صحيفة المثقف

من الشعر إلى الواقع

mamdoh rizuk(كل ما أنا موقن به أن الأمر كان سيصبح مختلفاً لو تعاملنا بإصرار أعظم وأكثر شمولاً مع الشعر كتحريض خبيث أو كفرص كريمة للبحث في خزائن المخبوءات الشخصية للشعراء).

هل يمكننا قراءة عبارات أو مقاطع خالية تماماً أو مخففة من المجاز، وتتسم بالصراحة الكاملة أو بقدر كبير منها داخل النص الشعري كإشارات توثيقية لحياة الشاعر المنفصلة عن الشعر؟ .. كان (بيلي كولينز) يفكر في الموت أثناء كتابة هذه السطور من قصيدته (عنواني):

(أو يحلّ العوارض الخشبية في قطارات الملاهي،

بحيث لن يكترث بأمر كوخي البعيد،

الذي غالباً ما يجد الزوار صعوبة بالغة في الوصول إليه؟)

إن هذا يبدو بمثابة ترك أثر واقعي في الزمن عن شخص يُدعى (بيلي كولينز) يعيش في كوخ منعزل بطريقة ما، ويواجه الآخرون مشقة هائلة عند القدوم إليه .. لكن هذا الأثر الواقعي ليس مجرد تدوين اعتباطي لعنصر في الحياة بقدر ما هو دافع للتفكير في الموت بهذه الكيفية .. العلامة التي تم تثبيتها إذن هي دليل على أن (بيلي كولينز) تحديداً ـ وليس أحد آخر في هذه اللحظة ـ كان يعيش هنا في هذا الكوخ البعيد، الذي غالباً ما يجد الزوار صعوبة في الوصول إليه، وهو ما خلق لديه حافزاً للانشغال بمدى اقتراب الموت منه.

(دنيس ليفرتوف) تكتب مثلاً في قصيدتها (عيد الميلاد في 1944):

(بطاقات المعايدة الملونة فوق المدفئة لا تقرّب الأصدقاء،

ولا النار تحول دون تسلل الصقيع)

يمكننا تعيين (الوظيفة الجمالية) لـ (الموضوع القولي) بتعبير (جيرار جينيت) في مقاله (من النص إلى العمل) في كونه جزءً من سيرة ذاتية يستخدمها الشعر لحفر بصمة عن امرأة حقيقية ليلة عيد الميلاد سنة (1944) .. كأنها فقرة من يوميات تتجاوز الإحساس الفردي بالوحدة والبرد أثناء طقس احتفالي له قوة التقديس .. أصبحنا نعرف إذن أن (دنيس ليفرتوف) كانت تتأمل في ذلك الوقت بطاقات المعايدة الملونة فوق مدفئتها، وتشعر بالصقيع، مما سيقودها لاستدعاء الكثيرين الذين يضطجعون هذا العام في البرد، أو يموتون في البرد كما ستخبرنا بقية القصيدة.

لكن الواقع يرتفع فوق حتمية الحدوث الفعلي؛ فالأكاذيب تساهم في إنتاج الحقيقة بضرورة مساوية لما تنجزه التجارب المدركة .. الإشارات التوثيقية هي آثار تتخطى الصدق والادعاء، فتظهر كمقاطع من مذكرات خاصة لحياة أُعيد تشكيلها على نحو لا يُراد التشكيك في صوابه .. من هنا يبدو الوجود كأنه غنائم من الخبرات المتصارعة التي يتم تمريرها داخل الشعر ثم إعادتها إلى العالم كحضور مغاير، طبيعة مختلفة، لكنها مؤكدة باعتبارها احتمالات لها صفة البداهة، أي تستعير إلزام الظواهر والمشاهد الملموسة.

تخاطب (كيم أدونيزيو) حوض الأسماك قائلة:

(احكِ لي مرة أخرى قصة الزواج

وكيف كان يمكن أن نجعله رائعاً).

إن بوسعنا افتراض عدم وجود (حوض الأسماك) بشكل أساسي، أي أن (كيم أدونيزيو) لم تأت به، ولم تخرجه من العلبة كي تريه لزوجها الجديد، ولم يضعاه على رف الموقد مثلما جاء في القصيدة .. بمقدورنا تخيل أن (حوض الأسماك) كان شاهداً بالفعل على هذه الذكرى، ولكنه لم يعد حاضراً الآن أمام عيني (أدونيزيو) في تلك اللحظة التي تحاول فيها استنطاقه ليعيد حكي قصة الزواج، وكيف كان يمكن أن يكون رائعاً .. ربما كانت (كيم أدونيزيو) تمتلك تصورات لعوامل كان من الجائز أن تكون قادرة على إنجاح الزواج لو تحققت، ولكنها تدعي عدم حيازتها لهذه الشكوك، وبالتالي تجد نفسها مضطرة للجوء إلى حوض الأسماك الذي كان يراقب حياتها مع زوجها من موقعه على رف الموقد .. سواء كان خيالاً محضاً من البداية إلى النهاية، أو توقف حضوره الفعلي عند حدٍ زمني معين فإن حوض الأسماك أصبح هو الواقع المرتبط بهذه التجربة في عالم (أدونيزيو) .. سواء كانت هناك احتمالات عند (كيم أدونيزيو) عن كيفية جعل الزواج رائعاً، أو أن هذه الاحتمالات كانت غائبة كلياً فإن الألم الناجم عن الاحتياج إلى المعرفة المُنقذة أصبح هو الحقيقة الخاصة بتلك الخبرة التي عاشتها (أدونيزيو) مع زوجها .. إنه تخطي الشعر للاعتراف والإنكار، أي تحوّله إلى وجود أصلي لا يبقى مرهوناً بشروط الشعر (كسلطة نصية) بقدر ما يصير حياة شخصية للشاعر.

يكتب (تيودور رتكي) في قصيدته (الهاجس):

(سائراً في هذا الحقل

أتذكر أيام صيف آخر.

آه، كم من زمان!

كنت ملتصقاً بأبي،

أجاري خطواته الواسعة بأنصاف الخطوات).

هذا التدوين الشعري لما يبدو أنه مشهد من سيرة ذاتية مصاغ جمالياً لا يهدف إلى تثبيت واقع معدّل لدى القارىء، بل يتوجّه من الشاعر إلى ذاته بالدرجة الأولى للحصول على حياة أخرى بالمعنى الحرفي للحياة باعتبار أن هذا التدوين الشعري ممارسة بشرية يتعدى تأثيرها حدود مساحة الكتابة .. سلوك تتدخل نتائجه ـ ولو بصورة ضمنية ـ في خطوات الشاعر داخل العالم .. إننا هنا ـ بالالتفات لكلمات (رتكي) ـ لا نعاين الحقل وأيام الصيف والأب والخطوات الواسعة وأنصاف الخطوات كتفاصيل ذهنية خاضعة لعلاقة النص باستجاباتنا القرائية وحسب، وإنما نحصل على وعي بالحياة الحقيقية التي تكوّنها هذه التفاصيل عند (تيودور رتكي) خارج القصيدة .. نحصل على رؤية لحياته الجديدة القائمة على هذه الذكرى.

كيف يمكن للإشارات التوثيقية استغلال المجاز؟ .. لنقرأ هذا المقطع من قصيدة (سعادة) لـ (لويز غليك):

(أفتح عينيّ فأجدك تتأملني.

فوق حجرتنا

تنساب الشمس.

تقول: انظري إليّ،

وتقرّب وجهك مني

كأنه مرآة.

كم أنت هادىء.

بينما العجلة المشتعلة

تمر بسلاسة فوقنا).

كل شيء يبدو صريحاً هنا: الرجل والمرأة والحجرة والشمس وتقارب الوجهين .. أثر واقعي ناصع تماماً، لكنه يعرف أنه لا ينبغي الاكتفاء بذخيرته بل عليه استعمال (العجلة المشتعلة) التي تمر بسلاسة فوق الرجل والمرأة .. تأويل هذا المجاز هو ما سيعطي التدوين طاقته الاستفهامية؛ فإذا كانت المرأة التي تتحدث بضمير المتكلم هي (لويز غليك) نفسها، وإذا كان ما تصفه في هذه القصيدة هو جزء من حياتها؛ فمن هذا الرجل إذن؟، وأين كانت حجرتهما؟، ولماذا كانت ترى في لحظة تقارب وجهيهما عجلة مشتعلة تمر بسلاسة فوقهما؟ .. إنها العلامات التي تنقّب في الحياة لتأخذها من الحالة الشعرية إلى رسوخ اليوميات.

ما هي طبيعة الانفصال بين الشعر وحياة الشاعر التي يتم توثيقها من خلال العبارات الخالية تماماً أو المخففة من المجاز؟ .. ليس المقصود هنا التباعد والانقطاع بل على العكس ربما أتحدث عن الانفصال الذي يعطي الشعر امتداداً أعمق، وهيمنة أكثر تحرراً من الحواجز اللغوية .. ربما المقصود هو إخراج الشعر من حتميته النصية إلى حيث لا يمكن تأطيره .. ربما أتحدث عن إعادة تعريف الشعر كنفوذ يتقدم على الكتابة.

يتحدث (تيد كوزر) عن أبيه في قصيدة (عشية الميلاد) قائلاً:

(يجلس عمرانا إلى الطاولة

متشوقين للحديث.

عظامنا المشتركة قد تدثرت بثياب جديدة

وثمة وريد مشترك

ينبض على ظهور أيدينا.

وكم نشبه بعضنا

حين يبكي كلانا

في نهاية قصصه).

إذا كانت المجانية تحاول نزع الغرض المنطقي عن السرد داخل القصيدة، بحيث يظل الوصف محصناً     ضد الغاية أو النتيجة المحكومة بسياق ـ يمكن مراجعة مقال (ما هي قصيدة النثر؟) لـ (عبد القادر الجنابي) في هذا الشأن؛ فإنها في جانب أتصوره جوهرياً من عملها تستهدف تحويل (أشياء الشاعر) إلى إشارات واعدة بالقبض على حقائقها الدنيوية من غير التزام بقصد نهائي .. قد تكون المجانية على هذا النحو تتبع مسار للبصمات المحفورة من الحياة الشخصية للشاعر دون أن يكون لهذا المسار بداية ونهاية .. (لا رأس له ولا ذيل) بحسب (بودلير)، ولكنه مسار خارج الكتلة النصية .. من هو والد (تيد كوزر)؟، وما هي قصصه التي كان يبكي في نهايتها؟، وما هو المشترك بين هذه القصص وقصص ابنه (تيد كوزر) التي كان يبكي في نهايتها هو الآخر؟، وكيف يمكن أن تكون العظام المشتركة والثياب الجديدة والوريد المشترك براهين غامضة لهذا البكاء الذي لا نعرف شيئاً عن أسبابه؟ .. هكذا تتحوّل المجانية من الشعر إلى الواقع.

تكتب (دوريان لوكس) في قصيدتها (أشباح):

(أطفىء النور وأتحسس طريقي إلى غرفة النوم،

أدس أصابع رجلي الباردة بين الشراشف الزهرية،

ألقي صدري على ظهر رجل ينام بالبيجاما،

بزته معلقة بثبات في الخزانة،

حذاؤه المتعب مائل باتجاه السقف.

هذا الرجل يحبني لذكائي وجرأتي،

وللطريقة التي تبرز فيها ساقي من التنانير المهدّبة.

حين يطوي جسده على جسدي

أعرف أنه يشعر بوجود شخص آخر. ولا ألومه.

أحبه حتى وأنا أتذكر رجلاً تتفتح على صدري

براعم يديه الحمراء).

هل هناك حد مجهول تتوقف عنده الحياة التقليدية عن أن تكون أقوى وأكثر طغياناً من الكتابة؟ .. هل يمكننا مقاربة العالم كنص هائل تؤلّفه حصيلة لانهائية من النصوص؟ .. هل تمثل هذه المقاربة أسلوباً جمالياً وغير مبتذل لتغيير العالم؟ .. من يستطيع الجزم بأن (دوريان لوكس) لم تفكر ولو للحظة واحدة على الأقل في أمنية أن يفتش أحدُ ما في تاريخها مع هذا الرجل الذي ألقت صدرها على ظهره بعد أن دست أصابعها الباردة بين الشراشف الزهرية؟ .. هذا ما يجعل الشعر يغادر القصيدة ليتجوّل في المدن، ويتسلل إلى البيوت، ويتأمل الصور واللوحات، ويشاهد ويُنصت إلى التسجيلات المرئية والصوتية ويُقلّب في الأوراق والقصاصات .. إنه التخليد الذي يتجاوز فردية الشاعر إلى شخصيات وكيانات عالمه: كوخ (بيلي كولينز) .. مدفئة (دنيس ليفرتوف) .. زوج (كيم أدونيزيو) .. حقل (تيودور رتكي) .. حجرة (لويز غليك) .. والد (تيد كوزر) .. التلصص على الأحداث التي مرت بهذه الشخصيات والكيانات حيث يوجد الشعر ـ أيضاً ـ في مكان آخر.

 

ممدوح رزق

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم