الرئيسية

يهلكون عند متشابهه

لكن بقي المصطلح العربي يشغلني وفي هذه الاثناء كنت احاول في ذهني تصور امثلة ملموسة لهذا النوع من المجاز والذي يبدو وكأنه ينقسم الى قسمين ويضاعف نفسه.. وشبهته بالشكل والخلفية وتبادلهما الادوار في بعض الرسومات (كرسومات آشر الذي برع في هذا الفن نقلا عن المنمنمات والزخرفات العربية والاسلامية).. لكن اقرب مثال تراءى لي كان لوحة الفسيفساء والتي تبدو عن قرب مجرد قطع مبعثرة بعشوائية لا ترقى بها الى الشكل المحدد المعالم، ولكن كلما ابتعدنا عنها ونظرنا اليها بالورب (على حد تعبير جيجيك) ارتسمت لنا ملامحها بوضوح اكبر. وقد بنى جيجيك على هذا النوع من المجاز شرحه لما يسمى objet [petit] a عند لاكان، بمعنى ان النظرة / الرؤية هي التي تحدد ماهية اللاشيء/ البقعة عديمة الشكل، او بكلمات اخرى ان التأويل هو اساس العقل البشري وتفاعلاته مع محيطه.. وكما اسلفت باءت محاولاتي لتعريب الـ anamorphosis بالفشل الى ان وجدت ضالتي (هنا تدخل عبارة "ملتوية هي طرق الرب") في كتاب د. نصر حامد ابو زيد "الاتجاه العقلي في التفسير" وبعنوانه الفرعي "دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة". واقول الحق ان الكتاب يستحق الثناء لسعة اطلاع مؤلفه وغوصه المتعمق في المراجع العربية القديمة (رغم انها لا تخلو من الجفاف احيانا). ومع ذلك اعترف ان اسلوب الكتاب كان غريبا عني بعض الشيء لسبب بسيط وهو قلة تضمينه لمراجع واقتباسات اجنبية، فهي – ان وجدت – شحيحة حدا.. الامر الذي جعلني اعتبره (اضافة الى قيمته البحثية العالية) اشبه ما يكون بمادة خام يمكن الاستفادة  منها في مجال "الفكر المقارن" ان جاز التعبير.. لذلك وجدتني اكتب في هوامش الكتاب عند الفقرات ذات الصلة: دريدا، سوسير، لاكان، جيجيك، ليفي شتراوس .. وليس المقصود ابدا ان الباحث اقتبس منهم و"غََرش" كما نقول، انما وجدت اصداء فكرية للنصوص المتضمنة في الكتاب لنظريات ومباحث فكرية اطلعتُ عليها هنا وهناك، لكن باسلوب وباصطلاحات مغايرة.. مثلا- كثيرا ما قرأت في نصوص غير عربية اشادة بعبقرية سوسير الذي توصل الى فكرة عدم  وجود علاقة جوهرية وحتمية بين الدال والمدلول (ليست هناك اية علاقة فعلية بين كلمة كتاب (الدال)  ومدلولها  بدليل اختلاف  هذا الدال من لغة لاخرى – book بالانجليزية على سبيل المثال)... فالعلاقة بينهما اعتباطية وتقوم على التعارف والتسليم .. وبناء على د. ابو زيد فان المعتزلة توصلوا الى طبيعة هذه العلاقة واطلقوا اسم "المواضعة" على اعتباطيتها، فالغرض منها هو مجرد التواصل والتفاهم بين البشر. واعود الى مصطلح الـ anamorphosis والذي وجدته قريبا من مفهوم المتشابه الداخل في النقاش حول المحكم والمتشابه في آيات القرآن. حيث يتحدث د. ابو زيد عن الخلافات التي دارت بين المفسرين حول تفسير الاية:

" هو الذي انزل اليك الكتاب، فيه آيات محكمات هن ام الكتاب، واخر متشابهات، فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا".

ويرى ان الخلافات بين المفسرين لم تكن مجرد خلافات لغوية او نظرية مجردة انما ارتبطت بخلافات سياسية وعقائدية ايضا، بل ويورد نقلا عن الطبري نقلا عن ابن عباس بانه:

" ذكر عنده الخوارج وما يلفون عن القرآن فقال: ’يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه‘".

فالمحكم اجمالا هو الايات التي فيها الحلال بيّن والحرام بيّن، او تلك الناسخة او التي لم تنسَخ وما الى ذلك، او بناء على احد التعريفات تلك التي لفظها مطابق لمعناها. اما المتشابه فانه الايات التي اثارت خلافات لعدم تطابق لفظها ومعناها او لكونها منسوخة، والاهم  لارتباط تأويلها بقضايا ومواقف ذات اهمية ايديولوجية كقضية القدر والجبر وتداعيات الاعتقاد بهما على الحياة الاجتماعية والسياسية وصولا الى الخلافة وتبعاتها على الامة، بما في ذلك قضية الخروج على الامام الجائر وتجويزه او عدمه. وقد اسهب الباحث في شرح هذه الامور وربط اللغوي فيها بالفقهي، بالسياسي وبالاجتماعي.

اما  بالنسبة للخلاف بين المفسرين فيقول د. ابو زيد انه دار حول امرين الاول هو تعريف المحكم والمتشابه والثاني امكانية معرفة معنى المتشابه  بناء على إعراب "والراسخون في العلم يقولون آمنا به" وهل "تعطف على ما قبلها، ام تقطع عما قبلها وتعتبر جملة  مستأنفة".

في الحقيقة لم استطع منع نفسي من التفكير في جيجيك (في كتابه "Looking Awry") والذي تطرق فيه الى الـ anamorphosis كوسيلة مجازية يمكن من خلالها مناقشة مفهوم الحقيقي عند لاكان، بحيث يصل في النهاية الى فكرة لاكان بان الحقيقي غير قائم بحد ذاته انما هو احد افرازات النظرة (gaze) والتي تشكل ملامحه وتكسبه المعنى.. تماما كما في فكرة لوحة الفسيفساء التي اوردتها أنفا.  ففي عالم الـ anamorphosis (او المتشابه كما سأشرح فيما يلي) نرى البقعة/ اللاشيء عن قرب، لكنها لا تكتسب ملامحها الا اذا ما نظرنا اليها بالورب / عن بُعد. من المفيد هنا العودة الى لسان العرب في سياق الاصل الثلاثي (ش.ب.هـ) والذي يورد صورة مشابهة لكن في قالب مذموم:

" وفي حديث حذيفة : وذكر فتنة فقال: تُشبّه مقبلة وتُبيّن مدبرة. وقال شمر: معناه ان الفتنة اذا اقبلت شبهت على القوم، وأرتهم انهم على الحق حتى يدخلوا فيها ويركبوا منها ما لا يحل، فاذا ادبرت وانقضت بان امرها، فعلم من دخل فيها انه كان على الخطأ".

وبناء عليه فان التشابه (والذي اشتمل في الاقتباس الانف على فعلي الرؤية والعلم ) او مجاز الـ anamorphosis المرتبط بالفتنة يحمل دلالة سلبية (وفي هذا صدى اقتران الفتنة بالاشتباه كما جاء في الاية " فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة")، كما اجد في هذا الربط ما بين الفتنة والتشابه اثرا من الخلاف السياسي والعقائدي الذي تحدث عنه ابو زيد في سياق الاختلاف بين المفسرين حول المحكم والمتشابه وتداعياته.

وقد استرعي انتباهي في هذا السياق ذهاب ابن عباس كما اورده الطبري الى ان المتشابهات هي الحروف المتقطعة في اوائل بعض الصور مثل "الم" و"الر"- "لانهن متشابهات في الالفاظ، وموافقات حساب الجمل" بناء على د. ابو زيد والذي يقتبسه عن الطبري مضيفا نقلا  عنه "وكان قوم من اليهود على عهد  رسول الله (ص) طمعوا ان يدركوا من مثلها معرفة مدة الاسلام واهله، ويعلموا نهاية  أُكل محمد وامته".

وفي هذا المعنى فان المتشابه يبقى في عداد البقعة/ الطلسم السحري المستغلق والذي ستقصر الرؤية والعلم عن معالجته واحتوائه، مهما بلغت درجة القرب منه او البعد عنه. لكن تم دحض هذا القدر من السلبية الفكرية والتأويلية حيث يقول د. ابو زيد انه حديث ضعيف رغم اخذ الطبري به، او كما جاء في لسان العرب بصيغة اجمل ان "اهل المعرفة والاخبار وهنوا اسناده". واجد في هذا الرفض والتفنيد رد الاعتبار الى الفاعلية الفكرية عند الانسان والتي ربطها المعتزلة "بفكرة التكليف العقلي السابق على التكليف الشرعي" كما يورد د. ابو زيد.

يقول ريلكة في احدى رسائله:

"أرد الى البئر، كالنساء العربيات، والتي تقبع في صميم ساحاتي الداخلية، والله كبير، فتارة اجد فيها الماء، وتارة اخرى اعود بخفي حنين، والله كبير!".

وبدوري اجد في هذه العبارات تشابها لا سبيل لانكاره لان بئر الذات دائما مليئة بالماء، لكن عندما تفيض نفوسنا نصيح مهللين: الله اكبر، ها هو الماء! وعندما تغيض هذه النفوس نردد بصوت خافت: لا اله الا الله!.. وهذه هي حكمة التشابه على ما اعتقد..

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1116  الاربعاء 22/07/2009)