الرئيسية

الحداثة في متحف الفنون السومرية 3200 ق.م

zouher sahebفي مجتمع عصر فجر الحضارة العراقية، الذي عجزت فيه الوسائل عن إجابة الأهداف. كان لا بُد للإنسانية من أن تؤسس عوالمها الأسطورية الـمُتخيلة لإخراس قلقها الوجودي، فالوهم الأسطوري هو الذي أكسب القوى الوهمية الكامنة في الظواهر الطبيعية هيمنتها اللامحدودة للتحكم في سعادة الإنسان أو تعاسته، وأشّر قدسية الأمكنة: (المعابد)، واستدعى تلك الأرواح من تخفيها الى حضورها الأرضي حين استدعتها طقوس العبادة. ففي معبد العين (EyeTemple) في مدينة (براك Brak) بالقرب من (البوكمال): تم اكتشاف عشرات التماثيل الرخامية النسوية صغيرة الحجوم، وهي على شكل كتل هندسية يبرز منها رأس واحد أو رأسان أو ثلاثة رؤوس بشرية، وأكبرها حجماً ارتفاعه عشرة سنتمترات. تُمثل نماذج من التماثيل النذرية أو البدائل الرمزية الدائمة الحضور في محراب المعبد المقدس، الذي احتل مركزه الشكل الرمزي المعبود، وهو على شكل تجريدي - هندسي، يُتوجّه عينان كبيرتا الحجم. والذي يُعدّ من أجمل الأشكال الرمزية في تاريخ النحت على أرض الرافدين.

عاودت أشكال الأزهار البرية الملونة، التي ازدانت بها واجهة المعبد، والتي ترمز إلى فكرة الخصب في الوجود الطبيعي. عاودت الظهور مرة أخرى على جدار غرفة (قدس الأقداس) Cella، خلف الشكل الرمزي المقدس، الأمر الذي جعل دلالته مرتبطة بفكرة الخصب في الوجود المعيش. لذلك يمكننا بسهولة فك المغاليق الدلالية لتلك المجموعة الكبيرة من التماثيل النذرية، التي تؤكد رجاءها: بفعل الطقس والحضور، نيلها المقبل قبل حدوثه، وذلك في تفعيل الولادات الناجحة ونيل الحصاد الوفير. إنه الجدل بين إرهاصات انبعثت من الذات، وبين ملابسات الحياة المعيشة الـمُهددة. فمثل تلك (النذور) ترمي في آن معاً، إلى عرض ذواتها في خصوصياتها، وإلى (الإبلاغ) عن مدلول شامل، ليس هو الـمُتمثل وحدهُ في تلك التماثيل، بل كل ما يرتبط به من مدلولات في إشكالات الفكر الاجتماعي. إنها فعلاً تقول ما لا يمكن قوله، فهي أشكال أسطورية في مادتها وفي بلاغاتها الروحية أيضاً.

 603zuhar

فمظاهر الخيارات الواعية للفنان في التبسيط والاختزال والتجريد أيضاً. هي السمة المهمة التي تميز تلك الأشكال التجريدية الرمزية، والتي تقوم على تقشير أغلفة الأشكال أحدها بعد الآخر، وصولاً إلى اللُب الذي يمثل الجوهر، وتلك مظاهر أسلوب تستند إلى الوعي الاجتماعي الذي يفهم ما يتخفّى وراء تلك التمثلات من دلالات روحية .

إذ غيّب الفنان أسماءها بفعل طاقة اللاتعيين التي تُميز مظاهرها، فقد اختزلت أشكالها الى كتلة مستطيلة الشكل تمثل الجذع ، ويبرز منها شكل مخروط أو كرة تمثل الرأس. كما أن جميع نماذجها قد بُولغ بحجوم عيونها التي احتلت معظم مساحة الوجه. لذلك عُرفت باسم تماثيل العيون. فقد انتزع الفنانون المبدعون من شكل المرأة كل شيء، عدا الصورة التي يُفترض أن توقظها في الوعي، ليس لأنها امرأة، وإنما هي شكل امرأة. وكأن المشهد يمثل حالة أشبه بالتّمرد على المظاهر الخارجية، لاختراقها وتحطيمها من جديد، عوداً إلى اللُب، حيث الحرية وحدها في فضائها الرحب الذي لا تحدّهُ حدود مُصطنعة.

 

د. زهير صاحب

استاذ تاريخ الفن القديم – كلية الفنون الجميلة – جامعة بغداد