صحيفة المثقف

الــذات والــظـل في (لو لم تكن) للشاعرة لهيب عبدالخالق

iklas mahmodabdulahلو لم تكنْ

لو لم تكنْ في غيمتي صخباً

سيكبرُ دون نافذةٍ،

كبوتُ وفي شفاهي رقصةٌ

كالزوبعةْ .

لكنني عطشٌ طواهُ الغمرُ

في كفيكَ صيفاً ،

في هدير ِالبحر ِ صوتاً،

تشتهيه غديرَ ماءٍ غاطشٍ

لن نسمعهْ .

لو لم تكنْ وجهاً

توارى في ثيابِ الريح ِ

واعتنق َ الرمادَ،

وثبتُ مثلَ شرارةٍ

وأبَحتُ لليلِ امرأة .

لكنني كأسٌ بلا شفتين ِ،

خوفٌ مدغمٌ بالظلّ ِ،

ساكنني السرابُ ،

عبَرتُ أبعاد المرايا ،

ضعتُ في الألوان ِ

مثلَ براءةٍ

متهرئةْ ...

للشاعرة ( لهيب عبدالخالق) صوت خاص يبوح بالوجع، وترتكز على جلب المعنى واقتنائه بقوة اللفظ والتعبير والتفافية تتقنها، قد يسميها البعض بالضبابية واسميها بضبابية الاتقان، وهذا مايميزها عن غيرها من صوت نابض بحال الذات الذي ينعكس على حال الكل والجماعة بأسرها .

يقوم النص على اللعب بين حرفين (لو / لكن)، فإذا كان الآخر ضمن دائرة الـ (لو)، فالذات ضمن (لكن). هكذا تعرض الشاعرة فكرتها ما بين الأثنين في فضاء النص .

يستعيد النص طاقته التعبيرية معتمدا على التشبيهات، ليستقر على تقرير الحقيقة وحال الذات بــ (لكنني عطش...)، فيسير بين خطوتين الأولى تقرر حال الآخر وانبنائه في مساحة (لو) الامتناعية الافتراضية الحضور .

(لو لم تكن )         1-   في غيمتي صخباً

2-   وجها توارى في ثياب الريح

فيتكون الآخر من أمرين (صخبا/ وجها) ودلالتهما التي تركز على اثبات الهوية المعرفية عبر الصوت والوجه. إذ يتشكل الآخر بهيئة الصوت وليس بأي صوت إنما هو صخب مفعم بالضجة والإثارة، و(وجها) بهوية معرفية أخرى أكثر تحديدا وادراكا ووضوحا وتمييزا . ومن هنا نعرف أن الذات على معرفة به ما دامت تدرك ملامحه وتعرفها .

أما هي -الذات- فتتكون على وفق استدراك يثبت حضوره بـ (لكنني) التي تهيئ عالما انعطافيا عن الزمن، إذ يكرس وجع الذات وعطشها الدائم إلى معنى يحملها مما هي فيه من الجدب والعوز . فتتركز (لكنني) بأمرين :

لكنني             1- عطش طواه الغمر

2- كأس بلا شفتين

وينبثق عنهما مسارب جديدة من السلبية القابعة في داخلها بـ (خوف/ سراب ... ).

وتدعم نهاية النص بهذا المعنى ايضا بقولها: (عبرت أبعاد المرايا/ ضعت في الألوان ). فعملية العبور تتضمن السير بإتجاهين إما الصواب أو الخطأ، وهنا يتضمن العبور دلالة أخرى فيتم في ( أبعاد المرايا) من دلالة تجثم على المعنى السلبي بدليل حالة الضياع التي جاءت بعدها. فحتى العبور الذي يزخر بمعنى الانتقال والتحول كان ضبابيا وانعكاسيا ليس إلا ؛ لأنه عبور لأبعاد المرايا التي تعكس مرارة الذات وانعطافاتها فتعترف بضياعها نتيجة هذا كله .

تلتزم الذات بحضور واحد للجسد بالشفاه (شفاهي / بلا شفتين)، وهذا الالتزام يعزز الوحدة في التشكل مقابل الحضور الثنائي لجسد الآخر بـ (كفيك / وجها)، واذا كانت الشفاه رمز الحياة والغواية والبوح الكلامي الذي يسكن الذات ،فإن الكف للآخر رمز العطاء والامان والاتصال للسلام ،والوجه رمز المعرفة والهوية . لذا فالشاعرة تكرس الحياة والبوح للذات مقابل الامان والمعرفة للآخر، هذه التبادلية بين الاثنين يكمل احدهما الآخر عبر تواصل الحياة .

إن حضور الجسد في النص يعزز حضور الوجود الفعلي والتواصل الذي يكسب النص بعدا عميقا يسكنه الوجع الذي يكون في الجسد لينفذ الى مصاف الروح ، لذا فهو قرين الاثنين ينث عليهما من رذاذه فيخبت تارة هنا ويظهر هناك .

وتبقى الذات على وجل وخيفة مستمرة يلاحقها ظل طلل تلمحه، ربما يكون هو نفسها في قولها :

(لكنني كأسٌ بلا شفتين ِ،

خوفٌ مدغمٌ بالظلّ ِ،

ساكنني السرابُ ،)

فيجتمع الخوف والظل معا في انجاز البعد المتخيل الذي يشكل الحصيلة النهائية لفكرها الذي يشوبه الخداع عبر سراب يسكنها .

إن تشكل الظل هنا قد ينطوي على أمرين، إما أن يكون ظلا للذات ومخاوفها الداخلية، أو ظلا للآخر يتلبس الذات لتعاني وجعا اضافيا لا فكاك منه .

يلتصق الظل بالذات، فهو ينطلق من داخلها بنوازع مخاوفها إلى الخارج ، لتعلن عنه عبر بوحها،عندها يأخذ حيزا أكبر من فرض سيطرته على الآخرين بانتقاله للخارج .

إن هذا التشكل للذات الذي تحيلنا عليه ( لكنني كأسٌ بلا شفتين/ خوفٌ مدغمٌ بالظلّ) يثبت خلجاتها، وكأن هذا الجزء الذي يكون فيها من ظل قد تحول إلى كل واحتواها، فأصبحت الذات تساوي الخوف والظل، أو هي هو لا فرق مادام السراب يسكنها. من هنا نعرف مدى مرارة الذات وتخبطها في الحياة، وما هذا الخوف والظل الذي تشعر به إلا نتيجة الآخر بقولها: (لو لم تكنْ وجهاً / توارى في ثيابِ الريح ِ) بسبب تواريه في رموز الشر، فلا مناص بعد ذلك من الضياع الذي تعيشه في دوامة الخوف والاختباء .

 

د. إخلاص محمود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم