صحيفة المثقف

شعر الثورات العلوية في العصر الأموي بين الأرخنة والفن (1-3) / محمد تقي جون

وليس موقوفاً على عصر صدر الإسلام أو متوقفاً فيه كحال عصور الأدب كلها التي تحدها غالباً حدود سياسية-عسكرية كالعصر الأموي والعباسي والوسيط والحديث، وسوف يستمر الشعر الإسلامي في الزمان دون توقف إلى قيام الساعة.

ويعدّ شعر الثورات العلوية التي ناهضت الأمويين، شعراً إسلامياً كتب في العصر الأموي، لأنه يحمل عين الهوية والماهية التي يحملها الشعر الإسلامي في تبنيه قضية إسلامية خطيرة هي (الإمامة والخلافة)، وفي تجنبه الأغراض الجاهلية: المدح التكسبي، الهجاء، الفخر، الغزل المقصود، فضلا عن كون ألفاظه ومعانيه إسلامية. وقد ظلت لكلا الشعرين امتدادات وظلال في كل عصر وزمن؛ فالشعر الذي كتبه في مدح الرسول والقيم الإسلامية حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة هو نفسه الذي كتبه صفي الدين الحلي وأحمد شوقي، وقضية الطف التي وصف أحقيتها ورثى شهداءها سليمان بن قتة وعبيد الله بن الحر، ظلت القضية نفسها في شعر حيدر الحلي ومحمد مهدي الجواهري.

وقد رافق هذا الشعر الثورات العلوية التي فجرت في العصر الأموي، وهي ثورات: الحسين بن علي (u) والتوابين والمختار بن عبيد الثقفي وزيد بن علي بن السجاد وابنه يحيى بن زيد. وهو شعر كثير توزع على أغراض أوضحها: شعر مبدأ، شعر تأريخ، رجز معركة، رثاء الشهداء، كما شمل بقلة وتهذيب مديحا وهجاءً. وإذا كان هذا الشعر إسلامياً في موضوعاته فهو كذلك في آليته فقد سلست ألفاظه وتعمقت معانيه وعبَّر عن متبناه (الثورات العلوية) وان كان في ذلك تضحية بالشعرية أحياناً. ولكنه بشكل عام شعر راق؛ فأكثر منشئيه شعراء مرموقون مثل: سليمان بن قتة وأعشى همدان وعبد الله بن همام، فضلا عن شعراء ثانويين: هواة وطلاب أجر كحال أكثر شعر صدر الإسلام، فقيمة هذا الشعر الفنية بقيمة ناظمه.

وللأسف ابعدَ هذا الشعر عند دراسة الشعر الإسلامي، كما أبعد عند دراسة الشعر الأموي فانسحب إلى الظل. وإنَّ دراسة هذا الشعر متممة لدراسة الشعر الإسلامي في العصر الأموي حتماً، لأنه نوع من أنواع الشعر التي سادت فيه، وتركُ دراسته سيترك حتماً فراغاً تاريخيا وفنياً في أدب هذا العصر، مما يجعل من الواجب الضروري التصدي له ودراسته فكرا وفنا.

قسمت الدراسة على مقدمة، ومبحثين: تناولتُ في المبحث الأول الخلافة والإمامة والاختلاف فيهما والملابسات التي وقعت بشأنهما لتكون مهيئة للقارئ لفهم دواعي الثورات العلوية التي كان تفجيرها إيماناً من أصحابها بحقهم الشرعي بالخلافة والإمامة، كما تناولتُ الثورات الخمس وفق دراسة تأريخية أكاديمية. وقد أردنا بما طرحناه تأشير الطرح الأكاديمي بوصفه طرحاً وسطاً منصفاً ومتحرراً. وكان المبحث الثاني قراءة في شعر الثورات العلوية: موضوعية وفنية.

وقد رجعت إلى مصادر ومراجع متنوعة في التاريخ، والدين، والأدب لتستوفي الدراسة غرضها وتتكامل. ولا أدعي أني حققت الكمال المنشود، فإن الإنسان إذا أخطأ أبرز هويته، وأعلن إنسانيته، وحسبي أني درست موضوعاً لم يُنتبه عليه فأحققت الحق والعلم والبحث وهو حسبي، والله من وراء القصد.

 

أولا- الإمامة والخلافة

كان موضوع (الخلافة) أساس الخلافات والاختلافات، وقد تفرقت الأمة بسببه إلى فرق كثيرة، كما عانت دمويته بما زاد على ثلاثة قرون حتى انطفأ بريق الخلافة بالإحتلالات الأجنبية. وكانت الغالبية ترى ضرورة وجود خليفة بعد الرسول (r) وهم (المستعملة)، ويقابلهم (المهملة) وهم قلة ذهبوا إلى أن الرسول أهمل ذلك(1). وجمع أهل السنة وقسم من الشيعة الخلافة والإمامة(2)، بينما فرّقت الإمامية بينهما؛ فقالت عن الإمام علي (u):" كانت إمامته ثلاثين سنة، وخلافته أربع سنين وتسعة أشهر"(3).

وقد ظهرت بعد وفاة الرسول أربع نظريات في الخلافة: الأولى (القرابة والوراثة) وصرفت إلى العباس بن عبد المطلب لأنه عم الرسول ولم يقبلها(4)، وأصحابها يسمون (الراوندية)(5). والنظرية الثانية (الشورى والاختيار) وبها بايع عمر بن الخطاب أبا بكر (t) في (سقيفة بني ساعدة)، وتبعه المهاجرون ثم الأنصار (أهل الشورى والحل والعقد)، ثم أخذت له البيعة من الناس الذين أذهلتهم وفاة الرسول في مشهد عاطفي مثير، وأصبح هذا التقليد متبعاً مع كل خليفة. وهذه النظرية جعلت الخلافة في قريش على قاعدة (الأئمة من قريش)(6) وفي (بني فهر بن مالك) حصرا لان فهراً جماع قريش(7) ، وهي تشمل: الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس فكلهم من فهر قريش.

والنظرية الثالثة (النص): وهي وصية الرسول بإمامة علي(8). وقد رأى بعضهم أن الرسول نصّ على الإمام علي وابنيه الحسن والحسين فقط، ثم (ينص) الإمام على الإمام بعده، ورأت الإمامية أنه نصّ على اثني عشر إماماً بالاسم أولهم الإمام علي وآخرهم المهدي المنتظر(9). واختلفوا في الآلية فذهبت الجارودية (فرقة زيدية) إلى أن الرسول نصَّ على الإمام علي بالإشارة والوصف(10)، وقالت الإمامية بل نص عليه بالتسمية والتعيين(11)، ولكن لفظة (الوصي) أطلقت على الإمام علي في مدة انتخابه وقد أطلقها عليه الأعداء والأصدقاء(12)، وشذت الحشوية بالقول: إن الرسول نصَّ على إمامة أبي بكر بالتسمية والتعيين(13).

واختلف الموقف من نظرية (النص)؛ فحين أكدت الإمامية أن الأمة ضلّت وكفرت بصرفها الأمر إلى غير علي(14)، ذهبت المعتزلة إلى أن الإمام علي أفضل الصحابة، ولكن يجوز ترك الأفضل إلى المفضول، وذهبت إلى عدم وجود (النص) لأنه لو كان النص موجوداً لكانوا فساقاً أو كفاراً لمخالفته(15)، وقال أهل السنة: إن طريق عقد الإمامة الاختيار بالاجتهاد(16).

على أن الثورات العلوية قدمت شروحا أخرى عملية للنص؛ فالكيسانية ذهبت إلى أن الإمامة انصرفت بعد الحسين إلى أخيه محمد بن الحنفية ثم إلى ابنه أبي هاشم ثم تحولت من أبي هاشم، الذي لم يعقب، إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس على أساس وصيته إليه(17). وذهبت الزيدية إلى أن الإمام بعد الحسين ابنه علي بن الحسين وبعده زيد بن علي بن الحسين وبعده ابنه يحيى(18)، وذهبت الإسماعيلية إلى أن الأئمة سبعة: علي فالحسن فالحسين فعلي بن الحسين فمحمد الباقر فجعفر الصادق فالإمام السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر(19)، وكان إسماعيل قد مات في حياة أبيه لذا جعلت الإمامية الإمامة في موسى الكاظم بن جعفر الصادق. واختلفت الإمامية بينها في الإمام بعد موسى الكاظم، كما اختلفوا  بعد موت الإمام الحسن العسكري في الوصية، فقائل: انه أوصى لجعفر أخيه، وقائل: إن الوصية كانت من الإمام علي الهادي إلى ابنه محمد الميت في حياة أبيه، وانه أوصى لنفيس القائم بخدمته وهو بدوره دفعها إلى جعفر فهم يتجاوزون إمامة الحسن العسكري، وقالت الإمامية: إن الإمام الحسن العسكري أوصى لابنه الصغير محمد وهو القائم المهدي(20).

وأضيفت بعد النظريات الثلاث هذه نظرية أخرى ترى أن الخليفة الشرعي هو الذي تتوافر فيه صفات الخليفة الحقيقي دون النظر إلى أصله وفصله؛ " فمن كان أتقى الناس لله، وأكرمهم عند الله، وأعلم بالله، وأعملهم بطاعته، كان أولاهم بالإمامة، والقيام في خلقه، كائناً من كان منهم، عربياً كان أو عجمياً"(21). وأطلق هذه النظرية الخوارج والمعتزلة(22). وعلى الرغم مما يغري به ظاهر النظرية بأنها أقرب إلى العدل، وأبعد عن المحاباة وأكثر تماشياً مع روح الإسلام، إلا أن مشاعر الناس لم تؤيدها فظلت غير عملية.

وقد أظهرت الثورات العلوية بما لا يقبل الشك أن الذي استمر به الزمان ووقر في أذهان وعواطف الناس الذين كانوا مهيئين لكل ثائر علوي، هو إن الخلافة الشرعية في آل البيت من ذرية الإمام علي دون غيره من الذراري. وكان ظهور الثورات العلوية في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي: الكوفة، إيران، مكة، المدينة، أفريقيا، بغداد، واسط، يدلل على أن الناس في الأصقاع الإسلامية كلها تقر بحق العلويين بالخلافة، فظل عمر الخلافة الفعلي مقروناً بالدعوة إلى (الرضا من آل محمد). كما عبرت الثورات العلوية بما لا يقبل التأويل عن الواقع السياسي الديني لمفاهيم: الإمامة والخلافة والدولة والسياسة، ورأي الأمة في حق الثوار العلويين بالخلافة.

ولم يكن الثوار في رأي الناس على مقدار واحد من الشرعية، بل هم على ثلاث طبقات: الطبقة الأدنى شرعية، طبقة الثوار الذين لا يرجعون في نسبهم إلى الإمام علي، وهؤلاء لا يستطيعون الثورة بالدعوة إلى أنفسهم، فكانوا يرفعون شعار الدعوة إلى (الرضا من آل محمد)، وآل محمد تشمل أبناء الإمام علي من فاطمة (الحسن والحسين).

وأكثر منها شرعية طبقة العلويين من أبناء (الحسن والحسين)، لأنها تمتلك الشرعية بنفسها، فكان الثائر منهم يدعو الناس إلى بيعته هو دون الحاجة إلى رفع شعار (الرضا من آل محمد)، كما هي الحال مع زيد بن علي وابنه يحيى. أما الطبقة الأعلى شرعية الذين آمن الناس بحقهم في الخلافة إيماناً تاماً، ولأجلهم نهضوا مع الثوار طلاب الحق الشرعي علويين وغير علويين، فهم الأئمة الإثنا عشر، وهم وان تخلوا عن الثورة المباشرة بعد الحسين، فقد مثلوا الساند لكل ثائر وكل ثورة؛ فنجاح الثائر مرهون بتأييدهم، وعدم تأييدهم كفيل بفشله؛ فثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم في العصر العباسي أخذت مداها لتأييد الإمام جعفر الصادق لها، وبالمقابل يعود فشل ثورة زيد بن علي إلى عدم تأييد الإمام الصادق لها كما اعترف بذلك ابنه أبو الحسن محمد بن زيد السابسي(23).

وقد منح الأئمة الإثنا عشر الشرعية للدول أيضاً؛ فتنازل الإمام الحسن عن الخلافة لمعاوية منح الدولة الأموية الشرعية، وحصل العباسيون على الشرعية لدولتهم عن طريق (أبي هاشم) بن محمد بن الحنفية، وقامت الدولة الفاطمية على أساس إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق الذي مات في حياة أبيه، وهو حال الدول العلوية كلها في اليمن وإيران وغيرهما.

والى جنب الثورات الصادقة، قامت دعوات لنصرة آل البيت لم تكن خالصة في حد ذاتها(24)، فنحن لا نعدم ثواراً خرجوا لتحقيق طموحات شخصية، مثل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار؛ قيل: كان سيئ السيرة، رديء المذهب، قتالا، مستظهراً ببطانة السوء، ومن يرمى بالزندقة(25)، ولم يكن صاحب برنامج تصحيحي إصلاحي؛ فحين سأله أهل الكوفة على أي شيء نبايع؟ قال: على ما أحببتم وكرهتم(26)! وكان في الكوفة يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، فلما حصل في فارس أبدلها فدعا إلى نفسه.

 

ثانياً- قراءة أكاديمية في تاريخ الثورات العلوية

أولا- ثورة الحسين بن علي (u) (61هـ/680م)

ثورة الحسين بن علي أولى الثورات العلوية تجسيداً لمبدأ أحقية أهل البيت بالخلافة، وأقواها تأثيراً، وأكثرها التصاقاً بالنفوس ومشاعر الحزن لاتصالها بفاجعة قتل وسبي آل البيت النبوي. وليس من السهولة كتابة نص أصلي خال من الإضافات والتفرعات للمقتل؛ لأن المقاتل استندت إلى رواة لا يملكون الوعي الكافي بماهية الثورة الحسينية، ولا فلسفة القراءة التأريخية. وإذا كانت رواية أبي مخنف كما رآها الطبري أشبعها وأتمها، فهو مضعَّف(27)، وهناك الأكثر ضعفاً كابن لهيعة(28).

إن فهم فلسفة ثورة الحسين ينطلق من أمرين: اعتقاد أهل البيت بحقهم في الخلافة اعتقاداً نهائياً كما في قول الحسين " نحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان"(29) وقول مسلم بن عقيل حين قال له ابن زياد:" كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئاً؟ فقال:"والله ما هو بالظن ولكنه اليقين"(30)، وإلزام أنفسهم بإصلاح الفساد كقول الحسين" إنما خرجت اطلب الإصلاح في امة جدي محمد أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(31) ، إلا إن ذلك مشروط بوجود (الناصر) ويسقط عنهم التكليف دون الحق بعدم وجود الناصر وهو ما أسسه قول الإمام علي: "(لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر وما اخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم وسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها)"(32) أي "ان الغرض تعين ويوجب مع وجود من انتصر له على رفع المنكر ومنع الباطل"(33) ، وعلى هذا الأساس كان على الحسين وجوب الذهاب إلى الكوفة لا استحبابه بعد ورود الرسائل التي تؤكد انتصارهم له إذا جاءهم.

ثمة تزيدات وأفكار خاطئة في المقاتل ممكن تأشير بعضها دون بعض، كالزعم بأن الحسين قال غداة الطف" إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني"(34)، فهذا القول هو بيت من الشعر للخطيب الشيخ محسن أبو الحب الحائري (ت1305هـ/1888م)(35). كما أضيف إلى دعاء الحسين على أهل الكوفة؛ فرواية أبي مخنف:"اللهم أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض. اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي عنهم الولاة أبداً"(36). وروي في مقاتل أخرى متأخرة بإضافة ".. وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرة.. ينتقم لي (وفي أخرى ينتصر لي) ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم"(37). فهذا الكلام موضوع، لإشارته إلى أمور غيبية، وهو أيضاً مغلوط لأنه موزع بين المختار والحجاج فكلاهما ثقفي، فإذا كان المراد المختار فهو انتقم من أغلب وليس كل قتلة الحسين ولم ينتقم من باقي أهل الكوفة (مقاتليه وخاذليه)(38) بل استعان بهم، ودعاء الحسين موجه إلى الكوفيين بلا استثناء. وان كان المراد الحجاج، فهو انتقم من الكوفيين كلهم عدا قتلة الحسين، وبطريقة لا ترضي الله ولا الحسين، فضلا عن كون الحجاج مجرماً ولا يليق بالحسين انتظاره لأخذ حقه!!

كما أضيف ما يدل على أن الحسين ترك مكة إلى العراق مضطراً بقوله " وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني"(39)! فهو جهل بحقيقة إيمان الحسين بحقه بالخلافة ووجوب النهوض مع وجود الناصر. كما رددت المقاتل أن الحسين جاء لعلمه انه يموت في كربلاء، ولكن جاء في أوثقها استبعاد الحسين من القوم قتله في قوله للحر: "أفبلموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ لا ادري"(40).

ويكشف حديث الحسين مع أخته زينب في ليلة الانتظار انه لم يضع في نيته الحرب قبل هذه الليلة البتة، فبعد تأففه وهو يعالج سيفه مع رجز قاله وكرره مرتين أو ثلاثا، سمعته زينب فأقبلت إليه باكية متفجعة فقالت: "بأبي أنت وأمي استقتلت! نفسي لنفسك الفدا"(41). فأجابها، مبيناً انه حمل بلا رغبة منه على ذلك بقوله متمثلا: "لو تُرك القطا ليلا لنام"(42)، فقالت:" إنما تغصب نفسك اغتصاباً فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي" فراح يعزيها بأقوال كثيرة. فهذا المشهد ممثلا بإعلانه الأسف واعترافه باضطراره إلى الحرب وظهور عويل النساء بعد معرفتهن بان الحرب واقعة لا محالة، ومكاشفة الإمام أصحابه وطلبه منهم المغادرة، كل هذا يدل على انه تفاجأ بتحول الأمور والوصول إلى خيار الحرب، وهو حتماً يفسر جلبه عائلته وما كان ليعرضها للهوان لو علم بالحرب.

ولم تحسم المقاتل موقف الحسين بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل؛ فهو بين إصرار على الاستمرار وتردد في الرجوع. وفي الحقيقة إن سلطة الكوفة لم تترك له الخيار، فقد كانت مهمة الحر حجزه عن الرجوع وحصره والإتيان به إلى حيث أرادوه أن يكون، أي انه علم بمقتل مسلم حين دخل في (الأرض الحرام).

وظهر في الأحداث اثر لحصان الحسين عند الخوارزمي ولكنه معقول "واقبل الفرس فوضع ناصيته في دم الحسين، وذهب يركض إلى خيمة النساء وهو يصهل ويضرب برأسه الأرض عند الخيمة، فلما نظرت أخوات الحسين وبناته وأهله إلى الفرس ليس عليه احد رفعن أصواتهن بالصراخ والعويل"(43)، ولكنه يصبح أسطوريا عند ابن شهر أشوب فهو يذبّ عن الإمام الحسين بعد سقوطه، ويحامي عنه، ويثب على الفارس فيخبطه عن سرجه ويدوسه حتى قتل أربعين رجلاً(44)، فإذا كان قتلى جيش الكوفة في أصح المقاتل ثمانية وثمانين(45)، فيكون الحصان قتل نصفهم تقريباً، وقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه النصف الآخر!!

 

الرسائل المزورة

بعد قراءة النصوص بدقة مع مجاراة اختلافها ومحاولة إعادة ترتيب الحقيقة من خلالها، يتحقق أن يزيد كان يريد، بناء على وصية أبيه التحذيرية، أن يخرج الحسين من العراق ليقتله لصعوبة قتله في معقله وفي مجتمع يؤمن بأحقيته بالخلافة، فهو في (مكة) غير مدافع عنها (الخلافة) كما اعترف غريمه عبد الله بن الزبير(46). وهنا نقترح أن يكون يزيد هو من أرسل الرسائل المشددة للحسين، دون علم العراقيين، بتواقيع شرفاء الكوفة، ليجتذبه إلى العراق ويوقع به، أو انه دجّن بعض أشراف العراقيين لمصلحته فاستكتبهم، لان الحسين قبل المعركة صاح بأشراف الكوفة "يا شبث بن رِبعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا لي في القدوم عليكم، قالوا: لم نفعل!"(47)، كما أنكر الرسائل الحر بن يزيد الرياحي قائلا للحسين:"والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر!" (48)، وقد عقد ابن زياد لواءً لشبث بن ربعي، وكان معه في القصر عشرون من الأشراف(49)، ووصفهم أبو مخنف كألعوبة بيد يزيد الذي راح يسخِّرهم لاقتياد العراقيين للحرب ضد الحسين كما في قوله:"اشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول الجنود من الشام إليهم"(50). والذي يؤكد أن العراقيين لم يراسلوا الحسين، هو أنهم لم يقاتلوا معه البتة، بينما قاتلوا مع الثوار الباقين وان نكصوا بعدها؛ فقد قاتلوا مع سليمان بن صرد والمختار وزيد وبقية الثوار، وذلك لأنهم حشدوا فاستعدوا.

 

أهل الكوفة

لم يلق مسلم بن عقيل في الكوفة شعباً ينتظره بحزم وعزم الرسائل المرسلة، فإنهم تلقوه بالبكاء لا بالحماس(51)، وتعاملوا معه عاطفيا وهذا يؤشر عدم وجود تنظيم مسبق للثورة، ويؤكد تفاجئ الكوفيين بمسلم والحسين. ثم  طرحت فكرة اغتيال أمير الكوفة التي لم يقتنع بها مسلم ربما لخيبة أمله بما آل إليه الحال، وفضَّل النهوض بمن وقّع على تأييده منهم فكان أن قاتل، بشرذمة لا ناصرة ولا منصورة، لان الكوفيين حشدتهم السلطة لقتال الحسين(52). وهنا لابدّ من إيضاح حقيقة أن الكوفة مثلت للتشيع حطب الثورة ومسعر الحرب، إلا أنها في طول تاريخها الثوري مثلت الخذلان السريع لكل ثائر ناصرته فهي كـ(نار القصب) تشتعل بشدة وسرعة مرعبة ثم تنطفئ فجأة. وقد أشار إلى هذه الحقيقة قواد الشيعة وثوارهم؛ فقال الإمام علي:" إنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت"(53)، وقال الحسين " إنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا"(54) وقال زيد بن علي لنصر بن خزيمة بعد انفضاض أهل الكوفة عنه: إن أهل الكوفة فعلوها حسينية"(55) ووصفهم أبو السرايا حين خطبهم شاتماً "إنما أنتم كفيء الظل"(56)، وقال البغدادي كان من أمثالهم قولهم: (اغدر من كوفي)(57).

 

قادة حرب يزيد

تولى قتال الحسين أربعة قياديين، هم كما وصفهم الجاحظ: يزيد (الملك)، وشمر بن ذي الجوشن (الرئيس)، وعبيد الله بن زياد (الأمير) وعمرو بن سعد (قائد الجيش)(58)، وهم بهذا التسلسل في القوة والأثر، فابن سعد أضعفهم وهو مفضوح التردد غير واضح الولاء لذا طرده يزيد أخيراً، وهو سطحي في الأحداث وأقربهم إلى السلم لذا التقاه الحسين على انفراد للتفاوض مرارا(59). وكان عبيد الله بن زياد أقوى كرهاً وحرباً ولكنه لا يمثل يزيد، لذلك قبل بالصلح: " هذا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق على قومه.. نعم قد قبلت"(60). أما الشمر فهو ممثل يزيد ومراقب سريان الخطة التي وضعها لقتل الحسين، لذا اعترض على قبول ابن زياد الصلح فانبرى قائلا بعنف:"أتقبل هذا وقد نزل بأرضك والى جنبك(61)"؟ ثم اقترح خطة تفاوض سلبية تنسخ وتمسخ الصلح، وقد لقنها الشمر لابن زياد فراح يتبناها لأنها رغبة يزيد وهي " لينزل على حكمك هو وأصحابه، فان عاقبت كنت وليّ العقوبة، وان عفوت كان ذلك لك"(62). لذلك وجدنا عمر يقول للشمر بعدما تلقى من ابن زياد رسالته التي تضمنت خطة الشمر البديلة "أفسدتَ علينا أمراً كنا رجونا أن يصلح، والله لا يستسلم الحسين ابداً"(63)، وهو ما كان فعلا فعندما عرضوا الأمر على الحسين عرف الأمر وتبينه فاستمهلهم إلى الغد ليستعد للقتال وينظر في أحوال عائلته، مردداً:" هيهات منا الذلة"(64).

لقد أدرك الحسين في هذه النقطة ما خطط له يزيد، وتبينت الحقيقة كلها، لذا أراد تسريح كل من معه حتى أقاربه، وهو تفسير قوله لهم:" إنَّ القوم ليسوا يقصدون غيري"(65)، ولكن ما كان لهم تركه وما كان له إجبارهم على ذلك.

 

معدمة الطف

ليس من الدقة والصواب إطلاق اسم حرب أو معركة أو وقعة أو أي اسم عسكري على حادثة الطف، فهي بين فئتين مختلتي العدد جداً؛ أفراد (نحو مائة) مقابل آلاف (نحو عشرين ألفاً). وان استقراء النصوص بعمق، يظهر أنها شكل من الإعدام! فكان أصحاب الحسين يتقدمون إلى المبارزة أو القتل واحداً تلو الآخر. وكانت المبارزة الطريقة القتالية الوحيدة المفروضة، بدأت بها المعركة وانتهت، فكان الرجل يستأذن الحسين ويودعه ويتقدم، وقد جاء في مقاتل الحسين إن عبد الله بن عمير استأذن الحسين فإذن له(66)، وترد استئذانات من عمرو بن قرظة وحبيب بن مظاهر وآخرين. وجاء عن الصحابي الشيخ أنس بن الحارث بن نبيه الكاهلي "انه لما جاءت (نوبته) استأذن الحسين(67)، وفي تاريخ اليعقوبي: ثم تقدموا رجلا رجلا(68).. وذكر الخوارزمي أن أصحاب الحسين " كانوا يأتونه الرجل بعد الرجل للاستئذان ثم يحمل فيقتل حتى قتلوا عن آخرهم"(69). ويؤكد صورة المعدمة أن الذي يبرز من أصحاب الحسين يتلقاه أكثر من واحد فيقاتله، ولو كانت مبارزة لكانت رجلا لرجل.

وقد أدى إلى هذه الصورة من القتال أمران: الأول رغبة السلطة الكوفية في أسر الإمام (إن أمكن) أو قتله قتلا مشرفاً لها، فرأت من العار عليها أن تطبق بجيشها الكبير على أصحابه القلة، والثاني: عدم إيمان الكوفيين بشرعية قتل الحسين، وهذا جعل جيشهم غير مجمع على قتاله فلم يقاتلوا بروح الجميع. وقد جاء في المقاتل انه مكث طويلا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء(70). لذلك ذهبت سدىً صيحة عمر بن سعد في بداية المعركة " احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة(71)"، وانفرد ابن طاووس بذكر اشتباك للجيشين في البدء(72)، وهو مخالف للمنطق؛ إذ لو وقع هجوم شامل من الكوفيين على أصحاب الحسين لأفنوهم عن آخرهم وما كان بعده قتال.

وكانت خطة جيش الكوفة حمل الحسين على الاستسلام، متخذين إلى ذلك خطوات: الأولى قتل خيول الحسين رشقا بالنبال لشل حركة جماعته وتسهيل تطويقهم، وهكذا تحول أصحاب الحسين كلهم رجَّالة(73). والخطوة الثانية حرق الخيام لأنهم جعلوها خلفيتهم فلم يقدر جيش الكوفة على قتالهم إلا من جهة واحدة، فأرادوا بحرقها أن يحيطوا بهم(74). أما الخطوة الثالثة فكانت الحصار المائي لإضعافهم عطشا، ولو أرادوا إبادتهم لأطبقوا عليهم وأفنوهم دون الحاجة إلى هذه الخطوات، وحين يئسوا منه عملوا على قتله وقتل أصحابه بهذه الطريقة.

وإذا أضاف الكوفيون، بسبب تفوق أصحاب الحسين (فرسان المصر) في المبارزة، الرمي بالحجارة والرشق بالسهام والهجوم بعدد معقول، فهذا لم يخرج الحادثة عن شكل (البراز) وصفة (المعدمة).

 

ثانياً- ثورة التوابين (65هـ/684م)

في ظل الفراغ السياسي الذي صنعه موت يزيد بن معاوية وبروز عبد الله بن الزبير خليفة منافساً للأمويين، وتشجيع الظروف الجديدة بتحرر الكوفة، ظهر (التوابون)(75) على مسرح الأحداث معلنين ندمهم لخذلان الحسين، وشاهرين سيوفهم ضد الأمويين، وداعين إلى خلافة أهل البيت، وقبل هذه الأحداث منذ سنة (61هـ) كانوا "يتداعون ويستعدون ويرتؤون"(76).

قامت هذه الحركة على مبدأ قتل النفس لتبرئتها من دم الحسين " مالنا من توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه"(77)، وكان زعيمهم (سليمان بن صرد)، الصحابي التقي(78)، أكثرهم مغالاة في طلب ذلك القتل، لأنه قعد عن نصرة الحسين، وقعد في بيته متخليا عن الطرفين؛ ربما بسبب ما عرف به من الشك(79). وكان عليه أن يتحصن بالكوفة  ثم يقاتل جيش الشام كما فعل بعده المختار، لكنه ذهب يقاتل في العراء بـأربعة آلاف عشرين ألف أموي، فأكد، كما قال المختار بحقه، عدم أهليته للرئاسة في الحرب والسياسة(80).

لم يولِ سليمان بن صرد اهتماماً بأخذ ثأر الحسين لأنه علم أن كلَّ او جلَّ أهل الكوفة من لم يكن من (قتلته) الحسين وأصحابه فهو من (مقاتليه)، وهو في هذه المرحلة يريد كسب الكوفيين لضرب أعدائه: الأمويين ثم الزبيريين، لذا استهجن مشورة جماعته في ذلك بقوله:" والله لو قاتلتم غداً أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلا قتل أخاه وأباه وحميمه أو رجلاً لم يكن يريد قتله"(81)! ووجه قضية الثأر إلى الأمويين وقائد جيشهم عبيد الله بن زياد :" أنا أرى أنه هو الذي قتله"(82) لإدراكه أن عملية الثأر تنفر الكوفيين، وهذه عين الفكرة التي روج لها الزبيريون. وقد صفقوا لخروج سليمان من الكوفة لدفع المارد الشيعي المتحرر إلى الخارج لذا عرضوا عليه المساعدة والمدد(83).

لم يدعُ سليمان إلى علوي بعينه ولكنه كان يهدف إلى إرجاع الأمر إلى آل البيت، وهو ما أكده التفاوض مع قادة عبيد الله بن زياد في (عين الوردة) فقد دعاهم سليمان إلى خلع مروان وتسليم عبيد الله بن زياد، وتكفل هو بإخراج أصحاب عبد الله بن الزبير من العراق وتسليم الأمر إلى أهل بيت النبي(84).

لقد كانت ثورة التوابين محاولة غير موفقة، ظروفا وقيادة، لإعادة الخلافة إلى أهل البيت فاستحال هدفاً بعيداً. وقد أصبح الثائرون بين ثلاثة فكوك: خذلان الكوفيين المزمن، وجيش الأمويين القادم، وقوة الزبيريين المستحوذة، فانحصر جهدهم  بحل عقدة الذنب وأخذ الثأر "إنما أخرجتنا التوبة من ذنوبنا، والطلب بدم ابن بنت نبينا"(85).

 

ثالثا- ثورة المختار بن عبيد الثقفي (66- 67هـ/685- 686م)

كان انفلات الوضع في الكوفة الذي أفرز (التوابين)، قد أفرز ثائراً محنكاً هو (المختار ابن أبي عبيد الثقفي)، وهو شخصية قيادية قوية. وعلى الرغم من بعده عن العلويين في النسب، واشتغاله بهدف سياسي بحت، إلا انه ارتبط بأهل البيت لأخذه بثأرهم، فنال حظاً من مشاعر الحب والاحترام عندهم وعند الشيعة قاطبة في الماضي والحاضر.

 

شخصيته

إن دراسة شخصية المختار ومعرفة أسرارها تكشف انه سياسي لا يعرف طموحه حداً، فالكوفة والثأر من (المحلِّين) خطوة أولى إلى هدف كبير. وانه في سبيل تحقيق هدفه (النبيل) لا يتوانى عن فعل أي شيء (غير نبيل)، فكل شيء تكتيك وخدع لكسب المعركة، وقد اتهمته الأخبار بأشياء مشينة، وحتماً تزيدوا عليه، كتزويره الكتب عن ابن الحنفية(86)، وإيهامه بأسجاعه بأنه يوحى له(87)، واتخاذه كرسيا قديما بزعم انه للإمام علي وهو بمثابة التابوت لبني إسرائيل(88)، وإرساله الحمام فوق سماء المعركة وقوله لأصحابه: إنها الملائكة تنزل عليكم في صورة حمامات بيض(89)، وغير ذلك مما وصم به وحملهم على اتهامه بشتى الاتهامات كتلقيبه بالكذاب، وهو لقب يوصم به مدعي النبوة(90)، وقد ذهب النووي إلى أن العلماء أجمعوا على أن الرسول (r) بقوله (إن في ثقيف كذابا ومبيرا) كان يقصد بالكذاب المختار بن أبي عبيد(91).

 

الثأر للحسين

أصبح الثأر لشهداء الطف القضية الأولى لدى أهل البيت والشيعة، لذا تصدر أهداف الثورات؛ فرفع شعار الثأر سليمان بن صرد ولم يعمل به، ورفعه زيد بن علي وهو يطلب الإمامة والخلافة، ولهذا السبب تبناه المختار بجديَّة. وقد تخلى كثير من الشيعة عن ابن صرد حين رفض إطاعتهم في الثأر من الكوفيين فتقلص عدد أتباعه إلى الربع، مما اضطره إلى أن ينادي في الكوفة (يا لثارات الحسين)(92)، ولكن الكوفيين لم ينهضوا معه لأنه لم يرد الثأر الذي أرادوه. وللسبب نفسه انقادوا للمختار. وموضوع الثأر صعب وشائك؛ فكسب الشيعة يقتضي تصفية قتلة الحسين، وتصفيتهم، وهم رؤساء الأرباع وأشراف القبائل(93)، تجعل المنتقم واتراً للغالبية وتؤلب عليه الرأي العام، فضلا عن أن غالبية أهل الكوفة اشتركوا بدم الحسين قتلة أو مقاتلين.

قام المختار باستئجار نوائح على الحسين لكسب مشاعر الشيعة(94)، والبطش والتمثيل بمن اشترك في قتل الحسين وأصحابه بما يشفي صدور الشيعة ولم يكتف بقتلهم. ولكنه أعطى أماناً لنسيبه (عمر بن سعد)(95) قائد جيش ابن زياد ثم نقضه، وشفَّع في (حكيم بن الطفيل) الذي ضرب الحسين بسهم بمواربة(96). وهرب من قبضته مجرمون حقيقيون كمحمد بن الأشعث وشبث بن ربعي (من قادة حرب الحسين) ومرة بن منقذ (قاتل علي بن الحسين) وأسماء بن خارجة (الساعي في قتل مسلم) وعمرو بن الحجاج (مانع الماء عن الحسين). وهرب قاتلون ومقاتلون آخرون من الكوفة إلى البصرة قيل: بلغوا عشرة آلاف(97). وهو بهذا قتل عددا مهولا قيل: سبعين الفاً، من فرسان العرب وشجعانهم وساداتهم وكبرائهم(98)، وشرَّد الكثيرين، فكان أن انقلب الهاربون عليه وحاربوه، وتركه الباقون من أصحابه لما تركه في نفوسهم من الذحل على أقربائهم(99).

ويؤخذ عليه في عملية الثأر اعتماده على أشخاص يذكرون له القتلة (100)، فوقع تحت أهواء المخبرين، ولو انتهج نهج أبي مسلم الخراساني في اقتصاصه من قتلة يحيى بن زيد بمسكه ديوان الجيش(101)، لكان أكثر دقة، كما قتل على السعاية فأعتق من سعى بمولاه أو قتله فأجرأ العبيد على السادة(102). وكانت من مضاعفات الثأر وتخلي العرب عنه، تجنيده وتقريبه الموالي (الحمراء) لتعويض مناصريه فزاد السخط عليه(103).  وهكذا انحصرت ظاهرة المختار بأخذه الثأر؛ فبه وجد وبه انتهى.

 

أثره

لم يحدد المختار علوياً ليدعو له سلفاً، بل رضي بمن يقبل أن يكون له غطاءً شرعياً فراسل السجاد وقيل أبى، ثم راسل محمد بن الحنفية الذي ارتضى المختار آخذا لثأر الحسين فقط(104)، ولكن المختار أراد من ابن الحنفية أبعد من قضية الثأر فروّج بأنه المهدي المنتظر(105)، ونجد (الكيسانية)، وهم أصحاب المختار، يقولون بإمامة محمد بن الحنفية دون علي بن الحسين (السجاد) (106). ولعله أراد القضاء على الزبيريين والأمويين تباعاً تحت هذا الغطاء. وقد بقيت الكيسانية بعد المختار منقسمة إلى ثلاث فرق مهدت إحداها للدولة العباسية. والكيسانية أولى الفرق التي شذت عن الإمامية.

وقد أجاد المختار استغلال أدواته المتاحة وتصرف بسرعة ممكِّنة لكسب الوضع لمصلحته، فحقق ما عجز سليمان بن صرد عن تحقيقه بحله العقد الثلاث: عقدة الكوفيين فكسبهم بثأره للحسين، وعقدة الزبيريين بطرد واليهم (ابن مطيع) واستحواذه على السلطة، وعقدة الأمويين وجيشهم القادم بالانتصار عليهم في (الخازر). غير انه لم يحسم أياً من هذه العقد بشكل نهائي؛ فالكوفيون عادوا إلى خذلانهم المزمن، واستعد له الزبيريون فكان قتله على يد مصعب بن الزبير، أما الأمويون فإذا لم ينتصر مصعب كانوا سينتصرون عليه، وقد كانت لهم الغلبة الأخيرة على الكوفة.

 

رابعاً- ثورة زيد بن علي (121هـ)

لم يكن زيد ثائرا علوياً ضد الأمويين حسب، بل كان ثائرا على الطرفين؛ فجاهد الأمويين على  الخلافة، ونافس أخاه محمد الباقر على الإمامة. وقد رفع شعار الثأر للحسين(107) لكسب الشيعة. وقيل:انه كان يدعو إلى الرضا من آل محمد ولا يريد نفسه(108)، وقيل أيضاً: أوهم الشيعة بأنه قام بأمر أخيه الباقر(109). ويؤكد طلب زيد الخلافة قول هشام له:" أنت المؤهل نفسك للخلافة الراجي لها؟"(110)، وطلبه الإمامة قوله للباقر: " ليس الإمام من أرخى عليه ستره، إنما الإمام من أشهر سيفه"(111).

وكان طلبه الإمامة لجمع الشيعة والثورة على الأمويين لأخذ الخلافة منهم؛ لذا خطط للالتقاء بالكوفيين برغم جهود يوسف بن عمر أمير الكوفة في الحيلولة دون ذلك(112). ولكن أهمية زيد الروحية أكبر مما حققه على الأرض، فمائة الألف الذين وعدوه بالنهوض معه تناقصوا وقت الحرب إلى خمسمائة أو مائتين وثمانية عشر فقط! فردد في أسف: "سبحان الله فأين الناس؟"(113)، وفي الحقيقة لم يحجزهم يوسف بن عمر في الجامع منعاً من مساندة زيد بقدر ما هم انحجزوا مطاوعة، وتأكد زيد من أن أهل الكوفة فعلوها حسينية(114)!!

وأهمية زيد في انه فتح باب الثورة بعد الحسين بن علي. وتبنت (الزيدية)، الفرقة التي شكلها أتباعه، الأيدلوجية الثورية في بقية العصر الأموي ونصف العصر العباسي، وصار مفهوم الإمامة في الفقه الزيدي مرتبطاً بالثورة فكل: فاطمي، عالم، زاهد، شجاع، سخي، خرج بالإمامة يكون إماماً واجب الطاعة(115). وانقسمت الزيدية إلى ثلاث فرق: البترية والجارودية والسليمانية. والفرقة الزيدية تعد زيداً الإمام الخامس فهو بعد زين العابدين. وهي ثاني فرقت شذت عن الإمامية.

 

خامساً- ثورة يحيى بن زيد (125هـ)

وكان يحيى بن زيد امتدادا لأبيه في منهجه واعتقاده بالإمامة والخلافة، وكان قد فرَّ من الكوفة إلى خراسان عقب مقتل أبيه، لأنه وجدها مكاناً مناسباً لثورته، وتتضح نيته الثورية في قوله لنصر بن سيار حين أمره بالتقوى وحذره الفتنة:" وهل في أمة محمد فتنة أعظم مما أنتم فيه من سفك الدماء وأخذ ما لستم له بأهل؟"(116) وما لبث أن ثار وقتل في الجوزجان مع أصحابه كلهم(117). وهو الإمام السادس عند الزيدية، ولم يعقب، وكان حلقة الوصل بين الفرعين الفاطميين: الحسيني والحسني؛ فأغلب الثورات العلوية الحسنية بعد يحيى في العصر العباسي أسست شرعيتها على النظرية الزيدية، وقد زعموا أن يحيى فوَّض الأمر بعده إلى محمد النفس الزكية وإبراهيم(118)، مع إن المصادر تؤكد عدم بقاء احد من أصحاب يحيى لينقل هذه الوصية! ولعلهم روجوا ذلك لمنح الثورات الحسنية الشرعية فالمعروف أن الإمامة مستمرة في ذرية الحسين.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2168 الأحد 01/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم