الرئيسية

طارق الكناني: النظرة الأخلاقية في المجموعة القصصية: آخر المطاف.. الباب الحلال (أنموذجاً) في مسيرة حمودي الكناني التربوية

tariq alkinaniالكاتب حمودي الكناني: هو بقية من جيل تربوي درج على مجابهة الظواهر السلبية في المجتمع والتصدي لها بطريقة تربوية هادئة ومناقشتها بشكل علمي للوصول إلى حلول منطقية ترضي المتلقي فأنا من جيل تلقى العلم على يد الكاتب فقد عاصرته منذ شبابه وكنت ارقب فيه هذه النزعة الساخرة التي كانت في أحيانٍ كثيرة هي سبيله الوحيد لمواجهة أية ظاهرة تعصف بالمجتمع فهو مستمع جيد لكل ما يقال وينصت للآخرين بعناية فائقة حتى يُخَيَّل للطرف الآخر أنه لم يسمع بهذا الشيء من قَبل ولكن مخزونه الفكري ومعرفته بالمشكلة قد تكون أكثر بكثير من المتحدث نفسه، وأكثر ما كان يستفز حمود الكناني  تلك الظواهر التي تتعلق بالفساد والتلاعب بالمال العام والتي تؤثر بشكل مباشر في استقرار الوطن والمواطن، ولعل السبب في ذلك هي طريقة بناءه الفكري والاجتماعي حيث كانت طريقته عصامية بامتياز فهو لم يرث من أسرته مال ولم يعتمد على شخص في بناء حياته ألأسرية وأنا لا أريد أن أنافسه فيما تحدث هو به عن نفسه في كثير من الأمسيات تحدث عن الحالة العلمية في قريته التي كان يسكنها وكونه هو الوحيد المتعلم في تلك القرية ولطالما تحدث عن بداياته في حياته الجامعية، لعل هذه التجربة هي التي صاغت شخصية الكاتب وتوجهاته الفكرية واهتماماته، فهو قد كسب عن والده قوة الشخصية وبعد النظر ورجاحة الرأي وعن والدته رقة الحاشية ولين العريكة وابتسامته الجميلة، فكان خلاصة للشاب ألفراتي الذي تحدى الكثير من الصعاب والمعوقات بكفاح وجد حتى كان له ما أراد وأنا لازلت المس عنده من الطموح المحبب إلى القلب وقد تعلمت منه الكثير في بداياتي وما زلت أتعلم.... وكان بودي أن استرسل في تحليل شخصية الكاتب لولا مخافة الإطالة

 

(آخر المطاف) منطلق أخلاقي (الباب الحلال)(أنموذجاً)

استوقفني كثيراً هذا النص  منذ أن قرأته ولحد اللحظة بقيت اردده مع نفسي انه (باب الحلال) يقول الكناني في قصته القصيرة جداً (أعجبته بوابة أحدى المؤسسات .تأكد أنها دار أيتام  غير معنية بالحراسة.... آخر الليل أقتلعها، وفي الصباح نصبها أمام داره . استحسن نصح جلاسه أن يزخرفها بـ..... (هذا من فضل ربي).

في كلمات قليلة لا تتجاوز بضع سطور سرد لنا الكناني وضعا سياسياً وأخلاقياً وقيماً جديدة طرأت على المجتمع فالنص يبدأ بعبارة (أعجبته بوابة أحدى المؤسسات) ففي هذه المؤسسة رمزية للدولة التي تمت استباحتها من قبل الساسة الجدد حيث تم التعامل مع الممتلكات العامة وكأنها إرث شرعيٌّ لهؤلاء الساسة فلم يتورعوا عن انتهاك القوانين والاستحواذ على كل ما هو في متناول اليد ...أنا لا أريد أن أتكلم عن الوضع العام بقدر ما أريد أن أوضح رؤية الكاتب وسخريته مما يجري منذ بداية التغيير ولحد الآن، ويتوغل القاص في عمق الحدث والأسباب الموجبة لهذه الاستباحة وهو حين يقول (تأكد أنها دار أيتام غير معنية بالحراسة) هل فعلاً قصد أنها دار الأيتام أم هناك رمزية لهذه الدار التي لم يعد لها من يحرسها هل أراد الكاتب أن يوضح حالة البلد وما آلت إليه من الدمار بسبب تخلي المجتمع الدولي عنها بعدما حُلَّ الجيش وفُتِحَت الحدود للقاصي والداني فهي غير معنية بالحراسة وليس هناك من يطالب بحق الأيتام (العراقيين) فنظرة الكاتب للحدث تمثل ثلاث مستويات من التفسير،الأول وهو الظاهر من سياقات الحدث ولنفترض أنها مؤسسات الدولة التي لا تدخل ضمن اهتمامات الساسة الجدد والمحتل،  والثاني على الصعيد المحلي  حيث الفساد المستشري بين الساسة الذين أهملوا كل جوانب الحياة التي تخص العراقيين وانشغلوا بنهب الثروات وهنا أيضا تأتي كلمة الأيتام لتشمل العراقيين  وأما المستوى الثالث فهو على الصعيد الدولي حيث اعتبر العراق الدولة الفاشلة وتم تركه ليواجه مصيره وبقيت الدول الكبرى والإقليمية مستمرة بنهب الثروات العراقية كل حسب طريقته وكذلك تأتي كلمة الأيتام مرادفة للشعب العراقي، وكل هذه المستويات تصب في نفس المحور الأخلاقي الذي بدأ به الكاتب هذا النص وسنأتي بعد قليل لاستخراج هذه المعاني من النص بعد الفراغ من تفكيك العبارات ألوارده به، وهنا لم يبادر إلى اقتلاعها بل أجل اقتلاعها إلى آخر الليل ترى ماذا ستر الليل أيضا غير اقتلاع تلك الباب، لقد أضفى الليل الشرعية على اقتلاع تلك الباب، على أقل تقدير من وجهة نظر الجلاّس ففي الصباح نصبها أمام داره ويعني أمام مرأى ومسمع من الناس فهذه قيمة جديدة بدأت تطفو على سطح الأخلاقيات التي سادت مؤخرا في مجتمع كانت له نظرة خاصة تجاه هذا الأسلوب الحياتي الذي يتبعه البعض كانت نظرة الاحتقار والعار تلاحقه حتى الممات وهنا يشير الكاتب بعبارة (استحسن نصح جلاسه) إشارة قوية في التغيير الذي نشأ في المجتمع من جراء الاحتلال حيث تغيرت النظرة القديمة واستبدلت بأخرى تبيح للسارق سرقته تحت عناوين شرعية كثيرة، وهنا يأتي دور البراغماتيين في تحسين صورة هؤلاء السرّاق حيث لعبت النفعية والوصولية دوراً كبير في رسم الإطار الأخلاقي الجديد للمجتمع فهذه الشخصيات أكثر خطورة من السارق نفسه فهي تأخذ على عاتقها شرعنة ما يقوم به الساسة وعلى طريقة وعاظ السلاطين فهم الوعاظ الجدد للسلطان الجديد وللنظام الجديد فلا يكاد مجتمع يخلو من هؤلاء فهم الطفيليات التي تفتك بالمجتمعات وهنا يقع على عاتقنا مكافحة هذه الطفيليات فبدلاً من ردعه نصحوه أن يزخرف الباب  بعبارة (هذا من فضل ربي) هذه العبارة ولّدت قناعة لهذا اللص بأن ما حصل عليه هو مكافأة الهية، لقد سمعت أحد سياسيّ الصدفة في احد الأيام يقول بأن العراق بيت يحترق فمن يمكنه إنقاذ شيء فهو له  وسمعت أحد المعممين يذكر ما يقارب من هذا القول .

أن  البناء الفكري والأخلاقي للقاص وما درج عليه من أخلاقيات  كان قد تلقاها في مرحلة مبكرة من حياته جعلت الدعائم الأخلاقية لديه دعائم متينة لا يمكن لها أن تهتز من جراء المغريات التي أتاحتها المرحلة الحالية فهو بقي متأثراً بالعقل الأخلاقي المتجمع لديه والذي ورث الكثير منه عن أسلافه، وصقلته التجربة الخاصة بالكاتب من خلال حياة الفقر والاقتصاد التي عاشها في مراحل مبكرة من حياته فهي أثرت إيجاباً في أطروحاته الفكرية فهي لم تشكل له عقدة نقص بقدر ما كانت نقطة مضيئة في حياته فهو يتحدث عنها باعتزاز في أمسياته الأدبية، وبدا ذلك واضحاً في كتاباته وأطروحاته الفكرية الغنية بهذه المعاني ....

 

 طارق الكناني