الرئيسية

ابو الهول: رمز الحضارة المصرية

zouher sahebيتوسط المسافة بين أهرام الجيزة والعاصمة (منفس) تمثال أبو الهول، الذي يُعد أكبر تمثال في تاريخ فن النحت، إذ بَلغَ طوله (187 قدماً)، وارتفاع وجهه (65 قدماً) وعرضه (14 قدماً)، وقد نُحتَ من كتلة حجرية واحدة. وهو مثابة تركيب سريالي يتركب من (بورتريت) الملك (خوفو) أو (خفرع)، أو لنقل (بورتريت) ملك يؤدي دور الرمز للفكر غير الـمُحدد بحدود، على وفق اعتقادات مجتمع الدولة المصرية القديمة. الذي رُّكبَ بدوره الى شكل أسد هاجع، والذي استعاره الفنان المبدع من بين مفردات وجوده الطبيعي، وحَمّله خاصية التعبير الرمزي عن القوة الهاجعة المستقرة عند مكانها الأول (شكل 41).

فإذا فهمنا تركيب شكل أبي الهول: على أنه منظومة من العلاقات متبادلة التفاعل، يمكننا قراءة دلالة الشكل المتحركة في الفكر الاجتماعي، على أنه يمثل (القوة الأسطورية الثابتة) التي عُهد إليها مُهمة حراسة أهرام الجيزة، من أي متطفل خارجي قد تسوّل له نفسه الإساءة إليها بطريقة أو بطريقة أخرى. وذلك هو التفسير المنطقي لقراءة الدلالة الرمزية لذلك الكائن الأسطوري، الذي شَغِلَ عقول الناس منذ اكتشافه وإلى الآن. فقد جَسّدَ الفنان مخطط تركيبه الذي ارتسم في عقله، حين أحال فكرته إلى جبل، لإيجاد نوع من التوازن بين إحساسه الداخلي: (الذات المنفعلة)، وعوالم التجربة الخارجية: (قراءة الموجودات). إذ كانت مهمة ذات الشكل المركب العجيب، إدراك تلك المعادلة الفكرية الصعبة، بعّده نوعاً من التشفير عن الخاصية الرمزية للفكر الحضاري المصري في عهد السلالة الرابعة.

602-zuher

ويُشاهد الزائر الآن لنصب أبو الهول، صفيحة من الحجر بين كفيه الأماميين، محفورة بكتابة بالخط الهيروغليفي، تعرض حُلماً طريفاً رآه الملك (طوطمس) الرابع من السلالة الثامنة عشرة. فيذكر النص أن الملك لمّا كان أميراً قبل اعتلائهِ العرش، كان في رحلة صيد، فَمرَّ عند أبي الهول واستراح في ظله عند الظهيرة. فظهرَ له أبي الهول في الحلم، ووعدهُ بإعطائه تاجي مصر ، إذا هو أزاح عنه الرمال التي كانت تغطي جسمه. ومما يؤسف له أن نهاية النص الكتابي مفقودة. ولنا أن نتوقع أن الملك قد حَققَ رغبة (أبو الهول)، الذي جازى بدوره الأمير بإعطائه تاجي مصر .

انبنى الخطاب الحضاري لنصب (أبي الهول)، على مرتكزين: أحدهما يرتبط بوظيفته بوصفه حارساً أسطورياً لمومياءات الجيزة الملكية ، وقد خَفَّ بريق تلك المقولة السحرية في تداول الفكر المعاصر. الذي رأى في شكل أبي الهول على أنه تركيب شكلي، اجتاز حدوده التاريخية ، وبدأ يعمل بعدّه الجذر التاريخي للاتجاه السريالي في الفن المعاصر. تلك آفاق انطلقت لتأكيد الوجود الإنساني، بوساطة الإنسان نفسه، بتأكيد حقه في إيجاد حقيقة أخرى، قائمة على مقاييس جمالية ومعايير تقويم جديدة.

إنها (رؤية) جُلّ اهتمامها كامن، بإقامة سلسلة شكلانية للأشكال، تُتاح فيها الفرصة لأبي الهول، لتأكيد ذاته، وتفعيل رؤيته خارج أطره التاريخية، بدلاً من صناعة التاريخية له. فشكله المركب العجيب من صفتين، يُفكر في عقولنا دوماً، عوضاً عن تفكيرنا به. إنه الطابع الإنساني الذي جعل من الإبداعات الكبيرة في تاريخ الفن، أنشودة يُرددها التاريخ.

 

أ. د. زهير صاحب

أستاذ تاريخ الفن - كلية الفنون الجميلة – بغداد