صحيفة المثقف

مؤشّرُ الرؤية في ديوان "ماءٌ لهذا القَلَق الرمليّ" للشاعر محمد الأمين سعيدي

774-khaiti"محمد الأمين سعيدي" مبدعٌ واعٍ بالكتابة كإبداع يحمل أسراره الكامنة، في رؤى تستشرق الآتي وتطمح إلى وجود جميل ومؤسس لكيانه كشاعر يخطو خطواتٍ فاعلة وجادّة، ستترك أثرها الأجمل بمشيئة الله، فقد استطاع أن يعتلي شرفة البهاء ومقام الشعر العطاء بجدّه ومثابرته ليسجّل اسمه ضمن قائمة احتوت كلَّ ما هو بهيّ مشرق معطاء، تخلّده حركةٌ إبداعيّةٌ مميّزةٌ تستحقُّ التنويه.

تحت مركّب اسمي (ماء لهذا القلق الرّمليّ) تنطوي قصائد الشاعر المبدع "محمد الأمين سعيدي " ، كعتبة نصيّة (عنوان) تختزلُ القولَ والمقامَ في الآن، في تجلٍ أو خفاءٍ لا يُدرك إلاّ بنسبةٍ تأويليّةٍ تُحدِّدُها السياقاتُ المختلفةُ، وفعل القراءة المتباينة التي تختلف من قارىء إلى آخر، حيث يُستهلُّ البوحُ بتاينٍ دلاليٍّ بين لفظتي : أرى/ لاأرى .

774-khaiti« أرى، لا أرى، أمشي على ظهر غيمة الأماني، وأخشى أن يعذّبني الغدُ، كأنّي سماء لا حدود لجرحها، أو أني جراحٌ كالسماوات تصعدُ..».1

كأنّه التيهُ أو الوجودُ الذي لا تستبين ملامحه، فتغدو الذاتُ الشاعرةُ موزّعةً بين حاسة (الرؤية) قد تُؤدّي وظيفتها أو تعطّلها، لأنَّ هذه الذات ما عادت تميّز بين المدرك و اللامدرك، وفي ذلك حال تتأرجحُ بين الحقيقة الثابتة المتجلّية (أرى)، وبين انزياح هذه الحقيقة نحو المقابــــــل/الضـــــــد (لا أرى) .

فبين الإثبات والنفيِّ ثمَّة تيهٌ وغربةٌ لا تدركه الذاتُ التي تبحث عن سرِّ وجودها .

* اتخذت القصائدُ لها توصيفًا خاصًا ، كعناوين فرعيّة أو عناوين تشرحها وتؤّكد على تفسيرها أكثر منها:

- مقامُ بكاء لغياب الراقصة: أو جنوب المتاهة.

- أولد فيها يا شهرزاد البلاغة: أو: واحة السرد.

- أول الموت عطشا أو: ما أضمرته عيون السندباد.

- احتمالات الفراشة: أوّل النار.

فهذه العناوين التي اختارها الشاعر "محمد الأمين سعيدي " هي تركيب من ملفوظين إلى خمسة ملفوظات، وكأنَّ القصيدةَ الواحدة لا تكتفي بعنوان خاص لها، بل تتجاوزه للدلالة وللوضوح أكثر، في خيارٍ بين عنوانين أيُّهما أبلغ اختزالاً للمتن ولقبض المعاني بصوّرها المتضاربة.

 

تواتر الفعل "أرى"

* من أفعال القلوب/اليقين ، استحوذ الفعلُ المتعد (أرى) معجمًا خاصًا تواتر في القصائدِ كلِّها، فالرؤيــــــةُ كحاسَّةٍ مدركةٍ والرؤيـــا كتجلٍ للامدرك الذي لا يصل إليه سوى متبصّر حــــــاد، « وظيفتها هي إبراز الاستبصار البعدي الذي يعيد استكشاف تأويلات الوجود »2 ، ومنح الفعل حركيّته بل قيمته الاستشراقيّة في التطلّع نحو آفــــاق متباينـــة تنفتح عليها الذاتُ الشاعـــــرةُ بحثًا عن قيم وجوديـة تناشدها، وعن حقائقَ تنير بصرها أو بصيرتها أكثر.

يقول الشاعر "محمد الأمين سعيدي":

...

« أقول له: ماذا ترى من مجاهلٍ؟

فتُشرق فيه دهشةٌ وسرورُ

يقول: أرى ما ليس للخلق باديا

وما حالُهم يوما إليه يصيرُ

أرى كلَّ سرّ كنتُ أجهل كُنهَهُ

يُهتِّكُ أستارَ الجوى ويطيرُ

أرى ألفَ ذكرى تحملُ الريحُ ذكرَها

وتذرو ثراها تارةً وتخورُ

أرى سفنَ الأشواق تُثقلُ سيرها

حماقةُ أمواج الهوى وبحورُ

أرى الحرفَ مصلوباً على لوح ثورتي

فتُكشَفُ لي بعدَ العذاب أمورُ

...»3.

فالرؤية / رؤيا ، استطلاعٌ لما هو غيرُ متجلٍّ ، واستشراقٌ للعالق بين المجاهل والخبايا التي تجعل الشاعر في مقام آخر أو" مقام الرؤيا " كما يسميه، متسائلا ومدركا لحقيقة تلوح في أفق البصيرة واليقين ،حيث « تتعدَّى الرؤية المدرك البصري إلى الحدسي والخيالي والنبوئي »4

* تنبني قصائد الشاعر " محمد الأمين سعيدي " على محوري التركيب والاستبدال، وقد شكَّل التقابل عبر الملفوظات حضورا لافتاً ( أرى/لا أرى - تنأى/تبعد- ليلى العمى/نهار البصيرة، الشمس تشرق من جهات مغاربي،...)، لتنقل حال اللاثبات واللاتوازي التي تجعل الذات بين خطَّين منفصلين: الحضور/الغياب، قد يلتقيان عند نقطة واحدة هي اللايقين والخيبة في الأشياء كلّها.

فتمتدُ نبرةُ الحزن واللاتفاؤل بين القصائد كاشفة لنفسية قلقة مدركة مسبقا ضربًا معيَّنا لا غير لما سيواجه الذات (الرائي) حيث تصبح الرؤية منغلقة على الاحتمالات كلّها، ومنفتحة إلاَّ على احتمال واحد هو التيه .

 

خيرة بغاديد

الجزائر

......................

هامش

01* محمد الأمين سعيدي، ماء لهذا القلق الرمليّ، دار فيسيرا،2011،ص11

02* عبد العزيز بومسهولي، الشعر والتأويل،أفريقيا الشرق، لبنان،1998

03* الديوان، ص41

04*رشيد يحياوي، الشعر العربي الحديث، دراسة في المنجز النصي، أفريقيا الشرق، لبنان،1998،ص130

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم