صحيفة المثقف

أرجوان الشعر .. قراءة في قصيدة شذرات للشاعرة بشرى البستاني

iklas mahmodabdulahشذرات

لا تخفْ عليَّ المطرْ

معي مظلةٌ دائمة

حبكْ

**

علمْتَني كيف أمسكُ أرجوانَ السماء بساعديكْ

ثم نركتني للريح

وحدي

**

من شرفة عمان العالية

أسمعُ نشيجَ رافديكَ

وأنينَ الخيولْ

**

يسألون عن سرِّ عبيري

هم لا يعرفون كيف تطلقُ أسرارَكَ في روحي

فأفوحْ

**

من بهجة البدءِ

حتى خطيئة الانتظار

يتناثرُ صوتكَ نجيماتِ ماسٍ على كتفيْ

**

جذورُ مائكَ في قلبي

أفيضُ به على العطاشى

ووحدي المقتولةُ بالعطش

*

يقوم نص شذرات للشاعرة بشرى البستاني على ومضات ست متسلسلة متتابعة تؤسس شذرات خاطفة مقتصدة لغويا ، مركزة دلاليا، جاءت كل منها بأسطر ثلاث، وكأن هذا العدد نوع من القسم الثلاثي لبقاء الصلة بين أنا وأنت على مدى الحياة. إنه اعتراف ضمني بالحب المبطن بالوجع، أو البعد المتضمن الوعد من ورود هذا العدد في الآية الكريمة (آيتك الا تكلم الناس ثلاث ليال سويا/ مريم ،الآية 10) التي تحمل الوعد والعلامة إشارة حاثة على الوعد الممنوح والمتحقق في المستقبل .وجاءت دلالة العدد ( ثلاث) في القرآن على الزمن( اليوم والشهر) والذات ايضا.وبهذا فالتسلسل العددي في القصيدة بـ (ثلاث) دلالة على تسلسل وتواصل المحن في الزمن ومواجهة الذات لها .

إن هذه الشذرات الثلاثية المتسلسلة تعطينا فكرة ثلاثية الأبعاد قائمة على توزيع الأدوار بين ( الأنت والأنا والخطر) ودلالتهم المتجذرة في النص. فعناصر الأنت من مظلة الحب/ والتعلم/ الأسرار/ الصوت) وكلها تعطي الذات الكثير من الفاعلية والقوة في المواجهة. وعناصر الخطر تتمثل بثلاث (المطر/ الريح/ العطش)، أما الذات /الأنا فهي واقفة بين الأثنين تواجه الخطر ببعض معطيات الأنت التي تشكل عامل قوة لها . فتشكل الذات عالمها من قوة حضور الفعل الذي تمارسه بإرادة وقوة:(أمسك /أسمع/ أفوح/ أفيض ) وهي أفعال تكرس القدرة والاحساس والعطاء متوزعة على الفعلية والذاتية الجسدية ،وبهذا فهي تضفي حضورا متنوعا يلغي مرارة البعد وشدة الشوق.

كما يشكل الأنت عالمه من مفردات تشير إليه في ضمير المخاطب ( لاتخف/ ساعديك/ رافديك /اسرارك/ صوتك/ جذور مائك) المتنوعة كذلك مابين الفعلي والجسدي والطبيعي .

فضلا عن مفردات مشتركة بينهما (علمتني/ تركتني ) تستقر بين الانا والانت، إذ يدعها ما بين شد وجذب بين فاعليتين تؤسس عالمها بهما بين الاتصال والانفصال وهكذا يكون الحب عارما بالتناقضات .

وعلى الرغم من الهدوء والحس الخافت الذي يغطي النص، وكأنه الأنين الذي يصدر من روح مشتاقة لكن بأسى إلا ان النص يصدمنا بالقوة التي يطالعنا بها مذ أول كلمة فيه (لا تخف عليّ المطر) هذا العنفوان والتصدي للخطروعدم الرضوخ له ترك فسحة في داخلها للتعبير بقوة عن قدراتها المكبوتة وجرأتها على المجابهة ، إذ تمتلك سلاحا فعالا يواجه الخطر المتمثل بـمفردة (المطر) التي لم ترد في القرآن الكريم الا تعبيرا عن شر وعذاب . أما جملة (معي مظلة دائمة.. حبك )، فقد صورت هذا الحب الدائم بمظلة تقيها المطر ويا لجمال المنظر، إذ ينفتح حبه كمظلة تظلّها لتبعد عنها الأذى والضرر، وإن كان متواترا بنوعية هطوله . وبهذا الاستهلال تضعنا على عتبة قوتها بالحب في مواجهة المخاطر.

يسرد النص القضية الاساسية الناسجة جذورها مذ الأزل بقصة ( أنا وأنت) كحوار داخلي يظهر بين الأنا والآخر راسما تفاصيل العلاقة المترابطة بينهما .

وينهض فعل الاخر بأقوى بنية على وجه الأرض وهي التعلم (علمتني) التي تندرج تحت اسباب القوة وسلطتها المعرفية التي تمتلكها، ليمتد فعله المساعد والمساند لها عونا دائما للعلو والرقي في طلب التثبيت (أمسك أرجوان السماء بساعديك/ ثم تركتني للريح ..وحدي) ثم تحدث المفارقة وسط هذا الجو ،فيظهر الخطر المتمثل بـ(الريح) من عنصر عاصف طبيعي قد يغير اتجاه الذات مع الانفراد بمواجهته على وفق عامل الترك والابتعاد (تركتني)، فيالها من كلمة قاسية تستكملها لفظة (وحدي) في اشاعة جو الخذلان والخيبة ،وتحضر وضعية هذه الصورة في العقل عن طريق تخيل هذا الموقف في مواجهة الخطر المحدق بالذات .

يأتي في المقطع الآخر تحديد مكان الذات (من شرفة عمان العالية)، وهذا البعد يؤكد الحنين والترقب المستمر بالنظر للمكان الاصل/ أرض الرافدين . من هنا يظهر بعد الذات عن المكان رغما عنها نتيجة عملية الإرغام والترك السابقة، لتستكمل هذه الصورة البصرية أخرى سمعية تتواشج معها في اضفاء جوٍّ من الحنين والاسى (أسمع نشيج رافديك)، فالسمع يعين النظر في استحضار المكان وما يجري فيه من تخريب ومعاناة ، وإن كانت تسمع نشيج الرافدين فهي تسمع بكاء الحياة هناك من استمرار الوجع والاضطهاد في بلدها، لذا وعلى الرغم من قصر هذا المقطع الشذري بثلاثة اسطر شعرية لكنها تمزج عمليتي (النظر/ السمع)،ومكانين (هنا/هناك) مع تحديد هويتهما بـ( شرفة عمان العالية/ نشيج رافديك) .

تأتي الصورة الأخرى الشمية لتستكمل هذا الجمع التراسلي (سر عبيري)، وتلامس عمق الروح بثقل الاسرار التي تبوح بها الذات، ومن هنا تكتسب قيمة عليا من حفاظها على اسراره وإضمارها في الداخل لتفوح بها عبيرا نحو الخارج.

يتعاون الصوت مع الاسرار (صوتك بنجمات ماس) بقوة الحضور، وبؤرة التواصل المسموع وإن من بعيد، ثم عنصر الحياة المتمثل بالماء (جذور مائك في قلبي) وبهذا صورت شريان القلب بجذور الماء، فهو الذي يهبها الحياة كما يهب الاخرين .

يعيد النص مرارة تكرار الوحدة(وحدي) هذا الاحساس الذي يسيطر على دواخل الذات الشاعرة ليجعلها تقبع تحت وطأة الوجع، ويتظافر مع ذلك قولها(المقتولة بالعطش) فعل القتل بالعطش اشارة إلى شدة الحنين والشوق لرؤية الاخر كما هي اشارة لمن ماتوا عطشا فداء مبادئهم وقيمهم ونبل وفائهم .

وكما كان للذات سلاحها في المواجهة ، فإن الشاعرة تمتلك سلاحا خاصا تتسلل به إلينا لتصيب عمق أرواحنا بوخزة الحنين عن طريق نبرة الهدوء والنفس المداعب للسمة الانسانية فينا . إنه سلاح من أسلحة الشاعرة بشرى البستاني في التسلل إلى الاعماق .

 

د. إخلاص محمود عبدالله

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم