كتب واصدارات

الإستدلال، الترجيح، والإقتراح .. منظومة فكرية متقدمة للباحث ماجد الغرباوي / سلام كاظم فرج

قراءة في كتابه: (التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات)

عانى المسلمون والفكر الاسلامي ومنذ بدايات التأسيس في  القرن الاول الهجري من إشكالية الفهم الشكلاني للنص المقدس... ومنذ بواكير تشكل الفكر الاسلامي أنتبه الإمام علي عليه السلام الى هذه الاشكالية في قوله ان القرآن الكريم حمال أوجه .. وفي صراعه (الفكري) مع الخوارج قال قولته الشهيرة (كلمة حق يراد بها باطل) ردا على قول الخوارج (إنما الحكم لله لا لك ياعلي..) في إشارة الى  إن النص المقدس قد يؤخذ في غير مظانه ومقاصده..

فكل الايات الكريمة نزلت ضمن سياقات تاريخية معينة وانطلاقا من حاجات ملحة فرضتها ظروف تلك المرحلة (مرحلة البعثة والوحي..) .. وإذا كانت آيات السيف والقتال تترى في السور المدنية. فإن آيات الرحمة والسلام والتسامح والقبول بالآخر المختلف تؤطر كل السور المكية.. بل أن  الكثير من السور المدنية نزلت ايضا  لتنظم الشؤون الادارية والاجتماعية للمجتمع الاسلامي الجديد.. وإذا عرفنا ان البسملة في كل سورة تعتبر آية من آيات الذكر الحكيم. لوجدنا ان توكيد الرحمة تأتي في مقدمة كل سورة (الله الرحمن الرحيم..) لكن منابع اللاتسامح انما تأتي من التفسير الشكلاني لآيات السيف وعدم وضعها في سياقاتها التاريخية ..

كتاب الاستاذ الباحث ماجد الغرباوي (التسامح ومنابع اللاتسامح،، فرص التعايش بين الاديان والثقافات) والصادر في طبعته الأولى عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد.. يبحر عميقا في استكناه جذور إشكالية ضمور البعد التصالحي والتسامح بين معتنقي الديانات المختلفة في العالم المعاصر. والاثار المدمرة على الانسانية جمعاء في تكريس فلسفة التناشز بين معتنقي تلك الديانات.. وإنطلاقا من حقيقة ان المؤلف احد دعاة التنوير من المفكرين الاسلاميين فقد ركز في كتابه على ما يمكن ان نسميه بالنقد الذاتي . ليضرب المثال للآخرين في نقد الذات قبل تحميل كل طرف مسؤولية ما يحدث على الطرف لآخر.

فيقول (لسنا في صدد خطاب ايديولوجي تبريري يمارس التضليل بإقصاء الحقائق ليلقي بتبعية الاخطاء التاريخية على الاشخاص دون الافكار، او يتهم المسلمين لتبرئة العقيدة والدين، وايضا لانتهرب من الاشكاليات النصية او الممارسات السلوكية، انما قررنا مواجهتها بجميع تفصيلاتها...)..

ان شجاعة المواجهة والمكاشفة مع الذات قبل المواجهة مع الاخر تشكل حجر الزاوية في مؤلف الاستاذ الغرباوي الذي يعد من الكتب نادرة المثال في النقد الذاتي الاسلامي وصولا الى تنقية الفكر الاسلامي ذاته وإعادته الى اصول مقاصد الشريعة. لا التخريجات المخربة التي الصقت بالمسلمين قسرا لاسباب متعددة من بينها قصور المسلمين انفسهم في فهم المقدمات الصحيحة التي انتهت الى نتائج غير صحيحة فقدمتهم الى العالم على غير صورتهم والصقت بهم تهم الارهاب والكراهية ونبذ الآخر المختلف في عصر دخلت فيه البشرية الى مراحل متقدمة من تكريس قيم المحبة والتسامح والقبول بالآخر المختلف مهما كانت عقيدته ورؤاه..

ان الفكر المعاصر ينتهج نهج الحرية الشاملة في حرية الاعتقاد، لكن هذه الحرية مشروطة بعدم التجاوز على حرية الاخر في فهمه وتصوراته عن الوجود.. فمن باب اولى ان يكون المسلمون سباقين الى تبني هذه الرؤية المتقدمة على غيرهم لا العكس..

في الفصل الاول يجري الباحث مقاربات تمهيدية كثيرة ليؤصل فكرته في انسانية الفكر المحمدي.. وغربة المفاهيم التكفيرية عن روح النص المقدس انطلاقا من الاعتراف بوجود الاختلاف بين البشر وحتى بين اتباع الدين الواحد وانطلق من المجتمع العراقي كمثال.. ولكن.. (ثقافة التسامح واشاعة قيم التعايش والتعددية تطمح الى خلق اجواء لاتسمح بإنقلاب الإختلاف الى معارك دامية وانما تبقى وجهات نظر محترمة في إطار القانون وحرية الرأي والتعبير) ــ صفحة 15ــ..

tasamoh2

يقول الاستاذ ماجد ( التسامح لغة: مشتق من السماحة أي الجود والمسامحة المساهلة..).. ثم يقول ( ويراد بالتسامح اصطلاحا موقفا ايجابيا متفهما من العقائد والافكار يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدا عن الاحتراب والاقصاء، على اساس شرعية الاخر المختلف دينيا وسياسيا) صفحة 17

ويؤكد ان التسامح لايعني التنازل عن قناعاتك الفكرية والعقيدية نزولا عند رغبة الاخر . ولا هو انصياع للآخر ولا تبعية ولا رضوخ.. بل هو الاعتراف بحقوق الاخر مثلما اطلب منه ان يعترف بحقوقي. لاتكرما ولامنة.. وانما حق باعتبار تعدد الطرق الى الحقيقة (لانسبية الحقيقة وهذا رأي آخر..)

. مادامت الحقيقة موجودة (بمعنى محتملة) لدى لجميع.. فمن الاولى التعايش ..بينهم لا الإحتراب ..

ويستعير من المفكر الايراني الدكتور عبد الكريم سروش قوله (لا التشيع هو الاسلام الخالص والحق المحض ولا التسنن، على الرغم من ان اتباع هاتين الفرقتين لايرون هذا الرأي فيما يخص حقيقتهم، لا الاشعرية حق مطلق ولا الاعتزال... لاكافة المسلمين منزهون ولا جميع النصارى.. الدنيا غاصة بالهويات غير النقية، وليس فيها حق صراح في جانب، وفي الجانب الاخر باطل محض).. من هنا ان التعصب لاينتج الا تعصبا مقابلا.

لاموجب بعدئذ للتعصب او الشعور بالمنة والكرم والفوقية حين يقبل التعايش. وانما يجب عليه ذلك..

تخطر في بالي وانا  أمعن النظر في رؤى الاستاذ الغرباوي المتقدمة العميقة بهذا الشأن  أمثولة ضربها عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في قصور الفهم الانساني لمقاصد التشريع المقدس...

تتلخص الامثولة بقصة رجل مفترض عمل كمساعد لطبيب.. لاحظ المساعد ان هناك تناقضات في وصفات الطبيب الماهر. منها انه يحذر احد المرضى من اكل اللحوم الحمراء. في حين يشجع مريضا آخرا على الاكثار منها...

ان رؤية المساعد القاصرة قادته الى الظن ان الطبيب يخدع مراجعيه. دون ان ينتبه ان مرض فقر الدم مثلا يتطلب الاكثار من تناول الكبدة وان داء الملوك مثلا يتطلب الامتناع عن تناولها..  يقول الدكتور الوردي إن الايات القرآنية نزلت في وقتها تعالج كل حالة وفق ظروفها وإن الاصرار على الأخذ بها في غير موضعها يشبه اصرار المساعد على  سوء الظن بالطبيب.

إن مقاصد الدين الاسلامي كلها تصب في صالح التسامح والمحبة والاعتراف بالاخر المختلف واحترام حقوق غير المسلمين وان وردت آيات كريمة لا تنحو هذا النحو. وتحض على القتال فلأسباب تتعلق بظروف مرحلة عاشها المسلمون الاوائل تتعلق بتهديد حقيقي اكتنف كل غزوة..ولها تخريجاتها ومقدماتها ونتائجها الصحيحة. وإن الأخذ بها في غير موضعها ينقلب وبالا على المسلمين قبل غيرهم..

في الفصل الاخير يورد الاستاذ ماجد الغرباوي. تحت باب نصوص خالدة. عشرات الايات الكريمة والاحاديث الشريفة التي تتضمن الرحمة والتسامح والعفة عن الايغال في الكراهية والتباغض منها على سبيل المثال..

(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم..)

(وقولوا للناس قولا حسنا...)

(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله أمره..)

(لا إكراه في الدين..)

(ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله..)ــ لاحظ.. فعل الامر. لا تسبوا. هنا نهي عن الشتم... فكيف بالقتال.؟؟ والتنزيل الحكيم هنا يتحدث عن الكفار لا اصحاب الديانات السماوية..(سلام..)..

(فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب)..

(ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا افأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)

(ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن..)

(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

(لكم دينكم ولي دين..)

هذه شذرات مختارة من بين مئات الايآت الكريمة التي تحض على التسامح والتفهم والصبر اقتبسناها من اقتباسات الاستاذ الغرباوي في كتابه القيم..

ومن بين اهم مصادر اللبس في فهم مقاصد التنزيل المقدس الفهم المتطرف لموضوعة النسخ والتي غالى الفقهاء على مر العصور في الخوض فيها حتى اخروجها عن غاياتها . فقد درس الاستاذ الغرباوي بعناية تلك الملابسات في فهم النسخ في القرآن الكريم وضرب مثلا في نصوص غيبها النسخ وفق منظور مجموعة من الفقهاء توسعوا في فهم النسخ كأبن حزم الاندلسي على سبيل المثال في اعتبار ان آيات السيف نسخت آيات الرحمة . وتلك اشكالية خطيرة وقف عندها كتاب الاستاذ ماجد الغرباوي طويلا ليخلص الى حقيقة مؤداها ان النسخ شل حركة نخبة من أرقى الايآت إنسانية وتقدما ورحمة. وإن الوقوف عند آيات السيف دون آيات الرحمة إجحاف بحق النص المقدس وينبغي احياء الايات التي جمد فاعليتها الفهم المبتسر للنسخ لتساهم في خلق مناخات تساعد على سيادة ثقافة التسامح والاخاء والوئام والعفو والرحمة والمغفرة لا العكس.. وليس  كما يفعل متطرفوهذا العصر من تكفيريين وجهلة يسيئون الى الاسلام والمسلمين بعلم وبغير علم..في تقديم الكراهية على قيم المحبة ..

إن نسخ مئات النصوص بسبب نص واحد نزل بعدها ينفي عن القرآن الكريم صفة الشمولية في فهم الحياة وسبل إدارتها صوب الارتقاء.. والكيل بمكيال عصور كان  بعض الفقهاء فيها تبع لحكام مغامرين  اغرتهم الفتوحات في زمن غادرناه وانتهى وصار في ذمة التاريخ... فقدموا السيف على الرحمة..انتهاك خطير لمنظومة القيم الانسانية الراقية في الفكر الاسلامي..

لقد ثبت الكتاب اربع قيم اساسية في الاسلام كما وردت في نصوص ثابتة معتبرة

هي، الرفق، الحلم، العفو، والرحمة..

في الختام نحيي الاستاذ الباحث ماجد الغرباوي على هذا البحث القيم الجليل ولا نملك الا القول ان النصوص القرآنية تتطلب تمحيصا دقيقا لأنها لا تسلم معناها الا وفق مفاتيحها. ومفاتيحها الحدس السليم والفطرة الانسانية الطيبة. (الاسلام دين الفطرة..) والفطرة سمة الحياة لاسمة  الموت. والحياة لا تنمو الا بالمحبة ..

وإذا كان قلب (حدس) المؤمن دليله. فإن حدسنا يقول ان الرؤى التي أتى بها الكتاب تصلح ان تكون دليل عمل لبناء عالم جميل خال من الحروب..

*** 

سلام كاظم فرج - العراق

أديب وناقد

في المثقف اليوم