قضايا

جدلية المكان والزمان في الأدب

alhasan alkyriفي الواقع، يعتبر مفهوم المكان أحد المفاهيم الكونية الكبرى التي لا تدخل فقط في نطاق فن الأدب، ولكن على العكس من ذلك، يتعلق الأمر بمفهوم أساس في حقول معرفية شتى يصعب حصرها هاهنا؛ والمكان شق من مفهوم أكبر هو الفضاء في حين يشكل الزمان شقه الثاني.فالمكان والزمان وجهان لعملة واحدة هي الفضاء إذن.

وبالنسبة لنا نحن بني البشر فالمكان والزمان نسبيان، ومطلقان بالنسبة للذات الناظمة لهذا الكون، وهي ذات الله عز وجل.فنحن نولد ونحيا ونكبر ونشيخ ونحب ونكره ونفرح ونترح ونسعد ونتألم ونعبد ونموت في المكان والزمان.إنها روابط واعية ولاواعية، عقلية ووجدانية منطبعة ومنغرسة في الذات الإنسانية تجعلنا نكره أو نحن إلى هذا المكان أو ذاك؛ فعندما نحل به سرعان ما تضيق أنفسنا فنرحل منه ثم نعود وهكذا دواليك. ألم يقل الشاعر العربي المخضرم عمرو بن الأهتم التميمي؟:

لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْـلِـهَـا *** ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجـالِ تَـضـيقُ

ويبدو أن للمكان سلطانا على قلوب بني البشر يجرهم إليه جرا على الدوام؛ وعليه فلا عجب أن يحن الشاعر إلى أول منزل وإلى الديار في العهود الخوالي.و لا عجب أن يهفو العقيد أورليانو بوينديا Aureliano Buendíaإلى ماكوندو Macondo (هذا العقيد هو واحد من أبطال أشهر رواية نهرية في أمريكا اللاتينية، يتعلق الأمر ب: مائة عام من العزلة للنوبل الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيث وصدرت سنة 1967) حتى وأزيز المعارك يشنف أسماعه في المعارك الساخنة في الأدغال. ولا عجب أن يكتوي فؤاد باسكوال دوارتي Pascual Duarte (بطل رواية عائلة باسكوال دوارتي للنوبل الإسباني كاميلو خوسي ثيلا وقد صدرت سنة 1944) بالشوق إلى قريته الصغيرة ب: بادخوص Badajoz وهو على وشك مغادرة غاليسيا Galicia إلى أمريكا اللاتينية. ولا عجب أن يحمل صقر قريش ( أقصد عبد الرحمان الداخل أول من أحيا خلافة الأمويين بالأندلس بعد موتها في المشرق) الركب أشواقه ويبثه أشجانه ويناجي النخلة التي تذكره بمحتده وأهله في بلاد الشام:

يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيْبَةٌ مِثْلِي *** فِي الغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الْأَصْلِ

فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَمَّمَةٌ *** عَجْمَاء لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَتلِ

لَوْ أَنَّهَا تَبْكِي إِذا لَبَكَتْ *** مَاءَ الْفَراتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ

أيها الراكب المُيَمِّم أرضي *** أقْرِ من بعضي السلام لبعضي

إن جسمي كما علمْتَ بأرض *** وفؤادي كما عملتَ بأرض

قُدِّر البيْنُ بيننا فافترقنا *** وطوى البينُ عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينا *** فعسى باجتماعنا سوف يقضي

ولسنا نعجب أن يظل الأندلسي ابن الآبار العميد في إفريقية يحن إلى الأندلس كالغصن يميد:

إلى أوطانه حن العميد *** فظل كأنه غصن يميد

وأخيرا وليس آخرا، لا عجب أن يكتوي ويتحرق ابن الخطيب بذكرى وأشواق زمان الوصل بالأندلس.

جادك الغيـث إذا الغيـث همـى *** يـا زمـان الوصـل بالأنـدلـس

لـم يكـن وصـلـك إلا حلـمـا *** في الكرى أو خلسـة المختلـس

إذ يقـود الدهـر أشتـات المنـى *** ننقـل الخطـو علـى ما تـرسـم

ويبدو أن المكان في الأدب مهما كانت واقعيته أو رمزيته أو خياليته فهو لا يمثل ولا يشكل البتة نسخة طبق الأصل للعالم الواقعي، ولكنه داخل في باب الإيهام بالحقيقة والواقع ومحاولة اقتراب منهما، قد تتماهى معها أو تقترب أو تبتعد حسب أحوال المبدع وظروف وسياقات إبداعه. ذلك أنه حتى الوسيلة الأساس في فن الأدب ( أقصد اللغة) هي ملتبسة أصلا، بل حتى المرآة أو آلة التصوير رغم ميكانيكيتها لا تنقل الواقع نقلا أمينا مهما ادعينا ذلك. وأكثر من هذا وذاك، وكما قال إدغار ألان بو Edgar Allan Poe (قاص وشاعر أمريكي يعتبر مؤسسا للقصة القصيرة خاصة البوليسية منها1849،) فالأحداث والشخوص وما إلى ذلك عندما تمر في ذهن المبدع تفقد واقعيتها مهما كانت درجة هاته الواقعية. وقد بات واضحا وبدهيا هذا الأمر عند غاستون باشلار Gaston Bachlar (فيلسوف وإبستيمولوجي فرنسي مشهور) عندما يقول: " L’espace appelle l’action et avant l’action l’imagination travaille. Elle fauche et laboure ". والمكان أيضا هو ميدان الممكنات والمتحققات والإنجازات المادية كالعمرانية منها مثلا: الصغيرة والكبيرة والبسيطة والمعقدة والرخيصة والمكلفة والغريبة. ونذكر في هذا المضمار: القصور والمساجد والرياضات والبساتين والمقصورات والحدائق والكنائس والديور والدور الفخمة وما دون ذلك. ولا شك أن للكلمة في فن الأدب عموما قوة وقدرة خارقة على التقاط وتصوير هذه المظاهر والمناظر المكانية في أبهى صورة وأزهى حلة قد تفوق أحيانا هذا الواقع فتسبح بنا في عالم الغرابة وتحلق بنا في فضاء الخيالات المجنحة.إن الأدب يعبر لنا بشكل فني بهيج عن الحساسيات الفنية والأذواق وأنماط العيش والسلوكات والاختيارات والعقائد الجمالية في عصر ما عند أمة ما.فهو من هذا الباب يمكن أن يعتبر وثيقة تاريخية وفنية وجمالية لا محيد عنها من أجل التغلغل في أعماق وجدان حضارة ما لفهمها فهما عميقا.

ولما كان الزمان قوة متجاوزة ومشوهة ومهدمة تسوقنا سوقا نحو النهاية الوجودية المحتومة (أقصد الموت) فإن تخليد الذكر والذكرى بالإبداع في العمران مثلا يمكن اعتباره شهادة على عظمة وأبهة وعزة وإيباء الخناذيذ الأفذاذ الشوامخ من الرجالات. وما اعتقالها بالكلمة إلا تزكية لها وترسيخ في اللاوعي الجماعي والفردي رغما عن أنف الزمان والداء والأعداء. يقول الفرزدق في هذا المقام مفتخرا:

ألم تر للبنيان تفنى قصوره *** وتبقى من الشعر البيوت العوارم.

وصدق أيضا أبو تمام عندما أنشد قائلا:

لولا خلال سنها الشعر ما درى ** * بغاة العلا من أين تؤتى المكارم.

نجمل القول فنقول إن الكائن البشري يبقى خاضعا لجدلية المكان والزمان مهما حاول الانفلات والفكاك منها. والحساسيات الجمالية الفنية تابعة للمزاج، والمزاج تابع للتقلبات البيئية الحافة والنفسية والذهنية والشعورية. إن العواطف النبيلة والإحساس الجمالي تعلم للناس كما تعلم لهم القراءة والكتابة. فكما أن الأمي لا يستطيع أن يقرأ أسطرا إذ هو ناظر إليها، فكذلك الإنسان الذي لم يظفر بتربية عاطفية أو جمالية، إذ ينظر إلى الشيء الجميل فلا يرى جماله ويعيش في هذا الكون الحافل بمتع العين والأذن والقلب دون أن يرى فيه جمالا أو أن ينتبه إلى حسن فيه، فهو كسائر في روض جميل لا يكاد يرى فيه زهرة جعلت الطبيعة العذراء من قطرات الندى لها إكليلاǃǃ

 

باحث في الترجمة والتواصل – الدار البيضاء – المغرب

 

في المثقف اليوم