تجديد وتنوير

ماجد الغرباوي: الخطاب الديني وقرصنة الحريات

من يشكك في إحدى ثوابت الفكر الديني، مرتد (وفقا لشريعة الفقهاء)، يجب قتله، على الضد من الحكم القرآني!!. او زنديق ما دام حاذقا يُجيد لعبة الكلام والتلاعب بالألفاظ

ثمة سؤال تتوقف عليه حدود حرية الإعتقاد التعبير في الإسلام: هل الدين نموذج نهائي، يصادر حرية الرأي والإعتقاد والتعبير، ويفرض رؤية أحادية تلازم الإنسان مدى الحياة؟ أم الدين نسق قيمي يستجيب لمتطلبات العصر والزمان، ويتجدد مع كل قراءة تستوفي شروطها الموضوعية؟

الإسلاميون ومن قبلِهم رجال الدين والفقهاء يعتقدون أن الدين منجز اإلهي نهائي، يصادر حرية الرأي والاعتقاد والتعبير، فمن ينكر إحدى ضرورات الدين وفقا لهذا المنطق، مرتد، (سواء كان مسلما بالفطرة او استجد له رأي بعد اسلامه)[1] .. وملحد زنديق، حينما يتمرد، يجادل في قضايا الخلق والوجود، او يطرح إشكالات يعجز عن تفنيدها صاحب الحقيقة المطلقة!!. (وهذا لا يشمل المعاند والأحمق البتة). ولم يكتف الخطاب الديني بضرورات العقيدة موضوعا للردة بل راح يوسّع من مساحات المحرّم والممنوع، وراحت تتناسل الضرورات لتشمل ضرورات المذهب والطائفة بل ضرورات الشعائر أيضا!!، فتحوّل الفكر الديني الى حقل ألغام شاسع، لا يعرف المرء كيف يتفادى مخاطر التحرّش في ثوابته، وصارت البدع والأساطير والخرافات طقوسا مقدّسة .. مرتد وفاسق ومنحرف من لا يؤمن بها، أو يناقش في شرعيتها، وبهذا الشكل أصبحت الردة سيف يلاحق حرية التعبير، تتمدد سطوتها كلما اتسع مجال التنظير الفكري لدى المسلمين. ومع كل بدعة تُقمع الحريات، ويتراجع الوعي، ويضمر دور المثقف التنويري، حداً يعيش حالة من القلق والخوف والترقب. وطالما راح ضحية التعبير عن الرأي شخصيات استباح الجلاّدون جلودهم، وراحت سياطهم تصب جام غضبها انتقاما لزيف الآلهة، وأصنام الفكر الديني المتعجرفة. ولم يكتف رجل الدين بمصطلح الردة والزندقة والالحاد بل راح ينحت صيغ جديدة كمفهوم (إزدراء) الأديان أو إزدراء مقام المرجعيات الدينية، وهو مفهوم يتصف بقدرة هائلة على الإطاحة بمن تسوّل له نفسه التحرّش أو التشكيك بثوابت الخطاب الديني الرسمي، لان رجل الدين لا يخشى الحرب والمنازلة بقدر خوفه من الرآي الذي يزلزل قناعات الناس ويضع مبانيه على محك السؤال.

إن الخطاب الديني كغيره من الخطابات الأيديولوجية، يمارس التضليل وتزييف الوعي .. يقفز فوق الحقائق، ويقمع المعارض، بأمضى الأسلحة (أي الفتوى)، أداة الفقيه في فرض آرائه والدفاع عن حدوده. فالمعارض فكريا وعقيديا، أو من يشكك في إحدى ثوابت الفكر الديني، مرتد (وفقا لشريعة الفقهاء)، يجب قتله، على الضد من الحكم القرآني[2]!!. أو زنديق ما دام حاذقا يُجيد لعبة الكلام والتلاعب بالألفاظ، وما برح قادرا على فضح الحقيقة، وهتك المستور، بل ما دام يحمل رأيا آخر، وقناعة آخرى. أو لم يقتنع بعقيدة رجال الدين والفقهاء فهو مرتد أيضا، مطرود من رحمة الله. وكلا من المرتد والزنديق محكوم عليه بالضلال والموت، وقائمة من حُزت رؤوسهم بسيف الدين طويلة عبر التاريخ[3]. خاصة والارتداد مفهوم ملتبس، يستجيب بسهولة لأهواء فقهاء الضلال، حتى بات مطيّة الحركات التكفيرية، المتطرفة، التي راحت تستبيح طوائف اسلامية كاملة بحجة الارتداد، حتى ولو كان الارتداد خلافا فكريا وعقيديا، او فقهيا بين فقيه وآخر. وهذا بالضبط ما فعله ابن تيمية حينما (كفّر الفلاسفة والمتصوفة والجهمية والباطنية والاسماعيلية والنصيرية والامامية، والاثنى عشرية والقديرية) . وجاء من بعده سيد قطب في جاهلية القرن العشرين، ليؤسس منهجا تكفيريا، يستمد من ابن تيمية وخطه السلفي شرعية استباحة دماء الناس الابرياء، ويوظّف آيات القتال والحرب التي نزلت في وقائع تاريخية محددة لزهق كل معارض ومخالف لرؤيته (العقيدية – الفقهية).

والمغالطة الأساس في الخطاب الديني، حينما يوائم بين الدين (كنصوص مقدسة) والفكر الديني (كفكر بشري). والحقيقة إن الفكر الديني قراءة للدين، وفهم له، يختلف من شخص لآخر ومن فقيه لغيره، وفقا لتطور البيئة الثقافية، وليس هو ذات الدين، كما يحاول الخطاب الديني الأيديولوجي أن يوهم القارئ والمتلقي به، ليمنح آراءه قداسة تتعالى على النقد والمراجعة.

وأيضا يغالط إذا اعتبر التنظيرات الفكرية في شتى المجالات ضرورة من ضرورات الدين، لأنها مجرد آراء واجتهادات شخصية، وليست ضرورة من ضرورات الدين.

والغريب أن التكفير وأحكام الردة، تطال دائما مساحة الفكر الديني الذي هو فكر بشري، فكيف يؤاخذ الانسان حينما يناقش ويجادل في فكر بشري مهما كان مصدره؟. وحتى لو صدق الارتداد فان القرآن الكريم اكتفى بالمؤاخذة الآخروية بحق المرتد (عن الإسلام)، ولم يجعل أي مؤاخذة دنيوية عليه. وما صدر من أحكام في بداية البعثة كان مقتضى أمن المجتمع المسلم، وليست أحكاما شرعية كي يتشبث بها الفقهاء ويعقدوا عليها اجماعهم الذي هو دليلهم الأساس في حكم المرتد، ثم استغلها السلطان والسياسي لاقصاء المعارضة وانزال أقسى العقوبات، أي القتل بحقه، على مدى التأريخ.

ثم كيف نقسّر تطور العقل البشري، ومسيرته الزاخرة بالانجازات المعرفية والفكرية والفلسفية، اذا قلنا ان الدين نموذج الهي نهائي؟. ولماذا منح الله العقل قدرة هائلة على الخَلق والابداع، حتى راكم رؤى ونظريات أفرزت نظاما اجتماعيا – سياسيا كفل للانسان حقوقه، من خلال مبادئ: التعددية، المجتمع المدني، التداول السلمي للسلطة، وضمان الحريات العامة، وهي منجزات بشرية نافست الخطاب الديني، واستقطبت أنظار الشعوب، حتى بات الغرب محكوما في نظر الشرق بثنائية: النموذج / العدو. بل أصبح همّ الانسان الشرقي اللحاق بالغرب وتطبيق نموذجه الحضاري، وأمنيته دائما ان يعيش في ظل قوانينه وأنظمته. وبالفعل من يعيش في الغرب يشعر بقيمة ما أنجزه العقل البشري، وكيف اعاد للانسان مكانته وحيثيته، من خلال ضمانات دستورية، كفلت معيشته، وأمنه، وحريته، وهذا غاية ما يطمح له الانسان، بينما تعثرت التجارب الدينية واخفقت في تطبيق النموذج الديني، لذا تلجأ لقمع الحريات ومصادرة حرية الرأي بالذات.

وأيضا، لماذا لم يخلق الله عقلا على مقاسات النموذج الديني، عقلا يتحرك باتجاه واحد، يأبى الخلق والابداع؟ لكنه تعالى خلق عقلا خلاقا مبدعا منافسا: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) ، لكنه لم يجعلهم كذلك بل (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [4]!!!.

وعَود على بدءْ، فالاسلام لا يصادر حرية الرأي والمعتقد والتعبير، حتى لو اتخذ المسلمون الأوائل اجراءات احترازية في بداية الدعوة، فانها ليست أحكاما نهائيا، لان المنطق القرآني قائم على الاختلاف باعتباره أحد مقومات الخلق، وسرّ ديمومة الحياة على الأرض. به تستقيم وتستمر وتتطور وترقى بالانسان وتطلعاته. فالمبدأ القرآني لمن يتقصى آياته: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[5]، و(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[6]، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[7] (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)[8]. وحرية التعبير ملازمة للاختلاف، فما دام الاختلاف مشروعا فان التعبير عن هذا الاختلاف مشروع أيضا. بل تجد في رمزية القصص القرآنية ما يؤكد ذلك من خلال قصة الخلق، حينما وقف إبليس يجادل الباري جل وعلا في شرعية السجود لآدم، فلم يصدر الخالق حينها أي عقوبة جسدية بحقه، بل أصغى الى مبررات اعتراضه، وأجّل أمره الى يوم القيامة[9].

هذا الكلام بمجمله لا ينفي الفرق بين حرية التعبير والاساءة، فالثانية عمل ترفضه كل القيم والمبادئ الانسانية، بينما حقيقة حرية التعبير انها تكشف عن رأي وفهم وقراءة اخرى، يجب احترامها، مهما كان مستوى الاختلاف معها.

للأسف أن أجواء القمع الفكري والعقيدي كرست الحس التكفيري، وصنعت مافيات دينية تتحكم بوعي الشعوب المسلمة، تفرض عليها خطابا دينيا رسميا، يحرّض على الكراهية والتنابذ. ومحاكم التفتيش في تزايد مرعب، تلاحق الناس في كل مكان، حتى راحت أقلام التنوير تتشبث بكل معجزة لتفادي سطوتهم.

نحن بحاجة ماسة لخطاب ديني يعي دور العقل، ولا يراهن طويلا على سذاجة الناس، لأن التطور الاعلامي سيلاحق رثاثة الوعي، ويعيد للانسان قدرته على النقد والتلقي الواعي، وحينئذ ستسقط كل الأقنعة المزيفة.

 ***

ماجد الغرباوي - باحث بالفكر الديني

2-2-2015

.......................


[1] - أجمع الفقهاء على تعريف المرتد، وحكمه، ودليلهم هو الإجماع ورايات، ينسب بعضها للنبي وقد بينت ما فيه الكفاية عدم حجية الأدلة، وعدم وجود أي مؤاخذة دنيوية على المرتد، والقرآن واضح في ذلك لا لبس فيه، وهو قول عدد من الفقهاء. أنظر كتابي: تحديات العنف، مصدر سابق، وكتاب: التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الآديان والثقافات، ط 2008م، العارف للمطبوعات والحضارية، بيروت – بغداد.

[2] - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (سورة المائدة، الآية:54). لايوجد فيها حكم بقتل المرتد. وأيضا (سورة النساء، الآية: 137): إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا

[3] - الأمثلة كثيرة سواء من قتل أو من صدرت بحقه فتوى تكفير وارتداد، مثالا: بشار بن برد، ابن المقفع، والحلاج، فرج فوده، السباعي

[4] - سورة هود، الآية، 118.

[5] - سورة الإنسان، الآية: 3.

[6] - سورة الكهف، الآية: 29.

[7] - سورة يونس، الآية 99.

[8] - سورة الغاشية، الآيتان: 21 و22.

[9] - قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (سورة ص، الآيتان 75و76)

في المثقف اليوم