الرئيسية

قراءة في طوبوغرافية المدينة في الحضارة العراقية

zouher sahebمن جدار القصب وِلدَ جدار الطوف، ومن فكرة الطوف كان جدار اللبِن، ومع هندسة الطين ازدادت الأبنية قوة، وأصبحت الجدران والسطوح المعمارية أكثر انتظاماً. إذ شُيد البيت الأول في عصر قبل الكتابة، بشكل ساحة وسطية مكشوفة توزعت على جوانبها سلاسل من الغرف الصغيرة الحجوم. ومن تكرار البيت الفلاحي مائة مرة كانت هيئة القرية، إذ انتظمت صفوف أشكال البيوت على جانبي شبكة من الأزقة الضيقة، التي نُظّمت بدورها على وفق نظام هندسي دقيق، في تفرعها من المركز نحو الأطراف.

وحَرصَ مزارعو ذلك الزمن العتيق في تاريخ الحضارة الرافدينية، على أن تكون بيوتهم ذات مظاهر جميلة، وذلك بطلاء سطوح جدرانها الخارجية بملاط ناعم من أطيان نقية، كي تبدو لماّعة بفعل ضوء الشمس. وغّلفّوا جدران غرفهم الداخلية بالحصران، التي كانت تُثبت بالمسامير الفخارية ذات النهايات المعّوجة Bent clay nails. وكانت أهم موجودات البيوت الفلاحية، هي تنور الخبز ومناجل الحصاد الفخارية، والمحاريث الحجرية وأقراص المغازل التي تُشير الى تقدم حرفة الحياكة والنسيج.

حافَظ السومريون (3500 ــ 2371 ق.م): بأمانة مُطلقة على خارطة توزيع القرى الزراعية الأولى على أرض الرافدين. وطَوّروا بفاعلية نظام التخطيط الحضري للقرية، إلى نظام المدينة والتَمدن، إذ أقترن ظهور أُولى المدن بنشوء العمران الحضري (Urbanization). ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا أكدّنا القول، أن الحضارة السومرية تفردت بأول ظهور لنظام المدينة، على أنه أول شكل من أشكال (الحكم) في تاريخ الفكر الإنساني، إذ نَمت فكرتا المواطن والمواطنة والولاء الأعظم لمدنهم الجميلة.

كانت المُدن السومرية صغيرة الحجوم، إذا قِيست بمدننا اليوم. ولم تنقطع الصِلة بين سكانها وبين أراضيهم، فمعظم السكان يَزرعون الحقول المُحيطة بمدنهم، وكلهم يَعبدون آلهة تُمثل قوى الطبيعة، ويشتركون جميعاً في الطقوس والشعائر التي يُحيونَها عند نقاط التَحول في السنة الزراعية. على هذا المنوال انتظمت حياة الجماعة، بموجب معجم متوارث من التقاليد والأعراف، التي أصبحت بعد نجاح تطبيقها مقبولةً ومرغوباً بها من قبل الجميع، كونها استهدفت النفع العام.

بَلغَ محيط مدينة الوركاء ــ عاصمة البطل ﮔـلـﮕـامش ــ زهاء تسعة كيلومترات، ومساحتها تجاوزت الستة كيلومترات مربعة، وعدد سكانها بَلغَ المائة ألف نسمة. وقد نُظّمت لتشمل ثلاثة مراكز رئيسية، أهمها حارة المعابد وقصر الحاكم في مركز المدينة، وتلتف حول مقترباتها مساحات الأراضي الزراعية الخضراء اللون، التي تُقطّعها أعداد كبيرة من القنوات المائية الإروائية الضخمة. أما القسم الثالث فيشمل ميناء المدينة، الذي تجري فيه الفعاليات التجارية، وهي بذلك تَشبه التخطيط الحضري لأي مدينة عراقية لعهد قريب.

ولنا أن نتصور مخطط المدينة السومرية، إذ يُقّسم مساحتها عدد من الشوارع المتقاطعة، وقد رُصفت أرضياتها بخليط الرمل والتراب والحصى، الذي اكتسب صلابته مع مرور الزمن، فكان مناسباً لسير العربات ذات العجلات الخشبية. وتوزع على جانبيها بانتظام عدد من الحارات السكينة، حيث نموذج البيت السومري المشيد باللبِن، وتتوسطه ساحة فسيحة مكشوفة توزعت حولها غرف السكن. وأهم موجوداته هي نماذج لدفاتر الطلبة المدرسية التي كانت بشكل الواح طينية صغيرة الحجوم، ولعل مثل هذا الوجود ليس جميلاً فحسب، بل له هوية مُميزة، تمنح المرء إيماناً راسخاً بروعته، وإيماناً بالإنسانية في نفس الوقت.

وأجمل أقسام المدينة السومرية، كان ميناءها، إذ تتجمع السفن بأشرعتها الملونة فتتلاقح الثقافات. ويهمنا أن نُحضر قصيدة شعرية سومرية تصف جمالية المدينة السومرية ولا سيما مدينة (نُفّر) القريبة من قضاء عفك بالقرب من الديوانية.

أُنظر تماسُك السماء والأرض: المدينة

أُنظر الجدار الجيد: المدينة

أُنظر (إيدسالا): نهرها الصافي

أُنظر (كراكروتا) مرفأها الذي ترسو عليه السُفن

أُنظر (بولال) بئر مائها العذب

أُنظر (أدنبردو) قناتها النقية

أُنظر (إنليل) رجلها الشاب

أُنظر (ننليل) عذراءها الفتية.

تحرّكت من موانئ المدن السومرية السفن الشراعية، مُحمّلة بالتمور والحنطة، نحو دلمون (البحرين) ومـﮕـان (عُمان) وحتى ملوخا في وادي السند. لجلب الذهب والنحاس والأحجار، مقايضة بما تحمله من بضائع ومواد غذائية. وفي الوقت نفسه، انطلقت العربات السريعة وقوافل الأفراد، نحو إيران وافغانستان وجنوب تركيا، لإحضار ما تتطلبه حملات البناء والأعمار التي شهدتها المدن السومرية، وما تحتاجه الفنون من خامات جميلة. ولعل ظهور أعداد من الأختام الاسطوانية السومرية، في تلك الأماكن النائية، يمكن أن يَجد تعليله لهذا النوع من الاتصالات التجارية.

لم تكتشف مدينة أكد عاصمة الدولة الأكدية (2371 ــ 2230 ق.م) حتى الآن، وذلك (حالُ) يَحبس الأنفاس، وأأمل أن لا يطول مثل هذا التَخفي. اما بابل عاصمة الملك حمورابي، فما زالت طافية في مياه نهر الفرات الجوفية، تنتظر من يبادر بإنقاذها. الأمر الذي لم يتيح لنا الفرصة سوى الانتقال لدراسة نظام المدينة الآشورية.

تَعددت العواصم الملكية الآشورية لأسباب سياسية وتعبوية، فملوك آشور الذين فاقوا وجودهم الفيزيائي، نحو مَرتبة الكائن (فوق الطبيعي) أي الأسطوري المحمي بقوى سحرية. وَجدوا تحقيق رغباتهم السايكولوجية بظاهرة تجديد العواصم القديمة وإنشاء العواصم الجديدة. فكانت مدينة آشور أقدم العواصم واكثرها قدسية فسطوتها الدينية تشبه سطوة الفاتيكان على أوروبا، ومن ثم (نمرود) كالح التي بناها الملك (آشور ــ ناصر ــ بال) الثاني (883 ــ 859 ق.م)، وخرسباد دور شروكين عاصمة الملك (سرجون) الثاني (721 ــ 705 ق.م)، وأخيراً نينوى أقدم العواصم الآشورية، التي غَدت عاصمة البلاد في عهد الملك سنحاريب (704 ــ 681 ق.م).

بسبب الهوس الامبراطوري الآشوري، وضخامة معجمهم في الفتوحات الحربية، معتقدين أن إلههم القومي (آشور) يجب ان يحكم العالم ويُخضع جميع البشرية لسلطتهِ. فأن من أهم السمات المعمارية لمدنهم هي قوة التحصين، فمدينة (آشور) الكائنة عند منتصف المسافة بين بغداد والموصل، بُنيت فوق نتوء مُرتفع من الحجر الجيري، على ضفة نهر دجلة الغربية في منطقة انعطافه بشكل حاد، فأصبحت واجهتها الشرقية محمية تعبوياً من جهتين، أما ظَهرها فقد حُصّنَ بسور ضخم هلالي الشكل يُحيط بفضائها الجغرافي الذي كانت مساحته ثلاثة أربع الميل. وضمت فضاءات المدينة المعمارية ثلاث زقورات، وثمانية وثلاثين معبداً، فيما انزوى على بعد أربعمائة متر من سور المدينة، معبد صغير كرّس لإقامة احتفالات رأس السنة الآشورية وعُرفَ باسم مَعبد (أكيتو).

وبُنيت نمرود (كالح) في الزاوية التي يلتقي عندها نهر الزاب الأعلى بنهر دجلة، لذلك فهي مَحمية بهذه العوارض المائية المنيعة من جهتيها الغربية والجنوبية. وهي مستطيلة الشكل وبلغ محيطها ثمانية كيلومترات، ومساحتها ثلاثة كيلومترات مربعة ونصف. واختار مؤسسها أحد المرتفعات في زاوية المدينة بنى عليها زقورتها ومعابدها وقصره الملكي، وبلغ عدد سكانها ثمانين ألف نسمة.

اعتمد الملك (آشور ــ ناصر ــ بال) الثاني في بناء عاصمته، على المهندسين والعمال الآشوريين، وأمثالهم من الشعوب الخاضعة لسيطرته، الذين أسكنهم في مدينتهِ بعد الانتهاء من بنائها. فكانت حاضرة عالمية حقاً، تَعددت بها الشعوب واللغات والجنسيات. ودشنها بإقامة وليمة كبيرة ربما تُعدّ أكبر وليمة في التاريخ، إذ بلغَ عدد المدعوّين فيها سبعين ألفاً ودامت لمدة عشرة أيام.

زوّدَ الملك عاصمته الجديدة بالمياه، عن طريق قناة مَدّت من الزاب الأعلى، وزرع فيها الحدائق الغناء التي ضَمّت أنواعاً متنوعة من النباتات الجميلة، التي جلبها من أماكن شتى خلال حَملاته الحربية المتعددة. وحَفرَ فيها العديد من الآبار التي وَصلَ عمقها الى ثلاثين متراً، بغية الحصول على الماء العَذب للشرب والإرواء ولا سيما في فصل الصيف الذي ينخفض فيه مستوى نهر دجلة الى مستويات شحيحة. وبفعل شخصية الملك المتعددة الهوايات، فقد أقام في مدينتهِ حديقة كبيرة للحيوانات، التي كانت مَدار اهتمام الملوك ممن أعقبوه، وشملت أنواعاً متنوعة من الحيوانات التي جُلبت كغنائم حربية، أو قُدّمت كجزية من قبل الشعوب المغلوبة ومنها: الدببة والضِباع والأسود والنمور والفهود والغزلان والماعز البري والجاموس والأغنام البرية والوَشق والحُمر الوحشية والجمل ذو السنامين وغيرها.

وقعَ اختيار الملك (سرجون) على منطقة جميلة، تُوفر منظراً رائعاً لسلاسل الجبال الشمالية المغطاة بالثلوج، وتُحيط بها سلسلة من الغابات الكثيفة الخضراء اللون، وتقع بالقرب من قرية (خرسباد) الحالية، على بعد (15) ميل الى الشمال الشرقي من نينوى. لتشييد عاصمته الجديدة في العام (717ق.م) من سني حكمه وذكر في ذلك: "لقد بَنيتُ عاصمتي الجديدة بجهود جميع الشعوب التي أَخضعتها لإرادتي، وجلبتُ لها خامات البناء الجميلة من مختلف أرجاء المعمورة، وأسميتها (دور شروكين) أي حُصن (سرجون)، بإيحاء من الإله (آشور) والإلهة (عشتار)، وكذلك من إحساس صادق نابع من أعماق قلبي.

فكانت (دور شروكين) التي اتخذت أسم الملك، بمثابة القلعة الملكية الحجرية الضخمة المنيعة، بأبعادها الكبيرة التي فاقت ما سواها، وأبرزت في عيون الناس، صور عمرانية للنظام الكوني، وفي الوقت نفسه كانت رمزاً للإمبراطورية الآشورية القوية. إذ كتب الملك على صفوف الحجارة التي شيد بها عاصمته نصاً ما يزال بليغاً في دلالته، "سرجون ملك العالم، أقام مدينة أسماها (دور شروكين) وبنى داخلها قصراً منقطع النظير".

غَطّت مساحة المدينة زهاء ميل مربع واحد، يؤلف شكل مربع غير منتظم، ويُحيط بها سور حجري ضخم مُدّعم بالأبراج الدفاعية المُزدحمة، الموزعة على شكل نسق معماري جميل، ولها سبع بوابات حَملَ كل منها أحد أسماء الآلهة الآشورية الرئيسية على غرار بوابات العواصم الآشورية الأخرى. وحَدّث مهندسو الملك ثلاثاً من أشكال هذه البوابات، بأن كسوا سطوحها الخارجية بالجداريات الخزفية الملونة، وتلخص مشاهدها نظام الوجود على وفق مقولة اللاهوت الآشوري. وأُطرّت جميع البوابات وكذلك مداخل قصر الملك بأشكال الثيران المجنحة ذات الرؤوس البشرية، وكانت وظيفتها بمثابة الملاك الحارس Lamassu ذو القُدرة الاسطورية، لحماية الملك وساكني مدينتهِ من خفايا القَدَر المُتخم بالأخطار المُحدقة. وقد اكتشفت البعثات العلمية (26) شكلاً سريالياً من هذه الكائنات الاسطورية المُركبة، يَزن كل منها (40) طناً من الحجر أو الرخام.

حَصرَ الملك (سرجون) معابد الآلهة الآشورية الرئيسية السبعة، في الزاوية الجنوبية الشرقية من عاصمته الجميلة، بعد أن كانت تنتشر بشكل عشوائي في أماكن شتى من العواصم الآشورية الأخرى. ولعل فكرة (سجن) المعابد وكهنتها في تلك المساحة الجغرافية الصغيرة، يؤكد هيمنة سلطة الملك بوصفه الكاهن الأعلى للإله (آشور)، على سَطوة الفكر الكهنوتي وتقليص نفوذه في خاصية القرارات التي تتخذها الدولة.

وَجَّهَ (سنحاريب) جُل نشاطه العمراني الى تجديد أبنية عاصمته الجديدة، وتجميلها وتوسيعها وتحصينها، إذ زينها بإقامة المعابد والقصور الجديدة. فجعلها عاصمة تُليق بعظمة الإمبراطورية الآشورية، ووسع مساحتها فوصل محيطها الى ثمانية أميال، ضَمّت أسوارها خمس عشرة بوابة، سُمي كل منها على وفق السياقات الآشورية باسم أحد الآلهة، وكانت محمية بزوج من الكائنات الأسطورية الآشورية التي لها القدرة المتفوقة على حماية المدينة، حماية كونية، من أي متطفل خارجي.

ظلّت أسوار نينوى مجال اهتمام المؤرخين في مختلف العصور، إذ وصفها أحد المؤرخين الكلاسيكيين وهو (ديودورس الصقلي) "إن تلك الأسوار كانت ضخمة وعريضة جداً بحيث تتسع لسير ثلاث عربات حربية جنباً الى جنب. وقد سَخِرَ الناس في الوقت الحاضر من مثل هذه التوصيفات الأسطورية، إلا ان بقايا الأسوار تُظهر سعة تكفي لسير سيارتان جنباً الى جنب فوقها.

ضَمّت نينوى قسمين أحدهما يُعرف باسم تل (قوينجق) وهو القسم الشمالي من المدينة، ويقع يمين الطريق الحديث من الموصل الى بغداد، وقد نالته الاكتشافات الأثرية بشكل جيد. أما القسم الآخر فهو تل النبي يونس، الذي لم تمسه معاول المنقبين حتى الوقت الحاضر.

حَرصَ الملك سنحاريب على تنظيم شوارع عاصمته تنظيماً حضرياً مُنضبطاً، على وفق السياقات المُتبعة في تنظيم العواصم الآشورية. إذ انتظمت الوحدات البنائية للمدينة على جانبي منظومة من الشوارع العريضة، هُندست على وفق نظام الـ(Gird) الذي يَشبه رقعة الشطرنج. وَغُرست على جوانبها النباتات الملونة التي جلبها الملك من أماكن شتى من بقاع العالم، فيما بُلطّت شوارعها بمساحات من الحجارة البيضاء اللون. وكان أهم شوارع المدينة هو الطريق الملكي الذي بَلغَ عرضه ستين قدماً، والذي أمتلك خصوصيته الملكية بموجب حُزمة من العقوبات الصارمة ضِدَ مَن تُسوّل له نفسه التجاوز عليه بطريقة أو بأخرى. وزُودت مخارج المدينة بعلامات على شكل (القُطَع المرورية) توّصف الأماكن التي تُفضي اليها، فلم يَنقص نينوى في ذلك الزمن السَعيد، سوى إشارات المرور الضوئية.

أنشأ (سنحاريب) نظاماً إروائياً خاصاً لإرواء بساتينه وحدائقه الخاصة، إذ جَلبَ الى عاصمته ماءً عذباً من المنابع الخاصة بنهر (الكومل)، عن طريق قناة طويلة شيدها بأحجار الكلس، وهي تَعبر المرتفعات والوديان، فشيد لها القناطر في بعض الوديان. وتبدأ تلك القناة من الموضع المسمى (جروانة) مسافة خمسين ميلاً عن نينوى، ونحت عند صدر القناة على وجه حجرة شاهقة مشهداً يمثل صور بعض الآلهة مع كتابة مُوجزة عن هذا المشروع.

ذكرَ الملك (سنحاريب) في حولياته التاريخية، "ان ميناء مدينة نينوى كان مستعملاً كطريق نهري لإيصال الحمولات الثقيلة جداً"، التي كانت بشكل كتل حجرية ضخمة جداً، استعملت لنحت تماثيل الثيران والأسود المجنحة، والمنحوتات الجدارية التي تُغلف جدران القصور الآشورية. وبالإضافة لفكرة الميناء كواسطة لنقل البضائع بين العواصم الآشورية، فانه كان وسيلة للاتصال والتنقل بين المدن الآشورية لتفعيل خاصية تداول الأفكار والمثاقفة بين المواطنين، وكذلك نقل القطعات العسكرية من المدن الآشورية الشمالية إلى مدينة آشور التي تقع على بعد (200 كم) إلى الجنوب.

غَدت بابل في عهد ملكها الشهير (نبوخذ نصر) الثاني (604 ــ 562 ق.م)، أكبر مدن العالم القديم، فعدّها المؤرخون والكتاب الكلاسيكيون مدينة لا تُضاهى في عظمتها وسعتها، إذ فاقت مساحتها مدينة أثينا حاضرة الثقافة الإغريقية خمس مرات. فصارت عنوان حضارة بلاد الرافدين، ونُسبت اليها حضارة بلاد الرافدين جميعها، فَقيل بلاد بابل (بابلونيا) وأهلها البابليون. وعُدّت أسوارها وجنائها المعلقة من عجائب الدنيا السَبع، فلا عَجبَ أن انبهرَ بها (أُرميا) الذي كان أحد أفراد السبي البابلي واصفاً إياها، "بأنها كأس ذهبية بيد الرَب.. جعلت الأرض سَكرى". وعدّها (أرسطو) الفيلسوف الإغريقي، "بأن المدينة كانت أعجوبة في سعتها. فلا عَجَبَ إذا ما تَبجحَ (نبوخذ نصر) بعاصمته واصفاً إياها، "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت المُلك، باقتداري ولجلال مجدي.

بَلغَ مُحيط مدينة بابل زهاء 18كم، ومساحتها عشرة ملايين متر مربع، وسكانها ربع مليون نسمة. وهي مستطيلة الشكل تقريباً يخترقها نهر الفرات ويقسمها إلى قسمين، قسم شرقي هو الأقدم والأهم إذ تقع فيه معابد المدينة وبرجها المُدرج وقصر الملك. أما القسم الغربي فهو الأحدث ويقع فيه القليل من المعابد، ويرتبط قسمي المدينة بثلاثة جسور ذات دعائم حجرية.

أُحيطت المدينة بسورين ضخمين لحمايتها هما: شلكو Salku أي الخارجي، ودورو Duru الداخلي. ويتألف السور الخارجي من ثلاثة جدران تنتظم الواحد بعد الآخر في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة، فالجدار الأول ابتداء من الداخل مشيداً باللبن وسمكه سبعة أمتار، ثم الجدار الثاني المُشيد بالآجر وسمكه زهاء سبعة أمتار أيضاً، وفي الأمام يكون الجدار الثالث وسمكه ثلاثة أمتار، ويقع أمامه خندق الماء، فيكون سمك السور الخارجي 17م. وتلك قياسات هندسية مناسبة لسير العربات الحربية فوق السور، المُزود بأبراج دفاعية مُحصّنة تحصيناً حربياً منيعاً.

أما السور الداخلي فقوامه جدارين ضخمين من الآجر، تتخللهما أبراج دفاعية، الداخلي منهما بسمك ستة أمتار ونصف، والآخر بسمك ثلاثة أمتار ونصف فيكون سمكه عشرة أمتار. وخُصصت المساحة بين السورين وسعتها كيلومترين، الى ضواحي المدينة حيث البيوت القروية المشيدة من اللِبن أو الطين، وبساتين النخيل والأشجار المثمرة الأخرى.

نَظّمت مدينة بابل تنظيماً حضرياً متقدماً على وفق نظام لوحة الشطرنج، يتميز بمنظومة من الشوارع العريضة المتعامدة التي تنتهي عند بوابات المدينة الرئيسية. إذ وردت في الكتابات البابلية أسماء ثمانية شوارع مهمة، ينتهي كل منها بإحدى بوابات المدينة الثمان، وإلى هذه الشوارع الكُبرى، هناك أربعة وعشرون شارعاً ثانويا. وسُميت كل بوابة وكل شارع باسم معبد الإله الذي يقع بالقرب منهما، فضلاً عن شارعان خاصان لإقامة الاحتفالات الوطنية   ومسيرة الجُند.

كانت شوارع المدينة مُبلطّة بنوع من الحجر ذو لون أبيض مائل للاحمرار، أما سطوح جدران بيوتها فكان لها ملمس ناعم، بفعل طلائها بطبقة خفيفة من الجص الناصع البياض. وزُرعت على جوانب شوارعها نوعٌ من الأشجار الملونة التي جلبها الملوك في حملاتهم الحربية، فإذا أضفنا لذلك مكتباتها الغنية بالمصادر العلمية، فأننا نكون إزاء مدينة من الطراز المعاصر. أما أسماء بوابات مدينة بابل الشهيرة فأهمها، بوابة الإله (أدد) وعُرفت باسم (أدد يَحمي نفوس الجُند) وبوابة الإله (إنليل) ومعنى اسمها (إنليل مُثبّت ملوكيتها) وبوابة الإله (مردوخ) ودلالتها (مردوخ راعي بلادها)، بالإضافة الى بوابات الآلهة (شمش) و(سن) و(أوراش) و(نبو) و(زبابا) وأخيراً بوابة الإلهة عشتار الشهيرة.

 

 645-zaid

بابل (صورة متخيلة)

 

أ. د. زهير صاحب

أستاذ تاريخ الفن - كلية الفنون الجميلة – بغداد