الرئيسية

مشهد ختم ايتانا .. رائعة الحضارة العراقية

zouher sahebلقد كانت إشكالات الفكر التأملي عند الأكديين (2371-2230) ق.م، هي الانسان وطبيعتهِ وقيمهِ، فالانسان الأكدي لم ينجح بل لم يحاول في جعل نفسه موضوعاً علمياً لنفسهِ، فكانت حاجته المُلّحة للسمو على فوضى التجارب والحقائق المتناقضة، تؤدي به الى البحث عن إفتراضات ميتافيزيقيه، فالانسان إذا ما تناول موضوع ذاتهِ، فانه لن يحيد عن التأمل حتى يومنا هذا.

إذ تمثل احدى طبعات الاختام الاسطوانية من العصر الأكدي المحفوظة في متحف برلين، (قصة) صعود الملك (إيتانا) الى السماء. الذي نصحته الآلهة بالطيران نحو السماء للحصول على نبات الخصب لأن امرأته كانت (عاقراً). فعلى المساحة التصويرية الضيقة جداً لسطح الختم، حشد الفنان مجموعة كبيرة من الاشكال تمثل موجودات بيتهِ. فقد فتحت باب البيت المصنوعة من (جريد) النخيل على مصراعيها، لتكشف عن أمرأتهِ جالسة بجوار (تنور) الخبز، وقد نشرت بشكل جميل ما أعدّتهُ من أرغفة، فيما راحت حاشيتهُ وكلابه تُحدق يائسة في اجواء السماء وقد (حيرّها) إختفاء سيدها المفاجيء على ظهر نسر في أجواء السماء.

وخلال عملية الطيران، طلب النسر من (إيتانا) ان ينظر الى حجم الارض ومعالمها عدة مرات، فشاهدها كأنها التل وبحارها كالأنهار الصغيرة، واستمر في الصعود حتى بلغ مدخل سماء (آنو). وهنا ينخرم النص المسماري للقصة عند هذه العقدة من الدراما (الأيتانية) فلا نعلم هل حصل على نبات الخصب الذي يساعد على الأنجاب أم لا، "على ان المرجح انه حصل على مبتغاه كما تشير الى ذلك دلالة أثبات الملوك، إذ ورد فيها اسم الملك (باليخ) على أنه إبن (إيتانا) الذي تولى الحكم من بعدهِ"(طه باقر،1976، ص 134).

من الصعب حساب الزمن في مثل هذه النصوص المايثولوجية، على وفق قياساتنا ومفاهيمنا المعتادة، فالزمن لا يعلن عن ذاتهِ إلا في ضوء النتائج والأفعال، فنحن لا نعرف مثلاً، كم إستغرق (إيتانا) في رحلتهِ نحو السماء؟ وكم مكث هناك؟ ومتى كانت العودة؟ فاذا كان الزمن يؤثر بالفعل في السرد الاسطوري، فأن أثر الفعل أهم من مدة ديمومتهِ. تُرى، هل طار (إيتانا) حقاً الى السماء؟ محققاً اول محاولة بشرية للطيران، أم انه طار في خيالهِ فقط، وذلك هو المهم، بسبب قلق سايكولوجي (أرّقه) من الداخل، وتلك مشكلة الأبن وولي العهد التي ما زالت مؤثرة في الفكر الشرقي القديم والمعاصر على حد سواء.

نحتت الاشكال على سطح ختم (إيتانا) باسلوب يمكن وصفه بالبدائي، واهمية مثل هذه (المشيدات) البدائية في الفن الحديث، تكمن في خطاب (فان كوخ) الى صديقه الأديب (أميل برنار) قائلاً: "أندري.. ان هناك شيئاً، إفتقدته، وشعرت بالأسى لأني لم أره في المعرض. إنه سلسلة من البيوت الطينية البدائية، فهل تستطيع أن تمدني بفكرة عن تلك البيوت البدائية؟، فقد وقع نظري على بعض الاوراق الأيضاحية، التي تحمل رسوماً لمساكن بدائية، إنها تبدو بدائية وجميلة جداً. آه لو قُيضَّ للمرء ان يتعرف على مساكن تلك العصور، وآهٍ لو قدَّر له ان يرسم الناس الذين عاشوا في دواخلها، لكانت تلك الرسوم تماثل اعمال (ميليه) جمالاً، أنا لا أقول من حيث ألوانها، بل بقدر ما للأمر من صلة بهويتها، فأنها تبدو شيئا مميزاً.. شيئاً يؤمن المرء بهِ إيماناً راسخاً (ريد،1994،ص36).

هناك فكرتان تبرزان في خطاب (كوخ)، الاولى: أن ما هو بدائي كان جميلاً ويماثل اعمال (ميليه) جمالاً. والثانية: ان مثل هذا الفن ليس جميلاً فحسب، بل إن له (هوية) مميزة، ويمنح المرء إيماناً راسخاً بروعة الفن، وإيماناً بالانسانية. وتلك هي عظمة مثل هذه المنجزات الابداعية الصغيرة (الاختام) وعظمة مبدعيها، الأمر الذي جعل الاجيال تتحدث وتناقش مآثرهم الابداعية على مَرّ التاريخ.

 604-sahib

أ. د. زهير صاحب

أستاذ تاريخ الفن - كلية الفنون الجميلة – بغداد