صحيفة المثقف

قراءة الحنين في: حدائق الموصل للشاعرة بشرى البستاني


حدائق الموصل / بشرى البستاني

أحنّ إليكِ

لعطرٍ يرفّ على الضفتينِ فتشهقُ روحي:

صباحك دجلةْ

صباحكِ أجنحةٌ ونشيدٌ وقبلةْ

صباحك بيتٌ يفتشُ عني

وعن كأس حزني

وعن ليلةٍ لا تنام على ساعديَّ

لأنك ما بين رفّاتِ جفني

يُفتشُ عن جذوةٍ تتحدى السياطَ

ابسمي ..

كلّ هذا الخراب سرابٌ لأنك صامدةٌ في العذابْ

وأني على العهد أرسم ثوراً بأجنحةٍ

وأخطّطُ سوراً جديداً لتاريخ حبٍّ عتيدْ

فأنت عروسُ الحضارات، ريحانُ أمجادها وشجاها

وأنت بداية هذا العراق الذي قيدوهُ،

خريفكِ أبهى ربيعٍ وهمسةُ حمى.

خذيني إليكِ،

سينهضُ وردٌ غفا بين دمعة روحي وقيدكِ

والنخلُ يهفو لزيتونة تتحدى الحِرابْ.

 

يحرك النص الشعري بأيقونته الأولى (احن) التي تُصعد كل شيء وتُؤجج المشاعر، هذه اللفظة التي تعمل على تصعيد الحس الشعوري ونبرته إلى أن تبوح بهذا الفيض الكتابي متدفقا .

إن الحنين جذوة تُفعّل تسلسل السرد، كما يعلن عن التواصل الممتد بين الذات والآخر، وليس أي آخر بل هو الوطن والمدينة . وأول فعل للحنين يتبادر بـ (العطر) فالحنين للعطر عبر الاستذكار المناط بحاسة الشم وعند اقتران الحنين بالعطر تصعد شهقة الروح لتتواصل مع هذا الفعل فتكون ردة فعل مناورة للحدث . واختارت العطر لأنه يسري في النفس فيدخل الروح بلا استئذان، وكأن عطرها يعطي الروح الهواء والحياة ومدد العون فلا حياة بدونه.

تدعم مساحة التفاؤل بثلاثية (صباحك) اللفظة المكررة المقرونة بثلاثة اشياء ( دجلة/ اجنحة يؤازرها نشيد وقبلة/ بيت). فتتسلل مفردة الحنين بأشكال عدة عبر غياب الذات، وعملية التفتيش تقلب مسارها، إذ يتبناها البيت محاولا التفتيش عن الذات وعن جذوة التحدي .

لتصل الشاعرة إلى الحقيقة المبتغاة وهي مواصلة زرع التفاؤل بقولها (ابسمي) فكل هذا الخراب ماهو إلا سراب، لتحول حقيقة ما حدث من خراب إلى صورة خيالية بعيدة عن الحقيقة، لأن الغاية المرجوة هي الصمود بوجه العذاب، ففعل الصمود اهم من أي خراب حدث، لأن الخراب خارجي لايمس روحها الصابرة .

فتتبادل الأنا والأنت الدور إذ تناط بـ (أنا الشاعرة) البقاء على العهد من رسم المستقبل والحب، و(أنت) التي تمثل الحضارات وبداية الوطن الأكبر العراق، لينتهي النص بطلب الذات (خذيني إليك) وبهذا الانضمام سيتبادر الأمل والسلام ويتحديان كل فعل للسلاح والدمار . وهذا البعد الذي اضنى الذات وحرك مسارات الحنين بداخلها والذي لاينتهي مداه في دواخل الروح، لتحاول طمر كل مسافات الوجع وعدم البوح بها وتبقي الحنين كرمز لكل خلجاتها وما تضمر، فالحنين يخبئ مدا واسعا من الوجع لاتظهره لأنها ترنو إلى القوة دائما بروح التفاؤل .

إن الشاعرة تعمل على موازنة الأفعال السلبية بالايجابية والخراب بالأمل وعبر هذه الموازنة تفعِّل جوا ملائماً تتوزع فيه الاشياء بين عالمين، عالم الحروب والخراب، وعالم الحلم بواقع أكثر أمناً. لكنها لا تغفل تغليب العوامل الإيجابية على عوامل السلب بالرغم من هيمنة السلب وقسوته على الواقع من أجل توفير فرصة لاستمرار الأمل وتواصل الحلم الانساني، إذ تكرس هذا الحلم من خلال تشكيلات جملية مشرقة بالتفاؤل:

ابسمي / كل هذا الخراب سرابٌ لأنك صامدة في العذابْ

وأني على العهد أرسم ثوراً بأجنحةٍ

وأخطط سوراً جديداً لتاريخ حبّ جديد.

ويكرس النص عالم التفاؤل في: (صباحك /ابسمي / تتحدى/ صامدة / ورد / سينهض/ زيتونة) وعالم الحزن والدمار: (حزني / رفات جفني/ السياط /الخراب/ العذاب/ دمعة/ قيدك / الحراب) وعبر هذا التوازن الايجابي تتزن الحياة وتتواصل.

ان المستوى الايقاعي لهذه القصيدة يؤكد تمثله للدلالة التي ثوت في التشكيل تأكيدا يحقق انسجاماً شعريا من خلال التماثلات الصرفية والصوتية في تشكيلات عدة، فنجد دجلة مع قبلة، ونجد عني وحزني وجفني إذ يشكل الصدى الصوتي لحروف اللام والنون فضاء نغميا ينسجم ودلالة الحزن والأسى اللذين يشيعهما الحنين المهيمن على النص.فضلا عن تعميق الإيقاع الداخلي الذي شكلته القوافي الداخلية المتجاوبة مع روي القصيدة في:

كلّ هذا الخراب سرابٌ لأنك صامدةٌ في العذابْ، ثمّ مع روي القافية الأخيرة:

والنخلُ يهفو لزيتونة تتحدى الحِرابْ.

 

د. إخلاص محمود عبد الله

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم