صحيفة المثقف

الاتباعية بين القرآن والسنة.. نحو تجديد منهجيّ في الثقافة العربيّة (2-2)

2: 3 الطاعة: نسف الثقافة الجاهليّة: "يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"  يحقّ للقارئ أن يسأل في ضرورةِ إيراد هذه الآية في سياق الكلام على "غزوة أحد"، إلا أنّ السياق الحافل بالعتاب واللوم يبرر هذه الآية ضمناً، بخاصةٍ إذا عرفنا أنّ السبب الأوّلَ للهزيمة في "أحُد" كامن في العقليّة الجاهليّة التي جاء الإسلام بمواجهتها، وقد كان بعض المسلمين لمّا يتخلّصوا منها ومن منعكساتها في سلوكهم، وهي الجشع والطمع، فقد روي أنّ الرماة كان قد مَوضعَهم الرسول(ص) في موضعٍ ما من أرض المعركة، على أن لا يدَعوا هذا الموضع مهما حصل؛ وما إن رأى هؤلاء الرماة المسلمين قد مالت دفة المعركة لصالحهم، تركوا مواضعهم طمعاً بالغنائم "أخطأ رماة المسلمين خطأ لا يغتفر في مخالفتهم لأوامر الرسول صلى االله عليه وسلم الصريحة الجازمة، وانسحابهم من مواضعهم الأصلية لجمع الغنائم، ولولا انسحابهم هذا، لما استطاع خالد بن الوليد ضـرب مـؤخرة المسلمين، ولما استطاعت قريش تطويق المسلمين وتكبيدهم سبعين من الشهداء" . إذن، معصية الرسول(ص) كانت سببا في الهزيمة، وما كانت معصية الرسول لتكون لولا تمكّن العقليّةِ الربويّة الجاهليّة منهم، فهي التي غلبت إيمانهم، وثقتهم بالله، وهي التي أعمتهم وأنستهم واجباتهم القتالية." كان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه بسبب إقبالهم قبل إتمام هزيمة العدو على الغنائم للزيادة في الأعراض الدنيوية التي هي معنى الربا في اللغة إذ هو مطلق الزيادة"  فقد أنزلتهم هذه العقليّة الربوية، وهم المؤمنون، منزلةَ الكافرين الذين يتنادون إلى القتال في سبيل المغانم والمكاسب، وفي سبيل الحفاظ على مصالحهم في الربا وغيره من أكل حقوق الناس في الباطل، لذلك دعاهم النصّ إلى التقوى "وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" والتقوى هي الحذر والحرص والحماية، فأن يتقوا الله يعني أن يمتثلوا لأوامره ونواهيه، خَشيةً وإجلالاً، وبهذا يمكنكم توقع الفلاح.

"وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ"  ويأتي في مستهل هذه الآية عطف الفعل "اتقوا" الواقع على النار، على الفعل "اتقوا" الواقع على "الله"  جلّ وعلا، ففي الآية الأولى أخذت التقوى دلالتها من حاجة المؤمنين إلى الفلاح، فكانت تنبيها وإلفاتاً إلى خشية الله وإجلاله، وذلك من خلال التوافق بين ما تؤمنون به وما تسلكونه في الحياة الدنيا. أما الآية التالية فالتقوى تعدّت إلى النار، كما لو أنها تحيل على مؤجّل العذاب الذي أعدَّ للكافرين، وأنتم لستم كافرين، فلن يستقيم إيمانكم بالله، وتقواكم في الوقت الذي ما زالت عقلية الكافرين، الذين يصرون على جاهليّتهم، تدفعكم مثلهم في سلوك قائم على الطمع بالمغانم والمكاسب.

"وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"  وعطفاً على التقوى يأتي الفعل "أطيعوا"، ليأخذَ أبعادَه الدلاليّة من معاني الفعل "اتقوا" في سياق التوجيه إلى رصد مكامن الهزيمة في السلوك الشخصيّ مع الذات ومع القائد في سوح القتال. وإذا كانت تقوى الله تتغيا الفلاح؛ فإنّ طاعة الله والرسول تتغيا الرحمة، وكلا الأمرين يحيل على الْتماس ما يقتضيهما في سياق الواقع "الأُحُديّ" .

لم تكن الهزيمة التي مني بها المسلمون في "أحد" هينةً على الرسول ومن تبعه، فقد خسرت الدعوة سبعين رجلاً من النخبة العزيزة، وقد كان لهم في قلب رسول الله مرتبةٌ رفيعة، أودعهم ذلك " الجبل الداكن الجاثم حول "يثرب"، أودع "محمد" صلى االله عليه وسلم أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه. فالصفوة النقية التي حملت أعباء الدعوة، وعادت في سبيل االله الأقربين والأبعدين، واغتربت بعقائدها قبل الهجرة وبعدها، وأنفقـت وقاتلت، وصبرت وصابرت، هذه الصفوة اختط لها القدر مثواها الأخير في هـذا الجبـل الأشم، فتوسدت ثراه راضية مرضية"  . كما أن تداعيات هذه الهزيمة على المدينة كانت خطيرة جدّاً" فقد جرّأت عليهم أعراب البادية، وفتحت لهم أبواب الأمل في الإغارة على المدينة وانتهاب خيرها"  وكان لهذا الأمر أثر كبيرٌ في الغزو والخسائر الملحقة بخسائر "أحد"؛ غير أنّ الرسولَ(ص) أصرّ على رفع معنويات المسلمين، فراح يجهز الدعاة والغزاة، وبدأت الأزمات تتراكم، والإصرار على النصر يتنامى، والمسلمون مستويات مختلفة، منهم من يضعف، ومنهم من يستشهد في سبيل الله وهو يقول: "فزت وربّ الكعبة"، ومنهم من يتقاعس عن طاعة الرسول، ومنهم من يُقْدم بلا وجل، وهكذا حتى بات الظفر مرجوّاً بتقوى الله، وكذلك الرقة والرأفة والرحمة مرجوّةً بطاعة الله ورسوله .

إذن، تقوى الله في هذا السياق، تعني طاعة الله ورسوله، ولا يمكن الفصل بين طاعة الله وطاعة الرسول؛ فإذا كانت طاعةُ الله هنا تعني الثبات على الإيمان، فالرسول (ص) يترجم ذلك بالأمر والنهي والإيفاد وتجهيز الغزاة والدعاة والقرّاء، وعلى القوم الامتثال لأوامره ونواهيه بوصفه قائداً للجمع المؤمن في الدفاع عن المدينة، وفي الدعوة إلى الله.

 

2: 4 الطاعة: أمرٌ بالاستقامة

تتماسك سورة المائدة في سياقٍ يتوخى تعديلَ سلوك "الذين آمنوا " باتجاه الوفاء بالعقود، وقد استهلت هذه السورةُ بالنداء يا أيها الذين آمنوا، مايعني أنها حمولةُ خطابٍ موجّهٍ إلى المختصين بالإيمان، وأنهم الذين آمنوا فذاك يعني أنهم لم يكونوا مؤمنين، وقد حصل إيمانٌ منهم بالله والكتاب والنبيّ، وهذا يتطلب أن ينعكس سلوكاً في العلاقة مع الآخر، ومع الذات. وقد تكّرَر خطاب الذين آمنوا وفق أسلوب النداء 16مرّة في سورة المائدة وحدها، ما يعني أنّ تنبيه الذين آمنوا هدف هذه السورة؛ فلا يكون نداء إلا لطلبٍ يقع على المنادى سواء كان أمراً أو نهياً، والذين آمنوا أقل رتبةً من المؤمنين، فهم لا يزال الإيمانُ عندهم فعلاً ربما يتوقف، أما المؤمنون، فالإيمان عندهم اسمٌ ثابتٌ لهم كالطول للطويل، والقصر للقصير. وهي آخر ما نزل على رسول الله (ص) في المدينة بعد حجة الوداع. وقد انطوت على العديد من الأحكام: أحكام العقود، الذبائح، الصيد، الإحرام، نكاح الكتابيات، الردة، الطهارة، السرقة، والبغي،، والإفساد في ألأرض، الخمر والميسر، وكفارة اليمين، الصيد في الإحرام، الوصية، .... وقد سيق في غضون هذه الأحكام آيةٌ تنطوي على طلب الطاعة "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا "  وقد سُبقت بآياتٍ من شأنها أن تشحن طلب الطاعةِ بمدلولات يقتضيها واقعها ﴿ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلٰوةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ* وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ﴾  بعد أسلوب النداء هذا، نلحظُ إسنادَ مفردة "رجس" إلى الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فالخمر مربكٌ للعقل يلبس الأمور والفهوم، لما لأثره في الدماغ من خدَرٍ ممتع، يطلبه المرء ولا يأبه لآثاره السلبيّة، والمؤمن حقاً يعرف ما يقتضيه الإيمان بالله من حرصٍ على الوعيِ والفهم، ويعرف حقاً أنه مكلّفٌ لا يجوز له أنْ يغفل عن واجبه الدنيوي، أما الذي آمن فقد يتهاون في هذه المسألة ويتراخى في واجباته الدنيوية. والميسر أيضاً فيه من متعة الأمل بحلّ المشاكل الماديّةِ ما يغري الذي آمن بتعاطيه، ويغفل عن سلبياته التي أقلُّها أن الربح لا يكون إلا بخسارة الآخر، وهذا ما لا يقبله المؤمن، فهو مؤمن بأنه يجب أن يسعى في مناكبها طلباً للعيش الكريم والسعة في الرزق، وليس عن طريق خسارة الآخرين. أما الأنصاب فهي الحجارة التي دأب الجاهليون أن يذبحوا ذبائحهم عندها أو لها، وجعلوها شريكة لله في ملكه وتدبيره لمعايش الخلق، ولا يمكن لمؤمنٍ أنْ يقبل هذا، ولكن الذي آمن قد يكون لهذا النصب أو ذاك شأنٌ كبيرٌ عالقٌ في نفسه ووجدانه؛ فيعمد إليه جرياً على ما كان عليه قبل حصول فعل الإيمان عنده. وكذلك الأزلام وهي قداح ثلاثة أحدها "نعم" والثاني "لا" والثالث "غفل"، يلقيها حتى تكون "لا" أو "نعم"   فيتوهّم بها الفلاح، وهذا ما لا يقبله المؤمن؛ إذ يعرف أن ليس للإنسان إلا ماسعى. أمّا الذي آمن قد يتوهم أنّ الفلاح يكون له بسبب هذا أو ذاك.

وكما بدا لنا، فهذه الأمور الأربعة أُسند إليها الرجس ليكون حُكماً عليها، والرجس في مقاييس اللغة" الراء والجيم والسين أصلٌ يدلُّ على اختلاطٍ. يقال هُمْ في مَرْجُوسَةٍ مِن أمرِهم، أي اختِلاط، والرَّجْس صوت الرَّعد، وذلك أنه يتردَّد. وكذلك هَدِيرُ البعيرِ رَجْسٌ. وسَحابٌ رَجّاسٌ، وبعيرٌ رَجّاس. ومن الباب الرِّجْس: القَذَر؛ لأنّه لَطْخٌ وخَلْط"  . فعرفنا الخمر كيف يكون رجساً وكذلك الميسر والأنصاب والأزلام. ولكن النصّ اشتمل عليها بهذا الإسناد في أسلوب القصر بالأداة "إنما" ليكون هذا الحكم هو الملائم لها دون سواه، والقصر بـ"إنما" أثبتُ دلالةً من القصر بـ" ما ..إلاّ" وذلك لإفادة التأكيد بـ"إنّ". ويكون النص بهذا الأسلوب قد قدّمَ الحكمَ على الطلب، من باب تقديم بيان أسباب الطلب على الطلب " فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"؛ كما أنّ الطلب اجتنبوه سيق إذْ يُرجى الفلاح. والاجتناب مسنداً إلى واوا الجماعة كنايةً عن "الذين آمنوا"، يأخذُ دلالته ومداه الظرفيّ من ظروف هؤلاء التي تحُول دون الرقيّ، إذْ يتسبب الاختلاط الذهني المتأتي من الخمر والميسر بالعداوة والبغضاء فتستيقظ فيهم الشحناء والكراهية، وهذا ما ينحّي إمكانيةَ الفلاح، لأن الشيطانَ ينشطُ أكثر ما ينشط في طريق الله، وقد فهمنا أنّ الإيمان هو أن يكون الله في ذات الإنسان فيرقى في الحياة بمقدار ذكر الله لأنه بالذِّكر يرقى، بهذا النشاط الذهنيّ يموضع نفسه في الوجود، وهذه رياضةٌ يمارسها يومياً في سعيه لفهم الكون ومعرفته، وكلما ازداد ذكراً لله ازداد اندفاعاً في سبيل الله، وهل من سبيلٍ أمام العاقل سوى المعرفة، وفي هذا السبيل يأخذ الشيطان كمائنه فيترصّد الهمّة الإنسانية المشحوذة، ليزيّن لها الانزلاق إلى الشهوات فيطيش العمل. ولا يكتفي الشيطان من جرّاء الخمر والميسر بالصدّ عن ذكر الله   بل يتعدى إلى الصلاة. والصلاة هي الاستقامة في كلّ عمل هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، هي أن يكون المرء موصول الشعور والوجدان بالله، في كل حركة أو سكنة من حركاته أو سكناته. وإذا انصرف الإنسان إلى الملاهي بعيداً من الاستقامة بسبب اختلاط ذهنه، فأيّ صلةٍ بينه وبين الله! ويأتي الطلب بالانتهاء عن معاقرة الرجس بصيغة الاستفهام ترفقاً وتلطفاً، فلو أنه قال ولم يقل: "الخمر والميسر مرتع الشيطان في عقولكم، يفعلان بكم كذا وكذا فانتهوا عنهما"؛ لكان الأمر دفعاً لهم باتجاه الانتهاء بوصفه إرادة الله لهم بمواجهة إرادة الشيطان؛ وهذا ما لا تريده الآيةُ الكريمة؛ بل يريد الله لهم الانتهاء بإرادتهم، فلذلك حرك أذهانهم باتجاه الإجابة عن السؤال بـ"هل" وبعد أنْ بيّن لهم مقاصد الشيطان العظيمة في ضلالهم وغيهم وانزلاقاتهم الشهوانيّة مع الخمر والميسر.

وفي هذا السياق يأتي أمر الله إلى الذين آمنوا ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ﴾ فما هو المعنى الذي منحته الآيات السابقات للفعل أطيعوا واقعاً على لفظ الجلالة مرةً ومرّةً على الرسول؟

تبيّنَ لنا أنّ النداء بـ" يا أيها الذين آمنوا" هو نداء مباشر من الله إلى هذه الفئة، وبما توافر لديّ من إمكاناتٍ؛ تبينتُ أنّ الآياتِ بأوامرها ونواهيها تتوخى تعديل سلوك الذين آمنوا بما يتلاءم مع فعل الإيمان الذي هم عليه، حتى يصبح ذلك السلوكُ الملائم سجيّةً تحققت لهم بكفاحهم ضدّ النفس الأمارة بالسوء، وضدّ عمل الشيطان بالإغواء والتضليل. وفهمت من هذه الآيات أيضاً أن سبيل الفلاح في الدنيا يكون بمقدار ما يتحقق من الاستقامة المعبَّر عنها بذكر الله والصلاة. إذن الطاعة هي الامتثال لأوامر الله ونواهيه، ويكون ذلك بتعديل السلوك ليتحول الذي آمن إلى مؤمن، وطاعة الرسول كذلك امتثال لأوامره ونواهيه، فهو رسول الله يأمر بما أمر الله وينهى عمّا نهى، وهو مكلَّف بتبليغ الرسالة، أوامر الله ونواهيه تتجاوز الظرف الزمني؛ فالاستقامة ليست مقيدة بظرف. بينما أوامر الرسول ونواهيه مقيدة بالظرف وناسه لكونهم المتلقي الذي له سلوكٌ ينافي الاستقامة وينبغي تعديلُه كما بدا للرسول الكريم في ذلك الواقع، وأنّ الواقع يتغيّر والناس مختلفون من زمن إلى زمن، ومن مكانٍ إلى مكان، فمدلول الاستقامة والرقي الإنساني سيختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. وعليه لا يمكننا أن نفهمَ أمرَ الله بطاعةِ الرسول (ص) يشمل كل الخلق في كل مكانٍ وزمان، بل هو خاص بالمعنيين في ذلك الزمان. وتكرير فعل الطاعة هنا يأتي ليجعل طاعة الرسول طاعة أوامره ونواهيه وقد كانت تختلف من رجل لآخر، وهي طاعة مختلفة عن طاعة الله العابرة للأزمنة والأمكنة. فهل نفهم من ذلك أي إشارة إلى السنّة؟!!!!

 

2: 5 الطاعة: تنقية النفس في العلاقة مع الآخرين

عندما نعرف أن الكلمة تأخذ أبعادها الدلالية من ورودها في سياق، فإنّ السياق الذي وردت فيه له ما يقتضيه حتماً، وبالتالي يكون المعنى الذي تأخذه الكلمة الموضوع  مقيّداً بما اقتضى السياق، وهذا يلزمنا بتوضيح وجهة نظرنا في هذه المسألة، فنقول: إنّ قدسيّة النص لا علاقة لها بالقيد التاريخي، ولا بعدمه، بل لها علاقةٌ بكونه نصاً إلهيّاً، وليس شرطاً ليكون النص إلهياً أن يكون فوق التاريخ، ولا يعني ذلك أننا لا يمكننا رصد مقاصده واستثمارها في أيّ زمانٍ ومكان.

وإذْ نقول :" إنّ السياق الذي وردت فيه له ما يقتضيه حتماً" لا يعني أننا سنذهب باتجاه سرد أسباب النزول، بل نعني أن الأسلوبَ سيكون مرآةً تظهر فيها صورة ما يقتضيه على هذا النحو دون سواه. فإذا توقفنا عند أسباب توالي التأكيد بـ"إنّ" ثلاث مرّات في آية سبقت آيةَ الطاعة؛ فهذا سيدفعنا إلى تقدير الأسباب في واقع المخاطبين سواء كانت في سلوكهم أو في أفكارهم ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾

 يستوقفنا في هذا الأسلوب الاستهلالُ بالتوكيد، ما يُلزم بالسؤال عن الضرورة التي أوجبت ذلك، وبتقديرنا ما كان النص يلجأ إلى التوكيد لولا أنّ سلوكهم اقتضى ذلك؛ فالموضوع هو أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل بين الناس، واستعمال "إنّ" يشير إلى أنّ المخاطبينَ لا يقومون بذلك أو أنّ نفوسهم تحدثهم بالتحفظ على الأمانات، وبالجور في الحكم بين الناس. ولو أنّ العبارة كانت" يأمركم الله أن...." لكان الاعتناء بالفعل مسنداً إلى الله واقعاً عليهم، مجرّدَ إخبارٍ يفترضُ أنّهم خلاة الذهن منه. ولا يعني ذلك أنَّ اضطراباً ما يعتري علاقتهم بالأمانة. وكذلك لو أنّ الآية كانت " الله يأمركم" لأوحى ذلك بأنهم يتلكأون في أداء الأمانة؛ ما اقتضى تقديم لفظ الجلالة لتحريض مكمن المهابة والإجلال عندهم دون استبطاء. أمّا وقد استخدم "إنّ" وتقديمَ لفظ الجلالة، فهو يرمي إلى دفعهم نحو تعديل مواجدهم بما يتناسب مع علاقتهم بالآمر، ولهذا أثر بالغٌ في رفع مكانتهم في الحياة لكونهم يمتثلون للأمر بوصفه أمراً إلهياً، ولكون المأمور به هو علاقتهم بالناس مؤتمنين على أشيائهم، وحاكمين بينهم فيما هم فيه يختلفون.

  مرّةً أخرى يستخدم النصُّ "إنّ" لتؤكّد نسبة الوعظ إلى الله عزّ وجلّ، في الآية نفسها "إنّ اللهَ نعمّا يعظكم به" .فما الضرورة التي اقتضت أنْ يؤكّد بـ"إنّ" مرّة أخرى؟

ورد في المعاجم أنّ الوعظَ هو النصح والتذكير بالعواقب، وقال الخليل إنّ الوعظ هو التذكير بالخير. ولكن لم يردْ أنّ الوعظَ هو الأمر، فالتأكيد الوارد سابقاً، أكّد نسبةَ الأمر برد الأمانات إلى أهلها وبالحكم بالعدل إلى الله، وفهمنا وفق أسلوبيّةِ التعبير أن ذلك في صالح الاجتماع الإنساني، وإنْ كان المخاطبون هم الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمّدٍ رسولاً ونبيا، وبالقرآن الكريم كتابا، وذلك أنهم - كما ينبغي -  يعرفون الحق ولا يحقُّ لهم الانحراف أو الذهول عنه. وعليه يكون الأمر بصيغة المضارع فيه وصف لعلاقة الله بهم، وليس أمراً مباشراً لهم، وذلك ليكون علّةَ اندفاعهم باتجاه الخير. وقد أسلفنا أنّ تقديم  لفظِ الجلالة من شأنه أن يؤدي هذه الدلالة.

وهنا أيضاً يقدّم لفظ الجلالة، مسنداً إليه فعل الوعظ واقعاً على المخاطبين، ما ينزل الأمر "يأمركم" منزلة الوعظ، لتحريض الهمم باتجاه الخير، فالتقديم هذا، من شأنه أن يرقى بأذهانهم في تقدير الواعظ الأعظم، فلا يتراخون في أوامر الله ونواهيه. وبخاصةٍ أن النص يخص ما يعظهم به بالمدح "نعمّا".

ونلاحظُ أيضاً أن رد الأمانات ليس مظروفاً فيما الحكم بالعدل مظروف بظرف لما يستقبل من الزمان يتضمّن معنى الشرط "إذا"؛ فهل لذلك من دلالة؟

أنْ لا يكون ردّ الأمانةِ إلى أهلها مظروفاً؛ فذلك لأنّ الأمانة في المبدأ ينبغي أن تكون سجيّةً في النفس سواء كان هناك ما تؤتمنُ عليه النفس أو لم يكن، ومهما تكن الظروف. أمّا الحكم بين الناس فهو يقتضي وجود خصومة، لذا؛ كان ردّ الأمانة أمراً يتغيّا تأسيسَ مبدأ في الذين آمنوا، وأمر الحكم بالعدل يتغيّا تأسيس سلوكٍ في ظرف التنازع والخصومة.

وتختتم الآيةُ بالتأكيد ثالثةً، "إنّ اللهَ كانَ سميعاً بصيرا".

فالتأكيد هنا ليس لمجرد نسبة السمع والبصر إلى الله، ولو أنّ الأمر كذلك؛ لكان يكفي أن يقولَ :"إنّ الله سميعٌ بصير" ولكنّ استخدام كان في هذا السياق من شأنه أنّ يجعلَ السمع والبصر في حال الدوام والاستمرار، والذي يقتضي إظهار ذلك، كونُ المرءِ كثيراً ما تحدثه نفسه ألا يردّ الأمانة إلى أهلها، وأن لا يعدل في فض الخصومات والمنازعات، فالأمانة تحت سمع الله وبصره، وكذلك العدل؛ فهما يحدثان في وجدان المرء أولا، فالوجدانُ يشهدُ صراعاً حاداً بين النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوّامة، فإذا درى المرء أنّ الله سميع يغلب النفس اللوّامة، فيكون مظهره في السلوك مشهداً مستقيماً يحرص المرء على استقامته أكثر إذا كان يعلم أن الله بصير. والذي يؤكّد ما ذهبنا إليه، أن المسندَين إلى لفظ الجلالة سيقا على وزن فعيل الذي للمبالغة، ما يعني أن الله ليس فقط سامعاً ومبصرا؛ يحصل عنده السمع والبصر بالتزامن مع الأحداث، بل هو سميع بصير، ما يعني أنّ السمع والبصر شأنان من شؤونه الملازمة له سواء كان مسموعٌ أو لم يكن، وسواء كان مشهودٌ أو لم يكن. ومن شأن التأكيد هنا، أن يبيّن مدى الحاجة لأن يكون المرء أميناً بينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخرين، ولأن يكون عادلاً في ظرف الحكومة بين الناس.

ويردف النصّ بعد هذه الآية بنداء الذين آمنوا، ليأمرهم بالطاعة، طاعة الله، وطاعة الرسول وأولي الأمر منكم؛ فأيّ معنى للطاعةِ يمكن أن تكونَ الآيةُ السابقةُ قد شحنتها به؟

إذا صحّ فهمنا للآية السابقة، فهذا يعني أنّ أمر الله يستهدف طويّة المخاطبين، فليعملوا على تنقيتها من سوء النيّة وإنْ عبرت في الخاطر. سواء كان ذلك في ردّ الأمانة إلى أهلها، أو في العدل أثناء الحكومة في الخصومات. إذن؛ تأخذ الطاعة أبعادها الدلاليّةَ هنا من هذه الأوامر، فهي باختصار تعني تنقية النفس، وهذا يتأتى من الالتزام بما عرفوا من أوامر الله، ومن الالتزام بالكيفية التي يطبق الرسولُ الكريمُ تلك الأوامر، وكذلك أولو الأمر. فطاعة الله مطلوبة، لكونها توفر المعرفةَ للذين آمنوا، وطاعة الرسولِ كذلك، لكونها تبيّن مظهر تلك الأوامر الإلهية في علاقته مع نفسه ومع الآخرين. لذلك كرّرَ النصّ لفظ الطاعة بصيغة الأمر ليجعل مسؤولية الذين آمنوا مسؤوليةً معرفيّةً إذْ يعرفون ماذا يأمر الله، ويجعل مسؤوليتهم سلوكيةK إذْ يعرفون كيف يريدهم الرسولُ (ص). وأن يقع فعل الطاعة على الرسولِ وأولي الأمر مسنداً إلى المخاطبين بأمر من الله، فذلك يجعلُ قادة الرأي في منزلة الرسولِ لجهة العلاقة مع الذين آمنوا. فهل يُفهمُ من ذلك أنّ الأمر بالطاعة تعني اتِّباع سنَّة الرسول وأولي الأمر على مدى الأزمان، أم أنه مقيّدٌ بزمن الرسول؟ بل يعني هذا أنّ طاعة أولياء الأمور واجبة في كل قطاع، وفي كلّ زمان ومكان. وهم ملزمون في تنقية طويتهم بما يرضي الله ورسوله، ولا يمكن أن تكون مرضاة الرسول إلا بتوخي ردّ الأمانة إلى أهلها وبالعدل . وحيث العدلُ فثَمَّ شرع الله.

ثمّ يعقب النصّ في هذه الآيةِ الكريمة بواسطة الفاء التي للتعقيب والترتيب" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" ليبيّن لهم مسالك الطاعة في التنازع ما بين الذين آمنوا، أو بين الذين آمنوا وولاة الأمور في تطبيق أداء الأمانات أو الحكم بين الناس، فيأتي الأمر "ردّوه" في جواب الشرط "إن تنازعتم في شيء".

الاشتراط بـ"إنْ" يحيل على احتمالات النزاع بين الحصول وعدمه، ما يعني أنّهم في واقع يتماسكون فيه حول ولاة أمورهم، لأنّهم كانوا سبباً في حصول فعل الإيمان لديهم، والخطاب لهم من باب التحرّز مما يفسد إيمانهم، واحتمال التنازع بينهم قائم. فيأتي الجواب "ردّوه إلى الله والرسول" وما غياب العلامة أولي الأمر هنا؛ إلا علامة على احتمال التنازع معهم. وعندها عليهم وولاة الأمر أن يُرجعوا ما اختلفوا فيه إلى الله والرسول، أيضاً بشرط استمرار إيمانكم بالله واليوم الآخر.  كيف يمكن إرجاع المختَلَفِ فيه إلى الله والرسول؟ ولماذا لم يقل:"إنْ كنتم تؤمنون بالله والرسول"؟

بما أنّ الإيمان عندهم فعل حاصل، وليس اسماً ملازماً لهم، فاحتمال التنازع قائم في كلّ حين، وهم بحاجةٍ ماسّة إلى مرجعيّةٍ يرجعون إليها، وبما أنّ العقيدة الإيمانية قد وصلت إليهم عن طريق الدعاة أو عن طريق الرسولِ نفسه، فإنّ معرفتهم بالله تتأتّى لهم عن طريق الرسول  أو عن طريق الدعاة، وبما أنّ ذلك يقتضي سلوكاً بتأثيرٍ من تلك المعرفةِ الأوّليّة، فإنّ سلوكهم بحاجةٍ إلى رعايةٍ مستمرّةٍ من ولاة أمرهم ومن أنفسهم، وبخاصّةٍ أنهم يواجهون في حياتهم، وبكثافة ما يعترض سلوكهم؛ فقد تسوء علاقتهم بأصدقائهم، أوبالغرباء عنهم، وقد يحصل من جرّاء ذلك ما يوقعهم في التردد والحيرة والاعتراض أو في الخطأ بعامّة. ولكونهم عرفوا الله؛ فأثر هذه المعرفة سيكون إجلال الله وخشيته، وتحسباً ليوم الحساب. إذن رُدّوا المتنازع فيه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فلو قال بالله والرسول، لكان قرَّ في ذهن المخاطبِ أنّ الرسولَ مجرّدَ قائدٍ ينبغي الرجوع إليه في تصويب السلوك، ولكنه قال:" واليوم الآخر" علامةً على أنّ الرسول(ص) رسول الله إليكم، ليستقيم أمركم، ويثبّت إيمانكم، وليكون سلوككم في هذه الحياة، بتأثيرٍ من الإيمان بأنّ الله خالق كل شيء، وبأنّكم وأعمالَكم ستُعرضون عليه أخيراً، ويفصل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. 

 

3: الخلاصة:  

أضع الآن القلم، بعد أن عشت في رحاب القرآن الكريم، قارئاً باحثاً عن أمر محدود، هو معنى الطاعة، وذلك بهدف إعادة النظر باتباعيتنا، وإعادة صياغة حياتنا وفق حاجاتنا إلى العيش بكرامة بين الأمم، وحرصاً على هويّتنا وانتشالها مما يعيق إبداعها، فكانت النتيجة أن الطاعة تفترض وجود طرفين أحدهما يطلب(أمراً أو نهياً) والآخر يطيع ويمتثل، ولكون الأمر والنهي يرتبطان بالوقائع، فإن الامتثال والطاعة ينبغي أن يكونا بالتزامن مع تلك الوقائع؛ لذا، كان الأمر بطاعة الرسول أمراً إلهيا للجماعة التي زامنت الرسول في واقعهما المشترك وفي التأسيس لأمة مبدعة خلاقة. وقد تبيّنَ لي من خلال معاينة تلك الآيات الكريمات أنّ مفردة الطاعة كانت تختلف دلالاتها من آية لأخرى فهي تعني:

- قبول القسمة بعد معركة "بدر"، طاعة الله والرسول أخذت كلّ أبعادها الدلالية من كونها عنصراً من أربعة عناصر تشكل إجابةً عن سؤالهم عن الأنفال، وهي:الأنفال لله والرسول./اتقوا الله./أصلحوا ذات بينكم./أطيعوا الله ورسوله.

- موافقة السلوك للمعتقد، فقد ورد الفعل "أطيعوا" في سورة آل عمران، "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ"  ضمن سلسلة من الآيات متعانقة بإحكام لتوجيه الرسول (ص) في مخاطبة الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، باعتبارهم مؤمنين بالله جلَّ وعلا، ويعرفون نمط الخطاب الإلهي ومع ذلك يتولى فريق منهم وهم معرضون، ويسلكون في حياتهم بخلاف ما يؤمنون به.

- نسف الثقافة الجاهليّة، فقد كانت معصيته في "أحد" سبباً لهزيمة كارثية، إذْ إنّ الجشع والطمع اللذين أنزلا الرماة للمشاركة في الغنائم، كانا امتداداً للعقلية الربوية الجاهلية، فالأمر بالطاعة هنا يتغيّا نسف الثقافة الجاهلية، كما يتغيا الالتزام بالأمر العسكري.

- الطاعة: أمرٌ بالاستقامة. تبيّنَ لنا أنّ الآياتِ بأوامرها ونواهيها تتوخى تعديل سلوك الذين آمنوا بما يتلاءم مع فعل الإيمان الذي هم عليه، فالاستقامة ليست مقيدة بظرف. بينما أوامر الرسول ونواهيه مقيدة بالظرف وناسه لكونهم المتلقي الذي له سلوكٌ ينافي الاستقامة وينبغي تعديلُه كما بدا للرسول الكريم في ذلك الواقع، وأنّ الواقع يتغيّر والناس مختلفون من زمن إلى زمن، ومن مكانٍ إلى مكان، فمدلول الاستقامة والرقي الإنساني سيختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. وعليه لا يمكننا أن نفهمَ أمرَ الله بطاعةِ الرسول (ص) يشمل كل الخلق في كل مكانٍ وزمان، بل هو خاص بالمعنيين في ذلك الزمان. وتكرير فعل الطاعة هنا يأتي ليجعل طاعة الرسول طاعة أوامره ونواهيه وقد كانت تختلف من رجل لآخر، وهي طاعة مختلفة عن طاعة الله العابرة للأزمنة والأمكنة. فهل نفهم من ذلك أي إشارة إلى السنّة؟!!!!

- الطاعة: تنقية النفس في العلاقة مع الآخرين، وأن يقع فعل الطاعة على الرسولِ وأولي الأمر مسنداً إلى المخاطبين بأمر من الله، فذلك يجعلُ قادة الأمر في منزلة الرسولِ لجهة العلاقة مع الذين آمنوا. فهل يُفهمُ من ذلك أنّ الأمر بالطاعة تعني اتِّباع سنَّة الرسول وأولي الأمر على مدى الأزمان، أم أنه مقيّدٌ بزمن الرسول؟ بل يعني هذا أنّ طاعة أولياء الأمور واجبة في كل قطاع، وفي كلّ زمان ومكان. وهم ملزمون في تنقية طويتهم بما يرضي الله ورسوله، ولا يمكن أن تكون مرضاة الرسول إلا بتوخي ردّ الأمانة إلى أهلها وبالعدل . و"حيث العدلُ فثَمَّ شرع الله".

تأسيساً على هذه الخلاصة، وتحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة، أقترح ما يأتي :

1. انبثاق لجنة من هذا المؤتمر تأخذ على عاتقها تحديد المواضيع التي ينبغي إعادة النظر فيها بناء على رصدها في القرآن الكريم وفق قراءات ذكيّةٍ وعلمية جديدة.

2. عقد مؤتمرات تتلاقح فيها القراءات الجديدة المختلفة. وتتولى هذه اللجنة بالاتفاق مع المجلس الأعلى للثقافة تعيين الموضوعات، وتوجيه الدعوات.

3. اتخاذ موقع على الشبكة العنكبوتية يتولى نشر الأبحاث والمقالات والإعلام، بإشراف المجلس الأعلى للثقافة.

4. وأخيراً إنّ ما توصلت إليه في معاينتي للآيات التي تناولت مفهوم الطاعة، لا تمثل قراءة نهائية بل تتحمل النقد وربما النقض، والتصويب وغير ذلك.

ولكم جزيل الشكر

 

الدكتور سعد كموني

الجامعة اللبنانية/كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الفرع الرابع.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم