ثقافة صحية

بهجت عباس: ماذا في مرض السكّر من جديد؟

bahjat abaasآلـيّـة مرض السكّـر: يوجد حواليْ 40 جيناً تلعب دوراً في مرض السكّر النوع الثاني. هذه الجينات تؤثر على وظيفة الخلايا بيتا الموجودة في غدّة البنكرياس التي تفرز الإنسولين استجابة لوجود السكر في الدم الذي يجب أن يكون أكثر من 5 مليمول أو 90 ملغم /  ديسيلتر دم (دل) لمن لم يكن مصاباً وفي مقتبل العمر. ولكنّ الحوامض الدهنية أو الأمينية التي تسري في الدم تزيد من اطلاق الإنسولين. إذا زاد تركيز السكر (الگلوکوز) في الدم عن 5 مليمول، نتيجة تناول مواد سكرية / نشوية (كاربوهيدرات)، تفرز خلايا بيتا الإنسولين التي تلتصق بمستقبِلات (بكسر الباء)، وهي مواقع معيّنة على الخلايا مختصّة بالإنسولين، فتفتح الخلايا أبوابها لدخول الگلوكوز واستعماله مصدر طاقة للخلايا لتؤدي أعمالها المتنوعة، وبهذا يعود السكّر إلى تركيزه العادي في الدم. يكون هذا في الانسان غير المصاب بمرض السكّر. أمّا إذا (رفضت) مستقبِلات الخلية عن قبول الإنسولين، أيْ (قاومتها) نتيجة خلل فيها، أو إذا كانت الإنسولين غير كافية (قلّة في إفراز خلايا بيتا) لمرض معيّن، فلا يدخل الخلية إلا بعضٌ من السكّر، ويبقى قسمٌ كبير منه جارياً في الدم فيكون الفرد مصاباً بمرض السكّر.  فما السبب أو الأسباب أو آلـيّـة هذا الخلل التأيّضي؟

في مقال للدكتور(ة) باربارا كوركي (بروفيسورة في جامعة بوسطن – أمريكا) نُشِر في مجلة The Scientist الصادرة في تموز 2016 جاء إنّ وجود الشحوم / الدهون في الدم التي هي الشحوم الثلاثية Triglycerides بكثرة تحفّز إفراز الإنسولين مؤدّية إلى فرط الإنسولين Hyperinsulinemia في الدم التي قد تسبّب (مقاومة) نتيجة تحطُّمِها إلى حوامض دهنية، وهذه الحوامض تدخل في الخلايا بيتا، فتعطيها إشارة لإفراز الإنسولين. ثم إنّ هذه الحوامض الشحمية تتحد أيضاً بالخميرة  المسمّاة  Coenzyme (CoA) فتكوّن أسيل كو أيْ ذات السلسلة الطويلة Long – chain-acyl-CoA، وهذه مؤشّر قويّ لإطلاق الإنسولين فيزداد تركيزها في الدم. ومن التجارب التي أجريت على الحيوانات، وحصوصاً الفئران، أستعمل الباحثون أسيل كو أيْ ذات سلسلة متوسطة medium – size-acyl-CoA بدلاً من ذات السلسلة الطويلة فوجدوا أنّ هذه الشحوم قد تأكسدت (احترقت) بسرعة في الميتاكوندريا ولم تسبّب إفراز الإنسولين وأنّ فرط الدهون/الشحوم في الدم Hyperlipidemia هو السبب. وعلى هذا فإنّ تحفيز (حرق) الدهون لتقليل المخزون منها في الخلايا يقلل من تركيز كمية أسيل كو أيْ و يحجّم ظهور مرض السكّر، كما وجد بعض الباحثين في تجاربهم على الحيوانات. وجدوا أيضاً أنّ الدهون الجارية في الدم بتركيز عالٍ Hyperlipidemia تكون مصاحبة لخلل التايّض. فعندما  "ترتبط الإنسولين بهذه المستقبِلات  تلتهم الخليّة هذا (المركّب) فتهضم الإنسولين وتُعيد تكوين معظم المستقبلات، وليس كلّـها، إلى سطح غشائها . وكلّما كان تركيز الإنسولين أكثر يكثر فقدان المستقبِلات على غشاء الخلايا لاستهلاكها، ونتيجة ذلك تقلّ كميّة الگلوكوز الداخل إلى الخلية فيرتفع تركيزه في الدم وكذلك تركيز الإنسولين. وقد وجدت الدكتورة باربارا كوركي في تجربة خارج الجسم in vitro  أنّ الإفراز المفرط للإنسولين من خلايا بيتا يستنفد (احتياطي) الإنسولين من هذه الخلايا ممّا يجعل الخلايا غير قادرة على استيعاب (أخذ) السكّر المتزايد في الدم، بينما تثبيط الخلايا بيتا حافظ على محتوياتها من الإنسولين. وتستطرد الدكتورة بأنّ (التأيض السليم وتحسين تأدية إفراز الإنسولين يتمّان بمنع إفراط الإنسولين أو بتخفيض سلاسل الحوامض الشحمية الطويلة.)

 

الاستنتاج

إنَّ استعمال الإنسولين ومختلف العقاقير مثل السلفونيل يوريا التي تحفّز على إفراز الإنسولين من خلايا بيتا كافٍ للسيطرة على مرض السكّر، ولكن لها مساوئ كثيرة على المدى البعيد، وأهمّها هو الخلل في التأيّض أو فقدان الفعالية وفرط (كثرة) الإنسولين في الدم، مما يُجهد خلايا بيتا بل يستهلكها تماماً فلا إنسولين يُفرز منها بعد ذلك. هذه الإنسولين بعد إفرازها تذهب إلى الكبد أولاً حيث تُثبّط إنتاج الگلوكوز وبعدها تتحطّم. وكميّة الإنسولين التي تذهب إلى الكبد هي ثلاثة أضعاف الإنسولين التي تذهب إلى أطراف الجسم، وهذا كما تقول الدكتورة باربارا كوركي (يُسبّب مقاومة خلايا الكبد قبل مقاومة خلايا العضلة.) لذا وجب أن تُعطى كميات كبيرة من الإنسولين وهذا ما يُسبّب تكوين الشحوم الثلاثية والسمنة بعد ذلك ومن ثمّ خلل التأيّض. كما إنّ كثرة الإنسولين تولّد تكاثر الخلايا  واحتمال زيادة الإصابة بالسرطان. وعلى هذا يكون الميتفورمين (أسلم) علاج للسيطرة على مستوى سكّر الدم. فهو يثبّط (انطلاق) السكّر من الكبد ويقلّل من إفراز الإنسولين من خلايا بيتا في البنكرياس. لذا تكون الفكرة بأنّ تثبيط أو تقليل إفراز  خلايا بيتا يساعد على (إعادة) حيويتها وخصوصاً في الأشخاص البدينين، وقد يساعد على (الشفاء) أو تجنّب الإصابة قبل وقوعها. ربما يتمّ هذا بإعطاء (مادة دايزوكسياد Diazoxide وهي مادة مثبّطة لخلايا بيتا، مع إنسولين خارجية، لإدامة سكر الدم في مستوى طبيعي، فبهذا يُمكن أن يحافظ على ما تبقى من خلايا بيتا في السكر النوع الأول الذي يحدث عادة نتيجة هجوم المناعة الذاتية على جزيرة البنكرياس.

ومن دراسات أُخَـر، وُجِـدَ أنّ  التخلّص من  فرط الدهون Hyperlipidemia يُمكن أن يُوقف مرض السكّر. فإذا استُغني عن الشحوم الثلاثية ذوات السلسلة الطويلة (الموجودة في زيت الزيتون  olive oil بالرغم من فوائده الأخرى) واستُعمل بدلها دهون ذوات سلاسل متوسطة (الموجودة مثلاً في زيت جوز الهند coconut oil) يزداد استهلاك الطاقة وتنخفض الشحوم لدى الأشخاص البدينين. كما إنَّ التقليل من تناول المواد السكّرية والنشوية يساعد الجسم على استهلاك الدهون، لأن معظم الخلايا تستعمل الدهن لحرقه كطاقة إذا كان السكّر غير موجود. وعلى هذا الأساس يعتمد الدكتور يوئيل فورمان Joel Fuhrman في كتابه The End of Diabetes, 2013 على الغذاء لإعادة الخلايا بيتا إلى طبيعتها الفعالة، بعد استهلاكها، للتعافي من مرض السكر نهائيّاً، وذلك بتناول الخضروات والبقوليات والفواكه، وخصوصاً قليلة السكّر، بدلاً من اللحوم بدهونها وبروتيناتها، حيث تكون الخضروات والبقوليات حاوية على البروتينات الكافية للجسم علاوة على ما سمّاه بالمغذّيات الدقيقة micronutrients التي تشمل 22 مادة ضرورية للجسم مثل الفيتامينات والعناصر الكيميائية، هذه المواد موجودة في النباتات أكثر من مثيلاتها في اللحوم  (البروتين) والكاربوهيدرات والدهنيات والتي تسمّى بالمغذّيات الكبيرة macronutrients .  ويبقى الباحثون يعملون على التخلّص (الشفاء) من مرض السكّر دون نتيجة حتمية ولكنّ الأمل يأتي من الخلايا الأوليّة (الجذعية) التي إن (زُرعتْ) في البنكرياس، فستجدّد خلايا بيتا. ومن الجدير بالذكر أنّ الشركات الكبرى هنا تربح ما يقارب المئة بليون (مليار) دولار سنويّاً من هذا المرض اللعين!

 

د. بهجت عباس

 

في المثقف اليوم