صحيفة المثقف

الوركاء دويلة الملوك والمعابد والآلهة / حامد فاضل

قبل التأريخ, وقبل الأسماء. بين النهر, وبين الصحراء. كانت أرضا عذراء, وكانوا سبعة حكماء1. الكون يدين لهم بالولاء. وتحت قبته الزرقاء, رفعوا القواعد, فهفت أفئدة الناس إليهم. عمروا الأرض, أعلنوا ولادة مدينة عُمِدَتْ بالفرات, وعُرِفَتْ باسم الوركاء.. هي قرة عين وادي الرافدين, تُرِكَتْ مقرورة بالخلاء, فألقى الزمان عليها الغطاء.. وأنا / الكاتب / الراوي / الرائي / الحكاء / سأكتب مرأى الوركاء, على لوح الفضاء القصي مع المبتهلين في ذرى الزقورات, المتطلعين إلى العالم العلوي, العارجين على صهوات التبتل حيث لا مصدات بين الخالق وبين المخلوق.. اقتربوا مني فإن لدي ما لم / ينسخه السومريون / يجده المنقبون / تحكه الجدات / يروه الرواة /.. اقتربوا أكثر فأنا أبن هذه الأرض وارث (( دب ـ سار2 )), الذي داهم ألواح الطين بريشة نسر وركائي, فنسخها (( سن ـ ليقي ـ أونني 3 )), فختمها (( القيبو4 )) بالختم الملكي, فشواها الفران بفرن خزفي, فخزنها الخازن في خزائن الآلهة, فألقت الآلهة بالمفاتيح في غيابة جب المعبد, فلبثت الألواح في سبات ببطن الصحراء.. / الزمن بدوي / السنين جِمال / العصور قوافل / المستقبل ينسلخ من الأزل / الحاضر ينسلخ من المستقبل / الماضي ينسلخ من الحاضر / يرحل سارباً ضارباً لعله واجداً واحة في الأبد.. عندها تلتقي الكلمة الأولى بالكلمة الأخيرة في عناق سرمدي.. ومن قبل أن يولد التأريخ, وتتناسل العصور. حرّضت الآلهة المياه فكان الطوفان, وحرّضت الرمال فكانت الصحراء, وحرّضت الرياح فشيدت مدافن الوركاء, فتلفعت المدافن بُرْدَةً من تراب, فصارت أثراً بعد عين.. وهل يأكل التراب, التراب ؟ إنها ما تزال برغم تقلب مزاج الزمان تعتلي عرشها دويلة / للملوك / والمعابد / والآلهة / الشمس تجالسها في الصباح, والقمر يسامرها في المساء.. غرة في جبين الجنوب الفراتي, حيث تهفو إليها أرواح سكانها الأقدمين, لتقيم الشعائر في معابدها, فتنهض تلك المعابد كي تتلقى النذور, تمزق أكفانها التي خاطها الدهر من تراب العصور, تشعل الشمع, تحرق في الجفنات البخور.. سأحلق رأسي, أغتسل بماء الفرات الطهور, أتزر بمئزر الكهنة, أحمل نذري, أرتقي مدرج الزقورة, وأمضي صعوداً الى متكأ الآلهة.. أنا الحالم بكتابة مرأى الوركاء. أتلفع قمراً شاحباً كرغيف خبز الفقراء, يرافقني نجم سارح في الأعالي, يتوهج مثل نار تراءت لموسى عليه السلام, والسماء التي تُعَمِمُ راسي لا كتلك السماء التي قد عرفتم.. سماء صحيح, ولكنها مثلما تتزاحم فيها النجوم, تتزاحم فيها / الملاحم / الأساطير / والآلهة / التراب الذي أطأ الآن غير التراب الذي ذره منخل الدهر بين أيدي السنين, انه ذلك التراب الذي كان يوماً موطأً لمن عمروا هذه الأرض. تغتدي وتروح عليه أقدامهم, كل يوم يتركون آثارهم فوقه كوشم خيول الكتابة فوق القراطيس.. الأرض قدامي مطوية. ولكنها ليست الأرض التي تعرفون, هي ثوب بلدتنا التي في الجنوب, هي صحراءنا التي ينطق صمتها بالأساطير, هي كل ما تصفون. ولكنها الآن بين يدي كتاب تُقَلّبُ الريح أوراقه, أقرأ فيه ملاحم من سبقونا الى العيش فوق هذا التراب الطهور. أخفف خطوي, أوصي قدميَّ بالرفق كي لا تدوسا على قدميّ كاهن من (( كُلاب )).. ربما أطأ الآن جسد محاربٍ عاد من الحرب مثخناَ بالجراح, أو لعل زوبعة الصَحْرِ هذه التي يعرفها أبن منظور( الغبرة الشفيفة الحمرة الخفيفة البياض) التي يغزلها مغزل الريح حولي, هي صرخة بطل ملحمة الخلود الذي / قهر الأبطال / قاسى الأهوال / قتل الأسود / قطع الأشجار / بنى الأسوار / فض البكارات / لكنه لم يحتمل موت صديق. وليس بمستبعد أن يكون مسيري على أثر وحش البراري / المولود في التلال / الآكل العشب مع الظباء / الوارد الماء مع الحيوان / الذي كان ثاني أثنين في الملحمة.. أبحث تحت طيات هذا التراب عن وشوم أناس من قبل ميلاد عيسى عليه السلام, تركوا أوعية أرواحهم في حضن أمهم الأرض, عارجين على صهوات من التبتل بيض كغيوم الربيع, فهل يجرؤ أحدكم على أن يكذبني ؟ إذا قلت أني وفي لحظات إغفاءة الكهنة تلصصت على معبد (( أي ـ أنا )) لأبصر عشتار تسبح في ضياء الشموع, وثلة عذراوات يخطرن في رحبة المعبد كأطياف وسن في جفون السهارى : أكان للوركائيات كل هذا الجمال !؟ أكاد لا أصدق أن اللواتي تراهن عيني نساء.! أكنّ آلهة أم بشر.؟ / شموس / أقمار / أنجم / أراهن يبزغن خلال سحاب البخور, وستائر شعورهن المسدلات على ظهورهن يتأرجحن نحو أعقابهن كموج الفرات إذا توشح بالغروب السماوي / نحيلات كعيدان البردي / شفيفات كأجنحة النسيم / رشيقات كغزلان الصحراء / عبقات كأزاهير البر / متوهجات كسنابل القمح / مصفقات كسرب القطا / فارعات كنخل السماوة / فاتنات كربيع البادية / سمراوات بلون الغبش / راقصات كأراجيح السعف / مغردات كبلابل السحر / منشدات أعذب أحلى الأناشيد لعشتار.. نعم أجزم أنها لم تكن غير عشتار فأية آلهة غيرها / تفيض أنفاسها بعطر البراري / تخفق جدائلها كبيارق نخل الجنوب / يتوهج جيدها كشمس النهار / يتمايل جسدها كغصن الربيع / وأنا الذي أختلس إليها النظر الآن من فجوة في الخيال. أراها كما وصفتها الألواح / آلهة / الحب / الجنس / الخصب / الجمال /.. ماذا ؟ أتسألون عن مصدر الصوت الذي تسمعون ؟ اعلموا أنه ليس همس الليل, ولا دغدغة الحلم, ولا شدو السحاب, ولا انثيال المطر, ولا خفق أجنحة النسيم, ولا هو حتى حفيف ثياب الشجر.. إنما هو عناق أصابع سومرية, لأوتار قيثارة وركائية, على عزفها تستفيق النجوم, وكالمستهام يطل القمر, وحتى السماء التي لا تُطال ستحنو على الأفق تحضنه, وتطبع فوق ثراه القبل, وقد هزني الابتهال الذي ضج في حناجر الكهنة. فأي نشيد هذا الذي يرافق عشتار حين تسير, وعشتار لا تلامس الأرض أقدامها.. أأنكص على عقبيّ, أم أواصل الغور في بؤر مرأى الوركاء.؟ ها.. ماذا تقولون.؟ أُواصل ما دامت عباءة الحلم التي أتلفع تسترني, إذن سأقترب كي أرى عن كثب ذلك الكاهن الحليق الرأس الذي ما انفك يشبك ذراعيه قدام صدره مستغرقاً في مناجاته للآلهة, منتظراً أن تباركه, وتقبل منه النذور من / السمسم / الكتان / الحنطة / السمن / الجعة / اللبن / التي حُمِلَتْ من كل صوب في المملكة التي ترونها اليوم عل شكل أسنمة تتلفع بهذا الرداء الترابي الذي تطرزه شظايا الخزف, والذي خاطه الدهر من / الرمل والعشب / والطمى / والحجارة / ثم ألقاه على أكتافها ليستر مفاتنها من الأعين النهمة.. تقول سطور كتاب التراب, التي خطها يراع الزمان بمداد السنين : كانت الوركاء عاشقة للفرات, وكان الفرات يعشق وركاءه, قبل أن تدق البيئة إسفينها, ربما بوشاية من الريح التي ما تزال تعول بين التلال, أو حسد من الرمل المسفوح على مرآة الصحراء, أو بنداء خفي من الطبيعة.. سُحِرَ النهر فغير وجهته, وأسرع مبتعداُ عن ديار محبوبته التي تفطر من ظمأ كبدها, فاحتست آخر ما ترك النهر من ذكريات, ثم توسدت التراب وقد فارقتها الحياة, فبانت لعين السماء صامتة كما المقبرة.. المروج ذابلة أزهارها, الحقول ضامرة سنابلها, السواقي التي جففتها الرياح يابسة تمزقها نصال شمس الظهيرة, النخيل منكفئ وقد شابت ذوائبه, الشجيرات مصلوبة, الصروح التي قوضتها فؤوس الزمان ينعق البوم في خرائبها, وحبال الأرض تنساب من ثقوب حيطانها النخرة, الحجرات التي كانت مخادع للسومريات تشهد أجمل ليالي الغرام, وتسمع همس الهيام, هي الآن إن جّن ليل عليها تضج بأعراس بنات أوى, ويُسْمَعُ فيها عواء الذئاب, كأن المدينة ثكلى تنوح على أبنائها الذين انتموا الى العالم السفلي بعد هجر الفرات, حيث يمم وجهه قِبَلَ المغرب ليبحث عن معشوقة ثانية.. حين رأها تطل عليه من البادية, أغرته / بدفء رمالها / نصاعة شمسها / ظلال نخيلها / لقد مرَّ فيها عابراً للسبيل.. هي لم تتكلم, هو أبصر في مقلتيها كلام يشجعه على أن يحط الرحال بين رمل (( قشلتها5 )) وطين (( الجوالي6 )) هي بفعل الضيافة ألقت عليه غلالة من ظلال النخيل الذي أعتلى شامخاً لينوش شمس الظهيرة بشعفات سعفه, واشماً قيلولة النهر بفارعات الجذوع.. لينطرح على مطرح الرمل مستسلما لهدهدة النخيل, وراحت أيادي الهواء الجنوبي تروح للنهر بمراوح السعف ليغفو على قصص من ابتداع الخيال, أينام ؟ والبرحي من حوله مثقل بالعثوق.. بعد انقضاء ثلاث ليال, وثلاثة أيام, سألت المدينة النهر : ما أسمك أيها السائر بين النخيل وبين الرمال.؟ أجاب النهر يكنونني (( حبل إبراهيم )). فقالت المدينة : أنت الفرات. وسأل النهر المدينة : وأنت ما اسمك يا عروسة البادية.؟ أجابت المدينة : أنا التي باركني (( سموي )) إله السماء. فقال النهر: أنت السماوة. / صمتت المدينة / صمت النهر / حدق الماء بالرمل / حدق الرمل بالماء / قال الرمل : ما أعذبك من ماء. قال الماء : ما أنقاك من رمل. همس صمت النهر : أحبك يا ابنة الصحراء. همس صمت المدينة أحبك يا ابن الجبل. أحتضن النهر المدينة, طوقها بذراعين موشومين بالغرين.. احتضنت المدينة النهر, طوقته بذراعين موشومين بالنخيل, فراح يدغدغ كوامنها بأصابع أمواجه, ويرويها بلمى القبلات.. التحمت المدينة بالنهر, التحم النهر بالمدينة, اهتز النهر فتدفق الماء ليروي كل ذرة رمل, اهتزت المدينة لتشرب كل قطرة ماء. فكان الخصب وكان النماء.. إنها الآن مدينة عاشقة في حضرة نهر عاشق, وهو الآن نهر عاشق في حضرة مدينة عاشقة.. سيحتاج إلى عدة أعوام ليمحو من ذاكرته معشوقته القديمة الوركاء التي ما يزال الوجد الى النهر يراودها صباح مساء.. هي الآن تحلم أن ترى حبيبها , وأنى لها أن تراه, وقد كسى الدهر وجهها بالتجاعيد, ولكنها تكابر على بعد (60) كيلومتراً وسط صحراء السماوة, بعد أن غرّب النهر عنها بحوالي (12) كيلومتراً ليتركها تلوح للرائي على شكل أسنمة من تراب, هي بقايا تلك المدينة التاريخية العظيمة من تلول ومرتفعات تشكل شبه دائرة, تبلغ مساحتها ( 7 ) كيلومترات مربعة, وهي من أوسع المدن المدورة إذ يبلغ محيطها ( 9 ) كيلومترات متزنرة بسور طوله حوالي تسعة كيلومترات ونصف.. يحتاج القاصد إليها اليوم إلى قطع مسافة ( 10) كيلومترات شمال مدينة السماوة, لينعطف يميناً إلى ناحية الوركاء في طريق فرعي مُعَبَدْ بطول (6) كيلومترات, ثم يعرج جنوباً ليقطع (40) كيلومتراً قبل أن تتكحل عيناه بذرى زقورتها السامقة.. أما القاصد إليها من جهة الجنوب, فيتحتم عليه قطع مسافة (30) كيلومتراً ليصل إلى مدينة الخضر, ثم يتجه ليسير مسافة (6) كيلومترات في طريق وعر مترب ليصل إلى الدويلة التي عرفت عند السومريين باسم (( أونوك )) مملكة جلجامش التي اقترن اسمها بملحمته الخالد.. الوركاء / المدينة / السومرية / الشهيرة / المقدسة / التي ولد فيها حرف الكتابة لأول مرة في التأريخ.. ورد ذكرها في الأخبار العربية القديمة بهيئة (( الورقاء )), فضمها الطبري إلى تأريخه, والحموي إلى معجمه, وما التسمية الحالية إلا تحريفاً للاسم القديم (( أوروك )) الذي يعني المستوطن.. يحتمل الباحثون في التراث اللغوي القديم الى أن (( أوروك )) هو أصل تسمية العراق التي شاعت في ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين, أي في أواخر العهد الساساني, حيث بدأ أسم العراق يظهر في الشعر الجاهلي مقترناً لدى شعراء البادية بالخير والرخاء, كما زين اسم الوركاء الشعر العربي حيث يقول حرملة بن مريطة :

         ألم يأتيك والأنباء تسري       بما لاقى على الوركاء جاني

 وقد ذُكِرَت الوركاء في التوراة بصيغة (( أرك )) وفي المصادر اليونانية والرومانية باسم (( أورخوي )) ويحدد المؤرخ طه باقر موقع آثارها على نحو (220) كيلومتراً جنوب شرقي بغداد, وعلى مسافة نحو (20) كيلومتراً شرقي مجرى الفرات الحالي, بالقرب من خضر الدراجي, يمر فيها شط النيل المندرس الذي كان مجرى الفرات القديم.. في أوائل عصر السلالات كانت الوركاء تقسم إلى قسمين رئيسين, أولهما (( كُلابْ)) المتباهي باسم كاهنه (( للا )) الذي يعني نوعاً من الشياطين, وثانيهما (( أي ـ أنا )) المحتضن لحارة المعبد المقدس المخصص لعبادة كبير الآلهة السومرية ((آنو7 )) والآلهة الشهيرة (( إنانا )).. وفي محاولة لإيجاد علاقة بين الأسماء وجذر الوركاء, نحتكم إلى آراء المختصين, فإذا كانت كلمة مدينة باللغة السومرية تلفظ (( أورو )) كما يعتقد الدكتور فوزي رشيد, وكلمة مقدسة تلفظ (( كو )) فان لفظ المدينة المقدسة يكون (( أوروكو )) وهو أول غرس لتسمية (( أوروك )) التي اهتزت وربت بفعل (( الابسو )) الماء الذي ارتبط به الاستيطان البشري الأول في أرض الدلتا المحاذية للأهوار التي خلعت عليها الطبيعة أثواباً خاطتها من أحراش البردي والقصب, وأهدتها الجاموس رمز الأهوار, ثم أغدقت عليها العطايا لتجعلها سكنى للخنازير والأسماك والطيور, والتي ازدادت اتساعاً منذ القرن السادس الميلادي أواخر العهد الساساني.. لنعد إلى قوافل المستوطنين اللاساميين ألأوائل الذين قدموا من المنطقة الجبلية في آسيا الوسطى متدفقين من بؤرة التأريخ حتى الألف الرابع قبل الميلاد ليحطوا رحالهم في تلك الأرضيين الممتدة ما بين نهري دجلة والفرات. والتي عرفت بوادي الرافدين, حيث أطلق عليها الجغرافيون اليونانيون والرومانيون في ما بين القرن الثاني والرابع قبل الميلاد المصطلح الإغريقي (( ميزوبوتامية )) Mesopotamia, بلاد ما بين النهرين, والتي وردت كمصطلح أولاً في كتاب المؤرخ الشهير ((بوليبيوس )) ثم ذكرها المؤرخ (( أريان )) كتسمية من خلال حديثة عن الاسكندر الكبير الذي أحدث ولاية باسم (( ميزوبوتامية )) أما المؤرخ ((سترابو )) فقد أطلق هذا المصطلح على تلك الأرضيين الواقعة بين نهري دجلة والفرات الممتدة من شمال العراق الى حدود بغداد.. كما ورد المصطلح لتوصيف الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين في التسمية البابلية ((مات بريتم )) أي ((أرض المابين )) وجاء بصيغة (( بيرت نارم )) وورد في رسائل (( العمارنة )) الشهيرة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد بصيغة ((نهارينا )) ليطلق على مملكة (( ميتاني )) ثم ذُكِرَ في التوراة باسم (( أرام ـ نهرايم )) وهي كلمة آرامية تعني (( آرام النهرين )) أي بلاد ما بين النهرين التي تدفقت عليها زُمَرُ أولئك المستوطنين حليقي الشوارب الذين امتازوا بشعر رؤوسهم الأسود, ولحاهم الكثة وعرفوا فيما بعد بالسومريين الذين ورد اسمهم كلقب لأول مرة في النصوص الخاصة بألقاب ملوك حضارة وادي الرافدين حيث كُتِبَ باللغة السومرية Lugal Ki –en – gal Ki – un  أي (( ملك بلاد سومر وبلاد أكد )) كما شملت هذه التسمية المزدوجة التي وردت في اللغة البابلية Shar mat shumerin u Akadim أسماء العراق التأريخية غب العهد الكوتي, ولقب بها الملك ((أوتو ـ حيكال )), ولم يتوصل المهتمون بالحضارة السومرية الى معرفة مجموعة العلامات المسمارية التي يتشكل منها اسم (( سومر )) Ki – en - gi التي يحتمل أنها تعني في المعنى الحرفي للكلمة (( أرض سيد القصب أو الأحراش )), لكن المؤرخ طه باقر يميل الى الاحتمال الذي يفيد أن المقصود بسيد الأحراش هو الإله السومري المشهود (( أنكي8 )) أو (( أيا9 )), كما ذُكِرَ معنى آخر في اسم سومر ضمن الاحتمال الذي يقول أنه مشتق من أحد أسماء مدينة (( نفر )) القديمة الواقعة في الحد الشمالي من بلاد (( سومر )) والتي تبدأ من شمالها بلاد أكد.. وبما أن الماء هو أصل الوجود, فقد حظي نهرا دجلة والفرات بالتقديس والتعظيم من قبل العراقيين القدامى باعتبارهما من الآلهة المشتقة من القوى الطبيعية, حيث وصفا بالنهرين الأخوين في التراتيل الدينية القديمة, كما نسبت أساطير الخليقة أصل منبعهما الى عين ((تيامة )) وهي الآلهة التي تمثل ماء البحر, ودجلة والفرات في سفر التكوين هما نهران من ضمن أربعة أنهار تنبع من الجنة, لذا فان وادي الرافدين هو أفضل مكان للسكنى, وفيه ظهرت مقومات الحضارة السومرية في أواخر العصر (( الحجري ـ المدني )) أي النصف الثاني من دور الوركاء المعروف بجمدة نصر .. ودجلة اسم ورد بهيئة (( ادكنا )) كما سميّ بالعبرانية (( حداقل )) أو (( هداقل )) والعرب هم الذين أطلقوا عليه تسمية دجلة, وهو النهر الذي فسر في المعاجم المسمارية القديمة بأنه النهر الجاري السريع.. وجاء اسم دجلة في اللغة الحورية على هيئة (( أرنزح )) أو ((أرنزخ )), ويحتمل أن أسمTigris الذي أطلقه الأوربيون على دجلة مستعار من التسمية الواردة في اللغة الفارسية البهلوية (( تيركاه )) Tir - gah التي شبهت النهر بالسهم لسرعة جريانه, وهو التفسير الذي يطابق تفسير المعاجم المسمارية القديمة, بينما يتصف الفرات بالهدوء حتى في موسم فيضانه الذي يستهله في بداية شهر آذار ويختمه في نهاية شهر أيار, وقد شجع هدوء النهر هذا على عزوف المستوطنين الأوائل عن وادي دجلة, وتدفق موجاتهم على وادي الفرات للاستيطان الذي أعتبر استهلالاً لنشوء أولى الحضارات في تأريخ الاستيطان البشري الأول في ما بين الألفين الخامس والثالث قبل الميلاد في السهل الرسوبي.. حيث خوطب الفرات في التراتيل الدينية بأنه النهر الذي خلق الأشياء, وأن أيدي الآلهة هي التي حفرته, وأثثت ضفافه بالخيرات, كما اختار الاله (( أيا )) أعماق مياه الفرات التي تبرىء المرضى وتطهر الأبدان مكانا لمعبده.. وقد ورد أسم النهر الهادئ في النصوص المسمارية بصيغة (( بورانُن )) أو (( بوروننا))  والذي يرادفه في اللغة الآكدية ـ البابلية السامية لفظ (( بوراتي )) أو ((بوراتم )) والذي جاءت منه التسمية العربية (( فرات )) التي تعني / الفرع / الرافد / الماء / العذب / وان أشهر اسم للفرات في الكتابة المسمارية جاء على شكل مجموعة من العلامات المسمارية (( أود ـ كب ـ نُن ـ كي ))  UD – kib –nun - ki المسبوقة بالعلامة المسمارية الدالة على النهر (( إد )) Id, ولقد حدثت لمجرى هذا النهر الخالد الضارب في القدم عبر السنين الفائته من عمره الطويل الكثير من التغيرات البيئية التي تسببت في تحوله, وابتعاده عن أحضان المدن القديمة التي نشأت وازدهرت على شواطئه, وتشي التحريات الجيولوجية بالعلاقة الوثيقة بين الفرات وبحيرة الحبانية وهور (( أبو دبس )) وبحر النجف في العصور الغائرة في بؤرة ما قبل التأريخ, حيث كانت هذه المنخفضات محافظة على الاتصال الدائم في ما بينها لإقامة وحدة مائية توجت بولادة واد طويل متصل من الشمال الى الجنوب, لكن أنصال الحركات (( التكتونية )) قطعت أوصال ذلك الوادي الى أجزاء من المنخفضات التي شكلت نواة نشوء البحيرات.. وعلى امتداد طريق رحلته الطويلة. ينثر الفرات الكريم عطاياه على مدن العراق الصغيرة والكبيرة, يعانق النخيل, يلحس الملح عن جسد الأرض, يلقي عليها غلالات خصبه, ويترك لون حنائه في أكف الشواطئ.. يمد ذراعيه ليطفئ عطش القرى والمزارع المنتشرة في السهل الرسوبي, يطرق أبواب مدينة ((سبار)) الشهيرة المعروفة بأبي حبة الواقعة في منطقة المحمودية شرقي مجرى الفرات الحالي بنحو ( 12 ) كيلومترا, حيث يُطْلَقْ على بقايا المجرى القديم (( حبل إبراهيم )) وفي منتصف المسافة بين مدينتي (( سبار وكوثي )) يحط النهر رحاله ليرتاح.. يفكر بزيارة بابل, فيرسل أحد فروعه للاستطلاع, ينسل ذلك الفرع من الجانب الأيمن من الفرات القديم, وينساب موغلاً ليروي عطش الأراضي المحيطة بمدينة بابل.. حين ترى المدينة رسول النهر تستقبله بحفاوة تليق بسفير نهر عظيم, عندها يتقدم الفرات الكبير نحو بابل بثقة الفاتحين, يسير بين صفين من أشجار النخيل, يتقدم هادئاً وعيون الجنائن ترمقه بإعجاب. فيدخل المدينة ليطبع على جبينها قبلة رطبة. وبين / غناء الحقول / رقص السنابل / عزف الشجر / يتجلى كرم الآلهة بمنح الفرات لقباً جديداً يسجل في النصوص المسمارية باسم (( أراختو )).. وحين يخرج الفرات من بابل متسربلاً بلقبه الجديد ليتجه إلى مدينة (( كيش )) تل الأحمير, تسبقه سمعته على لسان المبشرين, فتستعد المدينة لاستقبال حامل وسام بابل بحفاوة لا تقل عن حفاوة بابل, فيهدي الفرات مدينة (( كيش )) كما أهدى مدينة بابل مجراه الأصلي, وينتقل منها الى مدينة (( شروباك )) تل فارة, ليصل الى الوركاء محطة استراحته الثانية.. لنعد الى الأسطورة السومرية التي تتحدث عن العلاقة بين الماء (( الابسو )) والمدينة (( أورو)) والآلهة (( إنانا )) كي نتحقق من الاعتقاد الذي يرى أن أسم العراق مشتق من ذلك الأصل الذي اشتق منه أسم الوركاء, استناداً الى أن اسم (( إنانا )) أرتبط باسم (( نون )) الذي يعني السمكة, وبلفظة قديمة هي (( عرك )) التي تعني صياد السمك.. فقد كتب الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قوم من اليهود على ساحل خليج العقبة : ( عليكم ربع ما أخرجت نخلكم, وربع ما صادت عروككم, وربع المغزل ) والعروك جمع عرك, وهو صياد السمك, وفي الآية من سورة الكهف ( نسيا حوتهما فاتخذ طريقه في البحر عجباً ) والحوت هو ما عظم من السمك, واسم الحوت كما ورد في القرآن (( نون )) وذا النون عليه السلام كني بذلك لأنه صاحب الحوت, ومن ذلك يحاول القاضي علي الحميدي, أيجاد علاقة بين أسم / الوركاء / نينوى / العراق / في مخطوطته (( السماوة ومعبد أي ـ أنا )) رغم أن أهل العراق القدامى لم يطلقوا أسم (( أوروك )) على القطر قبل أن يشيع مصطلح (( العراق )) الذي كان نظام الحكم القديم فيه يشابه التنظيمات السياسية في بلاد اليونان القديمة في تأسيس دويلات المدن, حيث كان الحاكم السومري يطلق على نفسه لقب حاكم المدينة التي كانت مركز دويلته, مثل حاكم لجش, أو حاكم الوركاء.. لم يتبق لي إذن ما أجهله مما / حفره النساخ في الألواح / دونه الكتاب في الكتب / حفظه الحافظون في المخطوطات / ألم أقل لكم أنني سليل أولئك الكتاب الذين أسسوا مدرسة الملاحم الوركائية.. إن باستطاعتي الآن رسم صورة تقريبية للحوادث سواء تلك التي جرت في الوركاء, أو التي حدثت في الأماكن الأخرى من بلاد ما بين النهرين في عصر فجر السلالات أو عصر دويلات المدن, فما عليَ إلا أن أعتلي صهوة المخيال, وألاحق / أساطير /حكايات / أخبار / كتاب تلك الملاحم التي تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد.. لعل الوركائيون يسمعون الآن وقع حوافر جواد المخيال الذي يخب في دروب مدينتهم متنقلاً من أثر الى أثر ليصل لاهثاً مزبداً الى جداول الملوك السومرية, لأطلع على مصادر أخبارها منذ عصر فجر السلالات الثاني, أو بداية فجر السلالات, ثم أنتقل الى / المصادر الأدبية / الأساطير / الأدلة الأثرية / التي تنطق بها كل ذرة تراب وركائية.. أمضي كالسائر في منامه, مسحوراً بما نُسِجَ من / قصص البشر ونساخها / مآثر الآلهة وأسمائها / الطقوس الدينية وأماكن تأديتها / القرابين وطرق تقديمها / النذور وكيفية إيفائها / تمتد أيدي هذه الأدلة تمهد طريق المعرفة أمامي, وتفرشه ببساط من نور يهديني الى مكتبة الوركاء, أقرأ على بابها لافتتة بالسومرية (( إي ـ دُباّ )) E – Dubba أعرف أني اهتديت الى بيت الألواح, أقف على باب من أبواب تأريخ العراق القديم. أنادي : يا خازن المكتبة ! يا حافظ تأريخ الوركاء في أخاديد الصلصال, أيها السومري الحارس للألواح والرموز المقدسة.. أنا حامد فاضل, كاتب عراقي مهتم بأمر دويلات المدن, أعكف الآن على كتابة مرأى عن الوركاء, استحلفك بالآلهة التي لها تعبد, هللا هديتني على ضوء مشعلك المضاء بزيت المعرفة, لعلي أطلع على أسباب نور أدلتك التأريخية الى أسرار المعرفة المكنونة لما كان من أمر دويلة الوركاء.. من بئر التأريخ يصعد اليَّ صوت أمين المكتبة : يا حامد يا أبن فاضل, أيها السماوي الذي تجشم عناء رحلة المعرفة. اعلم أننا نحن العراقيين القدامى, كنا هنا في وادي الرافدين سباقين الى التغير قبل حدوثه في وادي النيل, وان مظاهر التقدم بصورة عامة, عُرِفَتْ عندنا في بلاد سومر في جميع العصور التأريخية.. تعال يا حامد, تعال لأريك يوما من أيام أوروك المحصنة. يوم كالعيد مترع بالأفراح, سترى الناس وهم يلبسون أبهى الحلل, وغلمان (( الآسنو10 )) المتنقلين بين القصور, ثم ترى وجوه الحسان كفلقة الفجر في الأفق, الفتيات العذراوات اللواتي ينفح منهن العطر والطيب, المخرجات العظماء من مضاجعهم.. أسمعت بجلجامش ؟ جلجامش المبتهج بالحياة, المزهو برجولته وبأسه, الذي تحلي جسمه المباهج والمفاتن, جلجامش ! الذي رعاه (( شمش11 )) وحباه (( آنو )) و (( أيا)) بالفهم الواسع.. وأنكيدو ! ألم تسمع بأنكيدو ؟ المارد القادم من قلب الصحراء, الذي يأكل العشب مع الظباء, ويرد الماء مع الحيوان : تعال, اقترب, هات يدك :   

              ( اعلُ فوق أسوار (( أوروك))

               وأمش عليها متأملاً

               تفحص أُسس قواعدها وآجر بنائها

               أفليس بناؤها بالآجر المفخور ؟

              وهلا وضع الحكماء السبعة أُسسها

أنظر :

             (( سار12 )) واحد مساحة المدينة, وسار للرعي

              وسار هي الأرض المخصصة لمعبد عشتار

              ثلاثة سارات كلها, وكذلك الأرض الخلاء لمدينة أوروك )

 

                   ********

 قد يحدث وأنا في نشوة هذا الانزياح التأريخي أن يداهمني سوآل : من هم سكنى الوركاء؟ وللإجابة عليه اصهر المعلومة في بوتقة المخيلة, ثم أسكبها في قالب المرأى, فأقول : الزمن نهر منبعه الأزل ومصبه الأبد, وما بين المنبع والمصب, تسعى قوافل حقب التأريخ.. الوركاء هي الأرض البتول, التي تعاقبت عليها عصور سادت فيها الحضارات ثم بادت, شجرة السومريين هي أول شجرة استسقت الفرات, ثبت أصلها بتربة الوركاء, وناش فرعها مَحَفاتْ الآلهة, ثم خلف من بعدهم / الأكاديون / البابليون / الكيشيون / الذين وشموا جسد الوركاء بالمعابد والقصور, وخلعوا عليها ثياب حضاراتهم الزاهية, قبل أن تُحْكَمَ من قبل / الأشوريين / الكلدانيين / الأخمنيين / أو تستظل بفىء البنايات الضخمة التي أنشأها / الأغريق / السلوقيون / الفرثيون / والتي ما تزال أطلالها تغط بنوم عميق تحت كساء التلال.. وأفاد المنقبون الذين ميزوا سبعة أدوار تأريخية رئيسية, قسموها الى طبقات ثانوية بلغ مجموعها ( 12 ) طبقة بأن أعلى طبقات المدينة هي التي تنتشر فيها الأبنية الفرثية والساسانية, وأعمق تلك الطبقات التأريخية تعود الى العصر الأكدي. ثم ميزوا ( 18 ) طبقة أخرى تعود الى ما قبل التاريخ, تكمن تحت تلك الطبقات الأثنتي عشرة, أعلاها طبقة عصر فجر السلالات, أو ما يسمى بعصر لجش. وفي أخرها وهي الطبقة الثامنة عشر, انقطعت آثار السكنى, وبانت الأرض الغرينية, لقد خلع عصر العبيد على المدينة ثياب الحضارة, فتجلت منذ منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وهي ترفل بتلك الثياب, وخرجت بزينتها في عصر أوروك, فتقدم فن العمارة, وشيدت المعابد المكسوة بالجص الأبيض, أو المزدانة بالفسيفساء المؤلفة من مسامير الفخار المصبوغة بالألوان الزاهية, كما تحسنت / الصناعات / التعدين / الصياغة / فنقشت الألواح / المسلات / الأختام / الآنية البارزة النقوش والمطعمة بالصدف.. إن الوركاء حين تسفر للعاشقين, ستخشع أبصارهم لمرأى أجل مدينة عراقية ضاربة في القدم, فَمَنْ مِنْ المدن السومرية تضاهي أول عاشقة لنهر الفرات, وهي المدينة التي وضع أُسسها الحكماء السبعة, ثم زفوها إلى الحضارة البشرية.. أولئك الحكماء الذين تعلمت منهم الأمم المتعاقبة أصول العمران في أقدم سبع مدن عراقية, وهم الذين يضاهون الملوك السبعة الذين حكموا قبل الطوفان.. وتذكر الألواح أن الوركاء مدينة ذات أهمية, فهي من المدن العراقية الضاربة في القدم.. حيث ولدت في الألف الخامس قبل الميلاد, وترعرعت في فجر عهد السكنى في جنوب بلاد ما بين النهرين, وظلت تفرش حضنها, وتفتح ذراعيها لمن أراد السكنى حتى صدر الإسلام, وهي المُبَشَرُ بها منذ الألف الرابع قبل الميلاد كمهبط للآلهة, ومركز مهم من المراكز الدينية, لتلبس تاج هيبتها في العهد الشبيه بالكتابي, أو الشبيه بالتأريخي.. ويُرْجِعْ الدكتور فرج بصمجي ابتداء التاريخ في الوركاء, وغيرها من المدن السومرية التي نشأت في جنوب بلاد الرافدين إلى نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد, وهو تأريخ بداية تأليف الملاحم التي دونت / الحوادث التاريخية / الحروب / البطولات / الخوارق / سير الملوك / الأعمال العمرانية /.. يحتم علينا التعرف على أسماء السلالات التي نشأت في عصور ما قبل وبعد الطوفان, وأسماء ملوك كل سلالة, وفترة حكم كل ملك, أن نتحرى جداول إثبات الملوك السومريين المعروفة باللغة السومرية بمصطلح الملوكية (( نام ـ لوكال )) وهي الجداول التي سنجد في نشراتها المتعاقبة ضالتنا حتى آخر ملوك سلالة (( ايسن )) التي خُتِمَتْ بنشرتها تلك الجداول, التي كانت قد أُسْتِهِلَتْ بنشرة صدرت في عهد سلالة أور الثالثة في فترة حكم السلالة الخامسة التي أسسها في الوركاء الملك السومري (( أوتو ـ حيكال )) الذي اشتهر اثر تحريره البلاد من سيطرة الكوتيينِ البرابرة, وظل هذا الملك الشهير يمثل السلالة الخامسة, التي اقتصرت على حكمه, حتى يوم انتزاعه من قبل ملك آخر هو ( أور نمو ) مؤسس سلالة أور الثالثة. وبما أن الملوكية كانت قد هبطت من السماء, عندما ارتأت الآلهة التي تمسك بزمامها وشاراتها أن تحكم الأرض والناس من خلال نواب تصطفيهم من بين البشر. حيث يأتي التفويض من الآلهة الكبار المقمين في السماء الى الآلهة الأصغر آلهة المدينة التي تفوض ملك المدينة ليحكم الناس بالنيابة, فيقوم هذا الملك بإصدار شريعته. وقد اختار إله الشمس (( أوتو )) ابنه (( مسكيكاشر )) ليكون المؤسس لسلالة الوركاء وأن يحكمها بصفته (( أين )) أي السيد, ثم بصفته ملكاً ذهب الى البحر, وارتقى الجبال.. تذكر نشرة السلالة السومرية الأولى التي حكمت في الوركاء أسماء اثني عشر ملكاً, أغلبهم من صنف الآلهة, أو أشباه الآلهة الذين لا شبيه لهم في الناس كافة, والذين أُتْرِعَتْ الأساطير السومرية بخوارق / بطولاتهم / فحولتهم / نسلهم / انجازاتهم / صفاتهم / التي مُلِئَتْ بها جُعَبَ الملاحم, ولعل جلجامش المشهور بالملحمة التي عرفت باسمه هو أكثرهم شهرة, وقد ورد ذكره في الكتابات القديمة المكتشفة في الوركاء مقترناً ببناء أسوار المدينة, كما اشترك في بناء معبد (أي ـ أنا ) ويذكر المؤرخ طه باقر أن ترتيب جلجامش الذي دام حكمه (126) عاماً هو الملك الخامس من بين اثني عشر ملكاً وردت أسمائهم وسنوات حكمهم في أثبات الملوك مسبوقة بلقب (( أين )) En  من سلالة ملوك مدينة الوركاء أي السلالة الثانية على النحو الآتي :

1ـ ميسكيكاشر / 322 عام

2ـ انمر كار / 420 عام

3ـ لوكال بندا / 1200 عام

4ـ دموزي / 100 عام

5ـ جلجامش / 126 عام

6ـ أورـ ننكال / 30 عام

7ـ أودل ـ كلاما / 15 عام

8ـ لباشر / 9 أعوام

9ـ اين ـ نندار ـ أناَّ / 8 أعوام

10ـ مشيدي حكم / 36 عام

11ـ ميلام ـ أنا / 6 أعوام

12ـ لوكال ـ كيدو 36 عام

 يدرج النص التأريخي الضارب في القدم (( تمال13 )) أسمي جلجامش وابنه (( أور ـ ننكال )) ضمن أسماء الملوك الذين تشرفوا بتجديد المعبد الذي كسا حارة (( تمال )) بثياب القداسة والذي عُبِدَتْ فيه الآلهة (( ننليل)) زوجة الإله السومري الشهير (( انليل)).. إن شهرة الوركاء لا تعود الى كون هذه المدينة كانت مركزا دينيا وحضاريا طيلة تعاقب أقوام الأزمان المختلفة على استيطانها من قبل بدء التأريخ, أو لما تحقق فيها من منجزات حضارية تركت بصماتها على تاريخ وادي الرافدين, والأمم القديمة الأخرى كاختراع الكتابة, وصناعة الأختام الاسطوانية, وبناء الزقورة, وظهور النحت فقط , وإنما لكونها من المراكز السياسية التي قامت فيها سلالات حاكمة, كان أشهرها سلالة الوركاء الأولى التي خلد التاريخ مآثر عدد من ملوكها أمثال / انميركار / لوكال بندا / جلجامش / بطل أوديسة العراق القديم وأشهر ملوك الوركاء, أميرة المدن السومرية التي قَبَلّتْ ترابها المقدس شفتا الفرات, وداعبت ثوبها الأخضر أنامل الربيع, فاضطجعت على بساط الخصب, مخضبة بحناء الغرين, بعدما أسكرتها رائحة الحقول, لتغفو في (( كِلَتَها )) المنسوجة من ضوء الشمس, حالمة بفارسها الهابط من رحم الآلهة, يسرج طائر الفجر الأبلق, ويردفها خلفه طائراً إلى صوامع الآلهة التي لا يدركها البصر, ولا تطأها أقدام العالم السفلي.. الوركاء المدينة السومرية المقدسة / المنيعة الأسوار / العامرة الأسواق / الطيبة الشعب / القوية الجيش / العظيمة الملوك / السامقة الزقورات / الجليلة المعابد / المهيبة الكهنة / المتعددة الآلهة / غرست قدميها في برودة الرمال, وناشت بهامتها ثريا النجوم, فأبهرت بمفاتنها عيون السماء, زينت معابدها أنصاب الآلهة, وتربع على عرشها الملوك, فأحاط بخدرها الجيش, وأحبها الشعب.. بلدة معطاء ولود, مترعة بالطقوس, تلفظت بالحرف الأول, فأنطقت بملاحمها الحجر.. أعلنتـــــها ((الأنوناكي14)) أميرة البلدان, عُمِدَتْ بالنهر المقدس, فباركها (( الإله ذو الهالات المشعة* )) وأهدتها البقرة الوحشية (( ننسون )) غرسها الذي زرع بذرته في رحمها الملك (( لوكال بندا )) أو ( للا ) كبير كهنة (( كُلاب )) ابنهـــــا جلجامش أو كما نسخ بالكتابة المسمارية في الألواح السومرية ((كش ـ بل ـ كا ـ مش )) Gish Bil Ga Mesh , والذي يعني في الأكدية, المحارب الذي في المقدمة وفي السومرية, الرجل الذي سينبت شجرة جديدة كناية عن الأسرة, كما ذُكِرَ اسمه مقروناً باسم (( لوكال بندا )) في الألواح الصورية, ويذكر المؤرخ طه باقر ( أن اسم هذا البطل الذي اقترنت به ملحمة الخلود قد انتقل الى معظم الآداب القديمة كما أن أعماله نسبت الى أبطال الأمم الأخرى مثل (( هرقل )) و (( أخيل )) والاسكندر ذي القرنين و (( أوديسيوس )) وقد ذهب أكثر من باحث الى أن أُسس قصص (( هرقل )) تستند بالدرجة الأولى الى أصول مستقاة من ملحمة جلجامش وصلت الى بلاد اليونان عن طريق الفينيقيين فكلا البطلين من أصل الهي, وكلاهما اتخذ صاحباً حميماً (( أنكيدو )) بالنسبة الى جلجامش و (( يوليوس )) بالنسبة الى هرقل, وكانت المرأة هي سبب جلب الكوارث الى كل منهما, الآلهة ((عشتار)) في حالة جلجامش و(( دينيريا )) أو الآلهة (( هيرا )) بالنسبة الى هرقل, وكلاهما قتل الأسود الضارية واكتسى بجلودها, وتغلب على الثيران السماوية المقدسة, ووجد هرقل العشب السحري للخلود كما وجده جلجامش, وزار هرقل جزيرة الموت كما أبحر جلجامش عبر بحر الموت).. كما يرى الباحث روبرت كريفز : ( أن هوميروس استقى الكثير من حوادث ملحمة جلجامش بالنسبة الى احد أبطال الالياذه (( أخيل )) حيث يضاهي صاحب أخيل المسمى (( بتروكلوس )) (( أنكيدو )) صاحب جلجامش وأم أخيل هي الآلهة (( ثيتس )) تضاهي الآلهة البابلية (( ننسون )) أم جلجامش وكما نشد الاسكندر الخلود في نبع ماء كائن في بحر الظلمات مما يضاهي ما جاء في الملحمة بحث جلجامش عن نبات الخلود بصفتهما مؤلهين ).. جلجامش الملك / العظيم الشأن / الجميل الخلقة / الشاكي السلاح / الذي فرشت (( أيا )) طريقه بالنور, ذلك الجبار الذي حباه (( شمش )) السماوي بالحسن, وخصه (( أدد 15 )) بالبطولة, طوله أحد عشر ذراعاً, وعرض صدره تسعة أشبار, مخيف كالثور الوحشي, لا يُرَدْ فتك سلاحه ولا يُصَدْ, ثلثاه من مادة الآلهة, وثلثه الباقي من مادة البشر.. جلجامش الفحل الذي لا ينضب ما يمنية في الأرحام, الملك الذي له حق الليلة الأولى في الدخول على العروس قبل زواجها, فحل عذراوات الوركاء اللاتي ناءت أجسادهن بثقل جسده, وهو يهصر أضلاعهن على فراش من ريش مقدس, باركته الآلهة, وفرشه الكهنة.. جلجامش خامس ملوك الوركاء, بل هو ملك الملوك, البطل الذي لا يؤمن بالتراجع.. تراجع أمام الملك (( أكا )) بعد أن خذله البرلمان الوركائي.. كان (( أكا )) آخر ملوك سلالة كيش الأولى يمتلك / السلاح الفتاك / الجيش القوي / نزعة السلطان / حب السيطرة / وكانت الوركاء تمتلك كل المغريات التي يسيل لها لعابه.. فأرسل الى ملكها يدعوه الى الاستسلام, وينذره بالحرب.. لم يكن زمام حكم الوركاء بيد جلجامش لوحده, بل كان هناك مجلسين يمثلان البرلمان الوركائي يعود إليهما حق تقرير شؤون البلاد الخطيرة مثل الحرب والسلم.. عرض جلجامش إنذار (( أكا )) على مجلس شيوخ المدينة, وحثهم على التصويت الى جانب قرار الحرب :

            (علينا ألا نخضع لبيت كيش بل لنحارب بالسلاح

             ونرفض أعمال السخرة وحفر الآبار)

لكن المجلس آثر الاستسلام بدلا من الحرب :

           ( لنخضع لبيت كيش ولا نحارب بالسلاح

            لنخضع لأعمال السخرة وحفر الآبار)

 استدعت الخيبة غضب جلجامش, وغضب لغضبه مجلس محاربي المدينة الذين صوتوا الى جانب قرار الحرب الذي عرضه جلجامش, حيث قرر الرجال المحاربون التحصن خلف أسوار الوركاء المنيعة, والدفاع عن مدينتهم والتضحية في سبيل استقلالها وحريتها وقالوا لجلجامش :

          (لا تذعن لبيت كيش

           إن أوروك المدينة التي شيدتها الآلهة

           وأي – أنا البيت الذي هبط من السماء

           إن الآلهة العظام هم الذين صمموا وأقاموا أجزاءه

           وإن سورها الذي يناطح السماء

           وإن بيتها السامي الذي أسسه آنو

           أنت يا جلجامش الذي رعيته أنت الملك والبطل

           أنت الأمير الذي يحبه آنو

           فكيف خفت من اقترابه

           فإن جيشه مبعثر صغير

          وإن رجاله ليسوا شجعانا)

هطل السرور على قلب جلجامش هطول المطر على ثياب البادية, وأزاح كلام الرجال المحاربين الهم عن صدره كما يزيح السيل شروخ العطش عن مرآة الصحراء, وأمر تابعه (( أنكيدو )) أن يهيئ (( الشكارا )) الأسلحة ومستلزمات الحرب :

         ( اجمع آلات القتال

           ودعها تحدث الرعب والهلع

          أما عن أكا فان الخوف مني سيتسلط عليه

          وسوف يضطرب أمره ويحل به الوهن )

ولكن سرور جلجامش بقرار الحرب سرعان ما وأد بعد عشرة أيام من ولادته, فما أن وصل جيش (( أكا )) وأحاط بأسوار المدينة حتى ارتجفت الوركاء ارتجاف المقرور في غرة فجر شتوي .. وما كاد الرجال المحاربون يرون ذلك الجيش الكبير المنظم المنتشر كالجراد المتهيئ لالتهام الحقول الذي جاء بأسلحته الفتاكة, وخيوله السريعة, وهو يحاصر مدينتهم, وينذر بدك أسوارها, حتى ضموا صوتهم الى صوت مجلس شيوخ المدينة, وطالبوا جلجامش بالاستسلام.. فأضطر جلجامش الى المفاوضة وقبول شروط ((أكا)) بعد أن أبصر نظرة الخوف والخذلان في عيون المدافعين عن المدينة, وقد خلَّد الأدب السومري هذه الواقعة بقصيدة ناهزت ( 115 ) بيتاً مجدت جلجامش برغم استسلامه وقبوله بقرار الصلح.. جلجامش الذي تقول ألواح ملحمة الخلود التي اقترنت باسمه أن الوركائيين دأبوا على الشكوى منه الى الآلهة, إذ لم يدع جلجامش ابناً طليقاً لأبيه, ولا عذراء طليقة لحبيبها, ولا ابنة لمقاتل, ولا خطيبة لبطل, والذي لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار فاستمع الإله (( آنو )) لشكوى شعب الوركاء, ودعا الآلهة الخالقة ((أورورو )) التي خلقت جلجامش بأمر من (( انليل )) أن تخلق غريماً له يضارعه في قوة العزم, وليكونا في صراع مستديم لتنال (( أوروك )) الراحة والسلام, فامتثلت (( أورورو )), غسلت يديها, تناولت قبضة من الطين, ورمتها في البرية, فخلق من قبضة الطين تلك (( أنكيدو )) خلاصة الإله (( ننورتا16 )) :

               ( يكسو جسمه الشعر الكث

               وشعر رأسه كشعر المرأة

               ونمت فروع رأسه جدائل كشعر نصابا15

               لا يعرف الناس ولا البلاد

               ويلبس لباساُ مثل سموقان17

               ومع الظباء يأكل العشب

               ويتدافع مع الوحش عند مساقي الماء)

لكن الوحش المولود في البرية, المارد الذي تمخضت عنه الصحراء, الرجل العجيب المنحدر من التلال, جوهر (( آنو )) لم يكن في بأسه أقوى من بأس نهدي بغي من الوركاء أسرته بين فخذيها لستة أيام وسبع ليال حتى خذلته ركبتاه وأنكرته الصحراء فاقتادته المومس الى الوركاء ليصبح / تابعاً / صديقاً / مسامراً / خلاً / مرافقاً / لجلجامش في مغامرته وسفره الى ((أرض الحياة )).. أبحر معه عبر بحر الموت, وعبر معه سلاسل الجبال السبع, وهو الذي أيقظه من سباته, وسار أمامه الى غابة الأرز, وساعده على قطع رأس ((خواوا18 )) وهو الذي أشار عليه قبل سفره أن ينبئ الإله (( أوتو )) لأن (( غابة الأرز )) بعهدته, وقد أخذ جلجامش بنصيحة خله وصديقه.. فأمسك بجدي أبيض في يده, ووضع جدياً أسمر على صدره وقدمهما قربانا ((لأوتو)) .. حمل الصولجان الفضي وقال :

             ( يا أوتو عزمت الدخول الى ارض الحياة

               فكن حليفي وعوني )

فأجاب (( أوتو )) السماوي :

              ( ما شأنك بأرض الحياة.؟)

فأجابه جلجامش :

             ( يا أوتو أريد أن أكلمك فأصغ لكلمتي

              في مدينتي يموت الرجل وهو حزين القلب

              إن الرجل يهلك وقلبه مثقل بالألم

              هاأنذا أنظر من فوق الأسوار

              فأشاهد هياكل الموتى وهي طافية في النهر

              وأنا سيكون مصيري هكذا حقاً

              والإنسان مهما استطال لا يمكنه أن يبلغ السماء

              ربما أن الأجل الموعود لما يحل

              فإنني عزمت أن أدخل أرض الحياة وأخلد اسمي)

فتقبل منه (( أوتو )) تضرعه ودموعه على أنها قرابين وظهرت الرحمة والعطف عليه كما ظهر السرور على جلجامش فاختار خمسين رجلاً من الأبطال الذي لا أُسر لهم ليعبروا معه الجبال السبع ويقطعوا أشجار الأرز وسار هو وصديقه لينهيا حياة (( خواوا )) وقد قطع جلجامش الشجرة الأولى بنفسه, وقطع أبناء مدينته الذين رافقوه تاجها وربطوه في سفح الجبل وعندما قطع جلجامش الشجرة السابعة.. اقترب من مخدع (( خواوا)) ولطمه على خده لطمة شديدة, فاصطكت أسنان (( خواوا )) وأراد أن يصد جلجامش, وخاطب الإله (( أوتو )) قائلاَ : ( يا أوتو أنني لا أعرف الأم التي ولدتني ولا الأب الذي أنجبني, فأنت الذي ولدتني في الأرض وربيتني. ) وتعود من جلجامش بحياة السماء والأرض, وحياة الأرض السفلى, فرق له قلب جلجامش وقال (( لأنكيدو )) : ( لندع الطائر الذي أمسكنا به يعود الى موضعه, وندع الرجل الذي أسرناه يرجع الى حضن أمه. ) فأجاب أنكيدو : (إن الطائر الذي أمسكنا به لو عاد الى عشه, فسوف لن ترجع أنت الى مدينة أمك التي ولدتك. ) فصاح (( خواوا )) : ( لقد نطقت بالشر علي يا أنكيدو. ) وحين تفوه هكذا بادراه وقطعا رقبته وقدماه قرباناً الى (( أنليل )) و ((ننليل)).. لكن الآلهة ارتأت أن يموت أحد البطلين اللذين قتلا الثور السماوي وقتلا حارس غابة الأرز وقطعا أشجارها فاختارت ((أنكيدو )) لتلقي بعباءة الحزن على أكتاف جلجامش, ذلك البطل الشجاع الذي استل سيفه وجعله كالرداء الذي يلفه ويحميه. وقف على الأرض العظيمة كالثور. وضع فمه على الأرض, واصطكت أسنانه وأقسم قائلاً : ( وحياة أمي ننسون التي ولدتني, وحياة أبي لوكال بندا الطاهر, وكرر القسم قائلا : ( سأقاتل ذلك الرجل إن كان رجلاً, وأصارعه إن كان إلهاً, فإنني وجهت خطاي الى أرض الحياة, ولن أتوجه الى المدينة ).. جلجامش الذي قهر ((غول الغابات ) بذراع اله كان يخفق خلف أضلاعه, قلب إنسان لم يستطع هضم موت صديق. وتمكنت منه دابة من دواب الأرض / ناعمة / زاحفة / لا تملك أذراعاً / ولا سياقناً / سرقت عشبة خلوده, فتركته حاسرا في دار الفناء, وصارت تبدل ثوبها كل عام.. أيقن انه صائر إلى مصير صديقه. فبنى سورا يقي بلدته شر الأعداء. اعتصمت البلدة بعده بالسور حتى داهمتها خيول الدهر, فتهدم السور الذي امتص أخر قطرة عرق في جبين الوركائيين, كاشفاً تجاعيد البلدة لعيون الأفق.. احدودبت الأرض وانحسر النهر تاركا أسنمة من التلال التي تعتليها الشمس كل غروب.. تقوّضت أعمدة المعابد, فهشمت السقوف رؤوس الكهنة, وطمرت أجداثهم. انتفخت أوداج الصحراء, فطمت الرمال / تيجان الملوك / ملابس الأمراء / أسرار الملكات / عطور الأميرات / خزانات الكنوز / غرف الجواري / مخادع العبيد / فضائح السادة / الكل التهم التراب / توسد التراب / تدثر بالتراب / تحول إلى تراب / اندثرت حكمة الأسلاف تحت غبار الزمن. تلفع السور بعباءة الدهر. صار وكرا للبوم بعدما كان وكرا للديدبان. انسابت من جحوره الزواحف, لاذت بثغوره الذئاب, تمترس الجن خلف بقاياه.. حقب مرت وحقب, تهافتت على إطلال البلدة قوافل الغرباء تهافت الذباب على أكوام التمر, هجموا على ما تبقى من السور, وأشبعوه ضربا بالمعاول. نبشوا المقابر / بالفؤوس/ المُدى / الأظافر / مزقوا أكفان / الملوك / الأمراء / الحكام / الكهنة / الجند / العبيد / الجواري / حملوا / تماثيلهم / مسلاتهم / كنوزهم / أسلحتهم / أوانيهم / وصلبوها في كبرى المتاحف ترشقها أعين الذين لا يملكون جذورا لحكاياتهم بسهام الفضول.. أفترس الغرباء ملاحم السومريين. فكوا طلاسم الخط المسماري. سرقوا الحكمة وأعادوا ما تبقى أكواما من الطين المشوي.. الشيء الوحيد الذي لم يستطيعوا سرقته, أو التجاسر عليه هو هياكل البنايات المقدسة.

 

                    ********

 

 المعابد هي بيوت الآلهة التي هبطت من السماء لتستقر على الأرض, وتضفي عليها هالة قدسية, استدعتها الحالة الدينية التي أوجدها / الاستيطان / الاستقرار / التطور الزراعي / والتي أدى ظهورها الى خروج التنظيمات / الإدارية / الاقتصادية / الاجتماعية / بحلل جديدة حيكت في أروقة تلك المعابد, التي شمخت لتضع السماء فوق رؤوسها, والأرض تحت أُسسها.. في عصري الوركاء القديم والوسيط. أمسكت أيدي المعابد بأعنة دويلة المدينة, لتقودها نحو نظام / المدينة المعبدية / الحكومة المعبدية / لقد نسج عصر العبيد ثياب الحضارة السومرية التي استهلت الألف الثالث قبل الميلاد لتخرج بحلتها من المحراب الى دنيا الحضارات, وتعلن بصوت عال أن المعابد / بوجودها / بتطورها / باتساعها / الأفقي / العمودي / قد بلغت أوج قدسيتها في طور الوركاء الأخير الذي أسمته ثلة من الباحثين في المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو اصطلاحاً بالعصر الشبيه بالكتابي أو الشبيه بالتاريخي, حيث خلعت عليها الحياة العمرانية المتطورة ثياب القداسة / الفضفاضة / الأنيقة / المزخرفة / التي حاكها الكهنة الوركائيون بنول الموروث الديني السومري. وأجلسوها على المصاطب, لتواكب التطور الحضاري الجديد المميز لوادي الرافدين الذي تجلى بأحسن صوره بالأختام الأسطوانية التي بدلت شكلها المنبسط, وبدولاب الخزاف الذي أُستعمل لأول مرة في إنتاج الخزف الوركائي المزدهي بألوانه وأشكاله الجديدة حيث تلاشى الفخار الرمادي القديم, وأوشك الفخار الأحمر على الانقراض حين أُنْتِجَ الفخار الإجاصي الجديد, واستعملت العجلات. فراحت العربات السومرية المزينة بالنقوش والكتابات تختال والضابحات الممشوطات الأعراف يسحبنها في صباحات دروب الوركاء.. أُسْتُغِلَتْ المعادن بشكل أمثل بعد التطور الذي حصل في فن التعدين.. فازدهرت القرى التي تمثل الأرحام التي أنجبت المدن التي نمت وترعرعت وكبرت لتعلن عن انتقالها من الحياة الريفية الى الحياة المدينية التي أدى تطورها الى تأسيس دويلات المدن, لتصبح سمة النظام السياسي المميز لعصر فجر السلالات, الذي أعقب العصر الشبيه بالكتابي, والذي ظهر فيه فن النحت بالحجر بنوعيه المجسم والبارز. كما تحسنت الزراعة وازدهرت نتيجة التطور الذي حصل في نظام الري.. وأخيراً خلع أعظم اختراع عطاياه على عصر فجر السلالات, فخرج على دنيا الحضارات مختالاً فخوراً متسربلاً بثياب الكتابة التي ظهرت لأول مرة في تأريخ الحضارة.. حيث كانت في الطور الشبيه بالكتابي صورية, مقتصرة على تدوين واردات المعابد وأملاكها من الحيوانات والضيع, فلم تدون بها النصوص التأريخية, ولا شؤون الحياة العامة.. كانت عصور ما قبل التأريخ هي الأرضية التي اهتزت وربت وأنبتت المعتقدات الدينية, التي نمت وتطورت حتى إذا اكتمل نضوجها في عصر فجر السلالات اعتلت صهوة العرش الروحي لمجتمع وادي الرافدين, لتكون الدليل الذي يقود قافلة المجتمع الوركائي في جميع نواحي الحياة.. ولد الدين من رحم أولى المستوطنات التي أحتضنها السهل الرسوبي, ومن قبل أن يولد التأريخ, ظهر المعبد الذي هو مسكن الآلهة وأخذ على عاتقه إدارة الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية.. فكان توأم النشاط الاجتماعي في مناحي الحياة كافة منذ ظهور دويلة المدينة في جنوب العراق, حيث ساد الاعتقاد الذي توارثته الحضارات القديمة بأن لا قيمة لأي مدينة من دون معبدها, ولا قيمة للمعبد من دون إله.. وطبقاً لهذا الاعتقاد فقد كان لكل دويلة أله خاص بها, هو مالكها وحاميها, وله حق السيادة على سكانها. وتولى المعبد ترسيخ هذا الاعتقاد, فالمدينة / بأراضيها / بسكانها / بثرواتها / تمثل مقاطعة أله المدينة الذي يمثله / الحاكم / الملك / الكاهن / وما خلقت الآلهة الإنسان إلا ليخدمها. وقد وجد المعبد ليسهل للناس كافة مهمة خدمة الآلهة من خلال ارتباطهم بخدمة المعبد الذين يمثلهم (( الشتامو19 )) الذي يرأس الجهاز الإداري للمعبد, وهو الذي يدير الشؤون الاقتصادية. يساعده ((القيو)) ممثل الملك الذي ينوب عنه في البت في القضايا التي تخص المعبد, بالإضافة الى مجموعة كبيرة من الكتاب, والناس الآخرين الذين ينذرون أنفسهم منذ الصغر لخدمة المعبد الذي يقوم / بإيوائهم / وإطعامهم / واكسائهم /.. كان المعبد يستأجر العمال والعبيد للعمل في الأراضي الزراعية العائدة إليه. وكانت المحاصيل التي تنتجها مقاطعات المعبد تجلب أولا الى المستودعات في الوركاء مهما كانت وجهتها النهائية. حيث ترسل فيما بعد الى الخارج, لتستبدل / بالفخار / الشب / السمسم / المعادن / القماش / وكانت العاصمة تستورد النبيذ المنتج في الوركاء.. تذكر إحدى الرسائل المرسلة من بابل الى الوركاء سخط السلطة لان النبيذ المرسل الى بابل حُمِلَ في واحدة من السفن التي تحمل القير.. وتشير الرسائل التجارية التي اكتشفت في الوركاء الى أن المعابد كانت تلعب دورا متميزا في التجارة. تقول إحدى الرسائل التي كتبت عام (( 616)) قبل الميلاد, والمرسلة من (( شتامو )) احد المعابد الى (( شتامو )) معبد يقع الى الشمال من مدينة الوركاء : (ليبعث أخوتي عفصا بما قيمته مناً من الفضة, وليأتي رسولكم إلي, وسأرسل سمسماً أبيض مقبولا لدى أخوتي بما قيمته مناً من الفضة ).. من أهم المعابد التي اكتشفت في الوركاء, معبد (( آنو )) الذي أقيم في القسم الغربي من المدينة وفي الموقع الذي شيدت فيه زقورته على شكل مرتفع اصطناعي ارتفاعه حوالي (( 40 )) قدما. يرقى إليها بثلاثة منحدرات, حيث شيد معبدان أطلق عليهما D و A ومعبد ( أي – أنا ) المعبد العشتاري الكبير الذي أقيم لآلهة السماء (( أنانا )) عشتار في قسم الوركاء الشرقي, والمعروف بالمعبد الأبيض لأنه مطلي بالجص , وهو أكبر معبد بني على اليابسة في أرض الدلتا في وركاء ما قبل التأريخ.. استمر استعمال الزخارف الجدارية المؤلفة من المسامير الطينية الملونة الرؤوس, وأضيفت اليها في دور جمدة نصر أشكال حيوانية ورموز اللآلهة (( أنانا )) لتنظم الى ما تحتويه المعابد من التعاويذ المشكلة على هيئة حيوانات.. وهناك ستة معابد أخرى شيدت في المنطقة الأولى على هيئة أزواج موزعة بين الطبقتين الخامسة والرابعة, كل معبدين متجاورين, يخصص الأول منهما لعبادة الآلهة (( أنانا )) عشتار, والثاني لعبادة قرينها ألإله تموز, كانت معابد الآلهة الكبار تتوزع على أراضي المنطقتين اللتين تتكون منهما الوركاء, فهناك المعبد الذي سميّ بالكلسي لأنه أقيم على مصطبة من حجر الكلس. وهو معبد تصل سعته ( 75×29 ) متراً, مزين كبقية المعابد بالفسيفساء الجميلة, المكونة من مخاريط من الطين المشوي, تتراوح أطوالها ما بين ثلاثة الى ستة انجات, برؤوس ملونة / سود / حمر / بيض / مثبتة بجدران المعبد المملطة بالطين.. كما كشف في القسم المسمى (( A )) من المنطقة الرابعة عن معبدين أبعاد أولهما (( 83× 53 )) متراً وأبعاد الثاني (( 54,20 × 20,22 )) متراً, وثلاثة معابد في القسم المسمى (( B )).. وهناك ستة معابد وركائية أخرى, خصصت لعبادة الإله (( آنو )) تلوح لعين الرائي على شكل زقورة, حيث شيدت الواحد فوق الأخر على هيئة دكات ترتفع نحو خمسين قدماً.. بنى المستوطنون الأوائل في وادي الرافدين المعابد الأولى على شكل حجرات مربعة من اللبن, حيث يتكون المعبد من حجرة واحدة تحتوي جدرانها على الطلعات والدخلات, وفي داخلها ينتصب المذبح ومصطبة القرابين. ومع تطور الهندسة والبناء في الأدوار اللاحقة توسع بناء المعابد, وتطور تشيدها, بحيث صار المعبد يتكون من أربع حجرات بدلاً من حجرة واحدة, والمحراب أو (( السيلا )) الذي تقع الحجرات الأربع على جانبيه, والمذبح الذي يقع قبالة المحراب, ثم الممر الذي يقع خلف الحجرات.. في أطوار العبيد التالية أطلق مصطلح (( المباني التذكارية )) على المعابد المشيدة من اللبن المنتظم التي كانت تقام فوق مصاطب مدرجة منحدرة الارتفاع, يرقى إليها بمنحدرات ترابية, وقد شكلت هذه المباني أصل (( الزقورات )) وهي الأبنية الدينية التي تميزت بها حضارة وادي الرافدين.. بنى الأوركيون, سكان أوروك المدرج أو الزقورة التي كانت تلوح للرائي من خارج المدينة, والتي تمثل حلقة الوصل بين السماء والأرض.. يرجع أصل أول نموذج للزقورة بنيّ في وركاء ما قبل التأريخ الى العصر الحجري, وهي الزقورة التي كان السومريون, والساميون يقيمون على قمتها شعائرهم الدينية في عصر فجر السلالات.. وقد أستمد برج بابل الذي يُعَدُ أعظم الأبراج وأشهرها أسمه من أسم الزقورة فسمي (( أي – تمن – أي – كي )) والذي يعني كما يقول المختصون بالسومريات : بيت أساس السماء والأرض, أو المعبد الذي أساسه السماء والأرض.. حيث تمثل الآلهة أساسه الذي في السماء, بينما يمثل / الملوك / الحكام / الكهنة / أساسه في الأرض.. وقد بلغت المعابد السومرية ذروة أهميتها / الدينية / السياسية / الاقتصادية / الثقافية /, حين كانت الوركاء مركزا حضاريا مهماً في التأريخ السومري. حيث أُعتُبِرَتْ قبلة المدن السومرية لأن أرضها المقدسة تحتضن معبد (( أي ـ أنا )) الذائع الصيت الذي امتدت ذراعاه لتحتضن الوركائيين كافة, وتهيمن على جميع الأشياء والأسماء, وتسمها بوسم المعبد المقدس, الذي تجاوزت قداسته نطاق حدوده الجغرافية, وصارت ظاهرة الاقتباس منه كمصدر للتوحد سمة فجر التأريخ, الذي أشرقت شمسه بوحدة ثقافية غمرت أرجاء بلاد سومر, وتجلت نصاعتها بوحدة الطرز المعمارية, وتشابه النظم السياسية والدينية التي ساعد اكتشاف الكتابة على نشر مبادئها وتفاصيلها, بحيث أصبحت علاماتها واحدة في مختلف المدن السومرية.. في منطقة ((أي ـ أنا )) وعلى أنقاض زقورة تعود الى العصر الشبيه بالكتابي وضع ((أور ـ نمو )) مؤسس سلالة أور الثالثة حجر الأساس لزقورة الوركاء الكبيرة ليتمها أبنه (( شولكي )) الذي تطور البناء في عهده وتميز باستخدام نوع من اللبن المستطيل الشكل المربع المقطع الذي أطلق عليه بالألمانية مصطلح((ريمشن)) Riemchen.. لقد أُعْتِبُرَتْ معابد سومر الجنوبية أقدم من معابد أكاد الشمالية.. وكان الإله الأعظم (( آنو )) رب السماء / معروفاً / ومهيمناً / ومرموزاً / له بنجمة واحدة. أما سائر ألآلهة فهي جيش السماء, مجموع ما يرصعها من كواكب.. وقد كرمه السومريون في الوركاء بزمن مبكر. وذلك في معبد(( أي- أنا )) أي مسكن (( آنو)) أو بيت السماء, وأصبح هو ألإله الأعظم عند السومريين والساميين على حد سواء.. وهو عندهم رب السماوات العلى ويشير القاضي علي الحميدي في مخطوطته عن السماوة على العلاقة بين معبد (( أي – أنا )) وأصل تسمية السماوة منطلقاً من الكيفية التي استبدل فيها اللفظ السومري بآخر سامي .. حيث أستبدل لفظ رب السماء من السومرية الى معناه ليلفظ سامي وهو سموي الذي نعتت به أرض السماوة, والذي كان تأثيره قد انبثق من معبد الوركاء الكبير المعروف بمعبد رب السماء. ثم امتد الى ما هو أبعد من السماوة حيث دعاه حمورابي في مقدمة شريعته ( الإله الأعظم ).. وجعلوا مقره الذروة من قبة السماء.. فاسم السماوة كاسم الزقورة في معناه السومري هو السمو الذي جسده رب السماء الذي عُبِدَ في أول معبد شُيِدَ في الوركاء.. عشتار / ملكة السماء / آلهة الحب / الجمال / الخير / البركة / الزراعة / الحضارة / تطيبت بابتهالات الكهان, بوركت بدعوات الأوركيين, تدرعت بقداسة الآلهة, ورحلت إلى كبد السماء لزيارة مقام أبيها الإله (( آنكي)) سيد السماء, الذي أمر لها في لحظة من لحظات كرمه بأكثر من مائة هدية تظم جميع المقومات للحضارة السومرية, وتشمل أموراً كالملكية التي تهبط من السماء, والعدالة الحقيقة.. وقد صورت أسطورة عشتار عمق العلاقة بين الماء ومصادر الحضارة السومرية التي تجشمت هي عناء نقل مقوماتها إلى الوركاء.. عشتار سفيرة الوركاء التي هيمن اسمها على باقي الآلهة, فتغنى بها شعراء سومر :  

      (هي المهيمنة هي سيدة الأرض

      في ابسو استلمت صلاحية اتخاذ القرارات

      أعطاها إيها أبوها آنكي

      ووضع في يدها كهانة الملوكية العليا

      وأقامت لها مع آنو مسكناً في المعبد الكبير

      ومع انليل في بلاد سومر ثبتت الأقدار

      وشهرياً عند بزوغ الهلال الجديد

      ومن أجل أن تجعل الأمر مقدساً صحيحاً

      يجتمع أمامها آلهة بلاد سومر

      ويبجلها الآنونكي الآلهة الرئيسية العظماء

      وتُعُلَنُ بحضورهم سيدة بلاد سومر )

عشتار سيدة الوركاء أو (( أننا )) سيدة السماء كما سميت في اللغة السومرية.. حطت الرحال في معبد (( أي ـ أنا )) وأُستهلت عبادتها في هذا المعبد, ثم أصبحت هي الآلهة المهيمنة في جميع أرجاء الشرق القديم.. لقد بالغ السكان الأقدمون السومريون / والساميون / في تقديس هذه الآلهة , لأنها كانت تمثل مصدر / الحب / الحنان / الرحمة / للناس كافة.. لذا فقد أُتْرِعَ الأدب السومري والبابلي بالتراتيل والأساطير الشعرية التي تمجدها, وبخاصة رحلتها الى (( أريدو )) لنقل معالم الحضارة منها الى اليابسة.. لقد تبوأت عشتار عرش الأرضيين المعروفة بالهلال الخصيب, وقد دلت كثرة القرابين التي كانت تقدم في العديد من المعابد التي شيدت خصيصاً لعبادتها على تقديس قدامى العراقيين لعشتار وإجلالها.. ولسموها وعلو مقامها فقد انتسبت اليها مدن أخرى مثل أربيل التي أصبحت مركزاً رئيسياً لعبادتها .. وقد ورد أسمها في المدونات المسمارية بصيغة ( بيت سيدة السماء ) على غرار كنيتها في الوركاء. كما شيدت لها معابد كثيرة في جل العواصم الأشورية... وانتشرت عبادتها عند الفينيقيين الذين كانوا يمثلوها في المجموعة الشمسية بكوكب الزهرة, وأُطْلِقَ عليها أسم ( عشتار برية ) كما عبدت في بلاد الشام واشتهرت باسم (( بعلة )) أي السيدة على غرار أسمها الوركائي.. حيث اقترنت به أسماء بعض المدن مثل ( بعلة – جبيلا ).. كما عرفت باسم ملكة على غرار اسمها (( ملكة السماء )) الذي كان معروفاً ومشتهراً في الوركاء . وكان ملوك الأموريين ينسبون أنفسهم كخدم الى الآلهة ( عشتار ) التي أطلقوا عليها اسم (( عشرتا )) أو (( أشرتا )) مثل ((عبد – أشرتا )), أما / الأكاديين / ألأشوريين / البابليين, فكانوا يدعونها باسمها الوركائي (( عشتار )) في حين أطلقت عليها الأقوام السامية الأخرى اسم (( عشتاروت )) بينما سماها السريان ( عثر) وجعل الكنعانيون اسم / بعلة / عاناة / عانة / صنو لها وند.. ومن الباحثين من يُرجع أسم بلدة ( عانه) الى اسم عانه الذي عرفت به عشتار .. ويذهب البعض الآخر من الباحثين الى أن وثن ( العزة) هي الزهرة, كما يرى العهد القديم أن الملك سليمان, كان يتعبد الى آلهة الصيد البابلية الأصل التي هي الآلهة عشتار.. في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد أطلق الفرعون رعميس الثاني على أبنه اسم (( ميري أشتروت)) أي محبوب عشتاروت.. أما في الديانات الفارسية القديمة فقد ورد اسم عشتار بصيغة (( أنا – هيد)) ثم انسابت عشتار الى أساطير الإغريق, وعرفت ب (( فينوس)) خالبة قلوب الرجال و(( أفروديت)) آلهة الحب والجمال, المولودة من رغوة البحر, المحبة للضحك, التي ما أن تطأ قدماها الخفيفتان الأرض حتى ينبت فيها الورد.. وتظهر عشتار أيضاً , في الأسطورة الألمانية المسماة (( فان هاوزر)) وهي التي تحكم جنة كلها ملذات حسية.. وهي الإله (( بستان )) كما وردت في الأساطير الايطالية القديمة,.. وعندما قرن أسمها ب ( أفروديت) غدت آلهة /الحب / الحرب / الخصب على غرار أصلها العراقي الوركائي.. أن عبادة (عشتار), وتقديسها, وتشابه ذكرها في الأساطير / السومرية / البابلية /الأشورية / يعتبر امتداداً لعبادتها وتقديسها عند أهل الوركاء. برغم وجود بعض الفوارق في التفاصيل التي يؤكد المختصون في الأركولوجيا بأنها لا يمكن أن تغير من اللقب الذي استحقته عشتار بصفتها سفيرة الوركاء.

 

                    ********

  السماوة تقطف بواكير الدفء, الشمس معلقة فوقها كالثريا, ودفوف النسيم ترّقص سعف النخيل, والفرات يسرح شعره على الضفتين, وأنا على موعد مع الوركاء.. في غرة ذلك الصباح الربيعي خلعت ثياب النخيل, وارتديت ثياب الرمال, لا خيول تخب أمامي, ولا عربة تحملني, كنت في سيارة مستوردة وطريق جنوب شرقي السماوة, قاصداَ أكبر حواضر سومر, وأوسع المدن المدورة.. لم يكن معي من متاع غير كامرتي, فتركتها لترعى في حقول البادية, وتصطاد نوارس الغيوم السابحة في بحر السماء, وفي الأفق الوركائي, بين أسكفة العالم العلوي, وأسكفة العالم السفلي, لاح لعيني كائن يتحرك في برج الزقورة.. سرت لأصعد إليه, وسار ليهبط نحوي, حتى إذا صار ملء عيني, وصرت ملء عينيه. رأيت رجلاً عليه سمات أهل القرى / عقال / شماغ / دشداشة / سترة / مسبحة / وعصا / ورأى رجلاً عليه سمات أهل المدن / نضارة / قميص / بنطال / كامرة / دفتر / وقلم / والتقينا رجلين سومريين على أرض سومرية. وقبل أن أسأل من ذلك الرجل الذي يدوس سجاجيد الوركاء بنعال من صنع محلي, هاتف أخبرني أنه حارس آثارها.. وقبل أن يسأل من هذا الأفندي الذي يطيء بحذائه بساط الربيع, هاتف أخبره أنني عاشق الصحراء وأثاثها, وكالباشق انقضت يمناه على يمناي, وقبل أن يرتد اليَّ طرفي سحبني نحو صدره, فكنت بين ذراعيه استاف رائحة سومرية, وهو يبصم خديَّ بالقبلات.. عرف الآن بمن التقى : كاتب يصور بقلمه مرائي الصحراء. وعرفت الآن بمن التقيت : ساحر يخفي في أكمامه كل أساطير الوركاء. هو لا يقرأ أو يكتب, لكنه حين يحكي يرطن بلغات كل الرحالة والمنقبين الذين مروا في الوركاء, قال لي وأصابعه تنقر حبات مسبحته : ( أتدري أن أقدم من نقب في آثار الوركاء عام 1849 هو الجيولوجي الانكليزي وليم لفتس , تلاه المهندس يوليوس يوردان الذي عمل في التنقيب هنا زهاء ستة أشهر من عام 1912 إلى عام 1913 وبإيفاد من المؤسسة الألمانية للأبحاث الشرقية, والتي استأنفت أبحاثها في عام 1928 برئاسة نولدكه, وثابرت في التفتيش والتنقيب شتاء كل عام حتى مطلع الحرب العالمية الثانية 1939, حيث توقفت لتعود لاستئناف عملها في عام 1953 وهو الموسم الثاني عشر لها في الوركاء, وقد رسمت تلك البعثة خارطة المدينة, وخرائط عديدة للبنايات التي كشفت عنها.. أزاحت أكف العاملين في تلك البعثة دثار الدهور عن جسد المدينة, فأخرجت المدينة أثقالها, وانكشفت لعين السماء / أبنيتها / معابدها / أدوار السكنى فيها / كما نفضت البعثة جيوب المدينة وما خبأته بأكمامها من / ألواح منقوشة / تماثيل بديعة / كتابات عديدة / تاريخية /أدبية / أسطورية / دينية / علمية / تجارية /.. أشار الى بقايا معبد (( أي ـ أنا )) : هناك في مخزن السور الداخلي للمعبد عُثر على أغلب هذه الآثار. قلت : أتدري أن هذه الآثار هي التي أنارت السبيل لمعرفة حضارة السومريين سكان العراق القدامى وتأريخهم. ( لم أخبره أني على معرفة بكل ما ذكر, حيث كنت قد قرأته في ترجمة الدكتور عمر سليمان إبراهيم لكتاب هاري سكز عظمة بابل- موجز حضارة وادي دجلة- الصادر في الموصل عام 1979).. كنا نجوب في أطلال الوركاء وأعيننا مفتوحة على سعتها, نحدق في / بقايا المعابد / انحناء الأقواس / شروخ الحوائط / أفواه الأفران / كسر الفخار / شظايا الفسيفساء / حجارة الدروب / كثبان الرمل / حزام السور / نبات العاقول / أوجار الأرانب / أعشاش الطير / تحيط بنا بقايا سور المدينة الذي كان سوراً عظيماً طوله تسعة أمتار ونصف, مكون من جدارين متلاصقين, خارجي بعرض مترين, وداخلي بعرض خمسة أمتار, تلاصقه سلسلة من تسعمائة برج, تطل على الخلاء خارج السور, كما تطل على مساكن المدينة, وأبنيتها التي أقيمت على الأرض البكر في أول عهد السكنى من / الطين / والحصران / والقصب / والتي تطورت بتعاقب العصور والحضارات منذ البنايات الأولى للسومريين, حتى البنايات الضخمة التي أنشأها الإغريق السلوقيون, أو تلك التي أقامها الفرثيون في معظم أقسام المدينة, وأعلى طبقاتها.. سألت قدمي : ترى على أي مطىء قدم وركائي تدوسين ؟ من مَرّ قبلي على هذه الأرض, وفارقها وهي ما تزال خالدة, أكان / ملكاً / كاهناً / قائداً / جندياً / عبداً / أم رجلاً حراَ من عامة الناس ؟ حملت بكفي حفنة من تراب, رفعتها الى أعلى لأسلمها الى كف الريح.. ربما يجىء أحد غيري في زمان غير زماني, يذريها كما ذريتها ألان, لتحط في مكان آخر, في انتظار زمان آخر, وكف آخر. هكذا إذن يا وركاء ! رحل جلجامش, ولم ترحل حفنة من تراب.. صعدنا إلى أعلا تل التحفت بترابه أحدى الزقورات, تركت الحارس ينعم بلفافته, هيأت الكامرة ومن مكاننا في قمة الموقع الوسيط بين الآلهة وبين البشر, رحت التقط صوراً للأطلال الجاثمة في الصمت المطبق هنالك في أسف التل, حيث الدروب مفروشة / بالرمال / العشب / بقايا الخزف / ربما يكون هذا الهواء الذي يعبث الآن بملابسنا صانعاَ بيرقاً من شماغ الحارس, هو نفس الهواء الذي هب يوماً في الألف الخامس قبل الميلاد على رجلين وركائيين صعدا إلى الزقورة طلباً لرحمة الآلهة, لم يكن لأحدهما كامرة ديجتال مثل التي في يدي, ولم يكن للآخر مثل هذا العقال الذي يزين رأس الحارس.. ربما كان الذي يقف في مكاني رجلاً من عامة الناس / هزيلاً / طويلاً / حاسراً / نصف عريان / ينوء بثقل النذور التي بذمته.. وربما كان الذي يقف في مكان الحارس رجلاً من خاصة الناس / معافى / قصيراً / بطيناً / يأتزر بمئزر الكهنة, حليق الرأس, تلمع صلعته تحت أنظار الآلهة, يرفع نحو مقام الإله ذراعين ورديين, ويبسط كفين لحمين, يلقن تابعه الأعجف نشيد الضراعة والابتهال إلى سكان العالم العلوي ليرحموا سكان العالم السفلي.. انتبهت إلى الحارس الذي نزل إلى منحدر التل فاقتفيت أثره التفت اليَّ : أترى بقايا ذلك البناء البعيد ؟ رفعت كفي لأظلل عيني : أين ؟ . أشار إلى الأرض المسفوحة في القسم الشرقي من المدينة : تلك هي أطلال بيت السماء. فهمت أنه يقصد معبد (( أي ـ أنا )) الذي كان / أقدم / أكبر / أضخم / أعظم / معبد شيد في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد لعبادة الآلهة (( أن ـ نين )) سيدة السماء التي عرفت في العصر الاكدي باسم عشتار.. كانت واجهة هذا المعبد كما يذكر الكشاف الأثري في العراق الذي أعده الدكتور قحطان رشيد صالح مزينة بالفسيفساء المتكونة من مسامير الفخار الزاهية الألوان, وكذلك سقوفه المقامة على أعمدة من اللبن.. تجاوزنا سور المعبد وبوابته, لنكون في ردهة وسطية طويلة, حيث توجد الأماكن المخصصة لتقديم القرابين, والمخازن الكبيرة التي يقول الحارس أن المنقبين عثروا فيها على آنية منقوشة من الحجر, وأختام اسطوانية, وأخرى قرصية منبسطة.. قلت للحارس : أتدري أن (( أور ـ نمو )) مؤسس سلالة أور الثالثة الذي حكم الوركاء سنة ألفين وخمسين قبل الميلاد هو الذي جدد بناء هذا المعبد, وشيد زقورته. قال : أستاذ أنا لا أقرأ الكتب مثلك, ولكني أعرف الكثير عن هذه الآثار.. تعال لأوريك معبد الفسيفساء.. اتجهنا الى معبد كبير, جثمت أطلاله بين معبد (( أي ـ أنا )) ومعبد (( آنو )) وإذا توخينا الدقة فانه يقع في الزاوية الغربية من السور الداخلي لمعبد (( أي ـ أنا )) وقد ازدانت بقايا جدرانه بالفسيفساء, وهو يتكون أيضاً من قاعة وسطية مستطيلة وقد فرشت حجره وساحاته بألواح من الحجر الكلسي, أما جدرانه الداخلية فقد بنيت بمادة صلبة قوية, وغلفت بمسامير الفسيفساء الوركائية الملونة, وقد شيدت في الزاوية الشمالية من هذا المعبد بناية بلبن (( الريمشن )) تتكون من حجرة وسطية يحيط بها ممر. قال الحارس : أن أحدى البعثات عثرت في الجانب الجنوبي من هذا الممر على بقايا أثرية ولقى متنوعة, وقادني نحو معبد (( آنو )) وهو من المعابد القديمة أيضاً, وقد حافظ هذا المعبد الذي شُيِدَ لعبادة الإله (( آنو )) على مكانته الدينية خلال عصور / العبيد / أوروك / جمدة نصر / وهو لا يختلف في مخططه عن معبد (( أي ـ أنا )) غير أنه شيد على مصطبة مرتفعة تشبه الزقورة, تحف به ساحة واسعة, وقد فرشت أرضيته بالقير, وقد عُرِفَ بالمعبد الأبيض لآن جدرانه مطلية بالجص الأبيض.. الى الشمال الشرقي من هذا المعبد توجد بقايا معبد آخر هو (( معبد بيت ريش )) الذي شيده السلوقيون لعبادة الإله (( آنو )) وزوجته (( أنتم )) وقد كان هذا المعبد بناية جديدة ضخمة تشتمل على / عدة أقنية / ساحات فسيحة / حجر كثيرة / مصطبات عديدة / ولكنها تهدمت في أواخر عهد السلوقيين.. كما شيد السلوقيون الى الجنوب من هذا المعبد معبداً آخر عُرِفَ بمعبد (( إري ـ كال )) وهو بناية كبيرة شيدت في قسمها الغربي حجرة الهيكل , بينما يقع قدس الأقداس أو السيلا Sella المشيد بالآجر المزجج في القسم الجنوبي منها.. والى الجنوب الغربي من معبد (( آنو )) تقع بقايا بناية تعتبر الوحيدة من نوعها في العراق, وهي بناية معبد (( مثرا )) الذي شُيِدَ في القرن الأول للميلاد لتقام فيه الطقوس الدينية الخاصة بالإله (( مثرا )).. وهناك في أقصى جنوب أطلال الوركاء يجلس المعبد الهلنستي ((كاريوس)) على تل أخبرني الحارس أنه يدعى مرتفع (( ورور )) كان القسم الوسطي من المعبد ما يزال منتصباً مشرئبا نحو السقف.. كنت أتطلع مبهوراً بالزخارف الهندسية التي تزدحم بها الجدران حين فاجأتني حيوانات ذلك العصر وهي تتجول في غابات الآجر, بينما انتشرت الأقواس بين الأعمدة الملاصقة للجدران خارج المعبد.. قال الحارس : لقد عثروا في هذا المكان على تمثال من الرخام, لكنه كان مشوها, ثم عثروا بعد ذلك على لوحة جبسيه عليها كتابات يونانية, عرفوا منها اسم صاحب التمثال واسم المعبد وحددوا تأريخ بنائه بنحو عام 110 للميلاد.. أستاذ لم تبق إلا بناية واحدة سترها, ثم أدعوك لشرب الشاي, إنها تدعى (( بيت أكيتو )) وهي تقع خارج السور في شمال مشرق الوركاء.. وصلنا الى بقايا البناية المشيدة من اللبن والتي ترتفع نحو متر واحد عن ما يحيط بها من أرض. كانت هذه البناية ـ كما يقول الحارس ـ تتوسط الحقول والبساتين في العصور السومرية, وهي مخصصة لإقامة الحفلات الدينية, ورأس السنة, ولهذا سميت (( بيت أكيتو )) التي تعني بالبابلية بيت الولائم والحفلات.. أطلت النظر الى بقايا سور الوركاء, وحين انتبه إليّ الحارس, وسألني بم أفكر.. قلت : أتساءل هل دار في خلد جلجامش الذي بنى هذا السور أن اليابانيين الذين قدموا بمعية القوات الأمريكية سينتخون إليه فيطوقون سور مدينته بأسلاك (( B.R.C )) لحمايتها من لصوص الآثار, وعبث الأحفاد.

 

هوامش

1ـ الحكماء السبعة : هم أقدم حكماء لسبع مدن, جاؤوا بأصول العمران,    والمدنية, ويطلق على أحدهم اسم منتلكو وكذلك مصطلح أبكو.

2ـ دب – سار: هو الكاتب على ألواح الطين.

3ـ سين _ ليقي _ أونني : ويدعى كاهن المشمشو أو الكاتب الذي استنسخ ملحمة كلكامش.

4ـ القيبو : هو من يمثل الملك, وينوب عنه داخل المعبد

5ـ القشلة : هي شاطئ الفرات, ضفة رملية معروفة في السماوة.

6ـ الجوالي : جمع جالي ضفة النهر العالية.

7ـ آنو : كبير الآلهة في العراق القديم, وكان مركز عبادته في مدينة الوركاء, وعبدت معه عشتار (( انانا السومرية )) ويدعى معبدها (( أي ـ أنا)) بيت الاله (( آنو )) أو بيت السماء.

8ـ أنكي : يعني بيت الماء ومملكته الأصلية هي الابسو أي الماء.

9ـ أيا : آلهة الماء الأزلية, وتوازي عند السومريين أنكي اله الأرض.

10ـ أسنو : مصطلح يطلق على صنف من الغلمان الملحقين بالقصر.

11ـ شمش : ويسمى في اللغة السومرية (( أوتو )) اله العدل والحق والشرائع عند العراقيين القدماء, وقد أشتهرت عبادته, وأقيمت له عدة مراكز للعبادة أشهرها معبده في سبار (( لارسا )) المسمى (( أي ـ بيار ))

12ـ السار : (( المشارة )) ما يعادل 300 متر مربع

13ـ تمال : أول من نشر نص تمال بعد اكتشافه عام 1955 الباحث بوبل Boeble في كتابه نصوص تأريخية.

14ـ الأنانوكي : اسم لمجموعة من الآلهة العليا.

15ـ أدد : اله الجو والرعد والعواصف والأمطار.

16ـ ننورتا : آلهة الحرب والصيد.

17ـ سموقان : اله الماشية.

18ـ خواوا : أو خمبابا العفريت الذي كان يحرس غابة الأرز.

19ـ شتامو : موظف يمثل مدير الشؤون الاقتصادية, وهو على رأس الجهاز الإداري للمعبد.

 

 تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2210   السبت  25/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم