المثقف - حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (98): الفقيه وجذور الاستبداد
خاص بالمثقف: الحلقة الثامنة والتسعون من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، وفيها يجيب على (ق6- س91) من أسئلة الأستاذ الباحث مهدي الصافي.
جذور الاستبداد
ماجد الغرباوي: الفتوى تجلٍ لوعي الفقيه وانحيازه اللاشعوري لقبلياته ومصالحه. فمن الخطأ وصفها بالموضوعية والتجرّد التام. بل ولا علاقة لها بالتقوى ومراعاة القواعد العلمية والمنطقية دائما، لأن المعرفة البشرية تخضع لنظام اللغة وآلية اشتغالها داخل فضائه المعرفي، وفهم النص يتأثر بثقافته ومستوى وعيه ويقينياته. لذا يتعين تحري بدايات وعيه ونقد مقولاته التي ترسّبت لا شعوريا ضمن أنساق مضمرة، يصعب اكتشافها وتقويضها إلا بالنقد والتفكيك. وقبليات الفرد ثقافته وما تشتمل عليه من معارف وعادات وتقاليد وعقائد وأعراف وتصورات وأوهام، وما يختزنه العقل الجمعي، والوعي المجتمعي، وكيفية فهم الذات وهويتها، والآخر وحقيقته. وكل واحدة منها تنتمي لنسق معرفي وثقافي قائم على مقولات أساسية ونصوص تأسيسية. وهذا ما نطمح له كمقدمة لمعرفة الأنساق المعرفية للفقيه الموجهة لآرائه الفقهية، وقبل ذلك وعيه للقيم الدينية، ومنظومة العقيدة الإسلامية. من هنا سنركّز على ثقافه وبيئته، لرصد قيمها، ومصدر سلطتها، وتداعياتها على وعي الذات والآخر، وما يترتب عليه من حقوق وواجبات والتزامات.
ثنائية: السيد / العبد
يقوم النظام العبودي على ثنائية: السيد / العبد، بشكل يتوقف وجود أحدهما على وجود الآخر، وينتفي بانتفائه. فيصدق عليهما ما يشبه منطقيا تقابل المتضايفيين، كالأب والإبن. الفوق والتحت. والمتضايفان إصطلاحا: أمران وجوديان، تصور أحدهما يستتبع تصور الآخر. لا يجتمعان من جهة واحدة في وقت واحد، فهو إما سيد أو عبد. وإنما أقول ما يشبه المتضايفين لأن وجود الفرد يضمحل داخل وجود أوسع يمثل ثنائية السيد / العبد، فلا يكون طرفا حقيقا في معادلة المتضايفين. والمقصود هنا مرحلة التصور ووعي الذات، بدءا بمرحلة التلقي القهري التي رست أنساقها لا شعوريا، وترسّخت عميقا داخل البنية المعرفية للفرد والعقل الجمعي. فنحن أمام نظام معرفي، ومنظومة قيم تتحكم بوعيه، سواء كان سيدا أم عبدا. يساعد إدراكها على تفكيك العقل الفقهي لاحقاً، وفهم طريقة اشتغاله، وهذا يستدعي مقاربة الأطر النظرية السائدة آنذاك، وسياقات تطورها. فالتركيز على بدايات الوعي وروافده المعرفية، تقتضيها خطورة دورها في تكوين العقل. وما بعدها مرهون بالوعي وقدرته على محاكمة قبلياته. فهناك مرحلتان: التلقي القهري، والموقف النقدي. تهمنا أولاهما التي تعمل لا شعوريا، وتحرك الفرد ضمن سياقاتها. وأما المرحلة التالية، فهي مرحلة نقد وتقييم تلك المقولات ومن ثم الحكم عليها. فقد تعززها إخفاقات الوعي. أو يفيق ويتدارك ما ترسّب في لا شعوره. فمرحلتا التلقي والحكم، يقابلهما مرحلتا اللاشعور والشعور المعرفي. فنسعى من خلال تفكيك العقل الفقهي، في ضوء مقولات النظام العبودي، للكشف عن تداعياتها، ومدى تأثر العقل الفقهي بها، وذلك أن الفقيه في الوعي الشعبي، واسطة بين الفرد وخالقه من خلال ما يستنبطه من أحكام شرعية، فيتحكم بوعيهم من خلال وعيه، وهذا مكمن الخطر الذي يضغط باتجاه تفكيك العقل الفقهي لتحري حقيقته الدينية والاجتماعية، ومساحات العقل والميتافيزيقيا. فوعي العلاقة بين السيد والعبد ضمن الأطر المعرفية للنظام العبودي، ينعكس لا شعوريا على وعي الفقيه في فهمه لعلاقة المخلوق بالخالق. بل ويرتّب عليها ذات الإلتزامات والضرورات، كشمول التشريع لجميع مناحي الحياة، بسبب هيمنة الرب حدا يصادر العبد إنسانيته وعقله وإرادته، يقابله عجز حدَ الانسحاق والتشيؤ. فتفكيك العقل الفقهي سيسلب شرعية الآراء والفتاوى الفقهية المؤسسة على مقولات عبودية. ويعود بالوعي الاجتماعي إلى سياقات الفهم القرآني القائمة على رؤية مختلفة لعلاقة الخالق بالمخلوق. علاقة تفوض الإنسان مسؤولية خلافة الأرض، واستخلافها، وتحقيق كل ما يحقق سعادته، ويحمي حقوقه وحرياته. وبالتالي سنتحرى حقيقة مقولات الفقيه، ونفضح بشريتها وانتماءها، ومدى وفائها للعقل والمنطق. فالاجتهاد مفهوما يوحي بمنهج عقلي صارم، غير أن الواقع شيء مختلف، فالفقيه لا يغادر النص، ولا يتخلى عن قبلياته. ويضحي بعقله لصالح النص وإشراطاتها.
ثنائية العلاقة
إن المبدأ الذي تقوم عليه ثنائية السيد / العبد، هو معطى أخلاقي واجتماعي جاهز، لا يخضع للنقد والمراجعة، يتلقاه الفرد ضمن ثقافته وبيئته. يمنح السيد / الملك تفوقا، تفرضه طبيعة مختلفة لخلقه ونقاء دمه. كأن تتجلى فيه طبيعة إلهية، تستلزم عبادته وطاعته، حدَّ التشيؤ والاسترقاق، بشكل يضمحل فيه الفرد ويغدو أداة لتنفيذ إرادة متعالية، يمنحها ولاء مطلقا، وهيمنة تدبيرية، وفق وعي مستلب حدَ التماهي وعدم الشعور بالاغتراب، تقبع خلفه ثقافة تسلب الفرد هويته واستقلاله، فتكون تبعيته قدرا وجوديا، لا شيئا زائدا على وجوده. بل يتوقف وجوده على وجود الآخر، بشكل لا يعي وجوده إلا من خلاله. وهذا وعي باطني لاشعوري، من وحي حقيقة العبودية التي تتلبسه، وتبقيه مشدودا لقيمها. وبالتالي، فوعي العلاقة وعي للذات من خلال الآخر. وعي يتوقف فيه وجود الأنا على غيرها، كالرؤية من خلال المرآة. فلا تمرّد ولا عصيان حينئذٍ، لتوقف الصراع الطبقي على فعلية شروطه. هكذا هو النظام العبودي كأحد مراحل التاريخ البشري. وهو وعي بدائي، خرافي، بسيط، سببه ضعف التجربة البشرية وسذاجة العقل، وارتهان تحقق وجود الذات على الآخر. فلا وجود حقيقي للفرد إلا ضمن وجود كلي، يتجلى فيه وجود السيد بقوة، تستلزم قداسته ودونية الآخر. قداسة تدبّر العبد وتملي عليه إرادتها، في سياق استبدادها وجبروتها وهيمنتها التي تلغي عقل العبد وإرادته، وتصادر إنسانيته وفق منطق الغاب، الذي تفرضه أيضا طبيعة الحياة ووحشيتها آنذاك. (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
ثم أفرز تطور التجربة البشرية فيما بعد وعيا مختلفا للعلاقة بين السيد والعبد، وضعت حدا لتبعيته الوجودية، بمعنى التحقق، لا بالمعنى الأنطلوجي. لكنها أبقت على تعالي الذات المقدسة، استجابة لخصائص ذاتية تستوجب سيادتها وهيمنتها. وهي بداية لتشكّل وعي طبقي، لكنه وعي مستلب، يكرّس هيمنة الذات المقدّسة بفعل خصائصها الذاتية، التي هي خصائص إلهية بحكم التجلي أو الاصطفاء. أو لنقاء الدم واختلاف "طينة" الخلق. ومعنى الوعي الطبقي، إمكانية الصراع من حيث القوة والاستعداد، لا من حيث الفعل والتحقق الخارجي، خاصة في بداية الفرز الاجتماعي بين طبقات المجتمع. ويمكن تلخيص ما يتميز به هذا النظام، بما يلي:
- الانقياد للعقل الجمعي والوعي الكلي، بما في ذلك الوعي الديني، حيث يتوحّد الإله الملك / السيد. سلوكا وفعلا وتقريرا. فالإله في العقل الجمعي قوة وقدرة مطلقة ضمن تحيز زمكاني، يتجلى في الملك / السيد (فَقَالَ – أي فرعون - أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ). يقصد بقوله الإيحاء للمتلقي بطبيعته الإلهية، التي تقتضي تبعية الوجود الأضعف للوجود الأقوى. فهو وجود واحد "مشكك"، يتفاوت شدة وضعفا، ابتداء من الأعلى. وهي نظرية وحدة الوجود فيما بعد. فوجود العبد تابع لوجود سيده من حيث وعي الذات والآخر، بشكل يتعذر وعيه لذاته بمعزل عنها. فمنطق العلاقة تحكمه دلالات وإيحاءات الاستبداد المقدس، ومنطق تنزيه الذات المتعالية، واحتقار المحايث، في مختلف تمظهراته الاجتماعية. مما يقتضي احتكار الولاء، والتحكم به وفقا لمقتضيات مصالحها وإرادتها، مهما كانت ظالمة ومتوحشة.
- ثم في المرحلة الثانية (مرحلة التماييز الطبقي، بفعل التطور الاجتماعي والاقتصادي) تم تجريد الملك / السيد من إلوهيته، ومنحه صفة ذاتية، هي نقاء الدماء واختلاف "طينة" الخلق، به يستحق مقام التقديس (أو مقام القرب الإلهي في الخطاب الديني فيما بعد). وهو مقام يتولى الكاهن / مثقف السلطة تثقيف المخيال الشعبي عليه، لينطلق في خلق أساطير وخرافات، تعمق قدسيته، وتضبط سلوك وتوزان طبقة العبيد. وبالتالي فالسيادة إفراز وعي اجتماعي ينتمي لمنظومة قيم العبودية التي تفرض محدداتها على أنساقه المعرفية وطرق تفكيره. ومرد هذه المرحلة إلى وعي أكثر تطورا لمفهوم الإله، وتجرّده عن الخصائص البشرية، كلازم لأسطوريته. فلا تصدق إلوهيته مع السجون البشرية والأسيجة المادية. وهذا لا يمنع تجليه في بعض النفوس البشرية، كما يرى العرفاء والمتصوفة لاحقا.
- في المرحلة الثالثة، مرحلة مع بعد الأديان، بدأ الإنسان / العبد يستعيد إنسانيته تدريجيا، رغم هيمنة قيم العبودية التي واصلت تأثيرها بعد الإسلام، عبر تمظهرات مختلفة، أبرزها التماهي مع الأطروحات السياسية والاجتماعية القبلية. وكان أول اختبار للمسلمين قبولهم مبدأ القرشية في حسم نزاع السلطة بعد وفاة النبي، وهو مبدأ قبلي وليس دينيا أو إنسانيا. وما كان لرواية "الأئمة من قريش" أن تؤثر وتحسم نزاع السلطة لصالح قريش بمفردها لولا وجود أرضية مهدّت لقبولها، وقد مرَّ تفصيل الكلام حولها. واستمرت قريش تواصل سيادتها في السلطة من خلال فرض القرشية شرطا لصحة الخلافة، يقابلها في المعارضة شرط الإمامة.
والسؤال مدى قدرة الأديان عامة والإسلام خاصة على تحرير الفرد من قيم العبودية التي تعني التسليم المطلق، والانقياد وروح التبعية، في ظل خطاب قرآني، ينظّر لطاعة الله ورسوله مطلقا وعلى طاعة أولي الأمر مشروطة، ويثني على تسليم الفرد، ويعاقب كل تمرد ديني وعبادي؟ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). وهل حقق بالفعل هذه المهمة؟ وكيف نفسّر الوعي العبودي ضمن الأطر الدينية والتشريعية؟.
وهو سؤال مشروع، فالعبودية استعداد قبل أن تكون قيمة ذاتية للإنسان. وصفة تطرأ على الذات، فلا ينتفي وجوده بانتفائها، وتبقى استعدادا وقابلية، بفعل سياقات نفسية ومعرفية وتربوية، تفرض نفسها مهيمنا ثقافيا، يتحكم بمسارات الوعي الفردي والجماعي. تتطلب معالجتها إنقلابا في سياقات الوعي، وتأسيسا جديدا للمقولات الأساسية التي ترتكز لها بنية العقل في أدائه. ولو شئنا تعريف العبودية، نقول:
العبودية: منظومة قيمية، تكرّس دونية الأنا، بفعل استلاب الوعي أمام الذات المتعالية. فهي بهذا المعنى ضد نوعي للحرية، التي تعني الاغتراب داخل منظومة قيم تصادر الفرد حقوقه الوجودية، والإنسانية. وهي بهذا الفهم قوام الأديان وفقا لنظرية العبودية التي مرَّ الحديث حولها مفصّلا، لكن الأمر يختلف وفقا لنظرية الخلافة التي نتبناها، فالإنسان خُلق حرا كي يمارس دوره في الحياة الدنيا (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). وما يبدو في ظاهره خطابا عبوديا، هو خطاب تحرري، يسعى لتحرير الوعي من ربقة عبوديات مصطنعة، من خلال عبادة محررة من الاستغلال والتبعية لغير نداء الضمير الإنساني، إلا أنها تُستغل من قبل حماة الدين ورجاله. فالخطاب الديني لا يكرّس منطق العبودية بمعنى الاستغلال والتبعية لإنسان آخر، بل يسعى لتحرير وعي الفرد والمجتمع، من خلال استبدال أنساقه المعرفية القائمة على العبودية، إلى أنساق تقوم على الإيمان بالمطلق الذي هو الله تعالى، فيتحرر عبرها الوعي المستلب، من خلال طاعة الله والانقياد له، بشكل صحيح، لا كما يريده الفقيه أو رجل الدين. فيمكن تلخيص معالم نظام العبودية، أنه:
- سلطة مطلقة سيادية، تقتضيها خصوصية الخِلقَة والاصطفاء، تختص بها الذات المتعالية.
- يقابلها وعي مستلب، يكرّس روح التبعية والانقياد. يسلب الفرد إرادته واستقلاليته وعقله وحقه في تقرير مصيره، حداً لا يعي ذاته إلا من خلال سلطة فوقية.
النظام القبلي
كان النظام القبلي يسود الجزيرة العربية وغيرها قبل البعثة، وكان نظاما راسخا، متماسكا، قادرا على مواجهة التحديات، من خلال وشائج القربى والدم والولاء والمصير المشترك. يتقوم بنظامه الاستبدادي، واحتكار السلطة، ويرتكز للقبيلة كوحدة أساسية في تكوين المجتمع، لذا يعد نسخة متطورة عن النظام العبودي، لتبنيه ذات القيم والمبادئ، ولو بشكل أكثر تطورا. وهذا النظام يتقوم بما يلي:
1- تكريس سلطة شيخ القبيلة، وتفرّده بامتيازات سلطوية، استبدادية، يقتضيها الشرف القبلي ومنصب السيادة.
2- اضمحلال الفرد داخل كيان القبيلة، وربط مصيره بمصيرها، حداً لا يعي ذاته إلا من خلال إنتمائه.
وما أنا إلا من غُزَيَّةَ إن غوَتْ * غويتُ وإن ترشُدْ غزيةُ أرشدِ
3- تتقوم العلاقات القبلية بوشائج الدم والقربى والمصير المشترك.
4- يقوم النظام القبلي على الطاعة والانقياد لشيخ القبيلة وقراراته، التي قد يستبد بها أو يشرك من يراه أهلا للتشاور.
5- المجتمع القبلي مجتمع ذكوري، يقصي المرأة حدَ التشيؤ، ومصادرة حريتها وحقوقها وإنسانيتها.
وبالتالي فمصدر قوة القبيلة روح الطاعة والانقياد، أسوة بنظام العبودية رغم اختلافهما من حيث بنية الوعي الفردي والاجتماعي. حيث يعتبر النظام القبلي نسخة متطورة. لكن يبقى الاستبداد وتداعياته الخطيرة، الملازمة للعنف وتمجيد القتل ومنطق القوة، علامة فارقة في كلا النظامين. كلاهما يؤسس لمنطق التبعية والانقياد على مستوى السلوك، ويؤسس للخرافة واللامعقول على مستوى المعرفة والإدراك العقلي.
النظام الأبوي
تتماسك بنية العائلة، التي هي أصغر وحدة اجتماعية، داخل المجتمع القبلي برابطة القربى، ووحدة النسب، وسيادة سلطة الأب، وفق نظام أبوي / بطركي، هو جزء من نظام شامل، تناط به مهمة تنسيق العلاقة بين الأب / الإبن ضمن أعرافها وتقاليدها. وليست سلطة شيخ القبيلة سوى تراكم نوعي لسلطة الأب. وهي سلطة تقوم على الطاعة وفروض الولاء للأب وشرعته الاستبدادية. وكان منطلق المجتمع في احترام الأب منطقا ذكوريا وعبوديا، يألف التسلّط، وترويض الفرد على الطاعة والانقياد، بعيدا عن العقل والنقد. فالعائلة المسؤول الأول عن تكوين الوعي، وبناء قبلياته الثقافية. تربطها بالمجتمع علاقة جدلية، تعمّق منطق العبودية القائم على شِرعة الأب / الذكر / المستبد، وإلغاء قيمة الفرد وحقه في تقرير مصيره. فالعقل العربي بشكل عام تجلٍ لثقافة مجتمع تهيمن عليه قيم العبودية، (دونية الأنا، وتنزيه الذات المقدسة). ويرفع شعار "الاستبداد المقدّس". وقد واصلت هذه القيم حضورها في الثقافة الإسلامية، ومن خلال العقل الفقهي، رغم الخطاب القرآني الذي سعى لتحرير الوعي من نزعاته القبلية القائمة على الاستبداد، ومصادرة العقل. غير أن إخفاقات الوعي حالت دون إدراك مقاصده، واستغلاله لشرعنة قيم العبودية والاستبداد، وتأكيد شِرعة الذكر على حساب الأنثى.
ولم يتحرش القرآن بقيم المودة والاحترام بين الأب والإبن، لكنه ضبط العلاقة وفق مبادئ إنسانية. بدءا من إشراك الأم مع الأب بالاحترام، والتعريف المستمر بمعاناتها ومكابداتها خلال الحمل. فالاحترام قرآنيا قائم على أساس الشكر ورد الجميل للأبوين: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)، وبهذا انتزع الخطاب القرآني المنطق الذكوري من العلاقات العائلية. كما انتزع المنطق الاستبدادي وأبقى على علاقات الاحترام والشكر، دون التحكّم بمصير الأبناء، حينما قال: (وإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). فالقرآن أقام العلاقات العائلية على مبادئ إنسانية وعقلية، بعيدا عن منطق التسلّط والاستبداد. وأكد قيم الأبوة الإنسانية بدلا من قيم الأبوة القبلية الملازمة لشِرعة الذكر، واحتقار الأنثى (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). فالمنطق القبلي منطق استعلائي، يستعلي فيه الذكر بذكوريته، بينما يؤسس القرآن لعلاقة مختلفة، لا فرق في ذلك بين الأب والأم، ولا ميزة لهما تقتضي تسلطهما واستبدادهما، إنما هي علاقات إنسانية، وقد يكون الأبن أجدر من أبيه في قراراته، لذا يكون مسؤولا عن مصيره مباشرة، بينما يخول النظام الأبوي الأب مصير العائلة برمته. قال تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
فالإسلام قد حافظ على كيان العائلة وتماسكها، وأصّل لعلاقة أبوية على أسس أخلاقية وإنسانية، بعد تجريدها من سطوة الأب وقيم العبودية. فالمبالغة بالاحترام حد تحريم التأفوف وإظهار الضجر من مداراتهم، تعويض نفسي للأبوين، وشكر لجهودهم ومعاناتهم وتضحياتهم، وضمان أخلاقي حينما يتراجع بهم العمر. ومن يراجع آيات الكتاب الكريم يجد اهتمامه بالعائلة كمؤسسة اجتماعية اهتماما ملحوظا. غير أن قيم العبودية وقيم النظام الأبوي استطاعت رغم كثافة الخطاب القرآني، التكيف مع القيم الدينية، واكتسبت شرعيتها من خلال وعي بقى وفيا لجذوره، ويمكن الاستشهاد بمجموعة عقائد ومفاهيم تؤطر العقل الجمعي.
سيأتي بيانها في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.