صحيفة المثقف

الشاعرة وفاء عبد الرزاق غيمة لا تعرف أين تمطر

wafaa abdulrazaq3وفاء عبد الرزاق شاعرة غيمة لاتعرف أين تمطر، فهي موجوعة علی وطنها تفتقده كما كان، تريد أخذه بالأحضان، كما الطفل الصغير يرتادني الألم حين أقرأ شعرها لأول مرة _ سامحيني علی ذلك_ فهو مفعم بالمرارة وتأخذني الخيبة، إذ لم أرتاد بحرها إلا الآن .

صورها الشعرية متلاحقة كأمواج البحر التي تعطي ببذخ فادح، وتغرف من الطبيعة ما يهيأ لها استمراريتها في شعرها، فهي مد صاخب متسلسل من ألوان واشياء الطبيعة، وتتخذ من الإنزياح والتشخيص معينا في إنتاجها لهذه الصور.

تحضر الأمومة والطفولة في نصوصها، وكأنها استدعتهما لتواري نقص الحنان والمحبه والألفة التي فقدت من عصرنا، فهي تبحث عن المشاعر في عصر الماديات وتطالب بالإصلاح في زمن لا صلاح فيه، وقد يأتي حضور الأمومة والطفوله لرمز الحياة والبراءة والبحث عنهما، أو رمزا للأمل والغد القادم بالخير.

إن رموزها حية مبعثها الطبيعة والتأريخ، فينهض شعرها علی موروثات دينية وتأريخية،تآزرها في بنائها الشعري، وتأصل مساعيها في الإنجاز الصوري .

لغتهاالأنثوية حاضرة في نصوصها بحنوها على الآخر واستيعابه، وفتح المجال لإظهار شخصيته، وبحنان صوتها ودفئه وانخفاض نبرته في وقت فقدت هذه النغمة من الهدوء والخفوت.

نجد الشاعرة بارعة في اختيار عناوين قصائدها، فهي عناوين قصيرة لافتة ومعبرة تختزل الموقف، ومكتنزة على العمق الجوهري لقضية معالجتها في نصها، وذات جمال تكويني .

تقول الشاعرة في إحدى نصوصها الشعرية :

( ارتويتُكَ كشفاَ)

لرذاذِ صوتكَ أُصغي)

أتأملُ هطولكَ

أستضيفُ الشجونَ وقلبَكَ

أباركُ شدوَ المعِ

أزفّ ُ عروسةَ سهري لمقلتيها

أدوّنُ صهيلَ قلبـِكَ

لعينيكَ نهران

تهافتتْ لهما

أجنحة ُ نافذتي

وتفتـّحتْ في كفـّيَ المـُنى

تمنـّيتُكَ

استنشقتُ المنى

ندهتُ غدي:

احترقْ

أجمَلُ ما فيَّ لحظتي

احترقْ

وتقرفص جمرة ً هيمانة ً

وانتشتْ ثانية ً

ممطرة ًباحتراقها

بأشيائِكَ البسيطةِ تـُشغفُ صلاتـَها

وكنجمةٍ مسّها الصحو أهزُّها

انهضي حاسرة ً ارطن

وليكن جنوناً فرطانة ُ المجنون ِ خطىً غضة

وجبهة شجرُ جذرها وتستعرْ.

فما ليَ اليومَ أستعيرُكَ منـّي

أخرجُكَ من رئتي

أدلقـُكَ بأصيص ِالزهر ِ

فارعة ً تفردُ ضفائرَها

زهرتي

وترتويك كشفاً

بصَمتـِها الأولِ الأزلي

تُعبـّئُـكَ فيما بقيَ لي

كي لا يتعفرتُ العمرُ

وتنفرُ جسدي

الروحُ التي أصغتْ لرذاذِكَ

وفي حشدِ الغيابِ

كسرتْ أقفالـَها

ولدتكَ صدراً

أغلقتْ آفاقـَها وتسوّرت بك

فما ليَ اليوم أستعيرُكَ منـّي

أسَوسِنُ طفولتي أتبرعم

ولو لحظة حـُلـُم؟

لي في السؤال ِ رحـْميَ

وللسؤال ِ نـُطفتـُكَ

فكيف لي أن أنجبَكْ) (1).

إن الشاعرة مسكونة بوطنها، هي عاشقة حد الوله، تكاد لاتمر قصيدة بل صورة إلا ووطنها يتمخض فيها، وجعا ومحبة يتخضب في شعرها. وعندما سألتها عن سر هذا العشق وخباياه ،وهل هو عشق للوطن، أو عشق لآخر يتلبس فيه قالت: (هو عشق للوطن فعلا، فأنا أراه محبوبي الأوحد الذي به توحدت وصرته، أبحث عن الوطن فيَّ وأبحث عن نفسي فيه)(2)، إذن هي تبحث عن حب مثالي كامل وثابت كالوطن، بل تبحث عن حب يسمو عن كل صغير لترتقي به، فوجدت في الوطن كل حب تتوق إليه وتطلبه، إذ لا يوجد حب مثالي وثابت كالوطن، فهو نوع من التعويض عن نقص ما تبحث عنه .

نجد في قصيدة (ارتويتك كشفا) ان العنوان يحمل السمة الفعلية، ويغدقها بداية الأسطر الشعرية ، فإرتويتك تتركب من (ارتوى+ي+ك(هذا التركيب الذي يحتوي) فعل وأنا المتكلم وأنت المخاطب)، فجمعت العلاقة بينهم لتسحب هذا المضمون نحو النص. فضلا عن أن الإرتواء يكون للماء، وإذ وصلت الذات بالآخر حد الإرتواء يعني أنها تشبعت به. ونرى الكلمة التي تكملها في العنوان (كشفا) تترجم هذا الإرتواء، كيف يكون بالكشف عن المكنون والغوص في المضمر، وإن كانت ترتويه كشفا، فما الذي يتضمنه هذا الكشف؟ وعن ماذا؟

يأتي العنوان في النص حاملا بذوره الكشفية بــــــ (فارعة تفرد ضفائرها / زهرتي / وترتويك كشفا)، فقد أرادت منه البوح عما عجزت عنه، إذن تتخذه وسيلة للبوح ، وهذا يتناسب مع قولها في بدء قصيدتها :( لرذاذ صوتك أصغي)، فبالصوت يكون الكشف عن الدواخل تعبيرا وتنفيسا عن الكبت ،وهو وسيلة للتواصل تنشد وتنجذب الذات له بالإصغاء .

تبدأ القصيدة بالأفعال فكل سطر شعري يفتتحه الفعل، إذ يتكون الفعل من مجاميع تترجم الدورة الفعلية بمثل :( أتامل /أبارك / أزف / أدون /.....) والأخرى كما في :( تهافتت/ تفتحت ....) و(أخرجك / أدلقك .....) و ( ترتويك/ تعبئك / كسرت / أغلقت .....) .وكل مجموعة تحمل أفعلا خاصة بها من الصيغة نفسها تاركة المجال للفعل، ليبارك عملية الكشف ويتولاها، إذ يسبغ صورا شتى لها، ويحمل أوصافا وطرائق عدة .

فيتميز الفعل بأنه يحمل الوصف والصور التي يكونها، فضلا عن حمله الذات، فتترجم الضمائر في الأفعال التحولات من صيغة لأخرى، من المتكلم إلى المخاطب، إلى الغائب، لتنتهي بالمخاطب الذي تنشده الذات وتعول عليه .

تصل الذات مع هذا الحب حد الإدمان عندما تقول في :

(في ينبوع روحكَ)

أدمنتُكَ)

كما النسيم على صدر إله النخيلِ

مذ كنتَ ناري والطريق التي

صيرت جسدي شفة

وكوكب السؤال

أدمنتُكَ

سيلا

حين قلت لي:

كم خصبة أنتِ

ويانعة.

أتلبس عباءة وجهي

أم جسدي الشفة الممتدة فيك؟

مدينة للرغبة أنتَ

دخلتها وقلادتي الجسر

أحيت شموس ظنكَ

أي شكٍ في ينبوعك؟

أتشكُ الينابيع بسيلها؟

أفق على توردِّي

إني نزيف سؤالك

في دفتر المطر.

أدمنتُكَ

وجرحي البنفسج

يتفتح على الغصًّة

في سجائركَ المطفأة

شفرة التوله الغض.

لهذا أدمنتُك في نفسي

حين صرتَ كلي

وبعض بعضي

لأقف في محرابك

مجنونة ذاهلة) (3).

يطرز العنوان علاقة المحبة بين الأثنين، لينسجها في النص بأبهى صور، وتتعلق كلها بالإدمان للحب . فـ (ينبوع روحك في)، يجعل العنوان من الذات المحرك الأساس والمصدر للآخر ،إذ تمده بالحراك والحياة، فالينبوع مصدر الماء وتدفقه، وهو رمز الحياة والنضج ،وإذ ما اقترن بالروح فهو يقترن بالحياة بأسرها .فيمتزج في العنوان حضور الذات والآخر وعوامل الحياة .

يشرح النص دورة الإدمان للحب، وكيف يكون الإدمان بدورته الرباعية بـ ( أدمنتُكَ كما النسيم / أدمنتك سيلا / أدمنتك وجرحي البنفسج / لهذا أدمنتك في نفسي). فما بين النسيم والسيل الهدوء والإكتساح يتم توظيف التضاد لعناصر الطبيعة ،لتنتقل الدورة للذات بجرحها المتفتح على الغصة ،وأخيرا تترجم سبب الإدمان فتضع جوابا بصيرورته بالكل والبعض والاستحواذ على الذات .

إن الوجه الجامع بين العنوانين (ارتويتك كشفا / ينبوع روحك في) حضور الماء رمزيا في الارتواء والينبوع، فالماء هو المغذي للحياة والممول للحب بطاقته الإحيائية .وإذ ما كان من وسيلة للكشف فهو كشف عن الروح وما تضمره لتعلن بالحب كل وسائل الإتصال. فليس اعتباطا أن تختار مثل هكذا عناوين تصدح بالفكرة، وتشعل الرغبة في المتلقي، وتختصر مضمون النص، وتقف على بعد جمالي وتركيبي .

إن هدوء نبرتها الصوتية، تفعل بها الطاقة الإشارية السيميائية، لتتخذ من هذا الصوت عنصرا مشكلا للغتها يقف بصفها في غايتها من إشاعة فاعلية جو الحب، وكأنما هي توشوش وتداعب الآخر بهذا الإنحناء الصوتي كنوع من التواصل في مسار الحب المنشود .

تبقى الذات تغدق عطاياها وتضحي في سبيل الآخر كما في قولها: (إني نزيف سؤالك / جرحي البنفسج يتفتح على الغصة)، فقد صار الكل والبعض واختزل الآخرين به، وعندما يصل الحب حد الإدمان تصبح الذات مجنونة بالآخر (لأقف في محرابك مجنونة ذاهلة) هكذا تصرح في خاتمة قصيدتها. ولا سبيل للتراجع عن ما تفعل مادام قرارها قد كتب بيدها منذ البدء بـ(أدمنتك) .

 

................

الهوامش

1_ قصيدة (ارتويتُكَ كشفا) ديوان مدخل إلى الضوء، وفاء عبد الرزاق : 31 _35

2_ حوار مع الشاعرة بتأريخ     16/12/2014

3_ قصيدة (في ينبوع روحكَ) ديوان مدخل إلى الضوء ،وفاء عبدالرزاق :69_ 73

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم