صحيفة المثقف

سمير خلف الله: النشاط البحري للجزائر في العهد العثماني.. حروب بحرية مشروعة أم قرصنة ولصوصية؟ (3-1)

التشويه المتعمد لظاهرة الجهاد البحري الجزائري قبل 1830

إن المسؤول لأول عن تشويه سمعة الجهاد البحري الجزائري خلال العهد العثماني لهو الاستعمار الفرنسي . والذي زعم بأن هذه المنطقة، ما هي إلا منطقة يسكنها برابرة متوحشون وأن فرنسا سيطرت عليها لنشر المدنية والحضارة بينهم، وماذا سيأتينا من أناس متوحشين غير التوحش والبربرية . وهو هنا أي الاستعمار يخلط المفاهيم وهذا لكي يجد تبريرا لعملية غزوه للمنطقة . وما يدعم هذا الطرح هو هذه الفقرة والتي تقتبسها من كتاب .

Clement Varenne La piraterie dans la Mediterranee antique

والتي جاء فيها من أن أول دراسة عن القرصنة القديمة قد كانت في العام 1880 والتي اعتبرت بأن كل الشعوب القديمة المطلة على البحر المتوسط قد مارستها . وأنها استمرت في الزمن إلى أن تنتهي وبصورة نهائية مع الاستعمار الفرنسي . كما أنها تعتبر القرصنة الجزائرية من نفس طبيعة القرصنة التي كانت ممارسة قديما من قبل الفينيقيين والقرطاجيين ضد الإمبراطورية الرومانية . والذين خربوا الأراضي الأوروبية التي تطالها أيادي هؤلاء البرابرة، والذين خلفهم المسلمون في هاته المهمة الشنيعة والذين هم بدورهم يعيشون على السلب والنهب . والمتعصبون ضد المسيحيين والذين يزرعون أينما مروا الخراب والرعب، وهذا الأحداث انتهت يوم رفرف العلم الفرنسي المجيد على أسوار مدينة الجزائر 50 .

ومما سبق نستنتج بأنهم هم دوما الأبطال ونحن دوما اللصوص والقتلة وصدق السيد مولاي بلحميسي وهذا عندما قال : " بأن قراصنة البحر المتوسط عندما يكونون مسلمين فما هم إلا قراصنة وناهبين ولصوص، ولكن وعندما يكونون مسيحيين فهم عبارة عن جنود في خدمة الوطن والعقيدة وجنود للرب وأبطال مثل عليا وميليشيا السيد المسيح والهدف من وجودهم هو محاربة المسلمين " 51 . ولهذا فإن وجود البحارة الجزائريين لا يرتبط في نظرهم إلا بالسرقة وبخراب الشعوب، لأن كرههم لكل صناعة شريفة وحبهم الشديد للنهب تشجعهم عليه ديانة بربرية 52 .

إن الأحكام السابقة الذكر في حق البحارة الجزائريين نتيجة لما يضنه الأوروبيون بأنه عين الحقيقة فدوما سكان شمال إفريقيا، لم يكونوا في نظرهم إلا برابرة من نسل برابرة، ولن ينجبوا إلا برابرة . ولذلك فإن أوروبا المسيحية كانت دوما تفكر في الآلية التي تنقذ بواسطتها المنطقة من وحشية الإسلام والذي يرونه دينا همجيا . وعندها فقط سيتمكنون من نشر الحضارة والتمدن وهذا حسب طبعتهم هم في المنطقة وبعملهم هذا يتخلصون من شرّ القراصنة ولصوص البحر الذين يسكنونها .

وها هو البابا نيقولا الخامس يتحدث بفخر عن الكشوف الجغرافية البرتغالية في الهند حيث يقول: " إن سرورنا العظيم إذ نعلم أن ولدنا هنري أمير البرتغال، إذ يترسم خُطى والده العظيم الملك يوحنا، وإذ تلهمه الغيرة التي تملك الأنفس كجندي باسل من جنود المسيح، قد دفع باسم الله الى أقاصي البلاد وأبعادها عن مجال علمنا كما أدخل بين أحضان الكاثوليكية الغادرين من أعداء الله وأعداء المسيح مثل العرب والكفرة " 53 . وهذا هو الإطار العام لحربهم ضد ما يسمونه قرصنة جزائرية، حملات عسكرية عدوانية تستتر برداء الحضارة والدين وتعطيها الكنيسة الشرعية والمصداقية ضد منطقة الشمال الإفريقي .

إن الشيء الملاحظ هو أن الدول الأوروبية ثم المدرسة الاستعمارية الفرنسية، وهذا من بعد نجاح عملية غزو الجزائر، قد عملوا على إيجاد مبررات لعملية الغزو تلك . وهنا وظفوا ما أسموه هم بالقضاء على القرصنة الجزائرية في البحر المتوسط، وعليه فنعت الأعمال العسكرية الجزائرية بالقرصنة هو ابن مرحلة تاريخية استلزمت إيجاد مصوغ أخلاقي لتبرير مشروع لا أخلاقي يتمثل في غزو الجزائر . ولذلك فقد ابتدعت فرنسا حجة القضاء على القرصنة الجزائرية خدمة لمشروعها الاستعماري الناهض، والذي قد كان بحاجة ماسة إلى مسوغات وهذا لكي ينخرط فيه الشعب الفرنسي . ومن جهة أخرى فإن فرنسا كانت بحاجة ماسة للدعم الأوروبي لها شعوب وحكومات بغية تنفيذ مشروع ضخم بحجم احتلال الجزائر . ولهذا فقد وظفت وعزفت على وتر القرصنة الجزائرية وبهذا ضمت سكوت القوى الأوروبية وأمريكا، حتى أنها كلها قد باركت مشروع فرنسا والذي خلصهم من كابوس كان يجثم على صدورهم، وخلصتهم وإلى الأبد من عش القراصنة، والذين كانوا يدفعون له إتاوات سنوية كانوا يعتبرونها فضيحة في حق دولهم وعار يجللهم، ولم يعد من المعقول السماح بمثل هذه الأعمال لتغير موازين القوى الدولية لصالحهم . ومن هنا توجب علينا إعادة دراسة كل المفاهيم الاستعمارية والتي سادت ولمدة طويلة حتى أنها قد بدت وفي مرحلة ما وكأنها حقائق أو مسلمات وبديهيات يقينية، وهذا فيما يخص ما اصطلح عليه بالقرصنة الجزائرية في البحر المتوسط خلال الحقبة العثمانية . 

وإمعانا في عمليات التشويه والتظليل فها هو الأستاذ غوتيه (Gautier) والذي عمل بجامعة الجزائر يصور لطلبته تلك الرسالة الحضارية التي جاء من أجلها جيش إفريقيا أي أن الغزو كان لإخراج سكان المنطقة من البداوة والتوحش 54 .

إن عمليات التشوية التي تعرض لها البحارة الجزائريون والتحامل الشديد عليهم من قبل المؤرخين الأوروبيين لهو يدخل ضمن الحرب الدعائية والتي شنوها، وهذا لتشويه صورة من اتخذوا منهم أعداء أبديين لهم . فغير اليونان برابرة وانتقلت هذه الصورة النمطية إلى الرومان وبصورة آلية إلى سكان المغرب العربي، وغير المسيحيين مجرد وثنيين وغير الكاثوليك هم هراطقة وغير البيض هم متوحشون ولا حظ لهم في الحضارة . وهذا هو السياق التاريخي والذي يجب أن تدرس فيه قضية الجهاد البحري الجزائري خلال الحقبة العثمانية .

إن أوروبا طالما كان الآخر معها فهو بطل وقديس، أما ما دام ضدها فهو شرير وشيطان فالسيد في إسبانيا بطلا قوميا ومعه زائدة كنة المعتمد بن عباد والمويسكيين من أصل إسباني هم خونة وهراطقة . وأبناء السلطان أبي الحسن من زوجته الرومية الثريا، سعد ونصر كانوا هم الأعداء وبعد سقوط غرناطة تحولوا إلى أبطال وهذا من بعد تنصرهم طبعا .

والمشكلة هنا هي أن نظرة الأوروبيين للأتراك النمطية والسيئة الذكر قد أنزلوها وبصورة مباشرة على الجزائريين . فهم متوحشون سافكو للدماء وعبارة عن كفرة وثنيين وبرابرة . إن أوروبا في تلك الفترة كانت تنظر لنفسها على أنها هي وحدها مالكة الأخلاق السامية والعقيدة الصحيحة والإنسانية أما غيرها فوثنية وبربرية وتوحش إنها فوقية عنصرية مقيتة . فالأمير عبد القادر اعتبروه هو الآخر إنسانا متوحشا، ولما عاملهم باحترام وإنسانية تعجبوا كيف يأتي ذلك من إنسان همجي وهذا حسبهم هم طبعا . لا لشيء سوى لأنهم قد برمجوا مسبقا على النظر بدونية للآخر ومهما كان فاضلا فهو متوحش عندهم طالما هو لا يتوافق مع ما وضعوه هم من معايير للتوحش وللمدنية . ولهذا فإن كتاباتهم مسؤولة عن تشويه الصورة فما تقوم به البحرية الجزائرية حسبهم ما هي إلا أعمال نهب وسلب في عرض البحار 55 .

 نعم إن الغرب الأوروبي الصاعد بفعل الثورة الصناعية والمحتكر للتحضر، قد كانت نظرته للأتراك سلبية للغاية، فها هو كتاب تاريخ الترك في آسيا الوسطى المستشرق فولدكه يقول بأن : " دخول الترك في العالم الإسلامي المتحضر بعد سقوط دولة الإيرانية الفارسية كان نكبة هائلة في تاريخ العالم كله " 56 . كما يخبرنا كذلك بأنه : " ولأول وهلة يخيل للمرء أن اندفاع المؤرخين من غير المسلمين . كان ينطلق من منطق علمي سليم، هدفه تتبع تاريخ العثمانيين المسلمين بأمانة علمية منصفة . ولكن ما أن يطلع المرء على ما أفرزته جهود المؤرخين غير المسلمين، حتى يكتشف أن الغالبية العظمى منهم قد تجاهلوا وتناسوا مقتضيات الأمانة العلمية والإنصاف بل أطلقوا العنان لأحقادهم الظاهرة والباطنة . لتكون هي المنطلق الذي ينطلقون من خلاله في تشويه تاريخ العثمانيين المسلمين وإلصاق عشرات الافتراءات التي لا تسندها أية بينات تاريخية بالأتراك العثمانيين المسلمين " 57 . وعمليات التشويه والتزييف المنظمة والممنهجة سوف تزداد ضراوتها بعد انضمام شمال إفريقيا للدولة العثمانية . أي انضمام البرابرة حسبهم للترك المهج فيكون حسبهم حلف أكبر للشر ولن يفرخ عش القراصنة الذي يأوون إليه إلا كل ذميم ومرذول . ولو أنهم اعتنقوا المسيحية وكانوا عونا لأهلها لكالوا لهم المديح ولأصبحوا قديسين في نظرهم، ولكن ما داموا قد اعتنقوا الإسلام فهم في خانة الأشرار حسبهم هم طبعا . وهذا نتيجة للصورة النمطية عن الإسلام والمشبعة والمتخمة بكل معاني الشر في نظر مسيحيي أروبا في الفترة المدروسة في مقالنا هذا . 

ولكن الحقيقة غير ما كان الأوروبيون يدعونه حول الجهاد البحري الجزائري فهو لم يكن لا أعمال وحشية ولا قرصنة . بل إن الجزائريين كانوا يطلبون الشهادة بمعناها الديني، وهذا ما نستنتجه من هذا الوصف والذي يخبرنا بأن : " اهتماماتهم بالدرجة الأولى لإنقاذ المسلمين من ظلم الإسبان ... وبهذه المهمة الجهادية لم يعد بإمكان أي إنسان مقارنة نفسه بواحد من رياس البحر الجزائريين ... ووقفوا خلال هذه المعارك في الصف الأول كما حدث في حرب مالطة وتونس وليبانتو، فكسبوا بشجاعتهم وموافقهم الإنسانية ثقة الجميع وعمت الشهرة مختلف الأرجاء والأصقاع . " 58 . وما كان هذا هو هدف القراصنة والذين كل همهم الوحيد هو الثراء والتمتع بما ينهبون وفقط .

ووصف البحارة الجزائريين بأنهم لصوص بحر وقراصنة ليس فيه من الموضوعية أي شيء، لكون هذا الوصف جاء من أعدائهم الإسبان وبالتالي فهو شهادة عدو، والحقيقة غير ما يقول هو وعليه فإن الجزائريين لهم أصحاب حق ومدافعين عنه، ألم يفكر الإسبان وحلفاؤهم بما فعلوه هم من أعمال القتل والتدمير للسواحل الإفريقية . فنسبوا الصفات البشعة إلى قراصنة الجزائر والبربر وتناسوا عن قصد حقدهم وكراهيتهم وقتلهم للنساء ولأطفال المسلمين . فاعتمد بقية المؤرخين على ما كتبه المؤلفون الإسبان، ونشروا ما تكون لديهم من معلومات هي في الأساس معلومات لا أساس لها من الصحة، ومغالطة تماما للحقيقة والواقع بآن واحد 59 .

وهل كان البحارة الجزائريين ولوحدهم فقط قساة، ألا تحتفظ لنا سجلات البندقية وبيزا ومارسيليا والجمهوريات التجارية الأوروبية الأخرى بالكثير من الشكاوى في خصوص أعمال القرصان الفظيعة 60 . وهو هنا يقصد القراصنة المسيحيين . ولكنهم كانوا بحاجة إلى عدو وعبره يرصون الجبهة الداخلية كلها ضده ولهذا فالجزائر كانت في نظر المسيحيين جلادة المسيحية وعش القراصنة حتى أنهم كانوا يخيفون أطفالهم باسم الجزائر 61 .

وكيف سمح الغرب لنفسه بتشويه كل ما هو جزائري خلال العهد العثماني، ويتحدثون عن بشاعة القراصنة الجزائريين ونسوا هم عارهم في أية بقعة وطأتها أقدام جنودهم ونسوا بأن الكاردينال كسيماناس وجد الفرصة متاحة ليشبع تعطشه إلى دماء المسلمين، فأمر بتقتيل أكبر عدد ممكن من المسلمين . ويعترف الشهود الإسبان بأن جنود كسيماناس راحوا يقتلون سكان المدينة بكل وحشية، بحيث لم تمر ساعات قلائل حتى تم تفتيل أربعة آلاف شخص عدا النهب والسرقات ... وغادر كسيماناس وهران بعد أن حول مساجدها إلى كنائس 62 .

 ولكن الجانب الآخر المضيء من تاريخ الجهاد البحري الجزائري فهم لا يرونه ويطمسونه عمدا، فها هو هايدو يتحدث عن مصاريف عائدات الجهاد البحري أو ما يسمونه هم قرصنة فيقول : " عندما كان الرياس يعودون من غزواتهم كانت المسرة والفرحة تعم الجميع، فالتجار يشترون الأسرى والمجوهرات والتحف الثمينة التي أحضروها القراصنة معهم، والتجار يبيعون الألبسة والأرزاق للقادمين الجدد ... وكان كل واحد من سكان المدينة يتذوق الفرح والسعادة، وهذا ما دفع الجميع إلى إظهار حبهم وإخلاصهم للقراصنة لأنهم المدافعون عن الدين وحماته أيضا " 63 .

علما بأنه وعقب عودة مجاهدي البحر من كل غزوة للجهاد البحري كانت تقوم حركة نشطة بالميناء فالتجار يشترون الأسرى والمجوهرات والتحف الثمينة التي أحضروها القراصنة معهم، والتجار يبيعون الألبسة والأرزاق للقادمين الجدد ... وكان كل واحد من سكان المدينة يتذوق الفرح والسعادة، وهذا ما دفع الجميع إلى إظهار حبهم وإخلاصهم للقراصنة لأنهم المدافعون عن الدين وحماته أيضا " 64 . ومن منا ينكر بأن عائدات الحروب البحرية من غائم كانت تقسم وفق حصص معلومة فلداي حصة وللجمارك حصة وللأوقاف حصة .

 

القرصنة منتج أوروبي بامتياز

إن القرصنة بمعنى لصوصية البحر لم تظهر في التاريخ لأول مرة وبصورة واضحة إلا مع الأوروبيين 65 . ولهذا فهي وما دامت تخدم مصالحهم فهي مشروعة وقتال في سبيل المسيح والمسيحية ولنشر السلام المزعوم حسبهم . وكل ما ينتج عنها من آثار مدمرة ومن نتائج مأساوية للطرف الآخر، فهذا الجانب خفي ولا تراه المسيحية الممارسة للقرصنة، لأنه وبكل بساطة عقاب رباني مشروع ضد البرابرة الأشرار أعداء السيد المسيح والمسيحية وهذا حسب زعمهم هم طبعا . ولذلك وكما أن الساحرات يضرّ شرهن بالمسيحية ولهذا فقد توجب اصطيادهن وحرقهن، فكذلك الأمر مع البحارة الجزائريين . وهذا هو جزاؤهم العادل وكل هذا جاء نتيجة اعتقادهم بأنهم على حق ويملكون الحقيقة كلها وهم وحدهم فقط من يحتكرها ويدافع عنها.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فهم يدركون تمام الإدراك بأن مركز الثقل في الحوض الغربي للمتوسط هو إيالة الجزائر ومركزها مدينة الجزائر، ومتى سقطت هذه الأخيرة فإنهم سوف يضمنون أمن سواحل أوروبا الجنوبية كلها وبصورة نهائية . إذ لا وزن لباقي المدن البحرية المغربية الأخرى ولا لبحارتها أمام الأساطيل الأوروبية . وهذا ما سوف يسهل عليهم القضاء على الدولة العثمانية، وذلك بحرمانها من أهم جناح قوة لها يحمى ظهرها من الغرب . ولهذا فقد كانت الجزائر ومن قبلها تونس أهدافا لمشروعهم الصليبي الغازي والذي لم يكتب له النجاح في بلاد الشام . وزادت عدوانيتهم حدة بعد سقوط غرناطة في العام 1492، فلما بادر الطرف الجزائري بردة فعل على مشاريعهم التوسعية هذه وعلى قرصنتهم فقد ثارت ثائرتهم واتهموا منطقة شمال إفريقيا بما كان ابنا شرعيا لهم هم ومن اختلاقهم هم . وإلا فليخبرونا بما كان الجزائريون سيردون على تحرشاتهم واعتداءاتهم تلك ؟ فمثلا فها هو سان فانسان يجيّش لأجل حملة صليبية ضد الجزائر ويحث سكان مارسيليا على التبرع لصالحها 66.

وحتى ولئن نجحت حملاتهم واحتلوا بعض الموانئ الساحلية الجزائرية فإنهم سيبقون لصوصا ودليلنا هذه الفقرة والتي جاء فيها : " عاش الإسبان طيلة فترة الاحتلال في حالة حصار، كان الجنود الإسبان يعانون حياة شاقة للغاية ... وكانت هذه الحامية كثيرا ما تنهب أغنام القبائل المجاورة " وهو هنا يتحدث عن الإسبان الذين استعمروا منطقة وهران 67 . وهذه العادة السيئة أي نهب المدنيين العزل سوف يرثها عنهم الاستعمار الفرنسي فيما بعد وتصبح عنده سياسة ممنهجة تعرف بالرزايا . أو بالضيفة وهذا عندما يحلون في منطقة ما ويخيرون الجزائريين بين الذبح وبين تموين جيشهم وهي أعمال عصابات وقطاع طرق بامتياز . 

كما يجب الإشارة هنا إلى أن بعض الموانئ وبصورة خاصة موانئ كل من صقلية وسردينيا وكورسيكا وكذلك جزر الباليار كانت معروفة جدا بإيوائها ومساعدتها للنصارى الذين كانوا يعملون بحرية في ميدان النهب 68 . حتى إن بعض مؤرخيهم مثل كاط ليخبرنا بأن الهولنديين والإنجليز لهم أكثر شراهة ووحشية في قرصنتهم من الجزائريين ودولهم من كانت تقوم بتسليحهم ليمارسوا القرصنة ضد الجزائريين . ولئن كانت أعمالنا الحربية وحسبهم هم طبعا وباء فإن قرصنتهم هم لم تكن أبدا أكثر أخلاقية من جهاد الجزائريين البحري . وهل الأسرى الجزائريين الذين ومن سوء حظهم قد وقعوا بين أيديهم والذين يُـربطون إلى أن يتوفاهم الأجل في مجاديف السفن، والذين كانوا ممنوعين من كل حقوقهم الإنسانية ولعل أبسطها حق ممارسة شعائر دينهم من صلاة وصوم . وعطفا على ما سبق نقول بأن بريطانيا هي الأخرى قد مارست القرصنة البحرية وكانت تضفي عليها صفة الشرعية وأفضل نموذج هنا هو القرصان جاك سبارو، والذي عمل كقرصان في البحرية البريطانية أيام صراعها مع البحرية الاسبانية . إلى أن يعتنق الإسلام ويتحول إلى مجاهد بحري متخذا من مطقة الشمال الإفريقي معقلا له .

وهم لم يكتفوا بممارسة القرصنة ضدنا فقط بل إنهم قد مارسوها ضد بعضهم البعض، كما هو الحال في حرب السنوات السبع 1763 – 1756 وهذا لكون كل طرف مشارك في هذه الحرب كان يريد تعويض خسائره الاقتصادية فيها ولذا مارسوها ضد بعضهم البعض . لقد جاء في كتاب حرب الثلاثمائة سنة ما يلي : " إن القرصنة لم تكن في غرب البحر المتوسط ... ولا يحق لنا أن نغالط التاريخ فإن القراصنة المسيحيين كان عددهم كبيرا جدا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر بهذا البحر المتوسط " . 69 .

نعم لقد أصبح اليوم من البديهيات والمسلمات أمر ممارسة الدول الأوروبية للقرصنة فها هو كتاب الجزائر في عهد رياس البحر يخبرنا بأن بعض الموانئ الأوروبية وبصورة خاصة موانئ كل من صقلية وسردينيا وكورسيكا وكذلك جزر البليار كانت معروفة جدا بإيوائها للنصارى الذين يعملون بحرية في ميدان النهب ولا يدينون بأية سلطة يعترفون لها بالولاء . وقد كان هؤلاء القراصنة يجبون بالقوة من سفن المسيحيين أكثر مما يجبون من سفن المسلمين وتحتفظ لنا سجلات البندقية وبيزا ومرسيليا والجمهوريات الأوروبية التجارية الأخرى بالكثير من الشكاوى في خصوص أعمال القرصان الفظيعة الجزائر 70 . وعليه فقرصنتهم هم هي قرصنة همج ووحشية لا فرق بينها وبين لصوصية البحر بل هي لصوصية البحر عينها، هذه الأخيرة لم تمارسها البحرية الجزائرية مطلقا .

هذه البحرية والتي اضطلعت بدور أساسي طيلة الفترة العثمانية، حيث كانت تقوم بعمل مزدوج يتمثل في الدفاع عن الجزائر والدفاع عن باقي البلدان المغاربية، والمشاركة في الدفاع في على البلاد الإسلامية، خاصة الدولة العثمانية في شرق البحر المتوسط، وذلك دفاعا عن المقدسات الدينية، والوطنية " 71 . وهذا هو الأمر الذي كان يثير حقدهم على الجزائر، ذلك أنها وقفت سدا منيعا يحول دون تحقيق أهدافهم ومشاريعهم الاستعمارية في المنطقة .

 

نابليون بونابرت والجهاد البحري الجزائري

ولكي نفهم سر انقلاب فرنسا على البحارة الجزائريين، فمن حليف استراتيجي تُخلى له المدن في القرن السادس عشر، تتغير النظرة فجأة ويصبحون مجرد لصوص بحر يجب تأديبهم . ولنفهم سر هذا التحول علينا أن ندرك أولا بأن ما كان يحكم فرنسا في علاقاتها بالبحارة الجزائريين هي المصالح أولا وأخيرا . فما داموا حليفا تستخدمه كصمام أمان لها ضد إسبانيا الكاثوليكية الزاحفة على أراضيها فهم أبطال ومقاتلو بحر يؤدون حربا بحرية شرعية، ولكن لما انقلبت الأمور وتقهقرت إسبانيا وأصبحت هي نفسها تحت رحمة الفرنسيين ومحتلة من قبلهم وهذا على عهد نابليون بونابرت، فهنا الساحة لم تعد تتسع له وللبحرية الجزائرية . ولا يمكن أن يبقى البحر المتوسط يدار برأسين وهذا خصوصا في ظل تغير المفاهيم والقيم وبصورة جذرية، فما كان بطولة بالأمس القريب فقط فهو اليوم قرصنة ولصوصية .

تماما كما نراه اليوم مع الو م أ فمرة تعتبر حركة ما مجرد منظمة إرهابية ولكن وعندما تلتقى المصالح أو تحتاج إليها فإنها تتحول إلى حركة تحررية والعكس صحيح . وهذا ما لاحظناه مع صدام حسين فهو بطل أيام كان يحارب بالوكالة عنهم ضد إيران ولما انتهي دوره هذا، تحول إلى مجرد ديكتاتور ومجرم يجب التخلص منه . وهو عين ما حدث مع محاربي البحر الجزائريين فما داموا يقاتلون ضد إسبانيا ومع فرنسا فهم أبطال وحالما انتهي هذا الدور فوضعيتهم القانونية تتبدل هي الأخرى . ولهذا لا يجب أن نسلم للتوصيف وللتصنيف الذي تحدده الكتابات الغربية في ما يخص الجهاد البحري الجزائري واعتباره كما يدعون مجرد قرصنة . ونابليون عندما يتوعد بتأديب القراصنة الجزائريين كما يقول فإنه هنا يحتكم إلى مفاهيم القرن ال 19 والتي لم تعد تقبل بمثل هذه الممارسات، وهذا على عكس القرون التي سبقت هذا القرن .

نعم إن فرنسا قد كانت تعرض خدماتها على الجزائريين وتتودد لهم، خدمة لمصالحها وهذا لما كانت هي في موقف ضعف . ويبرز هذا في عرضها تقديم مساعدتها للجزائر على عهد حسن بن خير الدين البيلرباي ولكنه رفض مشروعها هذا . 72 . ولكن لمّا انقلبت الأمور وأخذت هي بالثورة الصناعية فقد تجرأت على غزو الجزائر وكان ما كان منها والقصة نعرفها جميعا .  

نعم إن الفرنسيين كان تعاملهم مع البحارة الجزائريين تعاملا مصلحيا، فهم أبطال ما داموا يحتاجونهم ولصوص بحر متى انتهت تلك المصلحة، وهذا ما يدل عليه إرسال : " ملك فرنسا في العام 1552 هنري الثاني ممثله دالبيسي إلى باشا الجزائر من أجل مضايقة إسبانيا بصورة مستمرة، فكلف صالح باشا أسطوله بالتوجه إلى جزيرة ألبا لضربها وضرب السواحل الإسبانية الأخرى ... إضافة إلى مشاركة البحار الفرنسي دولاغارد . واستمرت الأعمال البحرية ضد الإسبان فترة طويلة " 73 .

ولكن علينا أن لا ننسى بأن فرنسا باحثة عن مصالحها وموقفها من الأتراك متغير حسب تبدل تلك المصالح ففي العام 1660 : " نجح الكاردينال مازارين في اصلاح العلاقات بين فرنسا وملك إسبانيا، فشكلا حلفا صليبيا انضم إليه الآلاف من الفرنسيين والإسبان والمالطيين ودوق توسكانا، وبارك البابا هذا الحلف وحقق أسطول هذا الحلف نصرا على العثمانيين، ولكنهم لم يلبثوا أن هزموا جيوش هذا الحلف شر هزيمة في معركة قنديا . وفي العام 1664 واجه العثمانيون خطرا جديدا يتمثل في حلف صليبي جديد باركه البابا إسكندر السابع وانضم إليه امبراطور النمسا ليوبولد، وملك فرنسا ... نقض المعاهدة في عام 1670 وأرسل أسطولا بحريا لمحاربة العثمانيين، إلا أنه عاد وسحبه بناء على مشورة وزيره كولبر الذي أقنعه بعدم جدوى محاربة العثمانيين منفردا " 74 . ولهذا ففرنسا لمّا تعادي إسبانيا ترتمي في حضن الدولة العثمانية ومن تسميهم قراصنة، ولما تتصالح مع إسبانيا تقلب ظهر المجن للدولة العثمانية .

ويا للعجب لكأن التاريخ يعيد نفسه فكما اعتبرت روما الصاعدة بأن أعمال الأيليريين البحرية غير مقبولة لأنها قد أصبحت في موقع الأقوى، فها هو نابليون ومعه فرنسا الصاعدة أصبح هو الآخر وهي الأخرى يعتبران الأعمال البحرية الجزائرية غير مقبولة، وكما اتخذت روما من قرصنة الإيليريين حجة للتدخل في منطقة البلقان واحتلالها، فكذلك اعتبرت فرنسا ونابليون الأعمال البحرية الجزائرية غير مقبولة واتخذوها كحجة للتوسع واحتلال المنطقة، إنها إرادة الأقوى بتعبير الفيلسوف نيتشه . ونحن هنا لا نلوم لا روما ولا فرنسا لأن كليهما ينظر إلى المسألة من زاوية المصالح الخاصة بهما ولا شيء غير هذا .

نعم إن سبب تغير موقف فرنسا تجاه البحارة الجزائريين هو أنها أصبحت في موقع القوة وعليه فهي لم تعد تقنع بما تكسبه من تجارتها مع الجزائر فقط . بل هي الآن قد أصبحت تريد وضع يدها على الجزائر وما فيها وأن تصبح جزء منها، وامتدادا لها في إفريقيا ولهذا فإن قناصلها قد أوضحوا : " للجزائريين أكثر من مرة وبصورة مفيدة، أنه قد يكون التجزؤ على دولة قوية والتحرش بمصالحها أمرا خطيرا . " 75 . بل أصبحت هي من تتحرش بالجزائر لأجل غزوها ولا داعي أن تتحجج بالقرصنة والتي قد ألغيت منذ أكثر من خمسين عاما على احتلالها للجزائر .

إن كل من فرنسا ونابليون قد أصبحا يريان بأن هذه الأمور والمقصود هنا السيادة العثمانية على شمال إفريقيا : " لم تعد مقبولة أن تستحوذ حفنة من القراصنة المغامرين على أجمل بقعة في العالم وتفرض عليهم – أي على الدول الأوروبية – شروطا هي أقرب إلى التبعية التي يفرضها ملك قوى على أمير صغير 76 . وهذه المواقف الجديدة أوحت بها إلى فرنسا القوة المادية والعسكرية منها على وجه الخصوص والتي أصبحت تملكها على إثر الانقلاب الصناعي الذي شهدته شأنها في هذا شأن كل دول أوروبا الغربية .

وكيف يتغافل نابليون عمدا عن حقيقة أن الجزائر ومنذ بداية القرن التاسع عشر قد ألغت الأعمال الحربية البحرية، والتي تقوم بها الشركات الخاصة وأصبح العمل الحربي البحري من اختصاص الدولة وفقط، وهذا لأجل الدفاع عن مصالحها وعن كيانها وهذا حقها المشروع، والذي يسمونه هم قرصنة وجب القضاء عليها . ولئن كان نابليون جادا في القضاء على ما يسميه بالقرصنة الجزائرية، فإن الأولى به أن يطهر بيته أولا، ذلك أنه يتوعد البحرية الجزائرية في حين أنه يتغاضى عن أعمال القراصنة الصقليين والذين أغرقوا في العام 1811 سفينة جزائرية كما جاء في مذكرات القنصل الأمريكي بالجزائر وهذا أثناء ممارستهم للقرصنة في المتوسط 77 .

إن نابليون لكاذب وهذا حينما يدعي بأنه يدافع عن القانون الدولي فهو هنا مثله مثل بريطانيا ومثل دولته فرنسا لا يهمهما إلا مصالحهما . وهذا الأمر تصفه الفقرة التالية والتي نقتبسها من كتاب مذكرات قنصل السابق الذكر وليام سبنسر والتي جاء فيها : " وقد كانت فرنسا دائما على استعداد لتقديم أية خدمة تدل على الخنوع، وذلك حتى ولو كانت تنطوي على خرق القانون الدولي " 78 . وكيف يكون نابليون صادقا في محاربته للجزائر ولبحريتها ودولته فرنسا هي أول من يخرق القانون الذي يدعي بأن الجزائريين يخرقونه وأنه قد حان الوقت لتأديب الجزائر . ودولته فرنسا نفسها قد ظلت تمارس القرصنة وعلينا أن ننتظر العام 1856 تاريخ إعلان باريس والذي بموجبه تم حظرها وبصورة نهائية . 

حقيقة إن الكثير من الأمور لم تعد مقبولة في القرن التاسع عشر كالعبودية والقرصنة بالمفهوم الأوروبي وهذا ما عبر عنه وليم سبنسر في كتابه الجزائر في عهد رياس البحر بقوله بأن القراصنة، وهو يقصد البحرية الجزائرية لم يبالوا بتطور القانون الدولي مما سرع باستدعاء مؤتمر إكس لاشابيل قضايا الإتاوات والرهائن والعبودية 79 . ولكن الحقيقة هي أن موازين القوى الدولية قد تغيرت بفعل الثورة الصناعية وأصبح زمام المبادرة بيد فرنسا خاصة . ولذلك فقد تراجعت العمليات البحرية الجزائرية في المتوسط في الربع الأول من القرن التاسع عشر، ولما حاول الجزائريون إرجاع الوضع كما كان سابقا، هنا كان رد فعل نابليون عنيفا جدا لدرجة أنه بعث الجاسوس بوتان ليضع مخططا لغزو الجزائر وبهذا العمل فإنه وحسبه هو طبعا سيخلص أوروبا من الجهاد البحري الجزائري وبصورة نهائية حتى أنه صرح بأنه سوف يلقن هؤلاء القراصنة ولصوص البحر الجزائريين درسا قاسيا . ومن بعد انهزامه ونفيه فإن فرنسا الملكية قد تسلمت المشعل منه .

وأخيرا نقول بأنه وفي القرن التاسع عشر قد تغيرت موازين القوى وأصبحت فرنسا دولة قوية مهابة الجانب . وتغيرت الكثير من المفاهيم والقوانين المحلية والدولية على حد سواء . فمثلا قد أصبح العالم يتجه صوب إلغاء العبودية والرق ونابليون نفسه غير القوانين في فرنسا وأصبحت مدنية ورياح هذا التغيير هبت على أوروبا كلها . ولكن الجزائر في علاقاتها الدولية لا زالت تحتكم لقوانين وقواعد الماضي وحتى الباب العالي فشل في تغير مسار الجزائر هذا . هذا هو السياق الذي كان يتحرك فيه نابليون فما كان مقبول في الماضي أصبح وبفعل الثورتين الصناعية والفرنسية غير مقبول في القرن التاسع عشر ولهذا فهو يعتبر الحرب البحرية الجزائرية قرصنة ولصوصية وهذا لتغير فلسفة الحياة ككل .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم