صحيفة المثقف

محنة الحوار المذهبي بين الفكر الاعتباطي الفوضوي وتوحش التنظيمات الإسلامية المتطرفة (1)

التي هي مجموعة بيوت طين أو شعر أو خيام تنعزل في مكان قصي في الصحارى والوهاد والبوادي عن باقي الناس.

وقد تحولت هذه المتعارفات التي تعود جذورها غالبا للوعي الديني البدائي الأول أو للوعي المتأثر بفكر الديانات السماوية الأخرى التي عايشت سكان جزيرة العرب إلى عرف اجتماعي مقدس لا يجوز الخروج عليه ولا مخالفته مع أن بعضها تبدوا بعيدة عن قيم التدين وذلك لأنها كانت على درجة عالية من التنظيم لدرجة أن ما كان موجودا منها في زمن البعثة النبوية عومل معاملة خاصة . واعتقد أن ما نشأ بعد هذا التاريخ كان سيحضى أيضا بدرجة من القبول لو أنه كان في زمن البعثة ذلك لأن المجتمعات التي أوجدت المتعارفات تحفظ عادة احتراما دينيا للتقاليد الموروثة التي ينتج عنها التقليد الجديد في الغالب.

وقبول الإسلام ببعض هذا العرف وإبقائه داخل المنظومة الأخلاقية المجتمعية في زمن البعثة والوحي لا يعني أن الدين كان بحاجة لمنظومة الأخلاق المتوارثة ليدعم بها أطروحته بقدر ما يدل ذلك الفعل على أن الإسلام المتكامل بشقيه القرآني والحديثي كان يهتم بشكل مباشر بأدق تفاصيل شعيرات الكل الحياتي الإنساني. ويلاحظ هذا التوجه التفاعلي من خلال ما عرف بـ (أسباب النزول) بالنسبة للتفاعل القرآني مع الحدث اليومي، و(الإقرار) بالنسبة لتفاعل السنة النبوية بمنظومتها القيمية العالية التي كانت تهتم بمسايرة الخصوصيات الفردية والمجتمعية لتفعيل أبسط متطلبات الحياة اليومية مما يدل أن الدين لا ينفي حراكات الحياة الأخرى ولا يوقفها أو يلغيها ما دامت تتناغم معه،ولا يوجد بينها وبينه تعارضا. وما دامت هي من جانبها تتساوق مع الطباع البشرية السليمة البناءة الخلاقة .

ومن اهتمامات الإسلام بالحياة البشرية أنه لم يطلب من المسلم أن يوقف حياته على أداء العبادات المتواصل على حساب باقي المطالب الأخرى ولذلك أعطى للعبادات حيزا صغيرا من أصل الامتداد الزمني الطويل لليوم بليله ونهاره فجعلها بمجموعها لا تزيد على ساعة واحدة في أفضل الحالات من أصل الأربعة والعشرين ساعة التي يتكون منها اليوم، وترك الزمن الباقي للنشاطات الحياتية المتنوعة بشرط أن تستغل في بناء الإنسان والمجتمع بناء عقائديا متناغما مع شروط الدين ومبادئه ،وعليه أعطى لهذا الحراك درجة (أكبر) ليس من حيث الحجم طبعا، مقابل درجة (أصغر) للجهاد مثلا، مع أن الأخير كان من العناصر المهمة التي ساهمت في نشر الدين والدفاع عنه!

ولذلك استمرت حياة المسلمين في سيرها الهاديء النمطي التقليدي حتى بعد وفاة رسول الله، بل أن هذا اليسر الذي يتوافق في تعقيداته عكسيا مع درجة نمو المجتمع وتنوع احتياجاته خالف هذه القاعدة واستمر بنفس الوتيرة الهادئة حتى بعد توسع مساحة الدولة وتوسع حجم المجتمع في زمن الحاكميات الإسلامية (الأموية والعباسية) رغم تبدل الكثير من العرف السائد لأن العرف الوافد الجديد رغم اختلاف مناهجه البنائية المستحدثة لم يسمح لنفسه بالخروج من تحت عباءة الدين بشقية الحياتي والعبادي إلا ما ندر!

وهذه الندرة التي نتكلم عنها تمثلها مجموعة خروقات متوقعة سواء من حيث تبديل صيغ تنصيب الحكام أو من حيث الفكر ألتعاملي البيني، ومنها مثلا ظهور إحدى الحركات الإسلامية (الخوارج) التي يدل الاسم الذي أطلق عليها على حقيقة ونوع هويتها الفكرية. فالخوارج الذين مرقوا من الدين مروق السهم من الرمية كانوا على درجة عالية من التعبد والنسك وعلى درجة قليلة من الإيمان خدعوا الناس بظاهرهم التعبدي حتى اعتقدت الأمة أنهم أكثر إيمانا من غيرهم ولذلك حقروا عبادتهم مقابل عبادة الخوارج، لكنهم بالمحصلة كانوا وقودا للنار لأنهم دعوا إلى تعقيد الحياة وتجريدها من بساطتها والقضاء على الخصوصيات. أي لأنهم أرادوا أن يبطلوا البساطة ويحلوا محلها التعقيد ويبطلوا التنوع الذي أراده الدين (يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) ويحلوا محله الفردانية الجامدة الخالية من الحراك والنشاط التنافسي بأن يجمعوا الناس على مبدأ واحد طابعه التشدد في كل شيء حتى في توافه الأمور.

المفاجأة لم تأت من ظهور مثل هذه الحركة في عصر الإسلام الأول الذي كان مرشحا لمثل هذا الفعل بسبب بعض التعقيدات التي طرأت على خلفية تنظيم المجتمع ولكنها كانت في نوع الأطروحات الفكرية والعقائدية التي سوقتها هذه الحركة.

والمفاجأة لم تكن في الأساليب الوحشية التي حاولت من خلالها الجماعة بث فكرها المتطرف في عقول الناس، ولكن من ناحية فشلها في تحقيق أي مكسب حقيقي على مر التاريخ رغم كثرة عدد تابعيها وصلابتهم القتالية التي أهلتهم للوقوف أولا أمام جيش الخلافة الإسلامية الراشدة في النهروان ثم الصمود بوجه الهجمات المتكررة التي شنها عليه جيش الدولة الأموية المتمرس القوي.

والمفاجأة الكبرى أنهم لم ينجحوا في بناء نظام حاكمي يطبق شريعتهم في أي مرحلة من مراحل التاريخ وجل ما قدروا عليه مجموعة حروب وحشية سفكت فيها دماء غزيرة وساهمت في تفتيت المجتمع وتمزيقه وتأخره وتفشي نزعة الارتداد ونزوع الناس للكفر بسبب التكفير والقتل والشر الذي بثته في المجتمع.

 

صالح الطائي

كاتب وباحث في الشؤون الإسلامية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1113  الاحد 19/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم