين ركز عليهما ابن الهيثم وهما الحجرة المظلمة، ومبدأ بقاء الرؤية الذي يخلق وهم استمرار الحركة. كما قدّم مالك خوري"قراءة مغايرة لـ "جعفر العُمدة" ركّز فيها على "النخبوية الليبرالية، وقوة الأحلام المؤدلجة". أمّا المخرج السينمائي العراقي علي كامل الذي درس في معهد ڨگيك VGIK فقد كتب الحلقة الأولى من سيرة المخرج السوفيتي الأرميني سيرجي پاراجانوف التي جاءت تحت عنوان "حين لا يُقبَل نبيٌّ في وطنه" ركز فيها على مجموعة من أفلامه ذائعة الصيت من بينها "ظلال أجدادنا المنسيين"، و"لون الرمّان"، و"أسطورة قلعة سورام". فيما كتب الناقد والمخرج اليمني حميد عقبي عن "جسد المرأة في السينما الإيرانية" التي حُرِّم فيها أي تلامس جسدي بين الرجال والنساء مهما تكن الأسباب. تُشارك الروائية والناقدة السينمائية الجزائرية فضيلة بودريش، صاحبة "شواطئ الثلج" بمقال مكثف عنوانه "عن السينما الجزائرية نتحدث... من سماء الأوسكار إلى البحث عن أداء مُبهر" تطرقت فيه إلى أول فيلم جزائري حصل على الأوسكار وهو فيلم "زد"، كما تُنعش ذاكرتنا بمحمد الأخضر حمينه الذي خطف السعفة الذهبية عن فيلمه الموسوم بـ "وقائع سنوات الجمر" سنة 1975. تسّلط الناقدة السينمائية المصرية ناهد صلاح الضوء على فيلم "يوم 13" تأليف وإخراج وائل عبدالله وتركّز فيه على ملمحين: الأول تقنية البُعد الثالث 3D، والثاني تصنيفة كواحد من أفلام الرعب. بينما يُتحفنا القاص محمد خضير بمقال مركّز وعميق عن فيلم "بيردمان" أو "الرجل الطائر" للمخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليز إيناريتو التي اقتبسها عن رواية " عمَّ نتحدث حينما نتحدث عن الحُب" للكاتب الأمريكي ريموند كارفر  وهي تدور عن "أربعة أزواج معتوهين يشتركون في تمثيل مسرحية داخل الفيلم". تكتب الناقدة السينمائية اليمنية هدى جعفر عن "ثلاثة أطفال في قائمة شندلر" للمخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ الذي يروي قصة الصناعي الألماني أوسكار شلندر الذي أنقذ 1100 يهودي بولندي من الهولوكوست في أثناء الحرب العالمية الثانية. يحاور الناقد السينمائي الأردني ناجح حسن المخرجة دارين سلام، مُستغورًا تكوينها السينمائي، وأفلامها القصير السابقة بعد أن يتوقف عند فيلمها الروائي الأخير  "فرحة" الذي تصور فيه أحداثًا ووقائعَ مؤلمة عاشتها شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني إبان نكبة العام 1948م. فيما يقدّم الناقد السينمائي أحمد ثامر جهاد قراءة في فيلم "في انتظار البرابرة" للمخرج الكولومبي تشيرو جيرا ويركز على الشخصية الكولونيالية في عزلتها وتمردها.

يكتب المحرر السينمائي توطئة لملف الدراما  يكرّسه للحديث عن مسلسل نتفليكس الوثائقي "كليوباترا محاولة لتشويه التاريخ" حينما أظهر أشهر الملكات بملامح سيدة أفريقية سمراء بينما هي في واقع الحال مقدونية يونانية بيضاء البشرة، وأُتهِم القائمون على تنفيذ المسلسل بتشويه حقائق التاريخ المعروفة. أما الناقد خليل حنون فقد كتب عن "مسلسل كليوباترا... الترويج لفكرة وفرضها.. لا تقديم شخصية تاريخية" وركز على أخطاء المسلسل الكثيرة مثل ركاكة الكتابة، وضعف التصوير، وسوء تنفيذ الديكورات وحتى انتحار كليوباترا الذي توزّع بين لدغة الأفعى أو السم الذي تناولته إضافة إلى احتمال مقتلها على يد أوكتافيوس. ترفد د. عزة أحمد هيكل الملف بمقال رصين أسمتهُ "الدراما والعالم الجديد" تتبعت فيه نشوء الدراما المصرية منذ سبعينات القرن الماضي والدراما السورية التي بدأت تنافس شقيقتها المصرية في بداية الألفية الثالثة كما توقفت عند بعض المسلسلات المصرية لهذا العام مثل مسلسل "تحت الوصاية" للمخرج محمد شاكر الذي يناقش قانون الوصاية وولاية الأرملة على اليتامى القُصّر الذي "يحْرم المرأة التي حملت ووضعت وأرضعت وربّت وعلّمت من أن تكون وصية على صغارها بل ويعتبرها غير صالحة أو غير مؤهلة لهذه الوصاية". يدوِّن د. صالح الصحن عددًا من الملحوظات في مقال متوازن أسماه "قبل أن تكتب" ورصد فيه عددًا من المسلسلات الدرامية العراقية من بينها مسلسل "طوارئ" للمخرج أكرم كامل، و"الماروت" لمهدي طالب، و"غيد" لعلي فاضل، و"بغداد الجديدة" لمهنّد حيال. أمّا د. عواطف نعيم فقد كتبت مقالاً بعنوان "في حضور الدراما وغياب الهدف" ورصدت فيه "خان الذهب" للمخرج بهاء خداج، ومسلسلات أخرى توقفنا عندها سابقًا وتوصلت إلى نتيجة مفادها أنّ المخرج العربي السوري والأردني واللبناني يتصدر المشهد الدرامي العراقي بينما ضاعت الفرصة على الكاتب والمخرج العراقي. يرفد المخرج والناقد التلفزيوني رضا المحمداوي المجلةَ بمقال لاذع مفاده "على شاشة التلفزيون ميلودراما عراقية هجينة" يشخِّص فيها العديد من الأعمال الدرامية العراقية التي تبدو قاصرة وكأنها لم تبلغ الرشد وعمر النضوج ولايجد حرجًا في وصفها بالمشلولة ويتوقف عند بعض المسلسلات العراقية مثل "انتقام روح" للمخرج المصري إبراهيم فخر، و"المتمرد" للمخرج السوري يزن أبو حمدة وغيرهما من المسلسلات الهجينة التي تتميز بالنمطية الجامدة في رسم الشخصيات، والضعف في البناء، واستجداء مشاعر الجمهور. ويختم الكاتب المصري قدري الحجار العدد بمقال "نجوم رمضان" ويتوقف عند البعض منهم أمثال محمد رمضان، وهالة صدقي، ومنى زكي، ورانيا فريد شوقي وغيرهم الكثير.

تحتاج المجلة إلى بعض الأخبار الفنية المنوعة لكي تخفف من وطأة المقالات الطويلة جدًا التي يمكن اختصارها وتشذيب زوائدها. كما  تفتقر المجلة إلى "رسالتين أو ثلاث رسائل" من بعض العواصم العربية والعالمية لتغطية الأحداث والأنشطة السينمائية. ونتمنى على رئيس وهيأة التحرير الموقرة أن يضيفوا بابًا لقراءة الكتب والإصدارات السينمائية لكي تلبّي رغبات القرّاء المتخصصين والعاديين على حد سواء.

***

عدنان حسين أحمد

اريد ان اسجّل – قبل كل شئ - شكري وامتناني وتقديري لدار المدى الرائدة في بغداد، لأنها قامت باصدار آخر كتاب في سلسلة مؤلفات نيقولاي غوغول و الموسوم – (مختارات من مراسلات مع الاصدقاء) بترجمة المترجم العراقي الكبير د. تحسين رزاق عزيز عن الروسية، وارتباطا بهذا الاصدار المهم جدا - من وجهة نظري- اكتب هذه السطور عن الكتاب المذكور واهميته الاستثنائية الكبرى بالنسبة لابداع غوغول اولا، وبالنسبة لتاريخ الادب الروسي في القرن التاسع عشر بشكل عام، ثانيا.

اصدار هذا الكتاب في بغداد بالعربية يعني، ان مرحلة جديدة بكل معنى الكلمة ستبدأ لدى القراء العرب (ونؤكد على القراء العرب بشكل عام وليس العراقيين فقط) باستيعاب و توضيح واحدة من القضايا (العالقة!) منذ اكثر من قرن ونصف في تاريخ الادب الروسي ومسيرته، عالقة في أذهان البعض من القراء العرب وافكارهم التبسيطية والساذجة حول (تقدميّة !) غوغول في بداية مسيرته الابداعية، ثم حول (رجعيته!) في نهاية تلك المسيرة. توضيح هذه القضية الفكرية الكبيرة بشكل موضوعي وصحيح، استنادا للوقائع والوثائق، وليس لاي شئ آخر، وهذه خطوة تعني تغييرا نوعيا في النظرة العامة الى الادب الروسي وموقع ومكانة غوغول واهميته الكبرى في هذا الادب خصوصا. والمرحلة التي نتحدث عنها هنا يمكن ان نطلق عليها مجازا تسمية - مرحلة اطلاق الاحكام الصارمة والحاسمة والنهائية دون الاطلاع بتاتا على اوليّات الامور، وانما نتيجة لما قاله فلان او رأيّ الجهة الفلانية حول الموضوع المحدد ليس الا، وكم عانينا من ذلك المفهوم التبسيطي الساذج و(الخطير  جدا بالطبع!) في كل مجالات الحياة (نعم، في مجالات الحياة كافة)، عندما كان الجميع مضطريّن ان يستمعوا صامتين الى تلك الاحكام النهائية ويوافقوا عليها (بالاجماع!!!) دون ان يمتلكوا الحق بمعارضتها، او مناقشتها او حتى الطلب بالاطلاع عليها ولو بشكل بسيط !!! وقضية الكاتب باسترناك وروايته الشهيرة (دكتور زيفاغو) ليست ببعيدة، واظن، انه لا يمكن ان ننسى قصيدة الشاعر العراقي  المشهور فلان الفلاني، الذي قال فيها (...فليخلقوا ألف زيفاغو...) دون ان يقرأ او يطلع على تلك الرواية اصلا !!!

أصدر غوغول هذا الكتاب (وهو آخر كتبه) عام 1847، اي قبل اكثر من قرن ونصف، وقد أثار الكتاب آنذاك ردود فعل كبيرة ومتباينة لدى القراء في روسيا، اذ انه لم يكن متوقعا بتاتا من مؤلف (امسيات عند قرية ديكانكا) و(الانف) و(المعطف) و (المفتش) و (الارواح الميتة)...الخ تلك الروائع الادبية، لم يكن متوقعا ان يصدر غوغول مثل هذا الكتاب، الذي يعكس افكاره في شؤون فكرية عديدة، ولهذا جاءت الآراء متنوعة جدا حول الكتاب، اذ قال البعض انه قمّة جديدة في ابداع غوغول الواقعي والغرائبي في آن، وانتقد البعض الآخر هذا الكتاب، وأشهر هؤلاء طبعا كان بيلينسكي، الذي كتب رسالته الشهيرة الصارمة والحادة ضد الكتاب، اذ ان  كتاب غوغول من وجهة نظر هذا الناقد، الذي كان يؤكّد على الجانب الاجتماعي للادب والفن قبل كل شئ وبعد كل شئ، ونتيجة لهذه الرسالة تبلورت المواقف تجاه الكتاب في الاوساط السوفيتية لاحقا، وانعكست طبعا على موقف هؤلاء القراء العرب ايضا، والحديث التفصيلي عن كل ذلك، حديث ذو شجون كما يقولون.

وعلى الرغم من ان معظم مؤلفات غوغول الاساسية قد تم ترجمتها الى العربية عن الروسية او عن لغات اخرى وسيطة، الا ان كتاب (مختارات من مراسلات مع الاصدقاء) لم يترجم الى العربية طوال هذه الفترة الطويلة من السنوات، وليس ذلك من باب الصدفة ابدا، اذ ان ترجمة هذا الكتاب كان يعني (خرق !) الحظر المفروض على هذا الكتاب المهم في تاريخ ابداع غوغول، هذا الحظر الذي لمسناه بشكل واضح حتى اثناء سنوات دراستنا في الجامعات السوفيتية بستينيات القرن الماضي.

الآن، سيطّلع القارئ العربي على هذا الكتاب بترجمته الدقيقة والامينة، التي يتميّز بها المترجم الكبير د. تحسين رزاق عزيز، وسيجد فيه، انه كتاب فكري عميق وطريف، ويحمل كل سمات غوغول المفكّر وتأملاته حول مواضيع متنوعة جدا .

ختاما اريد ان احيي المترجم الشجاع د. تحسين رزاق عزيز على عمله الترجمي الرائد في مسيرة الادب الروسي بالعالم العربي، اذ انه هو الذي اختار هذا الكتاب وقرر ترجمته، وبذلك العمل، فقد أضاف الى منجزاته الترجمية انجازا نوعيا جديدا ورائعا، واريد ان اقول له، ان غوغول سيكون ممتنا له، لانه ترجم اخيرا هذا الكتاب (شبه المنبوذ !) للقراء العرب رغم انهم لم يطلعوا عليه، واريد ان اقول له، ان امتنان غوغول يكمن بالذات، في كونه  يستطيع الان ان يعلن لهؤلاء الذين كانوا يثرثرون عن (رجعيته وتقدميته!) وهو مبتسما – اطلعوا ايها السادة على الكتاب قبل ان تصدروا احكامكم بشأنه، ويستطيع غوغول الان ايضا ان يقول لهم ببساطة – كش ملك !

***

أ.د. ضياء نافع

جولة في كتاب "معجم المفردات المندائية في العامية العراقية" لقيس مغشغش السعدي

هذا هو عنوان كتاب الباحث قيس مغشغش السعدي. وهو كما يقول عنوانه مخصص للمفردات العامية العراقية التي يعتقد المؤلف بأنها ذات أصل مندائي. لنبدأ بتعريف اللغة المندائية فهي أحد فروع اللغة الآرامية وتسمى أحيانا الآرامية الشرقية وتعتبر من أصفى اللهجات أو اللغات الآرامية التي تستعمل في الطقوس الدينية الصابئية ولها لهجات محلية غير صافية تسمى "الرطنة" في جنوب العراق ومنطقة الأهواز.

لن أقدم في هذه المقالة قراءةً نقدية مفصلة لهذا الكتاب هنا، بل سأكتفي بالقول إنه ينطوي على جهد كبير مبذول، ودقة ووضوح نسبيين في التصنيف المعجمي، ولكنه يشكو من العديد من الهنات النظرية وخصوصا في فصول الكتاب الخاصة بالتنظير والتأصيل اللغوي، وفي ما يمكن أن نسميه نوعاً من القسر التأثيلي "الإتمولوجي" حين يعتبر المؤلف العديد من الكلمات في اللهجة العراقية ذات أصول مندائية وهي بعيدة عنها لفظا ومعنى مثل كلمة (إمجرش) ويقول إنها شرش المندائية، أو هي كلمات عربية أو ذات جذور جزيرية "سامية" وجدت في أكثر من لغة كالأكدية بلهجتيها البابلية والآشورية وغيرهما وهذا النوع هو الغالب على كلمات المعجم الذي يقدمه السعدي. ومن الكلمات الأكدية التي مرت بنا في كتاب طه باقر، وكررها السعدي اعتبرها مندائية نذكر : خمط/ خشالة/ دجلة/ خَلال/ أكو / ماكو...إلخ. والأكدية هي الأقدم والأصل للعديد من اللغات واللهجات.

كما إن كون المندائية فرعا من الآرامية والتشابه بل والتطابق بين هاتين اللغتين يجعل من العسير علينا البتُّ في ما إذا كانت هذه المفردة أو تلك في اللهجة العراقية هي ذات أصل مندائي أو آرامي.

وهناك كلمات غير موجودة أصلا أو إنها كانت موجودة وانقرضت أو إنها غير شائعة في اللهجة العراقية من قبيل؛ جغم (يلهي)/ جغلول (عفريت)/ جغنف (متعال)/ كتينة (قضية)/ خنچة (أصم، أبكم )/ نحش (همس) سدام (قفل)/ باتول (قِدر صغير).. وغيرها.

ومن الأمثلة على ما سميناه القسر التأثيلي نذكر الأمثلة التالية البادئة بحرف الألف وهناك الكثير غيرها في الحروف الأخرى:

* إبلا التي يقول إنها تعني في المندائية "بدون"، ويمكن في الحقيقة اعتبارها عربية مُلَهَّجَة مكونة من لا النافية مسبوقة بحرف الجر الباء "بلا" ملفوظة بلهجة العراقيين التي تسكن الحرف الأول أحيانا فتجعل الكلمة قريبة من المهموزة "إبْلا"!

* يعبي = ويعتبرها مندائية تعني يملأ ويربط بينها وبين (العباءة التي يتعبأ بها الشخص)، وهذه المفردة هي فعل عربي معروف لفظا ومعنى هو "يعبئ" وربما وجد في لغات جزيرية أخرى، ويلفظها العراقيون بلا همز فالعرب عموما لا يستسيغون الهمز في كلامهم.

* إركن ويقول إنها مندائية (ركن) وتعني افسح الطريق وتعني تنحى جانبا. وهي عربية فصحى لفظا ومعنى وجذرها ركن وتعني في العربية والعراقية استقر واستند ومنه قوله "اركن سيارتك هناك" والركن أحد جوانب الشيء يستند إليه. ويقال عنها في المعاجم الفصحى: رَكُنَ الوَلَدُ: رَزُنَ، وَقُرَ، رَكَنَ، أَيْ كانَ رَزيناً وَقوراً، مالَ، سَكَنَ، اِطْمَأَنَّ إِلَيْه.

* أكو ويقول إنها (أكا) المندائية وقد مر بنا أن طه باقر وغيره يعتبرونها أكدية لفظا ومعنى.

* أبوي، وتعني أبي. والكلمة عربية من أب وياء النسبة وهي موجودة في العديد من اللهجات العربية كالفلسطينية والخليجية بلفظة (أبوي) فيما يعني في المندائية كما يقول المؤلف "أبوه" مع ضمير المفرد الغائب.

* إمجرش ويقول إنها شرش المندائية وتعني "يتجذر" والصحيح انها مشتقة كاسم مفعول ذات جذر عربي هو " ج رش "/ ومنه الجريش: طحن الحب طحنا خشنا، ودقَّه دقًّا غير ناعم، طحنه ولم يُنعم طحنه". والمؤلف نفسه يضرب مثالا لاستعمالها في العراقية فيقول " جرَّش الماء أي تحول إلى ثلج غير كامل الانجماد / الدبس مجرش".

* إتفصص ويقول إنها في المندائية (فسستا) بمعنى هدم وتخريب، في حين إنها عربية الجذر وتعني "فصصه أي جعله فصوصاً (جمع فصّ) كما في قولهم " فصصتُ الرمانة". ونقرأ عنها في معجم المعاني " ف ص ص: فَصُّ الخاتم بالفتح والعامة تقوله بالكسر وجمعه فُصُوصٌ وفَصُّ الأمر أيضا مفصله".

* إحذاي ويقول إنها في المندائية (اهدي) وتعني بجانبي وبالقرب مني. وهذه مفردة عربية فصحى هي حذاء (بجانب) مضاف إلى ياء المتكلم. وهناك أمثلة أخرى كثيرة كهذه.

ولكن هذه التحفظات لا تبخس الكتاب قيمته وفائدته ولا تعني عدم وجود كلمات في اللهجة العراقية العربية ذات جذور مندائية، وربما كانت ذات جذور جزيرية سامية وردت في أكثر من لغة؛ ومن هذا القبيل اخترت لهم هذه القائمة لما فيها من الجِدة والطرافة. سأضع المفردة كما تلفظ في اللهجة العراقية أولا، ثم علامة مساواة وبعدها اللفظ في المندائية بين قوسين فمعناها في المندائية أو اللهجة العراقية ثم استدراكاتي إن وجدت بعد نجمة صغيرة:

إتمسلت = (مسليوتا) فساد وفسوق.

إمتكس = (طاكسا) مرتب ومنظم.

إمدنفش = (نفش) ممتلئ سمين / وهي عربية فصحى أيضا. نقرأ في معجم المعاني: نَفَّشْتُ، أُنَفِّشُ، نَفِّشْ، مصدر تَنْفِيشٌ. :-نَفَّشَ الصُّوفَ :- : شَقَّهُ، فَرَّقَهُ، نَفَشَهُ.

إتنه و تانيني = (إتنا) انتظر، انتظرني. وهناك طرفة فاحشة جدا حول هذا الفعل حين يضاف الى كاف المخاطب لا يمكنني إيرادها ويمكنكم استنباطها!

إمطنب = (طنبا)حزن كدر.

أفيش = (فشش) استرخى واستراح.

إمعكمش = (كمش) يتجعد مجعد.

إمسودن = (شدن/ بالشين) يجن. مجنون.

أبو الهلس = (هلصا) المؤخرة شيء مدور وربما يقصد مكوَّر! ولا علاقة لها بنتف الريش كما يعتقد ولكني أتحفظ على تخريجته هذه لوجود كلمات أخرى يمكن أن تحل محل عبارة "المؤخرة الكبيرة المدورة"!

إمزهلل = (زهل) ينظف يلمع يطهر. واعتقد أن الأدق إيرادها في صيغة المفعول " مُنظَف مُلَمع مُطهَّر.

إمبربع = (فرفا/ بريا) يفرح يبتهج.

جطل = (كطل) يقتل يطرح أرضا.

جَعَصَ = (شمص) ضغط / كبس / ضايق3332 قيس مغشغش

الجزء الثاني: أبدأ هذا الجزء من هذه المقالة بهذه الملاحظة: أعتقد أنني في بداية قراءتي للصفحات الأولى من هذا الكتاب تفاءلت به أكثر مما ينبغي، ولكنني، ومع تقدمي واستغراقي في القراءة والاطلاع على المزيد من الصفحات والمفردات، وجدت أنني كنت على خطأ في تفاؤلي ذاك؛ فالكلمات في اللهجة العراقية ذات الأصل المندائي الأكيد لا تشكل إلا نسبة قد تقل عن نصف ما ورد فيه من كلمات. المأمول إذن أن يستدرك المؤلف على كتابه في طبعة لاحقة ويتجنب هذه الهفوات والثغرات ويتمسك بالأسلوب المنهجي العلمي، ويزيد من اطلاعه على المعاجم العربية الفصيحة للتأكد من وجود هذه الكلمة أو تلك في اللهجة العراقية وفي العربية الفصحى أو في اللغات الجزيرية الأخرى قبل أن يدرجها في معجمه. إنَّ هذا النوع من الكلمات العربية الفصيحة يمثل الكثرة الكاثرة من كلمات اللهجة العراقية إلى جانب ما يسميه العلامة طه باقر الرواسب من اللغات العراقية القديمة المنقرضة، بل أن هناك كلمات عربية فصحى منقرضة أو نادرة الاستعمال ولكنها ماتزال حية في اللهجة العراقية وقد ضربت عليها أمثلة عديدة في كتابي "الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام"، ومنها مثلا: برطيل، مدردحة، أريحي، نازك، دحس، برطم، ملخ، دفر، أثرم، أجلح، ثخين، ثول، ثرب، خبن، دحس، أهدل وختل....إلخ، فهي كلماته الأليفة في لهجته العراقية المعاصرة، وفي الوقت ذاته مفردات مؤثلة الجذور والمشتقات في المعاجم العربية القديمة على الرغم من عدم وجودها أو ندرة استعمالها في اللغة العربية الوسيطة "الفصيحة" المعاصرة، وقد ذكرت توثيقاتها في كتابي.

چا = ( شاا) يعني بالمندائية، يقول / يتكلم/ يتحدث.

* ولا أرجح هذا التخريج لأن المعنى بعيد عن معناها وفي لفظها في العراقية فهي تعني "إذن"، وحرف الشين لا ينقلب إلى جيم مثلثة "چ" بل هو حرف الكاف الذي يلفظ بها في ما يسمى كشكشة ربيعة وهي لهجة عربية قديمة وربما يصح التخريج الذي يقول أن أصلها "كا" الأكدية بمعنى "إذن" إن تم التثبت من ذلك.

چالي = (كالي) ضفة النهر.

چبشة = (كبش) يكبس يضغط يرص. علما أن هناك فعل عربي هو "كَبَشَ" قد يكون ذا علاقة بهذه المفردة ويعني (كَبَشَ الشَّيْءَ: تَنَاوَلَهُ بِجُمْعِ يَدِهِ/ معجم المعاني)، أو أنها كبس وحدث فيها إبدال بين السين والشين وهو عادة ما يحدث في اللغات الجزيرية "السامية".

چوبي = (شُبا) وتعني رقم سبعة. وهي بالعامية العراقية رقصة شعبية تكثر في مناطق العراق الغربية.

* وهذا تخريج ضعيف لأن عدد الراقصين ليس سبعة دائما. وهناك تخريج لهذه الكلمة قال به الراحل مصطفى جواد وهي مأخوذة من "الجوبة"/ ولا أدري إنْ كانت بالجيم المثلثة أو المُعَجَّمة بنقطة. أي فسحة الدار التي تجرى فيها الرقصة وفعلا فهي تسمى في بعض مناطق العراق الغربية الجوابة.

چراز = (كرز) هراوة /عصا.

چقل = (شقل) ينقل يحول وتعني الأحول، العيون الحولاء.

چمة = (كيما) وهي الكمأ في اللغة العربية وتلفظ بكشكشة ربيعة "جيم مثلثة"، ولا مدعاة لجعلها مندائية و قد تكون ذات أصل جزيري أكدي أو غيره فوجدت في العربية والمندائية وغيرهما.

دنغوس = (دكوشا) وتعني في المندائية الثاقب، النافذ، الحاد وهذه المعاني بعيدة عن المعنى العراقي حيث تعني (اللئيم/ الحقود) وتلفظ بالزاي "دنغوز".

دهدر = (دها + درا) دحرج، دفع.

يسوي = (شوا) يعمل.

* وهذا الفعل عربي فصيح وهو يسوي وسَوَّاهُ، نقرأ في المعجم: سواه أي قوّمه وعدّله، جعله سوِيًّا لا عِوَج فيه.

يشور = (شرا) يسحق يدمر.

يطر = (طرا) يدفع يصيب يفلق في المندائية.

* والفعل موجود في العربية بمعنى قريب على المعنى العراقي فهو معجم المعاني: طَرَّ الثَّوْبَ: شَقَّهُ وطَرَّهُ بِالسَّيْفِ: قَطَعَهُ.

يفسفس = (فسس) يبدد يتلف يدمر. لم أسمع بها بهذا المعنى في اللهجة العراقية الجنوبية.

يكرخ = (كرخ) يطوي ينكص / يطوي / يعود.

يگزل = (گزل) يعرج.

* وهذه الكلمة عربية فصحى تلفظ في اللهجة العراقية بقاف حميرية أي جيم قاهرية ويقول عنها معجم المعاني: قَزِلَ قَزِلَ َ قَزَلاً: عَرِجَ أَسوأَ العَرَج. وقَزِلَ دَقت ساقه لذَهاب لحمها. فهو أَقْزَلُ، وهي قزلاءُ. والجمع: قزْلٌ.

ومثلها يگلگ وهي في العربية والمندائية "يقلق" وتعني في المندائية كما يقول المؤلف تعني حول وزغللة في العينين.

يكنح = (كنح) يتباهي والقعقعة.

يهوبي = (هبا) يجبئ/ يخفي / يكتم.

يوز = (وزا) يثير/ يهر/ يحرك.

چنگال = (شن + كلل) يعرفه بأنه شيء يشبه سنارة الصيد. اعتقد أنه يقصد الخطاف المستعمل لتعليق الأشياء.

چيلة = (شولا) وتعني حفنة، كمية قبضة...

* وهذا تخريج ضعيف من شولا المندائية، وربما هي الكلمة العربية "كيلة وتقال في العامية بكشكشة ربيعة "جيم ثلاثية" بمعنى الطلقة أو الرصاصة وربما تكون لها علاقة بكمية أو كيلة البارود التي توضع في البنادق القديمة "كيلة البارود" ثم صارت تعني وحدة وزنية.

دايح = (دها) يدفع يطرد يخرج..

* وهذا معنى بعيد عن المراد بالدايح أي المتشرد والمتسكع في الطرقات وربما كانت لها علاقة بالفعل العربي "انداح الشيء: انبسط، امتد".

دردغ = (درغا) وتعني يمشي الهوينا خطوة فخطوة.

دغ = (دغا) وخز وحرك.

دغار = (دغر) كوم / كدس.

* أعتقد أنها وحدة وزنية في اللهجة العراقية وتلفظ بالتاء أو الطاء تغار/ طغار

دغش = (دغشا) خديعة/ طعن بالسكين.

هِبري = (هبر) الظلام/ العتمة/ الكدر/ ويعترف المؤلف أن معناها في العامية العراقية بعيد لأنها تعني فيها الفقر والعوز هنا.

هجَّ = (هكا) ويقول إنها مندائية تعني غادر وتحول.

* ولكنها عربية فصحى وبمعنها العراقي بالضبط. نقرأ في معجم المعاني (هجّ الشّخص = فرَّ إلى مكان بعيد من ظُلمٍ ونحوه كأنّه اشتعلت ناره: هَجّ من بلاده).

هرفي = (هرف) جاء مبكرا.

* وردت في كتاب طه باقر "من تراثنا اللغوي القديم" كمفردة أكدية وهي عربية فصحى أيضا نقرأ في المعجم الوسيط (هرفَّت النَّخْلةُ: عجَّلت ثمرها. وهَرَّفَ القومُ إلى الصَّلاة: عَجَّلوا. والهَرْف: ما يُعجَّل من الثَّمر وغيره.

هطار = (هطرا) العصا الغليظة.

هلهولة = (هيلولا) العرس / وهي تعني الزغرودة وليس العرس تماما وهذا ما سجله المؤلف فقال وقد ينسحب معنى العرس على الزغرودة.

زعطوط = (زوطا) صغير / وردت في كتاب طه باقر سالف الذكر كمفردة أكدية وآرامية تلفظ "سطوطا".

زفر = (زفر) نتن / زنخ.

زنجار = (زنگارا) صدأ.

زهر = (زهيرا) سم /

* ويستعمل في جنوب العراق لصيد الاسماك من عجينة خاصة تحتوي على مواد طبيعية سامة ومخدرة.

لهط = (لهط) ركض

مچاري = (شرا) الشخص الذي ينقل البضائع على الحيوانات.

* والكلمة عربية فصحى ووردت كثيرا في نصوص التراث القديمة بمعنها العراقي ولكنها تلفظ بكشكشة ربيعة "جيم مثلثة" ويقول المعجم (كارى يكاري كراءاً ومكاراة، وهو مكاري وهو الذي يستأجر لنقل المتاع ونحوه على الدواب أو غيرها من وسائل النقل، والجمع مكارون).

* نكتفي بهذا القدر من المتابعة شاكرين المؤلف على محاولته هذه، والتي كان يمكن أن تكون أكثر رصانة منهجية وفائدة معجمية لو أنها خلت من التعسف التأثيلي وابتعدت عن محاولات تكثير الكلمات العراقية ذات الأصل المندائي في اللهجة العراقية بأي طريقة كانت ومهما كان الثمن.

***

علاء اللامي

......................

* رابط لتحميل نسخة رقمية بي دي أف من كتاب "معجم المفردات المندائية في العامية العراقية":

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D8%B9%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%B1%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-pdf-1669120348

عن منشورات مؤسسة دار الجنان للطباعة والنشر والتوزيع بعمّان في المملكة الأردنية، صدر كتاب جديد للباحث الأكاديمي الجزائري الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة ؛ الأستاذ بكلية الآداب واللُّغات بجامعة عنابة، خلال هذه السنة: 2023م، بعنوان: « تحليل السرد الأدبي في ضوء المناهج النقدية المُعاصرة»، وقد ضم الكتاب مجموعة من المباحث والدراسات، التي تتصل بتحليل الخطاب السردي، حيث حلّل في مبحث مستقل قصة عروس الجبال للأديب رابح خدوسي، وهي قصة مُوّجهة إلى الأطفال، وقد خرج من خلال تحليله بجملة من الملاحظات، من بينها:

- ما يلفت النّظر في قصّة «عروس الجبال» هوّ ذلك التّضاد الماثل في الشّخصية المحوريّة الرئيسة (أهمامة) ومع من يتمّ معه العرس الشّيخ (بوراك)؛ إذ مثّلت الشّخصيّة الأولى دلالات الوقار، والجمال، والهدوء، واقتربت من المثاليّة، في حين شكّلت الشّخصية الثّانية صورة الكبر، والسّخرية، والجشع؛ وهنا تظهر المفارقة في اجتماع الضدين.

- تميّز الأديب رابح خدوسي برُقي وصفه، ودقته التي وصلت إلى درجة فنّية عاليّة، وبدت لغة المؤلّف الفصحى سهلة، وبسيطة، وابتعدت عن الغرابة، والتعقيد.

- لقد بدت شخصيّة (أهمامة) في قصّة «عروس الجبال» القيّمة المهيمنة الأساسيّة، والعنصر الرّئيس من خلال سيّاق البنية السّيميائية المنبعثة من مواقع تطوّر أحداث القصّة، وبحثا عن المغزى الدّلالي لهذه الشّخصية؛ نجدها شخصيّة باعثة للجمال في النّص السّردي، من خلال تجلّياتها الطّافحة في فضاء النّص، وتماهيها مع الطبيعة السّاحرة.

- وظّف المؤلّف في قصّة «عروس الجبال» مجموعة من تقنيّات السّرد، ومن أبرزها: الاستباق، والاسترجاع، والمشهد، والإجمال، والحذف، كما عمد إلى خلق حالة من التّنويع بين الوصف والسّرد والحوار، ويبدو أن غرضه من هذا الأمر إثراء طرائق الحكي، وجذب انتباه الطّفل القارئ إلى العمل القصصي، وقد كشفت الدّراسة في قراءتها السّيميائية عن تداخل خطابات عدّة في هذا النّص السّردي من أبرزها: الاجتماعي، والنّفسي، والخلقي، والديني، وغيرها....

- يقوم فنّ السّرد في قصّة «عرُوس الجبال» على تضمين حكاية داخل حكاية أخرى، بوساطة قنوات نقل الخبر، أو الاسترجاع، الذي يُراد به إيقاف عمليّة القص، والرّجوع إلى الوراء لاستحضار أحداث مُنصرمة وقعت في الماضي، تفصلنا عنها مسافات قد تقصر، أو تطول، وقد استلهم الكاتب في بعض محطات القصّة أسلوب السّرد العربي القديم باستدعائه أساليب القدماء في الحكي.

- نوّع الأديب رابح خدوسي في الأشكال الأساسيّة للحركة السرديّة، وهذا ما يندرج في إطار ما يُعرف باسم: (الديمومة)، والتي تعني دراسة الصّلة القائمة بين الحيّز الذي تستغرقه الأحداث في الحكاية - أي في زمن الخبر - والحيّز الذي تمتد عليه في النّص - أي في زمن الخطاب - .

- إنّ القارئ لقصّة: (عروس الجبال)، سيكتشف جملة من الأجواء التي تُبرز واقع القرية الجزائريّة البسيطة، ومن خلال أحداث القصّة ووقائعها، نلمس خضوعها لثنائيّات عديدة، وقد مكّنت تلك الثّنائيات - التي قمنا بذكرها في صلب البحث - الأديب رابح خدوسي من رصد ما يدور من عوالم في فضاء القرية الجزائريّة التي تدور فيها أحداث القصّة، ونقصد بذلك الحيز المكاني، فليس لأحد أن يشكّ في أنّ القصّة لا يُكتب لها النّجاح، إلاّ إذا أحسن الكاتب انتقاء الحيز المكاني، وهو القرية في قصّة (عروس الجبال)، التي تجري على ركحها الأحداث، والوقائع، والتّحولات، وتتحرك في فضاءاتها الشّخصيات المتباينة، ومن ثمّ فالمكان يقتضي، ويفرض علينا ضرورة أخذه بعين الاعتبار، فهو يؤثّر، ويتأثّر، ويتفاعل مع شخصيّات القصة، وأفكارها، كما يُحدث احتكاكاً، وتفاعلاً مع الكاتب نفسه.

وتوقف الأستاذ الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة في مبحث مستقل مع توظيف النقد الثقافي في تحليل الخطاب الروائي، ومن بين ما ورد في استهلال الكتاب: « إن هذا الكتاب، يهدف بصفة عامة إلى تقديم تصورات معرفية منطقية وواضحة لبعض جوانب السرد الأدبي من خلال تحليل الخطاب السردي الروائي والقصصي، وهناك تعريفات كثيرة قدمتها في هذا الكتاب حاولت الجمع فيها بين التراث والمعاصرة، من إجل إبراز رؤى وتصورات معرفية تُمكن القارئ من استجلاء بعض المعطيات والحقائق العلمية التي يثيرها هذا النشاط المعرفي، والتخصص العلمي الحديث، ولتحقيق هذه الأهداف، فقد قسمت الكتاب إلى ثلاثة مباحث هذا، وأملي أن أكون قد وفقت في لفت الانتباه، والتحسيس بأهمية هذا الموضوع المتصل بقضايا معرفية، ومنهجية تتصل بتحليل السرد الأدبي، وآمل أنني قد نجحت في جعل القارئ مدركاً للإطار العام لقضايا السرد الأدبي، والله ولي التوفيق».

***

صدر حديثًا عن مؤسسة "إي -ك ُتُب" كتاب جديد بعنوان: "وَعْيُ الحقيقة" للأستاذ الدكتور أكرم جلال كريم.

يقع الكتاب فى 378 صفحة من القطع الوسط. وممّا جاءَ في مقدّمة الكتاب:

إنَّ "الحقيقةَ" مَفهومٌ قد استحوَذَ على اهتمامِ المفكّرينَ والباحثينَ على مرّ السنين، فَكانَ ولا زال مَوضعَ عِنَايَة العُلماء العاملين، من حُكماء وَعُرفاء ومُتَكلّمين، حيثُ دَأَبَ على شَرحِ مَضامينه وَفَكِّ رموزِهِ الكثير من المُحققينَ والمُفسّرين والفلاسفة والمُفكّرين، منذ سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، إلى ديكارت، وكانط، والفارابي، وابن رشد، وابن سينا، وصدر المتألهين، والسيد الطباطبائي، والشيخ المُطهري، والشهيد الصدر، وآخرين.

" .. وَرُغمَ أنَّ الكثيرينَ يَرَون "الحقيقةَ" على أنَّها مفهوم شائك ومُعقَّد، إلا أنَّها دون شكّ مَوضع قبول الإدراكات العقليّة، وعناية الموروثات النقليّة؛ فالحقيقةُ ما بَرِحَت عنوان تَزخر به كتابات الباحثين والمفكرين لما تحمله مِن قِيَمٍ مَعرفية، وأَثَرات وجوديّة، ومعايير جوهريّة، تُعين على مَعرفة الخالق والمخلوقات، ومرتبة أخلاقية في بناء المجتمعات وَتَحصيل الاستقرار السياسي وتحقيق النَّماء والازدهار الاقتصادي، وقاعدة مَوضوعيّة نَفرقُ بها بينَ الحقّ والباطل، والخير والشرّ، والصَّحيح والمُزيَّف؛ إنَّها بوصلة الطالبين نحو التَّكامل، ودليل القاصدين نَحوَ مَراتب القُرب مِنَ الحقّ جَلَّ جَلاله.

وَلَئِن وَصَفَتها كُتبُ الألفاظ وَمَعاجمُ المعاني على أنَّها الشيء الثابت اليقينيّ، وارتبطت وتوافقت مع الجّوهر الواقعيّ، إلا أنَّها لَم تَسْلَم مِنَ التَّزييفَ والتَّحريفَ والتّشويه، الأمر الذي جَعَلَ من إدراك الحقيقة مسألة شاقَّة، ومهمَّة مُضْنِيَة؛ فَتَعَدّدت الطرق نحو فَهْمها، وَتَنَوَّعَت السُّبُل لاستيعابها، فالبعضُ كانَ يَطلبها من بابَ البراهين العقليّة والنصوص النقليّة، والبعض من بابِ العرفان الوجدانيّ، وآخرون عِبرَ المعرفة الذّوقية واللّدنيّة.

وَلَو تَمَعَنّا وتدبَّرنا جَليًّا بماهيّة الحقيقة لوجدنا أنَّها تفوق بمقيمتها الجوهريّة جميع المَعاني الظّاهريّة التي صوّرتها لنا بعض النظريّات الفكريّة والفلسفيّة، فالحقيقةُ أكبرُ مِن أنْ تُوضَعَ مُكبَّلةً في خانَةِ التَجريبيّة، أو الظرفيّة، أو الإقتصادية، أو السياسية، بل هي تفوق حتى النتاجات البحثيّة والتأملات الفلسفيّة. لقد أصبح هذا المفهوم الجوهريّ لعبةً تتقاذفه المنافع السياسية، والمصالح الاقتصادية، وساحةً لتصفية الصراعات الفكريّة والعقائديّة، الأمر الذي جَعَلَ من هذا المدلول السّامي مفرَّغٌ من معانيه الرّفيعة، ومجرّد من مؤدَّياته العميقة، نتيجة ما أصابه مِن تَزييفَ واخْتِلاق وافْتِراء، حتى باتَتِ الحَقائق المُشوَّهة أو المُصطَنعة مقصَدَ الغافلين، وغايَةَ التّائهين، ومطلَبَ الطّامعين.

إنَّ البَحثَ عَن الحقيقةِ لا يَعني الاستغراقَ في مَتاهات الفوضى المَعرفية أو الانشغال في فراغات العموميّات المُجرّدة، وإنّما مُقَارَعَة الباطل، ورفض التزوير والتحريف، والابتعاد عَن دائِرَةِ الظّنونِ والأوهام، والتدرّع بمرتكزات النَّفس، والإرادة الحُرَّة، والعقل، والمعرفة، والواقع. لذلك فإنَّ الكثيرين مِنَ الحُكَماء والمُتكلّمين يعتبرون أنَّ المحطّةَ الأولى في مَسيرةِ الإنسانِ نَحو وَعيِ الحَقيقة يكمن في فَهمِ ماهيَّتها أولًا، تلكَ التي تفرضُ علينا واجبَ الابتعاد عَن المحدوديّات المُصطَنَعة، والسطحيّات المانِعَة، الشبهات الخادعة، وأنْ نهجر ظلمة الشكّ نحو نور اليقين، من أجل الاقتراب مِن معرفةِ الحقيقة اليقينيّة، والتي تمثّلُ الأصلَ والمَنبَعَ لِجَميع الحقائق في عالَم الإمكان، فالحقيقةُ واليقين صنوان لا يفترقان.

والحقيقةُ هي خلاصة التطابق بين الإدراك العقلي وبين الأشياء الحقيقيّة في مظهرها وجوهرها الواقعي، وكما أنَّ العَقلَ الإنسانيّ مَوجودٌ ومَخلوق، وأنَّ كلَّ الموجودات هيَ في الواقع مخلوقات، فاللهُ تعالى قَد خَلَقَ كُلّ شيء بِقَدر ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، فالأشياء بطبيعتها الخَّلقية، ما لَم تخضع للتزييف والتحريف، هي مُنتظمة ومتطابقة مع العقل السَّليم. فالأشياء في عالم الإمكان، والتي يدركها ويحكم عليها العقل، هي حقائق جزئية، لأنَّها مظاهر وتجلّيات لأسماء الله تعالى وصفاته.

وَرُغمَ أنَّ الواقِعَ يَفرض مَبدأ التَوَافُق والانسجام بين الموجودات وبين العقل الإنساني السّليم، وأنَّ فكرةَ الخالقيّة والعقل الإنساني لا يتعارضان، إلا أنَّ ظاهر الموجودات قد تخضع للتّحريف، وقد تتقبّلها بعض العقول على أنَّها حقائق وجوديّة، وهي في الواقع "غير حقيقية". فالنظامُ والإبداعُ في خَلقِ الموجودات تَفرضه ماهيّة الحقائق الكامن في جوهر تلك الأشياء، ويؤكّده ويحكم عليه العقل الإنساني حينما يكون الأخير قد بَلَغ مراتب التكامل، وأصبح مؤهّلًا لإبصار جوهر الأشياء الحقيقي، لا المظاهر الصوريّة. فَكُلّ المَوجودات قَد أوجدَها الخالق على أنَّها حَقائق في ظاهرها وجَوهَرِها ما لَم تَخضَع للتَّحريفِ والتَّزييفِ مِن قِبَلِ المَخلوق.

وهكذا، كلّما أزداد الإنسان جُرأةً في تحريف الحقائق كلّما أصابه التّيه والوحشة وأزداد بُعدًا عن الله تعالى، قال الله تعالى وهو يُخبر عن الشيطان وعزمه على تزييف الحقائق: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾[النساء: 119]. وفي المُقابل، كلّما ازداد الإنسان معرفةً ووعيًا وإدراكًا بالله تعالى من خلالِ مَعرفة أسمائِهِ وَصفاته، كلّما كانَ أكثَرَ وَعيًا بحقائق الموجودات، لأنَّها مظاهر وتجلّيات لتلك الأسماء والصفات، قال تعالى: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾[الأنعام: 122].

***

ونَحنُ في هذا الكتاب لَسْنا بِصَدَدِ الاكتفاء بمناقشة الاتجاهات الفلسفيّة لمفهوم الحقيقة، فَعَلى الرّغم مما تحويه من آراء فكريّة ومفاهيم قيّمة، إلا أنَّ الأبواب والفصول تستند كذلك إلى أسس عقائدية واطروحات كلاميّة ومدارس عرفانية، من أجل تقديم صورة واضحة لمفهوم الحقيقة، وتُفصّل في الوسائل التي تعين على بُلُوغِ وَعْيٍ مُتقدّم لحقائق الأشياء، وتميّز بينَ الحقيقة واللّاحقيقة، وبين المطلقة والنسبية، والثابتة والمتغيّرة، واليقينيّة والترجيحيّة، والذاتيّة والموضوعيّة.

إنَّ القرآن الكريم هو دليل السالكين نحو وعي الحقائق بيقين، لا بمقامه اللّفظي فقط بل باتّحاد جميع مقاماته ومراتبه: العَرشيّة، والمَلكوتيّة، والماديّة، والبيانيّة؛ وأنَّ الأسرار الحقيقية والمضامين النورانيّة لآيات الكتاب المُبين لا يَقدر على حَملها ولا يَعلم تفسيرها ولا تأويلها إلا مَن اختارهم الله تعالى ليكونوا عِدْل القرآن، أولئك الذين كانوا، ولا زالوا، وَسَيبقون مع القرآن لا يفترقون، وهُم النبيَّ المُصطفى والأئمة المَعصومين مِن ذُريّته (عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ)، فَهُم وحدهم مَن بَلَغوا مَقام حيازة عِلم الكتاب بأكمله، واختصَّهم اللهُ تعالى بالولاية التكوينية، وأَمَدَّهم بقدرة التصرّف بمفردات لوح الوجود. والإنسانُ وَبِحُكم سَيره نَحو التّكامل الروحيّ وبلوغ مقامات القرب الإلهي، أو ما يُطلق عليه بقوس الصعود، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الإنشقاق: 6]، فهو وَمِن أجل إدراك الحقيقة عليه التمسّك بهذين الثَّقلين، كتاب الله تعالى والعترة المُطهَّرة.

والحقيقة الإلهية هي كالنّور، كاشِفٌ لنَفسِهِ ولِغَيره، أي أنَّه جَلَّ جلاله حقيقة تامَّة، وكاملة، ومطلقة، فهو مُظهرٌ لنفسه عبر أسمائه وصفاته، ودالٌّ على غيره، وأنَّ جميع حقائق الأشياء في جميع العوالم إنّما هي مظاهر وتجلّيات لحقيقة وجوده ونور كماله. فالله تعالى هوَ نورُ السمواتِ والأرض، وَهُوَ جلّ جلاله نُورُ ظُهور وفيض، يفيض مِن نُورِهِ على الموجودات في عالَمِ الإمكان؛ فَهُوَ النّورُ وَمِنهُ النُّور، وهو بذلك يكون الحقيقة التي تكشف عن جميع حقائق الممكنات في جميع العوالم. والله تعالى (الموجود الحقيقي، التّام والمطلق في كمال وجوده) الذي يفيض على مخلوقاتها من أنوار قدسه، مَثَلُ نُورِهِ كمصباح نَيِّر وَضَّاح في زجاجة الحقائق المُتعالية ينير به الحقائق السفليّة. فمن أنواره الصمديّة برَزَت الحقيقة المحمديّة، حيث تجَلَّت حقيقيةُ نُور الأحديّة وَرَفَعت حُجب كثرة الأسماء التى في مقام الواحدية، فأنكشفت حقائق الأشياء من حيث أنّها تجليات للأسماء والصفات. وأنّ هذا الإظهار للأشياء هو إظهارٌ مَعنوي لا حسّي، فالنورُ هو الكاشف عن حقائق وجواهر الأشياء، "يهدي الله لنوره من يشاء"، والمضيء لديجور الممكنات، والرافع للظلمات.

والكتاب مُقسَّم إلى أربعةِ أبواب، وكلّ باب مُهيكل إلى عدّة فصول، وبعض هذه الفصول لها مباحث متعددة. والباب الأول عنوانه: " الحَقيقةُ في أرْوِقَةِ المَدارِسِ الفَلسفيّة "، ويحتوي على سبعة فصول، وبعض هذه الفصول تتفرّع إلى عدَّة مباحث. وأمّا الباب الثاني فعنوانه " مفهوم الحقيقةُ في دَهاليز السياسة المُظلمة "، وهو الآخر مقسّم إلى فصول وعددها عشرة. والباب الثالث حَمَل عنوان: " الخطاب الديني وأثر الحقيقة في تعميق وَعي المُتلقّي "، وفيه ستة فصول، وبعض هذه الفصول مقسمة إلى مباحث. وأمّا الباب الرابع والأخير فقد حَمَل عنوان: " مَفهوم الحقيقةُ في الفكر الإسلامي "، وفيه ثمانية فصول، وبعض هذه الفصول مُصنّفة إلى مباحث.

ويخلص الكتاب إلى أنّ الإنسان لا يبلغ مرتبة وعي حقيقة الموجودات ما لم يطوي المراتب نحو وَعي حقيقة الواجد، وأنَّ الاقتراب من معرفة الواجد والتزوّد من فيوضات القُرب منه سينير الطريق ويعمّق الوعي، ويُخرج الطالب من اللاحقيقة إلى الحقيقة، ويكتشف حقائق الموجودات بجواهرها الحقيقيّة لا بمظاهرها الخارجية.

وأخيرًا فإنَّ الطالب لنيل مقامات القُرب مِنَ الحقيقة المطلقة، ومن أجل رفع جميع الحُجُب والموانع، عليه أولًا أن يَخرجَ مِن سجن الشهوات الحيوانيّة وحب الأنا الموحشة والظلمائية، ويتطهّر بماء العشق الإلهي، ويسحق الأنا في ذاته، تاركًا الدّار السفلى ومحلّقًا نحو المقامات العليا حيثُ القُرب مِنَ الحقيقة المُطلقة. إنَّ العبادة الحقّة والسّير الحَثيث، والتمسّك بالثَّقَلين، ستَكون كفيلة بجذبِ السّالك نَحوَ وعي الحقيقة، وَنَيل مقام القُرب من الوجود الحَقيقيّ اليقينيّ؛ مقامٌ لا يَرى فيه العبدُ إلا اللهَ وجودًا حقيقيًا، وأمّا حقائق باقي المَوجودات فهيَ مِنَ أنوارِ وجوده جَلَّ جلاله.

***

د. أكرم جلال كريم

29 / شوّال / 1444 هـ،‍ الموافق 19 / مايو/ 2023 م.

صدر عن دار الخليج للنشر والتوزيع مؤلف جديد تحت عنوان الترجمة وتعليم اللغات الأجنبية والتعدد اللغوي، وهو ثمرة تعاون بين مختبر الترجمة وحوار الثقافات وتكامل المعارف التابع لجامعة القاضي عياض، ومركز الكندي للترجمة والتدريب. والكتاب الذي يقع في حوالي 450 صفحة في حقيقته أبحاث قدمت ضمن الندوة الدولية التي عقدت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش يومي 24 و 25 نونبر 2021 تكريما للدكتور علي القاسمي، الغني عن التعريف، إذ هو أحد أعلام اللغة العربية ورائد من رواد الثقافة والترجمة والأدب المتميزين في العالم العربي، والعالم بأسره. أنه واحد ممن جمع بين المشرق والمغرب مقاما وأهلا، والشرق والغرب أدبا وعلما. وقد جمع المؤتمر باحثين وممارسين من جامعات مغربية ومن خارجها لمناقشة جميع الجوانب المتعلقة بدراسات الترجمة، والتواصل بين الثقافات، وتعليم اللغات الأجنبية، والتعدد اللغوي من أجل تعزيز تدريس الترجمة، وتبادل الخبرات في مجالات أبحاث الترجمة وتدريسها ضمن المناهج الأكاديمية، وتوعية الأكاديميين والمسؤولين بالدور المهم الذي تلعبه الترجمة في التواصل بين الثقافات ونشر المعرفة. وهكذا فقد عرف هذا المؤتمر مشاركات من بلجيكا، والمملكة العربية السعودية، وإسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى مشاركين من جل المدن المغربية مثل مكناس، وأكادير، والجديدة، وبني ملال، والرباط، والدار البيضاء، وطنجة. وقد اتسم المؤتمر بتواجد جمهور عريض من الباحثين والمتتبعين. وأقيم معرض لمؤلفات الدكتور علي القاسمي موازاة مع المؤتمر.

وجدير بالذكر في هذا السياق أن هذه الندوة التكريمية التي عقدت بمراكش هي الخامسة من نوعها التي عقدت تكريما للدكتور علي القاسمي اعترافا بإسهاماته المتميزة في المحاور الثلاثة المذكورة سابقا كما في غيرها. وهذا ما تعبر عنه الصورة الجميلة التي زينت الغلاف الخارجي للكتاب، وهي الصورة المعبرة التي تجمع بين صورة فوتوغرافية للدكتور علي القاسمي، ونماذج من مؤلفاته في المجالات التي هي محور الكتاب في تصميم توحي أن هذه اللآلئ من وحي هذا المفكر. وجدير بالذكر كذلك أن الدكتور علي القاسمي قد تولى اختار المؤلفات التي زينت صفحاتها الأولى الغلاف الخارجي للكتاب إذ أن مؤلفات الدكتور علي القاسمي تفوق الخمسين بكثير مما يجعل مسألة تضمينها جميعا في صورة الغلاف أمرا مستحيلا أو شبه مستحيل.

وقد جمع الكتاب بين دفتيه 23 مقالا باللغات العربية والانجليزية والفرنسية والاسبانية. وتتمحور هذه المقالات حول المواضيع الثلاث التي تطرقت لها الندوة، أي الترجمة وتعليم اللغات الأجنبية والتعدد اللغوي، وهي مواضيع تتداخل فيما بينها تداخلا وثيقا، وتكتسي راهنية في الظروف الحالية على ضوء النقاشات المستمرة حول اللغة والهوية.

وغير خاف ما لهذه المواضيع من أهمية. فقد سال مداد كثير حول أهمية الترجمة ودورها في حياة الإنسان بشكل عام، وتطوير البحث العلمي، و التبادل الثقافي، و تقريب الثقافات، واللحاق بالتقدم العلمي، والنهوض بالفكر الإنساني بشكل خاص. وبتعبير آخر، تلعب الترجمة دورا بارزا في مدِّ جسور التواصل بين الذات والآخر على مستوى الأفراد والأمم. فللترجمة قصب السبق في نقل المعلومات والآداب بين الحضارات والتبادل العلمي والثقافي. ولقد ساهمت الترجمة على مر العصور في قيام النهضات الكبرى في العالم بأسره. ويمكن القول أن الأمم المتقدمة في العالم هي الأكثر نشاطا من حيث الترجمة. ويمكن قول نفس الشيء كذلك حول التعدد اللغوي، الذي لم يعد واقعا فقط، بل وأصبح مطلبا كذلك في كثير من الدول لتعزيز التنوع الثقافي، والانفتاح على الثقافات والمعارف الأجنبية. وهكذا يتضح أن الانفتاح على الآخر وثقافاته ومعارفه يتم عبر بوابتين مختلفتين: بوابة الترجمة وبوابة التعدد اللغوي، أي تعلم اللغات الأجنبية وتعليمها. فالترجمة في حقيقة الأمر لا تقصي التعدد اللغوي، إذ يعد الهدف واحدا وهو تحقيق هدف التنمية المستدامة. وطالما أن التعدد اللغوي قد أصبح حقيقة ومطلبا فإن تعليم اللغات الأجنبية يكتسي أهمية كبيرة كذلك. وهكذا فقد تناولت البحوث المنشورة بالكتاب تحليل الوضع الحالي لأبحاث الترجمة وطرق تدريسها في ما يتعلق بالقضايا ذات الصلة، ولاسيما تدريس اللغات الأجنبية والتعدد اللغوي.

ومن المقالات المتميزة التي جمعها الكتاب مقال للباحث الدكتور طلال الطاهر قطبي من جامعة الطائف بالمملكة العربية السعودية (الكلية الجامعية بتربة) حول معالم الترجمة واستراتيجياتها عند علي القاسمي تناول فيه الأنواع الأدبية المتعددة التي تناولها الدكتور علي القاسمي بالترجمة وكذلك عقبات الترجمة وتحدياتها كما ناقشها المترجم.

في حين ناقشت الأستاذة فتيحة غلام من جامعة الحسن الثاني (كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق - الدار البيضاء) موضوع "الفعل الترجمي الإبداعي ورهانات المثاقفة التعليمية: ترجمة علي القاسمي روايةَ الشيخ والبحر نموذجا". أما حكيمة خمار من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس − الرباط فقد ناقشت مسألة الترجمة البيداغوجية، إذ "تعد الترجمة البيداغوجية والاستعمال السليم للتكنولوجيا، وكذا خلق أنشطة مختلفة تعلمية وتعليمية من بين الطرق العلمية التي تتيح للمدرس أن يدرس اللغة العربية لغير الناطقين بها بشكل فعال لتحقيق أهداف معرفية وتواصلية". وتناولت الأستاذتان فاطمة اخدجو و سلوى الدهبي من كلية اللغة العربية (من جامعة القاضي عياض) مسألة إكراهات تدريس الترجمة: الكفاءة اللسانية نموذجا إذ "إن اختيار الطريقة المناسبة في الترجمة لتدريس نصوص مختلفة صرفيا وتركيبيا ودلاليا وأسلوبيا والحفاظ على كل القيم التي تحتويها يطرح تحديات جمة أمام المترجم. كما أن الوظيفة المعقدة لعملية الترجمة والمشاكل التي تطرحها يجعل تدريسها أمرا صعبا، خصوصا أن هناك مجموعة من الإشكالات تعترض تدريس الترجمة سواء أكانت معجمية، أم دلالية، أم نحوية، أم خطابية، أم تداولية، أم ثقافية."

وبحث الأستاذ عز الدين غازي من جامعة القاضي عياض – مراكش في الترجمة الآلية باستعمال منصة NooJ انطلاقا من ترجمة البناء للمجهول من العربية إلى الإنجليزية قصد التغلب على بعض الصعوبات العملية في الترجمة الآلية، والتي عادة ما تنجم عن اختلاف البنيات التركيبة، ولاسيما عند ترجمة البنيات المجهولة من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية. أما الدكتور عبد الرحمن السليمان من جامعة لوفان الكاثوليكية ببلجيكا فقد تحدث عن تجربته في ترجمة المجموعة القصصية أوان الرحيل إلى اللغة الهولندية ولاسيما من خلال قصة القادم المجهول. وما يجعل هذه المجموعة القصصية جديرة بالترجمة هو أن الكاتب استطاع حسب تعبير صاحب المقال " أن يغوص إلى أعماق الإنسان ... في لغته وحبكته وخياله وقدرته النفسانية غير المحدودة على سبر أغوار النفس البشرية التي جُبِلَت على ما جُبِلَت عليها من أسرارٍ وعُقَدٍ لا يستطيع إلا مَن أوتي مثلما أُوتِي الدكتور علي القاسمي أن يَحُلَّها ولأن هذه المجموعة القصصية بالذات تجعلك ترى الكابوسَ تلو لآخر بعد قراءتها وكأنك على موعد معه". لذلك فهذه المجموعة القصصية "جديرة بالترجمة إلى لغات الأرض، ليس لتعريف العالم بمبدع كالدكتور علي القاسمي فحسب، بل لتعليم ساكنيه كيف يتأملوا في النهايات بلا فزع، وكيف يتهيّؤون للرحيل بلا هلع، ولكن في أجزلِ لفظ، وأرقِّ عبارة، وأدقِّ حَبكةٍ وفي أروع لوحةٍ فنيةٍ رسمتها يدُ الأديب الذي يعرف الإنسان وخوابئَ نَفسِه أكثر من أي طبيب نفساني ماهر".

وقد تناول الأستاذان محمد ناجي وأنس ملموس (من جامعة مولاي إسماعيل – مكناس) بالبحث دور الترجمة في تعليم اللغة العربية لغة أجنبية باعتبارها " وسيلة أو طريقة تعليمية ناجعة في عملية تعليم اللغات الأجنبية بشكل عام، وتعليم اللغة العربية باعتبارها لغة أجنبية بشكل خاص ومحدد، فضلا عن كونها تعمل على إبراز الأهمية التي تحظى بها الترجمة في المساعدة على تبليغ المضامين والمحتويات التعليمية وإيصالهما للمتعلمين للغة العربية غير الناطقين بها.".

أما الأستاذة فاطمة سحام من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض – مراكش فقد طرحت الإشكالية التالية: هل الترجمة تواصل أم تثاقف ...؟ لتجيب عن الإشكالية من خلال دراسة مقارنة لمسرحية "فاوست" لكاتبها "غوته" بالترجمة العربية التي أنجزها أمين الريحاني تحت عنوان "رسالة الشيطان".

وقد تساءل الكاتب والمترجم مصطفى شقيب (المغرب): ماذا يريد أن يقول الدكتور علي القاسمي؟ ليتحدث عن رسالة هذا الأديب والناقد والمترجم.

ونجد من ضمن المقالات التي تضمنها الكتاب باللغات الأجنية مقالا للأستاذ حسن درير تناول فيه بالبحث مشكلات الترجمة واستراتيجياتها انطلاقا من المصطلحات المرتبطة بالثقافة في رواية الشيخ والبحر من خلال مفاهيم الغرابة (أو الإغراب) والاغتراس (أو الانغراس) الثقافي من جهة، أو التوطين والتغريب وغيرها من المفاهيم المستجدة في نظرية الترجمة من جهة أخرى. وعقد مقارنة بين 6 ترجمات عربية لهذه القصة. كما نجد مقالا للأستاذ نور الدين عزمي من المدرسة العليا للتجارة والتدبير التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش حول استعمال تمارين الترجمة في بيئة تعليمية لأهداف خاصة ومنفتحة على تكنولوجيا المعلومات على ضوء الأبحاث المستجدة والاهتمام المتجدد باستعمال تمارين الترجمة بصفتها وسيلة تعليمية في دروس تعليم اللغات الأجنبية. وتحدثت الأستاذة ماري إفلين لوبدر من جامعة غرناطة عن تجربتها في ترجمة رواية مرافئ الحب السبعة أو بالأحرى مراجعتها لها في علاقة مع مشكلات الترجمة الأدبية -ومن بينها مشكلة الإحالات الثقافية- إضافة إلى مقالات أخرى.

وقد توج هذا الكتاب بالكلمة الختامية التي ألقاها الدكتور علي القاسمي في الجلسة الختامية للمؤتمر. وتناول فيها بالبحث موضوع السعادة الذي يعد أهمُّ موضوع في الدراسات الإنسانية في الوقت الحاضر. وقد تطرق الدكتور المحتفى به في البداية لشروط السعادة. ومما ورد في كلمته بهذا الصدد أنه "في طليعة الصفات الواجب توافرها في الفرد لتحقيق السعادة عمليا التفكير الإيجابي الذي يتأتى....من محبة المكان الذي يقيم فيه الإنسان، ومحبة الناس الذين يعيش بينهم، ومحبة العمل الذي يزاوله. فبالحب ينفعل الوجود". وأضاف الدكتور علي القاسمي،" وهذا ما وفّره لي المغربُ العزيز بكل سخاء". ثم تطرق لتجربته في المغرب وعبر عن سعادته للتواجد في هذا البلد العزيز، وتقديره لكرم المغاربة. وله في ذلك طرائف ونوادر عجيبة يحسن العودة إليها في مضانها من الكتاب. ثم عرج الكاتب على شجاعة المغاربة، ولم ينس الإشادة بعلماء كبار من المغرب عاشرهم في مسيرته الطويلة.

وخلاصة القول أن الكتاب جدير بالمطالعة لأهمية المحاور التي يطرحها وراهنيتها وتنوعها. وعلاوة على ذلك فهو يشكل أول مرجع يجمع بين المحاور الثلاث، ويأتي بحق تكريما للدكتور علي القاسمي اعترافا بجهوده في المجالات المشار إليها.

***

تنسيق حسن درير وآخرين

من ضمن إصدارات مكتبة النهضة العربية صدر في بغداد كتاب بعنوان "هارب من الإعدام" بالقطع الكبير وبعدد صفحات بلغت 437 وزعت على خمسة فصول ومجموعة من الصور التوثيقية. قدم للكتاب بمقدمة وشرح مسهب المرحوم الدكتور كاظم حبيب.

الكتاب بفصوله الخمسة، سفر مفعم بالحيوية والغنى المعرفي والمعلومة القيمة.

يحتوي الكتاب على سيرة ذاتية للدكتور خليل عبد العزيز، ومن خلال هذه السيرة، يوثق الدكتور خليل بذاكرته الحية اليقظة الكثير من الأحداث. حيث نشأ في الموصل وعاصر منذ طفولته الكثير من وقائع جرت على أديم أرض تلك المدينة المعطاء. وقادته مشاركاته في تلك الأحداث إلى حافة الإعدام بعد أن كان واحدا من قادة الحركة المضادة لمؤامرة العقيد الشواف،مما اضطر الحزب الشيوعي لاتخاذ قرار بتهريبه إلى موسكو ، لتبدأ برحلته تلك فصول مرحلة جديدة بالغة الأهمية مليئة بالأحداث والصراعات والتقاطعات، حيث ابتدأت بتوتر العلاقة مع حزبه بسبب عناده وعصاميته ورغبته بالدراسة في موقع غير ما اختاره الحزب له.

خلال وجوده في الاتحاد السوفيتي عاصر الدكتور خليل أغلب قيادات الحزب الشيوعي العراقي ورافقهم في الكثير من مراحل وجودهم هناك على عهد الشهيد سلام عادل ومن ثم الرفيق عزيز محمد وباقي قيادة وكوادر ح ش ع.

أكمل الدراسة في كلية الصحافة وعمل خلال تلك الفترة في الصحافة السوفيتية مثل صحيفة برافدا ووكالة أنباء نوفوستي وغيرهما. ومن ثم توجه إلى القاهرة للإعداد لشهادة الدكتوراه في أطروحة عن الصحافة المصرية. وخلال تلك الفترة أقام علاقات كثيرة سمحت له بالاطلاع على وقائع الأحداث والخلافات التي شابت علاقات القوى السياسية هناك ومن بعضها الضغوط التي تعرض لها الحزب الشيوعي المصري خلال فترة تشكيل الاتحاد الاشتراكي، ليعود بعدها إلى موسكو .

نيله الدكتوراه أهله ليكون موظفا في واحد من أهم مراكز البحث والقرار في موسكو. فقد نال إعجاب بابا جان غفوروف الرئيس التنفيذي لمعهد الاستشراق، الذي وجد في الدكتور عبد العزيز سمات جيدة وتفكير سليم إضافة للنشاط والجدية ،والتي تؤهله ليكون موظفا في المعهد. ويعد هذا المعهد على عهد السوفيتات أحد أهم مراكز الاستشارة والدراسات ذات التأثير الفاعل فيما تتخذه السلطة السوفيتية من قرارات . ومن خلال مركزه في معهد الاستشراق استطاع الدكتور عبد العزيز الحصول على كم هائل من المعلومة والاطلاع على أسرار وخفايا السياسة السوفيتية والعلاقات الدولية.فكان شاهدا حيا على الكثير من الوقائع والمباحثات وشارك بالعديد من النقاشات والبحوث التي كانت تعد أو تطرح في عموم المقابلات واللقاءات والدراسات داخل البعض من أروقة السلطة السوفيتية أو في اللقاءات بين الحزب الشيوعي السوفيتي وباقي الأحزاب العربية وغير العربية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العراقي.

وبسبب قدراته واجتهاده وحيويته، اقترب كثيرا من شخصيات سياسية سوفيتية ودولية، وسنحت له الفرصة اللقاء بهم ومحاورتهم لغرض التحقيقات الصحفية أو لغرض إجراء حوارات شخصية .ورافق العديد منهم، وبات شاهدا على الكثير من الحوادث والأسرار الخاصة بتلك الشخصيات

وصل الدكتور خليل عبد العزيز إلى موسكو على عهد قيادة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي نيكيتا خروتشوف وعاصر أيضا قيادة ليونيد برجنيف ومن ثم يوري أندروبوف وقسطنطين تشيرينتكو وأخيرا ميخائيل غرباتشوف. ولم تنقطع علاقته بموسكو حتى بعد خروجه منها وذهابه إلى اليمن الديمقراطي كمستشار للأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني عبد الفتاح إسماعيل، ثم خروجه من اليمن بعد الأحداث الكبيرة التي حدثت هناك وسفره إلى ألمانيا الديمقراطية ثم وصوله إلى السويد.

كان عهد السوفيتات عهدا له طابعه وسماته الخاصة. فكان ذلك الكيان القوي باشراقاته وجاذبيته يتمتع بمكانة كبيرة عند الملايين من البشر في جميع أنحاء الكون، وكان تأثيره شديدا لدرجة استحوذ على العقول والأفئدة، وصل في بعضها حد القدسية، وبات ينظر له كقوة ولدت لتكون المنقذ والمخلص للبشرية من لوثات لطخت وجه العالم جراء ما أحدثته حروب الرأسمالية من بشاعات. وبات الطريق الاشتراكي الذي سلكه الاتحاد السوفيتي يستهوي شعوبا بكاملها، وعممت صور باذخة عن حياة الرخاء والسعادة والطمأنينة التي تغمر حياة شعوبه ودوله، الممتدة على رقعة كانت تستحوذ على ما يقارب سدس المساحة الإجمالية للكرة الأرضية. وكانت رسالته إلى العالم تحث على تحولات عظيمة في الحياة الروحية والاجتماعية والاقتصادية لعموم البشرية، رسالة الاشتراكية بتطبيق النموذج اللينيني للماركسية . استمر هذا الكيان العظيم يرفد البشرية بالعديد من الابتكارات والأفكار والتقنيات، ويقدم الدعم والتأييد للكثير من الدول وحركات التحرر الوطني وقواها السياسية.

ولم يفت الدكتور خليل عبد العزيز أن يؤشر ويكشف في كتابه (هارب من الإعدام) العديد من الظواهر التي واجهها خلال وجوده هناك، فتطرق لطبيعة الدراسة في الجامعات وما حوت من وقائع بعضها كان يبدو سلبيا وغير منطقي. أيضا تحدث عن مجريات ودراسات وبحوث ووقائع عمل في معهد الاستشراق. وتناول أيضا الإعلام والصحافة السوفيتية ،كذلك سياسة ح ش سوفيتي وعلاقته بالأحزاب الشيوعية العربية ، ومآل شعار الصداقة بين الشعوب الذي طرحه لينين بداية الثورة البلشفية،وعن الإنتاج الصناعي والزراعي ومشاكله، والانهيار الذي تعرض له اقتصاد الاتحاد جراء التلاعب والسرقات والتمويه والبيروقراطية، وأبدى رأيه في أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي وسلط الضوء على الكثير من الوقائع السياسية فاضحا اسبابها وأيضا من خلالها العديد من المواقف والسياسات الخاطئة التي كانت تنخر في عمق الاتحاد وتدفع به نحو الهاوية.

أشر الدكتور عبد العزيز في كتابه بصدق وقوة ما كان يعتري الاتحاد السوفيتي من علل ومشاكل منها البيروقراطية والفساد والانتهازية والصراع داخل القيادات على المناصب والاستحواذ على المال العام وغيرها من الخطايا والموبقات. ومثل هذه المساوئ جرفت بعيدا نحو الخلف القيم الخلاقة لروح الشيوعية والمبادئ التي سبق وتبناها الحزب الشيوعي ورسختها الدولة في بداية النشوء، ومن خلال دستور ومواثيق الاتحاد.

تلك التشوهات أدت في النهاية إلى سيطرة امن الدولة  KGB على مقدرات الاتحاد وبات هذا الجهاز السياسي والأمني، الحاكم والقائد الفعلي لمفاصل الدولة، بل أصبح يتدخل بشكل سافر في أدق تفاصيل الحياة العامة والخاصة لأفراد الشعوب الاتحادية. ومع كل هذه التحولات أصبح نظام الحكم قمعيا كابحا للحريات. ووفق راية وشعار دكتاتورية البروليتاريا حسم أمر الحياة السياسية بغلق جميع المنافذ بوجه أي معارضة أو ترويج لأفكار. وأبعد وغيب الكثير من المعترضين أصحاب الأصوات التي كانت تفصح عن آرائها أو تطالب بالإصلاح وتنتقد بعض السياسات.

كل تلك العيوب والإخفاقات قادت في النهاية إلى الزلزال الذي هز العالم وليس فقط الاتحاد السوفيتي، حيث انهار البناء وانفرطت تلك الكتلة التي شيدت على أسس الفكر والروابط الاشتراكية الشيوعية .ومع انهياره تبدلت الكثير من قواعد وعقد السياسة في العلاقات الدولية .

كتاب هارب من الإعدام سجل حي لذاكرة الشيوعي المخضرم الدكتور خليل عبد العزيز، يمثل إضافة نوعية مهمة ورائدة للمكتبة العربية، وسفر مشوق يوثق واحدة من أهم مفاصل تاريخ ليس فقط الاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية وإنما يلج ويغربل البعض من العلاقات الدولية ومجرياتها بأبعادها الغريبة والحيوية والصادمة أيضا.

***

فرات المحسن

مسيرة ابداعية حافلة بالعطاء أثمرت أربعين كتابا وما زال يواصل رسالتها بجد الباحث المثابر نبيل عبد الامير الربيعي حيث أصدر مؤخرا كتابه (عبدالله حلواص ــ سيرة ومحطات) الذي يمثل شهادة صادقة بحق شخصية نضالية مهمة من شخصيات الحركة والوطنية ومسيرة اليسار العراقي ذلك هو المناضل عبدالله حلواص الذي وصفه الباحث بـ (الشيوعي الحامل هموم ووجع العراق) وايضا يعد حالة فريدة في سفر النضال العراقي ، فهذا المناضل عاش يحسن القراءة دون الكتابة والتي تعلمها في رحلته الطويلة بين سجون العراق منذ اربعينيات القرن الماضي حيث واكب خلالها حياة الرعيل الأول من القادة الشيوعيين وعلى رأسهم مؤسس الحزب (فهد) الذي شاركه حلواص خلال نشاطه الحزبي السجون والاجتماعات المتعددة .

وعلى الرغم من تنوع الموضوعات في كتب الباحث الربيعي الا انها تشترك في هدف انساني نبيل هو تسليط الضوء على حياة الفئات المضطهدة وانصافها ، فقد تناولت كتبه مواضيع وطنية وتاريخية متعددة كما رصدت ظواهر اجتماعية مختلفة مثل الفرهود والشقاوات وبحثت ايضا في شؤون الاقليات في العراق ، اليهود ، المسيحية ، الصابئة ، البابية والبهائية ، ويأتي كتابه  الصادر حديثاً عن دار الفرات للثقافة والاعلام ليعزز مسيرته في الكشف عن ملحمة وطنية وانسانية فريدة ، فحياة المناضل (عبدالله حلواص ــ 1920 ــ 1978) نموذج للانتماء الصادق والايمان اليقين بالمبادئ ، فهو رجل كاسب فقير الحال وزاهد في الملذات ولا يملك من حطام الدنيا سوى ما يرتديه من ملابس لا تزيد على دشداشه ثقبتها شرارات سكائره، وعقال ويشماغ قديم وسترة أكل عليها الدهر وشرب أما البيت الذي عاش فيه فيصفه في حديث الى الباحث (كان بيتنا عبارة عن خربة لا تقفل بابه وغرفة بائسة موحشة وبلا شبابيك وفراشنا لا يقي من البرد وكان البيت يفتقر لأبسط مستلزمات بيوت فقراء المدينة ص 149) وقد آمن حلواص بالنظرية الماركسية واستوعب تفاصيلها عن وعي وقناعة حيث درس في السجن الاقتصاد السياسي والفلسفة المادية الديالكتيكية وهضم كتاب رأس المال فصار بعدها متحدثا لبقا ومحللا ثاقبا لطبيعة الاحداث وحركة التاريخ وفق هذه النظرية كما صار مرجعا يعود اليه الدارسون للماركسية في أمور يصعب عليهم تفسيرها حتى انه صار يوصف بـ (عبدالله ديالكتيك)، وجاء الكتاب ليزيح الستار عن نشأة هذا المناضل في ظروف معيشية صعبة اتسمت بالفقر والحرمان والأمراض وصولا الى مشاركته في بناء الخلية الأولى للحزب الشيوعي في مدينة الديوانية عام 1939 ثم انغماسه في العمل السياسي الذي دار به في سجون العراق وتعلم القراءة خلال وجوده الدائم في سجون العهد الملكي والجمهوري ومنها سجن الشرطة الخيالة في الديوانية، سجن الحلة، سجن الكوت، سجن نگرة السلمان، سجن بعقوبة، معتقل الفضيلية ، سجن بغداد المركزي، حيث ذاق فيها مرارة التعذيب والحرمان من ابسط حقوق السجين السياسي وكذلك مشاركاته في انتفاضات الشعب العراقي للأعوام 1954 ، 1956 ، 1957 وقبلها وثبة كانون 1948 ، وقد اعتمد الباحث الربيعي في سرد معلومات كتابه على عدد من اللقاءات والمقابلات كان قد اجراها مع المناضل عبدالله حلواص في المقاهي خلال منتصف السبعينيات اضافة الى استعانته بأحاديث الذين واكبوا مسيرته من الشخصيات الوطنية خصوصا رفيق دربه المناضل " هادي ابو ديه " كما استعان كذلك بكتابات كل من القاضي زهير كاظم عبود والروائي سلام ابراهيم والكاتب ثامر امين الذين شهدوا جانبا من حياة وشخصية هذا المناضل الصلب وتصدرت الكتاب مقدمة كتبها الروائي العراقي سلام ابراهيم تضمنت ذكريات جمعته بعبدالله حلواص في مقهى عبد طامي . واللافت للنظر في هذا الكتاب هو ذاكرة المناضل عبدالله حلواص التي تحتفظ بوقائع وتواريخ دقيقة للأحداث وشخصياتها التي مر بها تاريخ العراق حيث ذكر اسماء عدد كبير من المناضلين الذين تصدوا بشجاعة لانقلاب شباط 1963 وكذلك اسماء من تم تصفيتهم على ايدي قطعان الحرس القومي .

لقد خلد الشعراء سيرة هذا المناضل حيث ذكره الشاعر سعد جاسم في واحدة من قصائده التي يستحضر فيها واقع مدينته ــ الديوانية ــ واهلها الطيبين:

يحضرُني (عبد الله حلواص)

وهوَ ينتهلُ " الفكرةَ " الباسلةَ

ويُقطّرُها عسلاً أحمرَ

ويشعلُها ضوءاً في أرواحِ الحالمينَ

بـ (الوطن الحر والشعب السعيد)

كما رثاه الشاعر كزار حنتوش في قصيدة قصيرة جسدت صدمة رحيله:

عبد الله

ذو السترة

والوجه المائل للأرض قليلا

والعين الغافلة اليسرى

الجائع في كوخ قصبي

عبدالله الحاضر في العسر

الغائب في اليسر

مات .

كتاب (عبد الله حلواص) يزيح الستار عن خفايا شخصية فريدة في نضالها وتاريخها ،عاشت بيننا لكنها لم تثير انتباه الكثير بسبب زهدها وتواضعها وقد أنصفها الباحث المثابر نبيل عبد الامير الربيعي بجهده الرائع وذلك في الكم الكبير من المعلومات واللقاءات التي ظل محتفظا بها طيلة نصف قرن وجاء الوقت ليكشف عنها ويقدمها نموذجا لصدق وايمان وعفة ونزاهة وصلابة المناضلين الحقيقيين .  

***

ثامر الحاج امين

سلام إبراهيم أديب وروائي عراقي استثنائي، فهو لدى مجايليه من الأدباء والروائيين السيرويين، وعند متذوقي إبداعه الروائي من المهتمين والقراء قائمة أدبية باسقة، وروائي فذّ من طينة الأدباء الكبار، وهو غزير في إبداعه، يمتلك مشروعاً إبداعياً سيروياً ذاتياً وهاجاً، قوامه إنتاج أدبي رصين ومتميز، بكل اجناسه وألوانه وتخصيباته الأدبية، رفيع وسامق وشامخ في دلالاته وغاياته وآفاقه، لا يمكن الاحاطة بكل أغواره وسير كل أسراره ودرره دفعة واحدة، نكتشف فيه كل يوم اللآلئ، وسنظل بحاجة إلى المزيد من التبحر لأكتشاف اسراره وكنوزه من خلال متابعة رواياته وآخرها (دونت سبيط أسطب)، فهو صانع العطاء وكريم وصبور، نذر نفسه ومعظم وقته لخدمة الكلمة وإعلائها، ثم كرسها عبر ابداعه ومختاراته في الرواية، لإبراز وترسيخ المعاني، بعيداً عن كل انكفاء أو تشنج أو تعصب ايديولوجي أو مذهبي أو سياسي خدمتاً للقيم السامية كالحرية والحب والجمال والبهاء والصفاء والسلام، وسعياً منهُ لإفشاء سلوكيات وثقافة التقارب والإخاء. 

فسلام كان منذ طفولته المبكرة يتوق إلى الحرية والخلوة بخواطرها عالياً، وبعيداً عن كل قبح وسوء وحقد وظلم مصدره الإنسان. منذ ذلك الوقت وهو يشعر أنهُ في بداية الطريق، لأن فك رموز الحياة من حولنا وهو السفر الذي لا ينتهي، إلا كي يبدأ من جديد. وقد وجد في الغربة الدنماركية من الشروط والحوافز والأجواء مما ساعده ويسّر عليه بسط جناحيه والتحليق عالياً في العُلى، فصار بما قدم ويقدم حتى الآن من غزير وبديع الأعمال الروائية، وبما تحبل به هذه الأعمال من جمال وقيم ورسائل إنسانية، كرسول للمحبة والسلام، ليكتسب بها كل يوم عقول وقلوب القراء والأصدقاء وعشاق الأدب، فهو هدية اكرمتنا بها آلهة الحب والفرح والعطاء كهدية لمتذوقي الأدب والكلمة الصادقة، ليقدم لنا كل هذا الجمال الأدبي والروائي، فهو تلك الشجرة الوارفة الظلال لتفيء بأغصانها عشاق الأدب والكلمة.

من خلال هذا الموجز ومن خلال سابق الأيام كتبت على صفحتي في موقع التواصل الاجتماع، وتناقله موقع (مخيل عراقي) يوم 23/ 4/ 2023 ما يلي: (من خلال اطلاعي على اغلب روايات الروائي المغترب (سلام إبراهيم) أجده يسعى إلى توثيق سيرته الذاتية والأحداث التي حدثت خلالها، فضلاً عن توثيق الأحداث في مدينة الديوانية، مكان ولادته ونشأته، من خلال التفنن بعنصري الزمان والمكان، ومحاولة إعادة التشكيل وفق تقنيات متنوعة تنتظم في الترتيب والسرعة، ساعياً في القبض على اغلب المراحل الزمنية، متذكراً حوادثها من خلال النص الروائي الزمني في الدرجة الأساس، ومنحه ستراتيجية أوسع من المكان والانفعالات والأفكار والانطباعات من خلال منطق العلاقات وطبيعة الشخصيات.

كما أجد في روايته الأخيرة (دونت سبيط أسطب) قد لعب الروائي بالأزمنة داخل الرواية، وهو عمل جمالي بحت من حيث الصياغة والترتيب، مما منح الرواية صورة اوسع وبناءً ونسقاً ادق، وعلى صعيد النص والصورة فقد وثق الروائي حياة عائلته وخاصة والده فيها والأحداث التي حدثت في تلك الأزمنة والأماكن أبان حكم البعث، مثل في ص236: "في مساء صيفي ساكن كنا نلتف حول صينية العشاء، أنا وناهدة وكفاح ,واصغر أخواتي "سهاد" قرعت الباب بضجيج ودون انقطاع، نهبتُ السلالم المؤدية إلى السطح بينما كنت في طريقك لفتحها، من حافة السلالم المؤدية إلى السطح رأيت على ضوء مصباح الشارع أكثر من عشرين مسلحاً يتوزعون على جانبي الباب، وأنت تخوض حواراً مع شخص بدا أنه مسؤول المجموعة").

من خلا النص اعلاه كان الروائي يخاطب والده، وقد جسد الروائي زمنية توقف حركة السرد لحظة وصوله نقطة ما، وفي هذا النص تجلى الزمن النفسي وضغط الأحداث وتقنينها في فضاء نصيّ صغير، بعد وقوعها خلال زمن طويل نسبياً.

فسلام إبراهيم لا يملك إلا الكتابة الصادقة الشفافة، وعبر صفحاتها يفصح ويعبر عن ما يجول في دواخله من حديث الخواطر ونجوى النفس والذكريات الجميلة، يقضي وقته بين حروف حاسوبه، وبعض الأحيان بين الحبر والورق. فهو العاشق للحياة، والقلم أداة الوصال عنده، والورقة سريره، والحرف عروسته الفاتنة، والحب رحيق اللذة بينهما.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

حلة 13/5/2023

نجاة الزباير تتفاعل عبر المسافات والأحاسيس المضرجة بالمكان والزمان لتوقظ الريح من جهاتها العشرة.

ما زلنا ونحن في عمان، نسمع عن شاعرة استثنائية في المغرب تدعى نجاة الزباير، منذ سنوات وروحها تستحم بالورد ورحيقه، تنثره في الشوارع والميادين تستنشقه إلى حد الحكمة.

صدر لها مؤخرا عن دار "رنة" للنشر والتوزيع والطباعة بمصر ديوانها السابع " جدائل الليل" في طبعته الأولى 2023. يقع الديوان في مائة صفحة، ويشمل بين غلافيه على ثمانية عشر قصيدة تسافر بين " ثَرْثَرَة عَلى رصِيفِ اُلْهَوَى" و " رصاص أعْمَى".

تجربة نجاة الزباير الشعرية لا تتكرر، تجربة يتم ضبطها بضوابط معرفية دقيقة وجمالية أنيقة تقوم على الذوق، ورؤى وخبرات ترتبها بإيقاعات منتظمة، ومتفاوتة الشدة، بحيث تضم في قصائدها كل الوجود، وصولاً إلى الاتحاد التام مع الوجود بأسره ، فقصائدها تكشف عن رغبتها في بناء أسطورة إنسانية خاصة، تعيد تفكيك ملامح الوجود عبر الدهشة، والوهج والاحتراق. سيرة ممتدة بين أصقاع المدن والمشاعر والرغبات والقلق، تختبر الواقع بمهارتها المعهودة ، وتكسبه خصائصها الذاتية وفهمها الخاص للأحداث والأشياء، تعطي أهمية لبهجة الانفعال كقيمة جمالية تسهم في جذب اهتمام القارئ، تجعله يتلقى ويفسّر ويتذوّق تبعا للمنحنى والمنحى الذي تمضي فيه وتحدده هي، عمليات التلقي عندها مبنيّة على تفاعلات تشتقها من خبراتها الشعرية والجمالية. تلتقط بعناية فريدة ملامح الذي حولها، وهذا يأخذ حيزا من سرديتها ، تمتلك شكلا وأسلوبا خاصا بها، وكأنها تقتفي حركة الروح فيما حولها ، لتخفّف من الضغط الممتد في أعمدتها الخاصة. شغفها يدفعها إلى التوغل، مدركة أن ذلك رافدا للجنون يصبّ في محيطاتها الكثيرة والكبيرة.

روح الشاعرة تنبض فيها وتوقظها على امتداد قصائدها، حيث تتمرّد وتتفوق على نفسها، فكل حركة لقلمها تثير غرابة ، وكل توغل في أصقاعها يثير أسئلة قد تكون الإجابة عليها أبعد مما تتصوره كينونتها.

تتحدث بلغة تجعل من حضورها زاهيا ومشرقا، أشعارها محرّضة لمخيلتها، ولموهبتها، ومحرّرة لها من كل القيود. قصائدها وقائع جمالية، قائمة على التداخل والحركة في لحظة اندفاع، حين تخلق حالة من التصالح بينها و بين مفرداتها، تصالح قائم على التلامس بين صورها وتصوراتها المختلفة.

نجاة الزباير تعيد للمقياس الداخلي قيمته القصوى، و وظيفته ، وتقومه وفق خصوصية وخاصية أشعارها، وربطه بوعيها القابع بهدوء وثقة في نصوصها ، لتشكل بذلك علاقة مع القارئ ، محرضة له على إنجاز تفاعلاته الخاصة في الفهم والتأويل . تحرّر مجالات التعبير لديها، وتخلق نوعا من التضافر فيما بين تساؤلاتها ، تمضي في اتجاه قادر على أن يفجّر مكنوناتها، وقادر على أن يغرقها في بحر الشعر والشعور ، عائمة في أعماقه، متسلحة برصيد هائل من المفردات يجعلها صائدا ماهرا للآلئها.

نقرأ من الديوان :

كتب لزوجته عن اللهاث في زوابعه

أغلق الظرف بدمع ثورته

وأرسله مع بقايا فجيعته

"ـ تراها قرب الموقد القديم؟

تغزل ثوبا بلون الخريف

أم أن شظايا القنابل

قَبَّلت فمها الصغير؟

وهل قهوتها الحزينة

المندلقة فوق قسمات الغياب

ما زالت تبحث عني كي أعود

أنا الجندي القديم

الذي سافر مئة عام أو يزيد؟"

قال في سكون.

***

بقلم رائف الريماوي -عمان

منذ أكثر من ثلاثة عقود عوّل عالم الأديان التونسي عزالدين عناية على انتهاج نهج مغاير في تفهّم قضايا الدين والأديان، مستلهما منهج علم الأديان بتفرعاته التاريخية والسوسيولوجية والمقارنة التي تنأى عن المنهج اللاهوتي. يرى عناية أن جانبا كبيرا من ورطة العرب الدينية تعود إلى غياب الوعي العلمي بالدين وانحصارهم داخل منظور لاهوتي مغلَق. يدفعه في ذلك حافز قوي ألا وهو تطوير الدراسات العلمية للدين والأديان في الأوساط الثقافية العربية. وفي هذا العمل الجديد نجد مجموعة من الحوارات معه بشأن هوية الدراسة العلمية للأديان وخصائصها.

يقول عناية في مطلع كتابه شغلتني في هذه الحوارات، على العموم، قضايا الذات والآخر، وعلى وجه الخصوص، قضايا الدين والأديان. وفي سائر الإجابات التي أدليت بها، ربما كنت منساقا إلى انتقاء العبارة الأنسب والفكرة الأوضح، ولربما كنت أيضا جامحا في التطلّع إلى أفق بعيد في فهم الدين والإحاطة بأوضاعه، تقديرا مني أنّ الأمر لدينا قد أضحى عنوان أزمة اجتماعية وأزمة معرفية على حدّ سواء؛ ولكني كنت حريصا دائما على محاولة تشخيص الأوضاع، وعرض الإشكاليات، واستنباط الحلول بروية وتبصّر، وبشكل ينأى عن الإفراط في الجزم والحسم.

وقد آثرت جمعَ هذه الحوارات ونشرها، على أساس كونها مصارَحة ومصافَحة، لمن تستهويهم كتاباتي أو تروق لهم ترجماتي، ويجدون فيها ما يثير أشجانهم ويدفعهم إلى المضي قدما في سبيل ترسيخ منهج علمي في قراءة الظواهر الدينية، ذات الصلة بالواقع العربي أو الفضاء العالمي.

أتت مختلف الحوارات في أوضاع متباينة، وربما في أزمنة متابعدة نوعا ما، حيث تراوحَ الإدلاء بها بين سنتي 2008 و 2022، ولكنها كانت دائما بوحًا عفويًّا بما يختلج في صدر المحاوَر. وجاءت معنونة بـ "حوارات في الدين والأديان" من باب تسمية الكل بالجزء، أي بالغالب والمتكرّر، وإن كانت في واقع الأمر حوارات في قضايا الإنسان والاجتماع، وفي جدل الشرق مع الغرب بوجه عام. ولم يخضع ترتيب الحوارات في الكتاب إلى تسلسل زمني، بل توزّعت بحسب القضايا المعالجة. هذا وقد سبق أن نُشر جميعها في صحف ومجلات ومواقع على الشبكة، غير أن فكرة تجميعها راودتني على أمل أن يجد فيها القارئ رؤية أوضح عما أتطلّع إليه من خلال كتاباتي وترجماتي.

فقد تبيّن لي وأنا أدلي بتلك الإجابات أن لا مجال في الحوار للإسهاب. فما نريد أن ندرجه موسّعا في مؤلف أو دراسة، ونبحث له عن دعائم وسندات، نورده في الحوار خاطفا وموجزا، بحسب المساحة المتاحة في منبر الحوار. ونخاطب به أناسا تختلف مشاربهم ومقاصدهم، هكذا وُلدت جميع الحوارات بدون سابق تخطيط أو إعداد من جانبي.

كما أشير إلى أنّ هذه الحوارات ليست مجرّد شروحات أو تعليقات على ما كتبتُ، ولكنها بوح ومصارَحة. فمع كل حوار أَدليت به لم أزعم امتلاك القول الفصل عن السؤال المطروح، بل حاولت صياغة إجابة من عمق التجربة، واستنادا إلى ما ترسّخ لدي من قناعة ومعرفة بالوقائع والظواهر. ولذلك قد تتماثل بعض الأسئلة ولكن الإجابات عنها تتغاير من موضوع إلى آخر جراء كون الجواب لديّ هو محاولة ومقارَبة وليس مجرد استحضار لما هو جاهز.

نبذة عن المحاوَر: عالم أديان تونسي إيطالي، خرّيج الجامعة الزيتونية بتونس، يدرّس بجامعة روما إيطاليا. نشر ما يربو عن عشرين مؤلفا بين بحث وترجمة، تناولت الدراسات العلمية للأديان والمناهج العلمية في دراسة الظواهر الدينية، فضلا عن نشره ما يزيد عن ألفي مقالة، علمية وصحفية، في مجلات وصحف عربية وإيطالية لتطوير علم الأديان.

الكتاب: حوارات في الدين والأديان مع عزالدّين عناية

الناشر: مجمع الأطرش (GLD)

مكان النشر: تونس- 2023

عدد الصفحات: 184

***

صدر عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع، كتابي الموسوم (غالب العميدي.. مسيرة حافلة بالابداع والعطاء). كُسِرَ الكتاب إلى سبعة فصول، وتضمن الفصل الأول السيرة الذاتية للفنان غالب العميدي، أما الفصل الثاني فبحث في بدايات العميدي في مجال المسرح، و الفصل الثالث دورهُ الريادي في نقابة الفنانين في بابل، والفصل الرابع دوره الريادي في النشاط المدرسي، والفصل الخامس تجربته في التأليف، أما الفصل السادس آراءَهُ حول المسرح العراقي، وتضمن الفصل السابع ما قالو في السيد العميدي من الأدباء والفنانين، وأخيراً ملحق الكتاب الذي شمل جدول يمثل الأعمال الفنية في التأليف والإعداد والإخراج في المسرح والإخراج في فن الأوبريت، والتمثيل في المسرح والأوبريت والسينما والتلفزيون والإذاعة.

اعتمدت في الكتاب على عدة مصادر من خلال اللقاءات وما زودني بها السيد العميدي من مؤلفاته في مجال المسرح والسيرة الذاتية. اتمنى أن يخرج الكتاب ليسد فراغاً في المدرسة العراقية والعربية في مجال المسرح. وأخيراً يطيب لي أن أقدم شكري الجزيل لكل الذين حاورتهم بشأن هذا الموضوع.

ونتأمل لكل ما يجري اليوم في العراق من تحسن وإعادة عجلة الحياة بجميع مفاصله إلى ما كان عليه، وما يصبوا إليه لمستقبل موهوم، وهو الشيء الذي يجعله من ألفه إلى يائه نفياً لتبرير الفساد المستشري الآن بمختلف الصيغ والأشكال. ومن ثم، فإننا نقرأ فيه مشاعرنا واحاسيسنا ونقمتنا ورؤيتنا ورغبتنا وأشياء أخرى نضمرها ونسعى إليها.

فالعراق ليس اسماً ومسمى، بل هو الأنا القابعة في كل فرد منا، وفي معرض تسليط الضوء على مسيرة الفنان المسرحي غالب العميدي الحافلة بالتأريخ الفني من خلال التمثيل والإخراج والتأليف، والعمل المهني في مجال نقابة الفنانين، نستعرض ملامح الأمل التي كثر فينا، والتفاؤل صوب إرساء أسس جديدة قادرة من حيث محتواها المعرفي واسلوبها الموضوعي والعلمي، على جذب الفنانين والأدباء والمثقفين من أجل تفجير الطاقات الفنية الكامنة والمكبوتة، بسبب العزلة الطويلة التي تعرض لها العراق بعد الإحتلال الأمريكي عام 2003م، وهي عزلة ما زالت تطبع بآثارها الحزينة أفئدة الجميع وهمومهم، وهو الحزن الكامن في الروح العراقي وفيما يسعى إليه.

إننا نسمع ذلك الحزن في شكوى القصيدة وغناء الأمهات وحنين الصبايا والتضرع المعجون بالرغبة الصادقة في تقديم نذر للأسماء التي ترتقي إلى مصاف المقدس الذائب في الذكرى بعد عقود مريرة، مما جعلت العراق مهمشاً، وجعلت الفنان والأديب والمثقف مهمشاً أيضاً.

كان الأمل في أن ينهمك الأغلبية بعد عام 2003م بما يسمى عام التغيير في إعادة بنائه بوصفه عراقنا نحنُ، دون أن تقع بحبائل التفاؤل المزيفة لأحزاب السلطة، أو اليأس المتباكي من تعاسة الواقع.

نلاحظ بمنهجية الصبيان في تفننها البليد بتخريب كل ما لا يستجيب لذوقها، وكان ما كان للفن المسرحي والتشكيلي والفن النحتي من إساءة وإهمال، وهي حالة يمكن تفهمها حالما ننظر إلى المراهقين والصبيان.

من يتأمل ولو عن بعد ما في تاريخ العراق من حقائق أدبية وفنية تاريخية، فإنه سيرى روحهُ تتبختر وعقلهُ يمتحن أمام مهمة البحث عن حكمة في كل ما جرى ويجري، من خلال استقراء مدارسه الفنية وأفراحه وأتراحه وصعوده وهبوطه للَضّم خيوطه الجميلة. فمن يقرأ تأريخنا، فإنه يقف بالضرورة أمام الحقيقة القائلة: بأن هوية العراق المدنية أعرق وأوسع من كل ما قيل فيه.

فقد أنجب العراق العديد من الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين، وعدداً هائلاً من المفكرين والمؤرخين والأبطال على مدار السنين، فهم الكوكبة التي رسمت ملامح العراق الكونية وهويته الخاصة، وجعلت منهُ عالم القدرة الدائمة على العطاء والإبداع، كما جعلت منهُ مكان المأساة التاريخية الكبرى الحديثة، وهي مأساة لم تتحول بعد إلى موضوع العلم التاريخي والإبداع الروحي والأدبي والفني.

إن مأساة العراق الحالية لا يمكن تأملها بمعايير البكاء على الأطلال، لأن العراق ليس أطلالاً، بل كوناً وكنزاً ولُغزاً. إننا بحاجة إلى أقلام تاريخية جبارة تفهم دروس الماضي، وتتأمل المستقبل بروية دون عجالة.

فإننا بحاجة إلى مشروع واقعي وعقلاني، وهي مهمة ومسؤولية وواجب بقدرٍ واحد بالنسبة لنخبة الفكر الكبيرة. فالعراق ما زال أرض الممكنات الكبرى وميدان حل اشكاليات الوجود الخالدة، والعراق غائر في ذاتنا وروحنا شأن النخيل الغائر في أجسادنا، وعراقتهُ تقترب من اللغز في أرواحنا.

فحقيقة العراق ليست جغرافيا، بل أكبر وأوسع وأعمق وأعرق، كما أنها ليست زمناً، بل تاريخاً. ومن خلال تتبع تاريخ العراق الثقافي والأدبي والفني والسياسي، نجد أن هناك تعثر استئثار العقل والفكر لنتأمل ما جرى ويجري من انحطاط مختلف مظاهر ومعالم الفقر العلمي والمعرفي اليوم بسبب الطائفية والعرقية. لكننا لا يمكن أن نعيش بهذه الأفكار السوداوية إذ علينا استحضار أرواح وحياة كل أولئك الذين وطئوا هذه الأرض المعطاء، ورسموا صورة الحضارة بأبهى اشكالها من خلال السجال الفكري والحضاري والفني الذي أثرى مكونات الحضارة العالية.

ويبدو لنا من خلال قراءة التاريخ، أن كل المسارح العريقة قد تعرضت لضغوط الكنيسة التي تحكمت فترة من الزمن في القرار السياسي، فقد تعرض المهرجون في روسيا والذين يشكلون البداية الحقيقية للمسرح الروسي لمثل هذه الضغوط من قبل رجال الكنيسة. ولكن مؤلماً لنا جميعاً أن بلادنا العربية قد عرفت المسرح بشكله الحديث مؤخراً.

أما في العراق فقد تأسس المسرح الديني على يد المدارس المسيحية في مدينة الموصل. وللصلة التي كانت تربط المدارس المسيحية بكنائس روما وباريس، حيث كان الرهبان يرسلون للدراسة هناك. وذلك واضح من خلال المسرحيات التي كانوا يقدمونها وهي تمثيليات معربة عن الفرنسية والإنكليزية كما يقول الدكتور علي الزبيدي؛ وهي تحمل الأسماء ذاتها مثل آدم وحواء ويوسف الصديق، وهو النوع الديني الأخلاقي الذي انتشر في القرون الوسطى، ولكن وجود المسيحيين في بلد إسلامي وضمن أكثرية اجتماعية ودينية إسلامية في مدينة الموصل وحتى العاصمة بغداد لم يحقق الانتشار الذي حظي به المسرح في أوروبا، لأن التمثيليات الدينية التي كانت تقام في روما وباريس وغيرها كانت تقدم في الميادين العامة الكائنة أمام الكنائس، أما في العراق فانحصرت في الكنائس والمدارس الدينية الملحقة به.

ويبدو أن هذا النمط المسرحي الديني، والذي بقي حبيس الكنائس والمدارس العراقية، لم ينجح إلا حينما بادر المسرحيون إلى اختيار نصوص تاريخية تحاكي بها المشاعر القومية، ومثال على ذلك مسرحية بعنوان (الوطن) والتي قدمت عام 1908م، بينما عرضت على مسرح مدرسة الكلداني مسرحية بعنوان (نبوخذ نصر) عام 1889م لمؤلفها الخوري هرمز روسو المارديني، ومسرحية اجتماعية تربوية (لطيف وخوشابة) عام 1893م تأليف نعوم فتح الله سحار.

أما ولادة المسرح العراقي فقد: "ولد المسرح العراقي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، على مجموعة من الرهبان المسيحيين في محافظة الموصل، فكانت البداية مسرحيات وعظّية لها علاقة بالمسرحيات التي قدمتها الكنائس في العصور الوسطى، وذلك للعلاقة الوطيدة بين الكنائس في مدن الموصل وروما وباريس، حيث كان الرهبان يرسلون للدراسة ثم يعودون إلى العراق للعمل والتدريس في المدارس المسيحية العراقية.

وحين أسست الدولة العراقية عام 1921م وجد الفنانون العراقيون على قلتهم أن الاستعمار البريطاني يطوق عنق الوطن، فكان المسرح العراقي وطنياً. يقول الباحث والمخرج العراقي محمد سيف في حديثه عن وطنية المسرح العراقي "إن القدر العراقي قد خزن في أعماقه دراما لم تنجز، حتى أصبحت تراجيديا أسطورة قادرة على أن تنجز عملاً مسرحياً بمعناه الحقيقي، إن التراجيديا الأسطورية من وجهة نظري هي مكان أو بالأحرى عرض للعقيدة التي تتأرجح ما بين الواقع والخيال، فالمواجهة اختلاف يأخذ جذره من طقوس عاشوراء".

بعد اطلاعنا على ما أنجزه الفنان غالب العميدي الذي كان نموذج كتابنا هذا، استطيع القول إنه بحق يمكن أن يكون عينة المسرح العراقي بجدارة لما حققه خلال أربعة عقود أو أكثر من الزمن، من حضور وانجاز متواصل وإضافات نوعية سواء من خلال أعماله المسرحية التي وجدت طريقها للجمهور، أو عبر ما كتبه في مجال التأليف، أو ما شارك به من خلال الإخراج الذي كان بمثابة المختبر لتنضج داخلها تلك الأفكار، وتتطور مواهب الممثلين أو تتلاقح فيها خبرات الفنيين، وتتعمق العلاقة بين طرفي الأرسال والاستقبال, ومن خلال الأعمال الكثيرة والتي أصبحت اليوم تشكل رصيداً في مسيرة المسرح العراقي لا يمكن تجاهله.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي – الحلة

2022م

صدر حديثا عن وكالة الصحافة العربية (ناشرون) كتاب "التربية المعاصرة وتحديات التطوير" من تقديم وتحقيق الدكتور بليغ حمدي إسماعيل أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية بجامعة المنيا بجمهورية مصر العربية، وتضمن الكتاب مجموعة من المقالات التربوية المتخصصة في المناهج وطرق التدريس، وعلم النفس، والتربية اللغوية لمجموعة من رواد التربية الأوائل الذين رصدوا المشهد التربوي والتعليمي منذ منتصف القرن العشرين .

ويؤكد الدكتور بليغ حمدي على ثمة حقائق من أجل تطوير التربية العربية الراهنة، فنحن بحاجة ماسة إلى تجديد الخطاب التربوي نفسه، وإيجاد إطار مرجعي يحكم الظاهرة التربوية التي تمارس في مؤسساتنا التعليمية الضاربة بالوطن العربي شرقا وغربا، وإذا كانت الحياة اليوم تتسارع بصورة رهيبة، فبات أولى الاكتراث بضرورة تنويع خطابنا التربوي العام مستهدفين خلق جيل جديد من الطلاب يستطيعون مواجهة تحديات المستقبل. وإذا كانت التربية الفوقية التي تصدر عن صانعي القرار التعليمي لا تعكس واقعنا المدرسي الحقيقي، وهذا يزيد من تفاقم أزمة التربية التي قد تشارف نهاياتها إذا لم ندرك المفارقة القيمية بين قرار تربوي يصدر، ومشهد تعليمي مغاير.

ويطرح الدكتور بليغ حمدي إسماعيل في تقدمته للكتاب مجموعة من التساؤلات التي تثير الذعن حيث يقول: " ونحن بالفعل أمام ملامح عصية على التأويل وصعبة المراس في تفسيرها أيضا، تلك الملامح التي لا يمكن حصرها وقصرها على وجود إدارة تعليمية فاشلة وباهتة وأكثر خيبة لواقع تعليمي متأزم بالفعل، ولا على مستوى المعلم الذي صار ينتظر قرارات وزارته كمن يقبع خلف باب زنزانته انتظارا لأخذه غرفة تنفيذ حكم الإعدام من خلال قرارات وتعليمات ودورات تدريبية وهمية وورش عمل كارتونية، وتطبيق أنظمة لا تصلح لبيئة تعليمية تحتاج إلى تطهير شامل وكامل" .

ويستطرد قائلا غي المقدمة: "وماذا أيضا؟ نكتشف على الدوام أننا نمارس قبيل المعاناة عشوائية في التخطيط التربوي لمؤسساتنا التعليمية، وبسؤال لأحد أساتذتي الذين غفل عنه صانعو القرار التربوي رغم أنه الرائد في مجال التربية الراهنة عن عدم وجوده في مكان صناعة القرار التربوي أفادني بأن السياسة التعليمية العربية منذ سنوات بعيدة لا تشجع على الاستقرار، وأن القادم يطبق فكرة تربوية ستمحي بعد زوال منصبه وهكذا، أصبحت لدينا قناعة بأننا نعشق الانطلاق من نقطة الصفر" .

ويشير الدكتور بليغ حمدي إسماعيل إلى نقطة الصفر الغالبة على سياساتنا التربوية تجعلنا نؤكد على ملمح رئيس للتربية العربية التي تشارف على النهاية ؛ أحادية الرؤية التربوية، فمشكلة التخطيط لا تزال تقف عند عائق الأحادية وجنوحها بغير اكتراث أو اقتناع للأخذ بفكرة المشروع الجماعي للتخطيط، حتى ورش العمل والندوات الجمعية التي تعقد ليل نهار بمؤسساتنا التربوية العربية نجدها تدور حول فكرة محددة سابقا وهو أمر محمود، لكن غير المحمود أن هناك ثمة محاور ثابتة لا يمكن الخروج عنها رغم كوننا نردد صباح مساء بضرورة إمطار الأدمغة وتكريس ثقافة العصف الذهني للرؤى والطروحات النقدية البناءة .

ولا يمكن اقتناص أزمة المؤسسة التربوية العربية في المنتفع الأول بها، ألا وهو الطالب نفسه، الذي يظل المصطلح حائرا على تسميته ؛ فمرة يدعى طالبا، ومرة أخرى تلميذا، ومرة ثالثة متعلما بحجة الالتزام بتطبيق استراتيجيات التعلم النشط . وهو في الحقيقة رغم شغبه واستمرائه الفوضى مسكين يستحق الشفقة ؛ لأنه ضحية بعض الإدارات التعليمية الفاشلة التي قد تعاني من فقر الإعداد التربوي المهني، ومعلم خائب لم يكترث بالحصول على درجات علمية تتخطى حاجز الشهادة الجامعية الأولى، ومناهج بائسة انتهت صلاحيتها التعليمة في ظل عالم تربوي متسارع ومتصارع معرفيا ومهاريا.

والكتاب بطرح مسألة التربية باعتبارها مهمة وأمانة وقضية وجود ضد الذين يتزاحمون على أمر التعليم ومشهد التعلم، فحتى الذين لا يدركون كنه التربية، يفطنون حد اليقين أننا على مشارف نهايتها التي تبدو منطقية بعض الشيء، وهذا الوعي الذي امتثل ليقين الفعل جاء من سؤال مفاده هل تمتلك المؤسسة التعليمية العربية مقومات التربية؟. والسؤال بهل يقتضي دوما إجابة بالإيجاب أم بالنفي، وفي المشهد التعليمي الراهن وفي ظل أزمات التربية المتلاحقة تغدو الإجابة الحتمية بالنفي غالبا.

كما يشير الدكتور بليغ حمدي إلى أن التربية ليست في عين الكثيرين علماً قائماً بذاته، بل إنها لا تزال تشق طريقها في سبيل الوصول إلى درجة اعتبارها علماً من العلوم. أو يكون مرد ذلك إلى أصل الكلمة التاريخي؟ إذ أنه قد ورد أن كلمة "مربي" تعني العبد الذي كان يقود ابن سيده إلى المدرسة. وإذا كان للتربية في أكثر بلدان العالم، من أهمية فهي إنما تكمن لدى مدرسي الصفوف الابتدائية، لأنهم يؤمنون بالتربية، أما المدرسون الثانويون فهم يعتقدون بأن إتقان الاختصاص هو خير سبيل للقيام بواجب التربية. كما يعتقد آخرون بأن التربية ما هي إلا فن من الفنون أو عملية بدهية أو موهبة طبيعية. وهكذا فإن بعض الجامعات لم تخصص إلا قبل سنوات قليلة فرعاً للتربية فيها. وحتى دار المعلمين فهي لا تخرج مربين نموذجيين بل إن تلامذتها غالباً ما يتهيأون لوظائف بعيدة كل البعد عن مهمة التربية.

ولكن ما هو المبرر الذي يحول دون إقبال الناس على فرع التربية؟ ولعل الجواب هو أن أجرة المربي ضئيلة جداً بالنسبة لأجرة الاختصاصي الفني. والسبب المادي، بلا ريب، هو العامل الفعال في عدم إقبال الناس على هذا العلم. ثم إن مسألة التربية أصبحت بالنسبة للبلدان المتقدمة غير ذات بال إذا صح القول، بمعنى أنها مسألة ميسورة ومفروغ منها.

أما في البلدان النامية فالاهتمام بالتربية يبدو أشد وأقوى برغم من أن نتائجها ليست بمستوى البلدان المتقدمة، أما سبب بروز هذا الاهتمام من الدول النامية بشكل واضح فلأن حكومات هذه الدول تعتبر، وهذا حق، أن مشكلة التربية هي في أساس بناء المجتمع الحديث. على أن هناك أمراً مهماً يخص التربية وهو أن هذا العلم أو هذا الفن إنما هو واحد عند الشعوب إن من جهة إثارته اهتمام جميع هؤلاء، أو من حيث أن مواضيعه متشابهة في كل زمان ومكان ولعل أبحاث مربين كبار هو خير دليل على هذا الرأي.

ومهما يكن من أمر فإن علينا واجباً ومسؤولية كبريين في تثقيف الأجيال الجديدة وتربيتها. فكل دولة من الدول ملزمة بالمساهمة في مهمة تعميم التربية ونشرها، بحيث أن تجربتها الخاصة يجب أن تتعدى حدودها للتفاعل مع تجاوب الغير، كل ذلك لخير الإنسانية.

ويتضمن الكتاب من مجموعة من الفصول منها:

الفصل الأول ــ مشكلات التربية المعاصرة: وتضمن الحديث عن التربية والتطور، والتربية التقنية، والتربية الديموقراطية، والمستجدات المباشرة لعلمي النفس والاجتماع، والمسائل التربوية الجديدة.

الفصل الثاني ـ اللغة العربية والغاية من تعليمها: وتناول الحديث عن التهجي والمطالعة.

الفصل الثالث ـ المحفوظات والنصوص الأدبية: وتضمن الحديث عن دراسة الشعر والأناشيد في رياض الأطفال والمدارس الأولية والابتدائية.

الفصل الرابع ـ الأساليب الجديدة: وتناول موضوعات التربية الحس- حركية، والقيمة التربوية للعب، والتربية الحسية، والأساليب الفعالة للتعلم.

الفصل الخامس ـ منجزات ومشاكل معلقة: وتضمن الحديث عن تربية المرحلة ما قبل التمهيدية المدرسية والابتدائية، والمسائل التربوية في المرحلة الابتدائية، والتربية في المرحلة الثانوية، والتربية التوجيهية، والثقافة العامة والتخصص، والثقافة العامة اللازمة لعصرنا، والتعليم العالي والتربية الدائمة، والتربية والتعليم الدائم.

الفصل السادس ـ إعداد المعلمين والبحوث التربوية: واشتمل على عدة موضوعات مثل أين هي تربية إعداد المعلمين؟، واختيار معلمي المستقبل 3- اتجاهات جديدة في إعداد المعلمين 4- تهيئة المعلمين بالتمارين، الإعداد التجريبي، والتربية العلمية، ومعاهد الأبحاث والإعداد التربوي.

كتاب: التربية المعاصرة وتحديات التطوير.

تقديم وتحقيق: الدكتور بليغ حمدي إسماعيل .

تاريخ النشر: أبريل 2023

الناشر: وكالة الصحافة العربية (ناشرون) ـ مكتبة جرير السعودية في 2023م.

https://bookapa.com/-9122.html

https://www.jarir.com/sa-en/arabic-books-jrb5000006151.html

أصدرت دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عملا جديدا للباحث سعيد بوخليط. موضوعات عدّة، مفعمة بالثراء المفهومي والخيالي، التأمت بين دفتي العنوان التالي:

أفق الجمال، حياة المفهوم والخيال: نصوص في الفلسفة والأدب

موضوعات تباينت مقاربتها جدّة، متانة، وكذا قوة نزوعها الأكاديمي أو اكتفائها بالإيحاء الانطباعي، وفق طبيعة التيمة المركزية التي تأرجحت طيلة اشتغال متواليات هذه الشذرات ، بين محدِّدات خطابات تحيل على: العشق، التأبين أو الرثاء، النداء الإنساني الرؤيوي، التشكُّل المفهومي، المؤانسة الحوارية، اللوغوس الشعري.

نماذج تختزل فقط إجرائيا، مقاربات وتأملات؛ وإن اختلفت طبعا منطلقات أصحابها، لكنها تلتقي بعد كل شيء؛ كما الوضع مع جلِّ النصوص التأسيسية عند بوتقة واحدة دون غيرها، يستحيل التِّيه عن سبيلها الأوحد، وإلا أضحت حكاية الإنسانية المقدسة مجرد وهْمٍ عظيم.

نصوص توزعت بين حقول الفلسفة والأدب والشعر، تضعنا بالمطلق عند آفاق الجمال والسمو الفكري والحسي، حيث تجدر بنا الحياة الحقَّة. دون تخاذل، تأجيل، بل مجرد أدنى مواربة. لغة في غاية الشفافية والنعومة قدر عمقها، تدرك سبر أغوارها جيدا أسماء: سيمون دو بوفوار، سيلفي لي بون دو بوفوار (ابنتها المتبناة) ،جوليا كريستيفا، رولان بارت، فرانسوا ليوتار، فيليب سوليرز، غاستون باشلار،جيل دولوز، نيلسون أليغرين، أدونيس ، جبران خليل جبران .

استحضر هذا الكتاب بعض نصوص هؤلاء، وقد كشفت من باب التمثيل لا الحصر على الجوانب الآتية:

العلاقة العاطفية التي جمعت بين بوفوار وعشيقها الروائي الأمريكي نيلسون أليغرين، تشبه تلك التي جمعت بين جبران خليل جبران وماري هاسكال، ثم تصور مبدع كتاب النبي للشعر والشعراء، الانتقال إلى الحديث عن أدونيس عبر أناشيد أدونيادة، تصور رولان بارت للغة باعتبارها جسدا، وكذا استعادة تفاصيل موته جراء حادثة السير بداية سنوات الثمانينات، مفهوم الأدب حسب جيل دولوز، حلم التحليق كما تخيله غاستون باشلار، ماهية مؤسسة الزواج لدى ثنائي غير عادي؛ كما الشأن لدى فيليب سوليرز وجوليا كريستيفا، أيضا استعادت هذه النصوص روح النداء الذي خاطبت به كريستيفا إنسانية القرن الواحد والعشرين من خلال دستور عشرة مبادئ، وأخيرا العودة إلى محاولة تبسيط تيار مابعد الحداثة من طرف فرانسوا ليوتار وتقديم مضمون ذلك إلى الأطفال.

***

 

تواصل دار النشر لارماتان L’Harmattan – في باريس إصدار أعمال الكاتب العراقي علي القاسمي باللغة الفرنسية في سلسلتها الأدبية Les impliqés. وهكذا فبعد رواية “مرافئ الحب السبعة” التي صدرت ترجمتها قبل عام، تصدر الترجمة الفرنسية لثلاث من مجموعاته القصصية تم تجميعها في مؤلَّف جامع أطلق عليه عنوان "مشاعر قلب منفطر". وقد اضطلع بترجمتها، على غرار الرواية المذكورة، المترجم المغربي، مصطفى شقيب، وأشرفت على مراجعتها الأديبة الفرنسية أستاذة الترجمة بجامعة غرناطة الدكتورة ماري ايفلين لوبودير، التي كتبت في التقديم:

"وماذا لو كانت النهاية بشائر البداية ؟ علاقة متناقضة تتقاذفها الأمواج الصامتة، برغم كونها مضطربة، محمومة، عاصفة، مقدمة للشروق، شروق الشغف. يتحفنا القصصي البارع علي القاسمي في هذا المؤلّف الذي يتألف من ثلاث مجموعات قصصية رائعة : "أوان الرحيل" و "صمت البحر" و "الحب في أوسلو" التي تناولت مواضيع متباينة ظاهرا، غير أنّ كلماتها تنسج بينها روابط يستحيل الفصل بينها.

تتطاير حروفها مثل الفراشات، تتفادى الصفحات، لتملأ في الأخير حيزًا ملموسًا، متجولة على مرأى من المؤلف، لتجعله يشعر بوجوده. تزيل حروفها العوائق، تلغي الحدود، تعرض نفسها دون موانع أمام عينيه، وتجعله يلامس الصفحات. حروفها رجفة خالصة، تضفي المعنى، تعيد الفرح، تنتقم من الزمن الذي يمضي، ثم تنسى ذلك. يقدّم لنا القصصي الموهوب مشاعر قلبه المنفطر."

يفرق الناقد الدكتور سعيد يقطين بين مصطلحي " مجموعة قصص" و"مجموعة قصصية". فقصص المجموعة الأولى تكون موضوعاتها متفرقة؛ أما قصص المجموعة الثانية فتدور حول موضوعة واحدة. وإذا نظرنا إلى مجموعات القاسمي السبع، نجد كل مجموعة تدور حول موضوعة واحدة تقريباً، فهذه المجموعات هي:

1) ” رسالة إلى حبيبتي”، حول ذكريات الطفولة والصبا.

2) ” صمت البحر” حول قصص الحبِّ الخائب.

3) “دوائر الأحزان”، حول ما يثير الحزن في وجدان العربي.

4) ” أوان الرحيل”، حول الموت وتداعياته.

5) ”حياة سابقة” حول قضايا علم النفس الموازي.

6) “الحب في اوسلو” حول القيم المادية الغربية.

7) " الآنسة جميلة وقصص أخرى" حول المرأة واهتماماتها.

وقصصها ــ كما جاء في تقديم دار (مكتبة لبنان ناشرون) في بيروت التي نشرت كتاب القاسمي، " الأعمال القصصية الكاملة" ــ : " كُتبت من أجل مكاشفة الذات ومساءلة الكينونة، بأسلوبٍ ممتعٍ سهلٍ ممتنعٍ ؛ وهي نابضةٌ بالإثارة والتشويق؛ ومزدانةٌ بالمعرفة والثقافة ؛ ومضمَّخةٌ بلغةٍ راقية؛ ومشرعةٌ على رياح التأويل؛ ونابعةٌ من تجربةٍ حقيقية، ومعاناةٍ وجدانيةٍ عميقة، وموهبةٍ فذة، وخيالٍ مُجنَّحٍ جامحٍ أخّاذ. لقد كتبها القاسمي بدم القلب ودمع العين."

يقول القاسمي في مقدّمته لإحدى مجموعاته القصصية: ” إن مَن يقرأ هذه القصص لكي يستخلص منها جوانبَ من سيرتي، سيصابُ بخيبة أمل، ومَن يقرأها بوصفها من نسج الخيال، سيفوته الشيء الكثير من الحقيقة ؛ لأن الفنّ عموماً، والأدب على وجه الخصوص، ينطلق من أرض الواقع، ليحلّق في فضاء الخيال الواسع.”

وقد تم نشر أغلب هذه المجموعات القصصية بالعربية في عدّة طبعات في القاهرة والدار البيضاء وبيروت وحظيت بعنايةٍ خاصةٍ من لدن النقّاد في المغرب العربي وفي المشرق العربي على السواء، والآن تضطلع دار نشر لارمتان في باريس بنشر جميع مجموعاته القصصية في مجلدين، صدر المجلد الأول هذا الشهر، ويتوقع صدور المجلد الثاني في أقل من عام..

لقد حظيت سرديات القاسمي بعناية الأكاديميين والنقاد في المشرق والمغرب فصدر عنها حوالي خمسين رسالة جامعية وكتاباً ، فمثلا مجموعته القصصية " أوان الرحيل" ، وهي أحدى مجموعات المجلد الأول بالفرنسية، صدرت عنها حتى الآن أربغة كتب لإعلام الأدب والنقد في العالم العربي، وهم:

1) الشاعر الناقد العراقي الدكتور محمد صابر عبيد، أستاذ النقد الأدبي في جامعة الموصل سابقاً، وأستاذ الأدب العربي في جامعة أنقرة حالياً، في كتابه " التجربة والعلامة القصصية: رؤية جمالية في قصص ( أوان الرحيل) لعلي القاسمي"

2) الطبيب النفسي الأديب القاص الروائي الناقد الدكتور حسين سرمك حسن، مؤسس موقع (النقد العراقي)، في كتابه " الظمأ أو قارب الموت: تحليل طبنفسي لقصص مجموعة " أوان الرحيل".

3) الأديب الناقد المهندس المغربي الأستاذ الحسين بوخرطة في كتابه " سراديب الموت: قراءات تاؤيلية في قصص مجموعة اوان الرحيل لعلي القاسمي"

والقاسمي كاتبٌ متعدِّد الاهتمامات له أكثر من خمسين كتاباً في القصة والرواية والترجمة والنقد، وباحث في اللسانيات وعلم المصطلح وصناعة المعجم والتربية والتنمية البشرية وحقوق الإنسان.

***

بقلم: مصطفى شقيب

...............

1 محمد صابر عبيد . التجربة والعلامة القصصية في قصص أوان الرحيل لعلي القاسمي (أربد: عالم الكتب الحديث، 2010).

2 حسين سرمك حسن. الظمأ أو قارب الموت: تحليل طبنفسي لقصص " أوان الرحيل" . منشور في مواقع أبية كثيرة منها: الناقد العراقي ، صحيفة المثقف ، وغيرهما.

3 نُشرت فصول الكتاب في مواقع أدبية كثيرة مثل صحيفة المثقف، وسيصدر قريباً عن دار الثقافة الجديدة في الدار البيضاء.

 

ترجمة وتحقيق: صالح بوعذار

توطئة المترجم

أشرف الخمايسي كاتبٌ مصري بارز، ولد عام (1967) في مدينة الأقصر. ويسعنا الإشارة من بين رواياته ذائعة الصيت والشهيرة إلى؛ "منافي الرب" و"الصنم" و"ضارب الطبل" و"انحراف حاد" و"صوفيا هارون".

صدرت رواية "منافي الرب" عام (2013) وفي عام (2014) وصلت إلى القائمة الأخيرة لجائرة البوكر العربية.

رواية " منافي الرب" هي روايةٌ تجعل الموت والخلود مرآة لإظهار انجذاب الانسان واندفاعه في هذا المسار. فهذه الرواية مرقومة لتمجيد الحياة، وهي محاولة لجعل الحياة تتغلب على الموت!

يبحث "حجيزي" بطل الحكاية، عن الخلود، إذ يجتاز مراحل عديدة بغية الوصول إلى الانعتاق والخلاص. بيد أنه يُنشد الخلود والبقاء في هذه الدينا، وليس في الجنة والمدن الفاضلة. حيث اجتاز طريقاً وعرة متوخياً الحصول على الخلود، وينزعُ لمدة من دين الإسلام إلى المسيحية، علهُ يظفر بينبوع خلود الجسد في هذه الدينا. أجل فهذه الرواية تمجدُ الحياة وتمتدحها، إذ يجهد البطل ليتخطى الكليشات والمسلمات ليبلغ تلك الحياة الخالدة.

تجلت في عموم الرواية الاستعارة الرئيسة "غير مدفون". وتمثل هاجس البطل في الاحتفاظ بجسده وسط الأحياء، وألا يُحرم من إنسهم ومسامرتهم. فشخصية "حجيزي" مبتكرة وتضج بالحياة، إذ يمكن وضعها في مصاف الشخصيات الأدبية العالمية الأخرى مثل "هاملت" و"جان فالجان" و"دون كيخوته" و"أبلوموف" و" آنَا كارينينا" وغيرها.

وحياة حجيزي برمتها مشوبة بالموت وفكرة الموت، لأن والده كان منخرطاً في مهنة تحنيط الموتى أيضاً، ولاحقاً سار على نهج والده أيضاً. يشكلُ الموت بالنسبة لحجيزي، تحدٍ ومعضلة جسيمة، لأنه لا يفرق بين الصغير والكبير، ويجندل الجميع بحد سنانه، فيتعين على الناس مرغمين أن يدفنوا أحبائهم.

لا يدور هاجس حجيزي الأبدي والعميق حول "الموت" بحد ذاته؛ فقد تجاوز هذا الأمر قبل سنوات خلت، بل كان يخاف الوحدة والفناء بعد الموت، وكان يجهد على الدوام ليجد سبيلاً كي لا يدفنوه بعد موته، ويحتفظوا بجثمانه صحيحاً سليماً بين الأحياء.

فكرة الموت هذه وهاجس عدم الدفن، تسببت في ألا يستمتع حجيزي طوال عمره بحياته مثل الآخرين وألا يشعر بالسعادة ويعتاد الروتين. إذ يتنبه خلال أيامه الثلاثة الأخيرة إلى هذه السعادة والحب الضائع وحسب. "السعادة هي جماع الُمتع المنثورة في کل تفاصیل حیاتنا، حتی أسوأ تفصیلة تحمل متعة ما، لکننا في بحثنا المحموم عن السَّعادة، کُتلة واحدة مکتملة وواضحة، ندهش هذه المتع، و لا نجد السَّعادة أبدا.

السعادة لن‌ تأتي‌ أبدا کّتلة واحدة مکتملة و واضحة". بناءً عليه "فالحب" يعد عنصراً قوياً وعميقاً في هذه الرواية، ويسعه ضمان وحدة سعادة الإنسان وتكاملها نسبياً، ويجعله متفوقاً على "الحزن" الذي يُعد مثالاً عن منافي الرب.

في سير وسلوك حجيزي، البقاء والفناء، أرفعُ من قضية "الحياة" و"الموت". لأن هذه قضية الانسان الوجودية التي تحدثُ في مستوى العرض والجوهر. فالعرض من هذا المرأى ماضٍ إلى العدم، فيما يشيرُ الجوهر من هذا المرأى إلى أنه موجودٌ حيٌ وخالد، بيد أنه في كلّ أسفار عمره كان يتحرى الخلود من خلال منطلق الحفاظ على جسده، وهذا مستوعب في مستوى عرض الحياة وليس في جوهر العمر. لكن في نهاية المآل، يجدُ الخلود في الاستئناس بالجماعة وصحبة الآخرين: " الإنسان لا یموت، لأن الموت اختفاء، و الانسان‌ ظاهر في الأرض یشیًد خلوده، لا یموت الإنسان ولا‌ یُدفن". وعليه، فرواية "منافي الرب" تشكل نوعاً ما بحثاً عن الحياة بعد الموت ودليل على انتصار "الانسان" في قضية الخلود. بحق يمكن تسمية هذا الأثر "بملحمة الموت"، لأن البطل في كل اتجاهاتها وطوال سفره الطويل يتغلب على الموت.

لذلك في نهاية المطاف يجد السعادة في هذا الأمر: "السعادة امرأة تحبُّك وتحبّها. لو وجد أحدنا امرأة تحبُّه ما ألقی‌ بنفسه في منافي‌ الرب!"

وثمة استعارات ورموز عديدة مطروحة في هذه الرواية، على سبيل المثال: المسجد، والقطار، والعصفور، الصحراء، والواحة، وشجرة البرتقال والبئر و...

ومن خلال هذا المشهد، فقد كان مسجد قرية "الوعرة" الذي كان يحظى بقداسة خاصة من قبلهم، واتضح لاحقاً لهم أنه في الحقيقة كان عبارة عن سجن شيده العثمانيين، كانوا يسجنون فيه المماليك. بناءً عليه يريد الكاتب أن يقول إن الدين بوسعه أن يغدو أداة من أجل العبودية والأسر، ويفرغُ الانسان من الداخل، في حين إن الدين في الأساس ينشدُ خلاص الانسان وتنویره. لهذا السبب تُقحم الرواية الخطاب الديني الخشن والمتصلب في سجال، وتدعونا من منطلق نهج التهكم إلى استقصاء المفاهيم والكليشات الدينية والمناسك. في كل هذه الرواية، ثمة مفاهيم تُطرح مثل الموت والدين والحب، ثنائية الجسد والروح والزواج والحرب والثروة و...

كما ينبغي معرفة أن وصف المشاهد الجنسية في هذه الرواية، يهدف إلى تأكيد واستعراض عظمة الحياة. لأنه من هذا المشهد، ومن منطلق الجنس والحب يمكن هزيمة الموت بقوة والانتقام منه.

ومن الناحية التقنية، هذه الرواية ممتازة للغاية، فوصف الشخصيات لم يتربع على ذروة الجمال وحسب، بل كانت كل الأوصاف وخلق الفضاءات عظيمة وحية ومبتكرة. إذ يمكن لمس ومعاينة مشهد التحليق الجماعي للطيور البيضاء المهاجرة ورائحة الرمال ورغاء الجِمال بشكل حي. كما وُظف عنصر الصحراء في هذه الرواية بذكاء ولطافة كبيرة، لأنه يشكل تداعياً للعدم والموت، وكذلك شكل عنصر "الواحة" في هذا الكتاب، دلالة على الحياة والعمران، وكانت الصحراء أيضاً في طول التاريخ وعرضه، مهد الأنبياء والرسل. تأسيساً على ذلك، تقع كلّ الأحداث القصصية في الصحراء وجاءت متناسبة مع مضمون الرواية وموضوعها، مسلطةً الضوء على مصير الانسان ووجوده، إذ انحصر أمله الوحيد في الحياة بوجود هذه الواحات والقرى المتناثرة.

ومن جهة أخرى، هذه الرواية، تتجاوز الزمان والمكان، إذ يجعل الكاتب مخاطبه مستخدماً الزمان والمكان المتلفت، يعومُ في الماضي والحاضر والمستقبل، ويقذفه في جو أثيري نابع من ومضات الواقعية السحرية. وجاء سرد قصص الجماع نابعاً من الواقعية والخيال والحلم والأسطورة والتاريخ، فأفضى هذا الانزياح إلى مضاعفة المتعة وحظه الفني.

المكان في رواية "منافي الرب" شاسع برحابة الصحراء، يبحث الانسان في ميدان العدم لإيجاد نفسه، والزمن في هذه الرواية العجيبة ليس خطاً بل هو دائرة. بمعنى أنه من أي نقطة ندخل فيها إلى هذه الرواية، نصل إلى نقطة البداية ومن ثم نُقذف إلى أول حركات الحكاية. أحداث وحكايات هذه الرواية تقع خلال ثلاثة أيام وحسب؛ بيد أنها ثلاثة أيام بطول الأبدية، والبطل في هذه الأيام الثلاثة يستقصي نفسه ويغسلُ غبار النسيان عنها.

***

 

 

(قراءة موجزة جدًا في مصارع العُشّاق)

يرى عديدٌ مِن الكتاب، منهم صادق جلال العظم، في كتابه "في الحب والحب العذري"، أن معظم قصص الحب تنتهي بالفراق أو الموت، وأن الحبّ الحقيقي عادة ما يعيش حالة اشتداد.. قلّما تعرف الاسترخاء. ويقدّم مثلًا على ما يذهب إليه فيقول ما مفاده، تصوّر أن دانتي صاحب "الكوميدية الالهية"، تزوّج من محبوبته بياتريس، فاضحت مدام دانتي، تُعِد له ثلاث وجبات يوميًا وتنشغل طوالَ وقتِها بتربية أبنائهما... ونتساءل والحالةُ هذه.. لو تزوّج دانتي من بياتريس هل كانت قصته معها تخلد أم تنضمّ إلى ملايين قصص الحب التي عادة ما تُتوّج بالزواج.. والحياة الروتينية.. بما فيها التكاثر وإنجاب الابناء.

كتاب "مصارع العشاق"، للشيخ أبي محمد بن أحمد بن الحسين السراج القارئ، ( 1026-1106)، المولود في بغداد والمتوفى فيها، هو واحدٌ مِن كتب التراث العربي القديم التي تقدّم العشرات وأكاد أقول المئات من القصص التي تُثبت ما يذهب إليه الكثيرون وهو أن قصص الحب الحقيقية عادة ما تنتهي بالفراق او الموت.

يقع هذا الكتاب في مُجلّدين، وقد صدرت طبعته مدار حديثنا عام 1980 ضمن منشورات "دار بيروت للطباعة والنشر".

يورد مؤلف الكتاب في صفحاته الاولى بعضَ تعريفات الحب المرتبطة بالفراق والموت، منها قول الفيلسوف اليوناني القديم سقراط وهو أن العشق جنون والوان، كما أن الجنون الوان، وينقل عن النبي العربي محمد( ص)، قوله: "مَن عشق فظفر فعف فمات.. مات شهيدًا". ومن تعريفات الحب الطريفة التي يوردها المؤلف أن "العشق أوله لعب وآخره عطب"، وهذا القول يذكر بما قاله الامام ابن حزم الاندلسي في كتابه الشهير عن الحب "طوق الحمامة في الالفة والالاف"، وأقصد بهذا القول "إن الحب أوله هزل وآخره جد".

يضم كتاب مصارع العشّاق قصصًا ونوادرَ عن العشق وضحاياه من فترات تاريخية مختلفة منها ما هو جاهلي وإسلامي واموي وعباسي، وتهيّمن على ما يضمّه الكتاب روح دينية ذات نزعة صوفية، تقف قصص الحب المشهورة مثل قصة جميل وبثينة. وقصة عروة ابن حزام، في مقدمة القصص التي يضمّنها المؤلفُ كتابَه، غير أننا فضّلنا أن نقدّم

من أجواء هذا الكتاب الطريف.. القصة التالية:

"كان العلاء بن عبد الرحمن التغلبي من أهل الادب والظرف، فواصلته جارية مِن جواري القيان، فكان يُظهر لها ما ليس في قلبه، وكانت الجارية على غاية العشق له والميل إليه، فلم يزالا على ذلك حتى ماتت الجارية عشقًا ووجدًا به، فذكرها بعد ذلك وأسف على ما كان من جفائه لها وإعراضه عنها. فرآها ليلة في منامه، وهي تقول له:

أتبكي بعد قتلك لي عليا

فهلّا كان ذا إذ كنت حيا

سكبت دموع عينك في انهلال

ومِن قبل الممات تسي اليا

فيا قمرًا برى جسمي وروحي

ويقتلني وما أبقى عليّا

أقل مِن النياحة والمراثي

فإني ما أراك صنعت شيّا

قال. فزاد ما كان عليه الاسف، والغمّ والبكا، حتى فاضت نفسه.. فمات.

***

كتب: ناجي ظاهر

 

الصفحة 1 من 4

في المثقف اليوم