الرئيسية

الشموخ

حين يتعلق الإنسان بالأمل في الوجود الإيجابي، حين يوجد من أجل حياة أفضل، حين يسيطر على كل إحساس بالضعف، حينها يقهر الظروف وكل تفاعل سلبي معها، حينها تظهر قوته على التحدي وعلى التجاوز بل التعالي أو التسامي. إنه الشموخ الإنساني الذي نجد فيه همة وسمو وعظمة.

كلما صعد الإنسان القمم أدرك ضعفه وعلم أنه كان نقطة تكاد لا ترى بالعين المجردة. وحين استطاع أن يتنقل عبر الفضاء أدرك كم كان تخوفه من السحب مجرد سحابة ذهبت ولم تعد بعد اختراقه لها.

إحساس الإنسان بالقوة أمام الظروف هو ما قد يميز بين بعضنا البعض، بل هو ما قد يجعل للصمود معنى، إيمانا منه أنه قلب الأسد المغوار، قلب ملك الغاب الذي لا يهاب صمت الغابة المخيف، ملك الغاب الذي إن زأر أخرج قدراته الكامنة فيه مظهرا سر قوته، وهي وسيلته لإثبات وجوده وتفرده كوجود قوي قاهر لكل الظروف.

قلب الأسد هو مفهوم مجازي يشير إلى القوة الكامنة في كل واحد منا والتي على ما يبدو قد تصبح في طي النسيان والتجاهل، كل واحد منا أسد في قلبه من الصمود ما يكفي ومن الشجاعة والإقدام على المواجهة ما يبهر وحوش الغاب. فهل هي قوة على المواجهة أو قوة الإيمان بالقدر المحتوم؟ وهل إحساس الإنسان بقوته هبة معطاة لدى البعض دون غيره؟ أم أنها صفة يقويها البعض وتتقوى مع الأيام؟

قد يشكو البعض من قساوة الظروف ومن الحرمان، وكأن من حقهم التمتع بما يتمتع به الآخر حينها تفوق رغبة الفرد إرادته وتتحول إلى إحساس بالعجز أو بظلم القدر، فينعم بالاستكانة ما يكفي ليترك أحلامه وراءه ويتحول فكره إلى نوع من العصيان، فتشح عاطفته على نفسه وعلى غيره ليعرف ببخل العطاء فيحول حياته لجحود وجمود ثم نرى في حديثه سخط ونقم، ونسمع نبرة ضعف تجتاح صوته. لقد أقفل كل أبواب الانتظار، كبح كل الرغبات وتنحى عن كونه كائن راغب بامتياز.

 كان على الانتظار أن يستمر لتستمر معه الرغبة في الحياة، هو انتظار لأمل بعد عمل، ولكن ظن أنه وهم من الأوهام سطره التفهاء من البشر،  وقرر أن الأماني ماهي إلا أوهام نسينا أنها أوهام من كثرة الحديث عنها، ومن تم يبقى أن الانتظار ما هو إلا جري وراء الوهم ورغبة في ملاحقته...

والحقيقة لن يكون هذا سوى ضعف فيل قوي الجسد زرع فيه قلب ميت، يمشي مستعرضا عضلاته المفتولة تظهر جمالية الجسد في شبابه وعظمته، لكنها تخفي شيخوخة تخلو من كل حياة تدخل البهجة والإحساس بالمتعة والفرح.

 لقد شاخ الفرد وإن كان في عز شبابه، نراه يمشي بانكسار وضعف حتى وإن أمتعنا الجسد في مظهره الخارجي لكنه أخفى عنا جوهرا لا علاقة له بجوهر الإنسان ككائن يخلق ظروفا غير الظروف ويصنع عالمه الممتع بلغته وقدرته على التخيل والتصور والتخطيط لعالم أفضل، كائن أثبت جدارته باستحقاق كمبدع أو كمخترع...

 وهكذا فالعصيان هو عصيان للذات ولقدراتها وأحقيتها للسعادة هو تجاهل لصوتها ودفن بمراسيم معلنة وفق عقل لاعنا الظروف والأحداث ... للأسف يبقى كل شيء عند الإنسان بالعقل، كل شيء مبرر ولكن بأية لغة غير لغة المتشرد الضائع الذي يهجو الزمان ومن فيه...

قلب الأسد رمز لكل قوة كامنة في الإنسان، حين تشتد الأزمات في حياة كل فرد منا وتتراكم المشاكل ينتفض مستنكرا كل الظروف ومعترفا بنفسه وبقدراته وكأنه يقول: "أنا قلب الأسد الذي لن يقهر". وكأنه يقول: " أنا لازلت موجودا، وأنا من سيطبع هذا الوجود بتجاهل الألم رغم قساوته، بل سأجعله الطعم الذي لا بد منه لتذوق السعادة، علي أن أعلم أنني فقط أنا من يتعلم من الألم معنى السعادة، هي الوصفة التي اكتشفتها وكان على غيري معرفتها ليدرك جمالية الحياة"

قلب الأسد إذن مصدر القوة الداخلية لمن يؤمن بأن لا سحابة تظل في مكانها وإن استطاعت حجب الشمس عنا لكن كلما تحركت ترى النور يشع من جانبيها.

من يمتلك قلب الأسد يعرف أن بالألم نعرف طعم السعادة وأنه ليس ما يحدث له هو الذي يقرر مصيره بل كيف يرى الأحداث وأية دلالة يعطيها لها.

ستعود الكرة من جديد إلى مرماك لتعرف أنك أنت من يوجهها في البداية، قد تصطدم وتسير وفق القدر لكن توقعاتك الإيجابية لن تخيفك من النتائج، على اعتبار أنك فاعل في الأحداث وترفض أن تكون منفعلا بها.

قوة الإنسان مثل قوة الحديد هناك من يصدأ حديده فيضعف وهناك من ترمي به الأقدار ولا يستطيع مقاومتها ولكن القلب النابض من سيسمح بالاستمرار وسنسمع نبضاته القوية، لذلك فقلب الأسد رمز قوة الإنسان الداخلية في مختلف محطات حياته بل حتى في ضعفه قوة، قوة الإيمان بالقدر وقوة الدعاء لرفع البلاء والإحساس بالاطمئنان في فترة النقاهة ليعود من جديد قوة بعد علة.

بل هو الابتلاء الذي يصيبنا وأصاب حتى الأنبياء والرسل كدليل على أنه ليس هناك ظلم للقدر كما قد يعتقد، بل إن الحياة جسر نمر عبره لحياة حقيقية أبدية خالدة، ومن يدرك هدفه أكيد لن يضل.

وهكذا هناك من يرى في الألم نعومة التقرب إلى الخالق وطلب رفع البلاء وصلاح الحال، وهناك من يرى فيه قهر له وأن صلاح الحال من المحال، غير أن نوع آخر يفضل قراءة الفنجان وينصب لنفسه عالم من الأحلام وكأن الحياة الوردية مليئة بالأماني والتمني، ونسي أنها مجال للعمل والجد بل  والتحدي أيضا مع فكر قادر على قراءة الأحداث بالشكل الذي يسمح للحياة أن تكون أجمل.

 أعود لأقول: قلب الأسد أحببت صوتك، أحببت رغبتك في أن تكون وستكون دقاتك من يجب أن تحافظ عليها كل ذات. أنت قوتها المعطاء والحالمة بسخاء وبصيغة التحدي وبالقدرة على التجاوز من أجل غد أفضل. سوف نتعلم منك وإن ذرفت عيوننا دموعا وإن قست علينا الحياة، تعلمنا منها كيف نحبها وننعم بسعادتها، وإن أحسسنا بضعفنا استدعينا الجانب الأقوى بصرخة لننفض عنا الشكوى والوجود المستكين أو أية رغبة في نظرة عطف. سنتكلم سويا بلغة الفعل بزمن الحاضر على اعتبار أننا نعيش زماننا ولا نتحسر على زمن سوانا.

 وبالتالي قلب الأسد هو من يستطيع أن يجمع بين قوة الإيمان بالقدر وقوة الفكر مع استخراج لملكات الفرد والعمل على تنميتها باستمرار، ذلك ما يجعل في الوجود الإنساني عظمة وشموخا.    

 

بقلم: رشيدة الركيك