صحيفة المثقف

موازنة النص الدلالية في قصيدة بشرى البستاني

iklas mahmodabdulahوردة الصباح / بشرى البستاني

(يا أنت، يا بعيدُ يا أقربَ من وريدي

خذْ بيدي، خذ بيدي

ضيّعني الجناةُ

السادةُ الحفاةُ

جُنديْ على مسالك العبورْ

راياتُهم سجينةٌ وكأسُهم في محنةٍ

ودربُهم مهجورْ

أعرفُ أنّ النسرَ تائهٌ جريحْ

وأنه يبحثُ في الديجورْ

عن شارةٍ أو غيمةٍ

يبحثُ عن مفتاحْ

لوردةِ الصباحْ

ياوطني،لا أحدٌ يعرفُ أين تذهبُ النسورْ

عند هياجِ الريحْ)

   إن أول حرف تعلنه الشاعرة في نصها (يا) أداة النداء للبعيد الموجهة للمخاطب(أنت)، لتستكمل حضورها الشعوري المخضب بالوجع بتكرارها(يا بعيد يا أقرب)، وبهذا التكرار العددي الثلاثي يصل الوجع حده والاشتياق لوعته عبر نداء الاخر المتمثل بـ(أنت /بعيد/ أقرب)،فإن كان بعيدا فإن حضوره روحي تحمله في داخلها،لعله يمتلك في النداء صفة القرب والملامسة مهما ابتعد فهنيئا لمن يسكن في القلب ويكون أقرب من حبل الوريد.

تضع الذات وسيلة اتصال عن طريق هذا النداء الذي يشكل استنطاقا شعوريا لأزمة حادة بالحنين، ولوعة البعد وجلبا واستحضارا له،وصرخة وجودية تدوي بعمقها لاستحضار التواصل ودعم منطقة الوجود للذات وكينونتها . وتدعم هذا بالفعل (خذ بيدي) كوسيلة للاتصال الجسدي والشعوري عبر الفعل( خذ) والاقتران الجسدي (يدي)، وإن لم يكن التقاء على وجه الحقيقة فعن طريق الحضور بالمخيلة لما تحمله هذه الجملة من دلالة ضمنية على ذلك .

تبدأ الذات بشرح قصة البعد هذه بالضياع الذي حفها(ضيعني الجناة /السادة الحفاة) معلنة السبب الرئيس فيما آل إليه الوضع، فتشتغل على التضادات في عملية شد وجذب للعناصر شداً للمتلقي إلى نوعية الإشارة الاتصالية التي تريدها، فضلا عن تحريك النص واضفاء روح أخرى أقلّ لوعة بدل انتكاسة روح الذات الشاعرة بالخيبات والمحن.

هذه التضادات حاضرة في( يابعيد ياأقرب/السادة الحفاة ) فلعبت الشاعرة على منطقة حساسة تتمثل بدلالة البعد والقرب وما تخلفه من تضادات بين البعد الحقيقي والقرب المعنوي، ودلالة الغنى والفقر الحقيقي والمعنوي، فهم حفاة فقر معنوي الى القيمة والخلق والفضيلة.

توازن الشاعرة بين الجندي المفرد والرايات الواردة بصيغة الجمع، وهي العلامات التي تدل على اختلاف وكثرة الفئات وتعددها. اما الدرب فهو مهجور ليقبعوا في المحنة لوحدهم، وإن هذا الجمع بين المفرد والجمع يعكس مدى الاشكالية والتناقض الذي يسكن القضية.

تأتي الموازنة الأخرى من استدعائها قوى حيوانية وطبيعية متمثلة برمزي (النسر والريح) للخير والشر، فرمز النسر للقيادة والحرية، إذ تعاني النسور من الخذلان نتيجة ما يستهدفها من جرح، كما ينظر إلى دلالة النسر بتوازن دلالي اخر يجمع الإيجاب والسلب من انه من الطيور الوضيعة لدى العرب، لأنه يتصف بصفات شتى أهمها الجبن، ويستخدم في الأدب الامريكي بدلالة تناقضية كذلك كونه رمزا للحرية والانطلاق والعلو والشموخ. (ويكيبيديا الموسوعة الحرة) . مع انه بات اخيرا يرد كرمز لصفات ايجابية كالشجاعة والصمود والسمو، وبهذا التناقض الذي يحمله تظهر الدلالة حاملة التوازن .

لكن مع هذا الجرح للروح الحرة، فإن البحث مستمر عن أمل بالخلاص عبر توازن اخر لـ(شارة وغيمة) للعلو والارتفاع والهداية والخير والعطاء. فعملية البحث المستمرة عن(شارة وغيمة ومفتاح) رموزاً للخلاص ايضا، وكأن الأمر مسدود ومقفل بإحكام، ولابد من مفتاح يوجه عملية الخلاص لكنه محصور بـ(وردة الصباح)، فما وجه الجمع بين اشياء متناقضة لا تمت بصلة للأخرى (المفتاح وردة الصباح)، لأن الوردة رمز الرقة والحياة والعبير جاءت مقرونة بالصباح رمز النور والاشراق، وبالجمع بين الأثنين تظهر الصورة بالحياة المشرقة أو بحياة الزمن المشرق.

ثم تأتي النهاية حاملة حوارا يتمخض عن فعل عفوي يسكنها لسؤال يؤرقها عند نهاية المطاف بالخيبة:( أين تذهب النسور/عند هياج الريح ) معلقة هذا بأن لا أحد يعرف مكانها، إذ تعبر الخاتمة عن شمولية الحيرة وغياب مفتاح المعضلة .

يضع بحر الرجز انتقالاته الوزنية السريعة كي يعطي الأمر سرعة التحرك والغلبة لعجلة الزمن في دورانها مع بقاء الحال في التيه والبحث المستمر والسعي في ايجاد حل، أو اجابة لسؤال غير واضحة اجابته .

إن نهاية الاسطر بحرف الروي يسجلها حرف( الراء و الحاء) بمعدل تكرار متساو متوازن لأربع مرات لكل منهما. الراء الذي من صفاته التكرار فيتواشج مع الدلالة في استمرار عملية البحث، والحاء الذي يسجل حس الألم واستوطانه بالروح.

فظهرت كلمات الروي بالراء :(العبور/ مهجور/ الديجور/ النسور)، وكلمات الروي بالحاء:(جريح/ مفتاح/ الصباح/ الريح) في توازن ايضا بينهما، فالراء يختزن كلمات الهجر والظلام، لكن الأمر يبقى معلقا بين أمرين متوازنين(العبور/النسور)، إذ تعتمد عملية الخلاص على حضورهما معا، وهي توازن بين قيمتين كلتاهما ايجابية وعلى الرغم من ان الايجابية حاضرة لكنها تقبع في تيهها ومع هذا لا فقدان للأمل نتيجة عملية البحث المتواصلة، إذ لابد أن يعقبها مخرج .

كما نجد التوازن بين كلمات حرف (الحاء)، إذ تضع وتحصر رمز الخلاص المتمثل بـ(مفتاح/ الصباح) بين قيدين(جريح/ الريح) يحصران الأمل ويحاربانه .

مع ملاحظة حركات الحروف الاخيرة التي تسير على وفق خط الدلالة، فتتجه نحو حركة الكسرة في (محنةٍ /غيمةٍ) التي تختزن الجر، وهي اثقل الحركات تستبطن ثقل المحنة ووجعها،والسكون في (عبورْ/ ديجورْ/ نسورْ/ مفتاحْ/ صباحْ ) تشير إلى سكون الحال .

 

واخيرا .........

جميل ما ينسجه النص ليجمع التضادات في اللفظ والمعنی والرمز ومرجعياته مع ايقاع سريع واشيا بسرعة الاحداث وترامي الذات وسط عذاباتها وموجة التيه للكل فبات حريا البحث عن شارة كرمز للخلاص، فهو ليس أي خلاص عابر، بل هو خلاص ديني يتمثل بالرجوع إلی تعاليم الله الحقة التي هي اساس الكون ونظامه.

سلمت يدك استاذتي الدكتورة بشرى البستاني، وسلم حرفك المعبق بالحس الذي يعرف كيف يدخل الروح فينفضها ويعانق وجعها .

 

د. إخلاص محمود عبدالله

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم