الرئيسية

مقدمة في مفهومية الفنون التشكيلية العراقية (عصر قبل الكتابة)

zouher sahebإن الفكر العراقي الإبداعي، وهو يؤسس أنظمتهِ الأولى في تاريخ الإنسانية . تمكن من تصنيف الظواهر وإدراك ما بينها من علاقات، فجعل لكل قوة في الوجود (رمزاً)، وعلى هذا النحو تحولت الظواهر إلى رموز ومفاهيم، وهي تكثيف للأفكار بخطاب التشكيل. إنها بمثابة الوسيط، بين الطبيعة في بنائيتها المادية وعالم الميتافيزيقيا، وبجدل حيوي بين فيزيائية الظواهر وجواهرها. فالكوني في بنائية الفكر القبل كتابي، ينتمي إلى واقع وما فوق الواقع. وقد (حَلَّ) الآن عالم الوهم، بمحيط معرفي في وعي الإنسان بتأويل المدركات إلى صور رمزية. فتحولت الأشكال، من صور مماثلة لحيثيات الأشياء إلى دلالات معبرة عنها. ذلك إن مثل هذه الخطابات الرمزية في (جوهرها)، لا تستقي البهجة من الطبيعة (العفوية) للأشياء، لكنها تسعى إلى نوع من التأويل، وبما يضع الرمز في خصوصيةِ اللامحدودة، متعدياً السببية الرابطة بين المرموز به والمرموز إليه. فالمهم هنا نوع من الإزاحة في أنظمة الأشكال كمفاهيم، وبما يجعلها موحية (مشفرة) بدلالات جديدة . فقد كان هدف الفن ليس التقليد، بل الكشف عن الصيغ التي (تساند) الفكر الإنساني (القبكتابي) لامتلاك صلات وثيقة مع عوالمهِ الحاضرة والمعّيبة.

قاد الفعل المبدع لآليات عمل الصورة الذهنية للفنان من الفترة القبل كتابية في العراق، إلى تمثيل الفنان لما يعرفه ويدركه عن الأشياء، وما ينبغي إن تكون عليه، بدلاً من أن يحاكي ما يراه، واضعاً بذلك التجربة الحسية تحت سيطرة ومراقبة الذهن، ذلك إن الأشكال في فنون هذه الفترة العظيمة، كانت حقائق صورية . ومن هنا كان التوجه نحو المظاهر التجريدية، والتوقف عند الصور الذهنية غير المادية . والقائمة على التنظيم البنائي المتناغم في الأشكال الهندسية . فالفنانون لم يروا بأعينهم ما في الطبيعة بل بأفكارهم، وهم لم ينسخوا الموضوع كما هو في الواقع بل يؤولونه نحو الجوهر . ذلك إن تشبيهية الصورة، لم تعد تمثل نظام الشكل في فنون الرسم والتصوير، بل عَمِدَ عوضاً عنها، إلى تأويل نظام رياضي، يتسم باستدلالات عن الصورة المُدركة حسياً . وفي ذلك تكمن القدرة بالرقي على جميع الصور الفردية، وشتى أنواع التفاصيل والجزئيات . ومن هنا كان التحول في سمات الأشكال من الخصائص الجزئية، إلى بنائيتها الكلية، ومن الفردية إلى التعميم المطلق.

601-zuhir

إن الأصل في المنجزات التشكيلية، هو العمل الأول الذي يرى النور بفعل إبداع (الفنان) . أما (القوالب) الأخرى والتي تشكل سلسلة تاريخية، تعقب الأصل، فإنها لن تكون بذات الأمانة المطلقة في فعل الاستنساخ . وبفعل الطلب الاجتماعي على الأعمال الفنية التشكيلية من الفترة القبل كتابية في العراق باعتبارها رموز طقوسية، إن جعل الضرورة الفكرية (مرّكزة) على المضمون على حساب الشكل . فتوالدت الأشكال وهي تحمل تنوعاً في الأنساق التشكيلية، مما أكسبها ابتعاداً عن (الأم) في نسخها المتكررة، الأمر الذي ولدَّ تمرحلات بصدد الأسلوب من دقة الواقعية نحو رمزية التجريد. وهي آفاق تبدأ بتأكيدها الوجود الإنساني، بواساطة الإنسان نفسه، وبتأكيد حقه في إيجاد حقيقة أخرى، خارج حدود الطبيعة بل ويتجاوزها اعتماداً على قوانين خلق أخرى.

وفعَّل تطور الفكر الديني، ضرورة إبداع أشكال (تجريدية) مطلقة للتعبير عن ظواهر مطلقة، في خطابها التشكيلي (المشفّر) نحو الميتافيزيقي. وذلك بإبداع أشكال بفعل الخيال والتأمل، تستطيع تجاوز منطق الواقع . فالمهم هنا هو تمثيل الأشكال بأسلوب، يفعّل تأويلها بدلالات جديدة، وبوجود مضاف تبثهُ فيها الذات الفردية للفنان المبدع، التي تتأمل وتعقل وتبتكر . وذلك بالاهتمام بداخلية الشيء العميقة، حيث أصبح (الموضوع) محض وسيلة لإبداع علاقات شكلية تجريدية. إنه فعل (الإبداع) الذي أصبحت فيه التجربة واعية بذاتها، بالتحرر من النموذج وصولاً إلى البناء الرمزي الخالص . بالاهتمام (بإبداع) فكرة عقلية تتكفل بتفسير (البلبلة) التي تكمن وراء المظاهر الواقعية السطحية للظواهر الاجتماعية. وفي ذلك أكثر الأفكار (معقولية) في تفسير تحولات الأشكال في هذه الفترة العظيمة من تاريخ الفن التشكيلي العراقي، من الواقعية إلى التجريد .

 

أ. د. زهير صاحب

أستاذ تاريخ الفن - كلية الفنون الجميلة – بغداد