كتب واصدارات

عبد الجبار الشيخ دخيل: من الأيديولوجيا إلى تجديد علم الكلام.. قراءة نقدية لأنسنة الدين عند د. عبد الجبار الرفاعي

abduljabar alshaikdakil"إن بومة مينرفا لا تحلق إلاّ عند الغسق". هيغل

في حالة البؤس التي يمر بها عالمنا العربي وعالمنا الإسلامي، وفي ظل حالة الضياع والتشرذم، لابد أن يفكر المثقف بالأسباب التي أدت الى هذه الحالة. وإذا ما غاص في ما وراء الأسباب الظاهرية فإنه سيكتشف أن هنالك جملة من الأسباب القارة في عمق هذه الأزمة يشكل الموروث التقليدي الجامد للثقافة أو الفكر وجهها الأبرز. في ظل هذه الفوضى الثقافية والتشتت الفكري يلح على عقولنا اسم استطاع أن يضع بصمته الفكرية ذات المنحى التجديدي والتنويري المستند على إطار فلسفة الدين، ذلك هو الدكتور عبدالجبار الرفاعي.

لاشك أن كل مفكر في أي زمان ومكان لا ينتج أفكاره من تلقاء ذاته وإنما تكون أفكارُه تلك نتاجات لتأثره بأفكار من سبقوه أو حتى من عاصروه، لكن عظمة المفكر تأتي من صياغته أو حتى توظيفه لتك الأفكار في سبيل تغيير واقع راكد أو رجعي، وكذلك كان الرفاعي. فهو ابن البيئة الدينية والمتخصص في علوم الدين، تأثر بالنزعات الفلسفية الأخلاقية والايمانية الغربية، وكذلك النزعات التجديدية في التراث العربي والإسلامي، فضلا عن اتجاهات التنوير الديني لاسيما المعاصرة منها في إيران.

يتسع فضاء النقد كثيرا لأفكار الرفاعي طالما هي أفكار نقدية، وطالما هي تنطلق من فضاء فلسفة الدين التي تتسع بدورها لتشمل منهجيات التفكير الديني ومقارباته في اجتماعية الدين وتاريخيته والأيديولوجية التي تتبطن ذلك الاجتماع وذلك التاريخ.

وعلى قدر تخصصي في العلوم السياسية، وبالذات في حقل الاجتماع السياسي سوف أحاول أن أركز على محورين مهمين في أفكار الرفاعي هما: نظرته الى الأيديولوجيا، والثاني نظرته الى قضية التجديد في علم الكلام. وعلى الرغم من أن الأخير لا يبدو ضمن حقل اختصاصي العلمي إلا أنه يقع ضمن اهتمامات فضولي المعرفي من جانب، ومن جانب آخر، إن تاريخ علم الكلام وتفرعاته وسجالاته يشكل جانبا مهما لصورة الاجتماع السياسي الإسلامي، ومن جانب ثالث أرى إنه ينبغي على أستاذ العلوم السياسية الاستفادة من مخرجات فلسفة الدين وديناميكيتها، حتى يصبح منتجا لمعرفة عضوية وواقعية لا تكون بمعزل عن تلك المعطيات التاريخية والمعاصرة، والتي طالما أثرت وتأثرت بالسلطة السياسية على مر التاريخ الإسلامي ولا زالت حتى الوقت الراهن.

في موضوع الأيديولوجيا، يطرح الرفاعي فكرته الأثيرة في نقد الأيديولوجيا في أماكن متعددة من كتاباته. ورغم إن نقد الأيديولوجيا كمفهوم ابتدأ بتهكم نابليون من الأيديولوجيين، ومر بنقد ماركس وأنجلز ووصْفهم لها بأنها (وعي زائف)، ولم تنتهِ عند نقد المفكر الإيراني الحداثي داريوش شايغان، ولا حتى عند مفكري ما بعد الحداثة، إلا إن نقد الرفاعي لها جاء متميزا كونه يطرح هذا النقد، بل والقطيعة معها، ضمن إطار الفضاء الإسلامي، أو بالأحرى ضمن فضاء الإسلام السياسي وهو الذي انتمى إليه لسنوات طويلة عندما كان عضوا حركيا فيه وتلميذا وأستاذا في الحوزات العلمية، علاوة على إن فكرته تلك تأتي في إطار تجديد الفكر والتفكير الديني، فضلا عن انطلاقها للمرة الأولى ربما ضمن الفضاء الشيعي العربي. هو ينتقد الأيديولوجيا كونها تعطل العقل وتتنافى مع الحس الإنساني. ورغم إن نقده كان محددا لأسماء فكرية بعينها تبنت الأيديولوجيا كوسيلة خلاصية إلا إنه بالتأكيد كان يقصد بالتبعية كل التجارب الأيدلوجية في الدين، لم يشأ ذكرها لأسباب وجيهة ذكرها في عمله القيم (الدين والظمأ الأنطولوجي). ولعل أهم نقد وجهه الرفاعي بهذا الخصوص كان لعلي شريعتي ولحسن حنفي، حيث يرى ان (لاهوت التحرير عند حنفي وشريعتي، يختزل الدين في أيديولوجيا المقاومة والثورة، ويطمس الوظيفة المحورية للدين. الدين أرحب وأشمل وأوسع من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا مظهر وتعبير اجتماعي للدين، تحويل الدين الى أيديولوجيا يعني: اختزال الإنسان في بعد واحد، والروح في القانون .. ).

والواقع أنني أؤيد تلك الفكرة استنادا الى أن الأيديولوجيا تعني ببساطة أنك تقول إن منظومتي الفكرية أو العقدية أو الثقافية أفضل من منظومتك، وعلى ذلك أرسلت للدكتور الرفاعي رسالة كتبت فيها :

 عندما قرأت (الدين والظمأ الأنطولوجي) استذكرت حواراً في فيلم (الرسالة) لمخرجه الراحل ( مصطفى العقاد ) في سبعينيات القرن الماضي يقول فيه (الحمزة بن عبدالمطلب) للنبي "ص": (ياابن أخي، عندما أجوب الصحراء في الليل أدرك بأن الله أكبر من أن يوضع بين أربعة جدران). أقول؛ نعم، الله أكبر من أن يوضع بين جدران حزب سياسي، وأوسع من أن يكون أساً في مصفوفة إيديولوجية!

من الطرافة أن يبدو لي أن فيورباخ أكثر (إسلاميةً) من بعض المؤدلجين الإسلاميين عندما يدعو إلى أن نتمثل الله في زهرة جميلة، أو في منظر جميل،  أو في كل عمل نبيل! فيما يبدو لي إن هؤلاء (الإسلامويين) كانوا قد وصلوا، أو سيوصلون الآخرين، إلى ذات العبارة التي انتقد بها فلاديمير لينين سلفه في المادية فيورباخ، عندما قال: (إننا نريد أن ننفي الله من السماء، فيما فيورباخ ينزله إلى الأرض. ليس هنالك مكان لله على الأرض)!! أخشى أن يصل الجيل الحالي أو القادم إلى مثل هذه القناعة، بعد الزلزال الذي سيتعرض له الإسلام السياسي والجهادي الذي لا أشك بوقوعه. تلك الأدلجة التي أخشى أنها ستؤدي  إلى أن يتحجم الإله أكثر في مسجد ما أو حسينية لا يذكره فيها إلا العجائز! .. لقد كفر ثوار الثورة الفرنسية بكل شيء بما في ذلك الرب، وبعد أن انتهوا من فورتهم كتبوا متهكمين لافتة عريضة أمام البانتيوم في باريس: (إلى من يهتم بأمر الرب، لقد تم إعادته الى كنيسة نوتردام)!!

مع كل ذلك النقد الذي يوجهه الرفاعي للاتجاه الأيديولوجي في الدين أوالأيديولوجيا بصورة عامة، وهو محق فيه الى حد كبير، لاسيما أننا نواجه أسوأ مخرجات تلك الأيديولوجية المتمثلة بالإسلام الجهادي المتجسد بالقاعدة وداعش والجماعات الجهادية الأخرى، إلا ان الرفاعي لم يطرح لنا بديلا عمليا عنها. فإذا كانت ايديولوجيا الإسلام الحركي منذ عشرينيات القرن الماضي على سبيل المثال قد جاءت كرد فعل على الحركة الاستعمارية الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى وما أصاب الأمة الإسلامية جرائها، بصرف النظر عن اقترابها أو ابتعادها عن المعيارية الإسلامية، فإن هنالك ماهو أسوأ الآن، اسرائيل وقضية فلسطين، أمريكا وبريطانيا والغرب الذين يحتلون أو يقيمون قواعدهم في غير بلد اسلامي، والحملة ضد الإسلام كدين  حتى لو كان سببها سلوك الإسلاميين المنحرف. المهم نحن إزاء محيط عالمي معادي، وهذه المرة دينيا، سواء أكان على حق أم على باطل. أعلم أننا مولعون بخلق الذرائع وخلق الأعداء مثلما أعلم أن أيديولوجياتنا قومية ويسارية وإسلامية سفكت من دمائنا مالم يسفكه الآخر الاستعماري، ولكن هذا العداء أصبح واقعا، اليهودي الصهيوني في السلطة في اسرائيل وخارجها يقول كيف نقضي على العرب والمسلمين؟ ومن ثم هل تكفي النظرة الأخلاقية والاستغراق بالروحانية الصوفية العرفانية التي يبدو أن الرفاعي يضعها كبديل أساسي للرد على كل هذه التحديات؟ إن إفرازات التسلط الشمولي في انظمتنا السياسية يمكن التخلص منها عن طريق تربية دينية اجتماعية، تساهم فيها مقولات التصوف المعرفي (الذي يثري الروح، ويضيء القلب بجماليات الوجود)، وفي سياق ذلك يمكن التخلص من الأيديولوجيا، ولكن ماذا عن التسلط الشمولي الدولي؟ .. هل نكرر تجربة أثينا مع أسبارطة؟ هنا أخشى أن يُظن بأن عبدالجبار الرفاعي يتماهى مع موجة ما بعد الحداثة التي تشن هجوما حاسما على بقايا الأيدلوجيات بما تسميه (موت السرديات الكبرى) لكن معرفتي به وقراءاتي له تنزهه من أن يكون مؤمنا بالشق الآخر لما بعد الحداثة وهو (موت المرجعيات) التي تفرض أن لا مرجعية غير مرجعية الذات. إذن نحن بانتظار تقنية فكرية عملية تكون بديلا عن الأيديولوجية. وقد كتبت للرفاعي ذات مرة منوها بقدراته الإبداعية: (لعلِّي لا أبالغ إن قلت بأن عملكم الكبير "الدين والظمأ الأنطولوجي" يتمثل في كونه واحداً من أهم تمثلات الحكمة والعقل المعاصرين. إن لكل زمن تمثلاته الفذة، هذه القاعدة التي لا يريد البعض، لضعف أو لحسدٍ، أن يقبل بها، فالحكمة لم تنته عند ابن عربي أو ابن رشد أو ملا صدرا).

في الموضوع الآخر ، وهو (علم الكلام الجديد) ، يصوغ لنا الرفاعي بوادر نظرية أو منهجا جديدا لعلم كلام جديد، أستطيع أن أسميه بـ(المنهج الإنساني)، ليس بمعنى إنسانية عصر النهضة الأوربية التي كانت رد فعل سلبي على التفكير اللاهوتي وحصر التفكير بالإنسان وهمومه المعيشة مع استبعاد التفكير بالإله مما فتح الباب واسعا للحركات الإلحادية، فالرفاعي يسعى الى (تخليص النزعة الإنسانية في الدين) ضمن إطار الأيمان الحقيقي. والواقع ان هذا الاتجاه يمكن أن يشكل منهجا خامسا في سلسلة مناهج التجديد التي ابتدأت بمنهج الأفغاني الذي يقوم على العقل والعلم، والمنهج الثاني الذي  مثله محمد إقبال ومالك بن نبي والذي اهتم بالتأسيس الفلسفي للتجديد، والثالث الذي اهتم بالتأسيس المنهجي عند السيد محمد باقر الصدر، والرابع الذي ينسبه حسن حنفي لنفسه والذي يسميه بـ (التيار الاجتماعي -السياسي) .لقد وجه انتقادات محقة بحق ما درج عليه علم الكلام القديم، لعل أهمها ابتعاد هذا العلم عن هموم الإنسان (نسيان الإنسان في الكلام القديم)، والذي كان برأيي من أهم التوظيفات الحداثية التي استخدمها الرفاعي في نقد علم الكلام الكلاسيكي. ورغم ان قضية تجديد علم الكلام ليست بالجديدة وربما ترجع الى قرن من الزمن، وكذلك عند من عاصرهم الرفاعي في إيران أمثال عبدالكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري ومصطفى ملكيان وغيرهم، وكذلك وجود أصداء لها في الوقت الراهن عند السيد كمال الحيدري زميل الرفاعي في حوزة قم، الا ان الرفاعي طرحها في إطار نقدي روحاني أخلاقي، وفي فضاء يبتعد نوعا ما عن الفضاء الفقهي.

والواقع ان الرفاعي في سياق طرحه لهذه القضية التي أشار لها في عدة كتب وبحوث كان آخرها كتابه (علم الكلام الجديد: مدخل لدراسة اللاهوت الجديد وجدل العلم والدين) يشير مرة أخرى الى تاريخ أدلجة الدين في الإسلام، تلك الأدلجة كانت الاتجاهات الكلامية أساسا لها والتي شكلت بدورها تخادما أو تنافرا واحدا من أهم مخرجات الاجتماع السياسي الإسلامي الذي سادته علاقات السلطة العمودية وتمظهرات بأشكاله البطرياركية الإسلامية (فالتربية على الخوف ترسخ أرضية عميقة لنشأة وتفشي الاستبداد) ، عامل الخوف الذي كان واحدا من المخرجات التي أنتجها علم الكلام القديم.

مع ذلك، وبرأيي المتواضع، تبقى أطروحة الرفاعي في تجديد علم الكلام أطروحة غير مكتملة طالما أنها تأتي في السياقات التحريرية لكتب وأبحاث لآخرين على حد علمي، حيث ينبغي على الرفاعي أن ينحو الى توسيع إسهامه في هذا المجال حتى تتبلور نظريته بشكل أوضح.

أخيرا، أقول  لعلني لا أبالغ إذا قلت إنني عندما أقرا للرفاعي أحس بأنني أقرأ لعلم فكري حي، لأننا تعودنا على أن لا نكتشف العبقرية إلا بعد رحيلها عن الدنيا، وذلك بسبب الأقفال التي على القلوب، فأنْ تعطي الدين بعده الحقيقي الأوسع فذلك انتصار للدين، وأن تروي ظمأ الآخرين فيه فذلك فتحٌ أوسع من فتوحات السيف.

الرفاعي لا يأبه كثيرا بالمدح، فأنا عرفته عن قرب، دمث الأخلاق، متواضع على غزارة علمه. أن يُمدح الدكتور عبد الجبار الرفاعي فذلك مما صدق به المادح، كون الرفاعي لا يملك سلطة يتملقه الآخرون عليها، لكنه يمتلك سلطة أقوى من السلطة المادية وهي سلطة العقل لمن يعي معناه. سلطة الروح الأخلاقية لمن يملك أساً أخلاقيا. جاء الرفاعي من بيئة فقهية نمطية لم ينقلب عليها بقدر ما اراد إصلاحها، ومن خلال مشروعه التنويري ضمن إطار الدين، لم ينظر للدين على انه مجرد مجموعة من المثل السامية، بقدر ما نظر الى الدين كمنظومة كلية غير قابلة للتجزئة فكان ذلك سر نجاحه .. ولعل اهم ما يتميز به مشروعه هو انه مشروع معرفي شامل يدعو الى منهجة جديدة وتناول جديد وروح جديدة .. عالم المعنى هو الاسلوب والهدف في آن واحد، ذلك الذي يبحث عنه ويدعو اليه .. التسامح هو الآخر عنده غاية ووسيلة .. كل ذلك هو صلب وجوهر الدين .. انه نموذج لانتصار الأخلاق الدينية على دوغمائية وإيديولوجية الفهم المغلق للنصوص.

لعل واحدة من (النتائج العرضية) لطروحات الرفاعي أنه بسط للقارئ العربي، العراقي بالذات، القراءة الفلسفية للدين تلك التي كانت غائبة أو بالأحرى مغيبة عن الذهن. لازلنا ننتظر منه دفقا أكثر لتستكمل نظريته الإنسانية في إطار فلسفة الدين في هذا الزمن الصعب.

 

أ.د. عبدالجبار عيسى الشيخ دخيل

 أستاذ الاجتماع السياسي في كلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية.  

 

في المثقف اليوم