صحيفة المثقف

رواية: جلسات الشمس للكاتب الجزائري بومدين الجيلالي .. استحضار للزمن المفقود / خيرة بغاديد

بتساؤلات وحيرة وحوارية الذات الطامحة إلى إدراك ما استوطن بها من بهاءات واستثناءات لحكايا الأزمنة العابرة العالقة بالذاكرة بتفاصيلها وبملامحها، وبشخوصها التي خلَّدت تاريخها عبر امتداد المراحل المتعاقبة وشكّلت حضورا كبيرا ينفتح على سردية تقتنص مواطن الجمال، وتستحضر ما انفلت من التاريخ في لحظة التدوين، وفي رحلةٍ ممتدّةٍ

نحوعالم المتخيّل الذي تنسجه الذاتُ الساردةُ في احتفاءاتِها المتواترة بالشخوص حيث تتعالق كلُّ الأوجهِ وتتوحد رغم اختلاف أمكنتها و تواجدها وتباين ملامحها وأشكالها في لقاء يؤسس لما كان ولما لم يكن ولما سيكون.

رحلة البحث عن النبع الأوّل، النبع الخالص / الشمس كزمن مفقود يشكل عنصراً قيميًّا، وغاية في ذاتها تدفع الباحث (الذات الساردة) إلى اقتفاء أثرها، فيخوض مغامرة عجائبيّة، لاقتفاء أثر الرواة، يستطردُ من خلالها الوقائع والأحداث في ظلِّ الخوارق والحتميات المفاجئة التي تغيِّرُ مسارَ البطل / الراوي.

يقوم السرد في رواية - جلسات الشمس- على بنيّة سرديّة غير مألوفة، تتجاوز النمطي والمألوف لتتخذ لها كينونة خاصة، ينسجها عالم المتخيَّل في اقتناصه للحظة المنفلتة من الزمن الغابر والخالد في الآن نفسه، رحلة نحو عالم عجائبيٍّ يستحضر الشخوص والأزمنة، ويزاوج الأسطوري بالواقعي حيث يلتقي طرفاه عند منعطف واحد يشكل نبعاً خالصاً لاحتوائها وتعالقها وتوحُّدِها وتفرُّدها، ومن هنا “ نكتشف أن مظاهر الخطاب الواقعي تتجلَّى من خلال المتخيّل الروائي وهكذا يتمفصل النص الواقعي بين طيات الواقع وبنيات المتخيّل وذلك عن طريق أسطرة الواقع mytification وجعل الخطابين الأسطوري والواقعي يتعانقان على مستوى النص الروائي ”.1

 

 

 

واللافت أن شخوص الرواية تقسَّم إلى صنفين، شخوص مألوفة وأخرى غير مألوفة، فالأولى تؤسس حضورها في ذاكرة الراوي/ البطل بكلّ قوة كمرجعيَّةِ ذات أبعادٍ دينية، تاريخيّة، تراثيّة، فنيّة....

أما الثانيّة فهي عجائبية تلعب دورا كبيرا في تغيير مسار البطل/الراوي، وانتقاله من مكان إلى آخر عبر تلك الرحلة العجائبيّة المفتوحة على كلّ الاحتمالات .

ومن هذه الشخوص التي تشكل عوامل مساعدة لإدراك مدينة الرواة نجد :

- القائدة الشمطاء: دليل إلى مدينة الرواة، كأنّها تقدِّم خريطة تكشف مدينة الرواة.

- عروس البحر: تقوم باستقبال البطل / الراوي في مدينة الرواة.

- العملاق: يسلّم مفاتيح المدينة للبطل.

- الناقة: تعدُّ عاملَ تحوّل البطل / الراوي من مكانٍ إلى مكانٍ.

تشكّل هذه الشخوص جملة من الحتميات والعوامل المساعدة على اختراق الأزمنة والأمكنة، والدخول في المطلق- التاريخ- وسط تلك الخوارق التي ينسج أحداثها وفصولها خيال الراوي الذي ينفتح على زخم معرفي، وقدرة سردية ذات فنيّة ومتعة تأخذك إلى عالمه الرحب المتّسع لضروب العلم والمعرفة، و“بحث

الرواية لا يكتفي بسرد مغامرة أو عرض مجموعة من الأحداث، بل تحاول القبض على عالم المعرفة الذي يعيش فيه البطل والكاتب” 2 هذه المعرفة التي تؤرّخ لزمن ما حمل جملة من المتغيِّرات والأحداث الواجب الوقوف عندها لأنَّها تشكّل مرحلة استثنائية تخلخل الموازين وتقلب التاريخ كحكاية “ قابيل وهابيل ”، أو حكاية القاتل والمقتول.

701-shams

“ قالوا: أسس التاريخ القاتل قابيل وأسس التاريخ المقتول هابيل، ولم يلتفت شخص ثالث إلى التاريخ الذي لا قاتل فيه ولامقتول، وهذا ما جعلنا نفتح ديوانا يقرأ ما حدث قراءة نقدية حرة لعلها تكشف الحجب عن الرؤية الثالثة الموجودة المفقودة ” 3، كما تعيد المجد لمن أسّسوه وظلّوا خالدين بالذاكرة

الجمعية أو بالذاكرة الخاصة للراوي، وكأنّه استقراء للتاريخ البشري، واستطلاع نحو الأزمنة العابرة واللاحقة وكشف ملامحها الأولى وتفاصيلها الحقة، بل إعادة التمعن والتأمل فيها وفي أحداثها .

“ ولما رأيت أن الزمن يجري إلى الوراء قررت أن أدخل إلى مدينة الرواة.. أخذت خرائط الأمم المختلفة في عصورها المتعدّدة فلاحظت أن موقع تلك المدينة وحجمها وهندستها المعمارية في تغير مستمر” 4.

نقرأ من هذا الملفوظ أنَّ زمن الرحلة مفتوح على لحظة الولوج إلى المطلق المتّسع على الحكي والتأريخ لِمَا انفلت من الذاكرة، رحلة إلى مدينة الرواة، والبحث عن الزمن المفقود، أوالحلقة المفقودة من الحلقات المخلِّدة لتاريخ البشرية المؤسس لمجدها ولما تركته من آثار عبر اختلاف مراحلها.

فسميَّت المدائن بأسماء رجالها، الذين صنعوا المجد، وتركوا بصماتهم وآثارهم عبر دروب العطاء والتألق والخلود، فهذه مدينة مفدي زكريا، وتلك مدينة البشير الإبراهيمي والطاهر وطار، ومحمد بلخير، ومدائن الثوار “على بوابات هذه المدائن تجد أسماء الأمير عبد القادر وعمر المختار وأحمد عرابي والعربي بن مهيدي ولالا فاطمة نسومر والإمام الحسين وعروة بن ورد والشيخ بوعمامة وجميلة بوحيرد ونيلسون مانديلا وحسيبة بن بوعلي وغاندي وزبانا وسبرتاكوس ومارتان لوتركينغ ...”5،

شخصيات أسهمت بعطاءاتها في كلِّ ما هو أدبي، سياسي، تاريخي... استحضرتها ذاكرة الروائي “جيلالي بومدين” بكلِّ قوةٍ، وكأنَّها وقفة تدوِّن الآثر الخالد لكلِّ شخصية منها، الأثر الذي اقتفته هذه الذاكرة خلال رحلتها الحياتيَّة، وشكَّلت مرجعا زاخرا وتراثا معرفيا كبيرا.

رواية * جلسات الشمس * استحضار لما انفلت من التاريخ أو التأريخ لأوجه الاستثناء، في رؤية تفاؤليّة تعيد المجد إلى أصوله الأولى، أو تعيد الأصول إلى مجدها، في وقفة تأمّليّة احتفائية ذات بعدٍ تأسيسيٍّ، يرتكز على مرجعيَّةٍ تنهل من شتّى الروافذ (

تراث- دين- تاريخ- أدب...).

 

....................

إحالة

1- حسين خمري. فضاء المتخيل. منشورات الاختلاف 2002.ص190

2- المرجع السابق .ص106

3- بومدين الجيلالي .جلسات الشمس.دار الحمراء.2012.ص117

4- الرواية.ص28

5- الرواية .ص 60

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2297 الجمعة 07 / 12 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم