صحيفة المثقف

الجندرية الذكورية .. حدود المقاومة

mamdoh rizukحينما شاهد أشرف المدني بطل رواية (الوشم الأبيض) لأسامة علام فيلم (كلب أندلسي) لسلفادور دالي ولويس بونويل، لم يكن مشهد قطع عين البطلة مفهومًا بالنسبة له، لكننا حينما نفكر في هذا الفعل بوصفه تخريبًا لبنية النظر، أي تدمير السلطة المفاهيمية للوعي البصري تحررًا من تاريخه فإننا سنكون أمام شخص يشاهد في الفيلم ممارسة مقاربة إلى حد ما لما يقوم به في الرواية دون أن يدرك ذلك .. ما هي بنية النظر التي حاول أشرف المدني أن يقطعها؟ .. إنها السلطة الرمزية للذكورة في كافة أشكالها العنصرية، والتي تحتل ما يمكن تسميته بأبوة التاريخ المجسّدة في شخصية (جون) .. لا يمثل أشرف هنا الرجل المتمرد على قطيعه الذكوري بقدر ما يمثل الذات التي تسعى للتحرر من طغيان التمييز، واسترداد الدمج الإنساني بين الذكوري والأنثوي كجوهر أصيل للوجود عن طريق إنقاذ الأنثى من عذابها الأزلي، والتي تمثلها الفتاة (مود) .. الذات التي تتأمل وحدتها، وتفكر في هزائمها كمعاناة بشرية، وليست انتهاكًا لقداسة الكائن الأرقى، أي الرجل الذي يحمل الخصال الازدرائية، بقوة تفوقه الجندري.

(الجميع فى لحظة مريرة سيرحلون و يتركوك تجتر ذكرياتك معهم. ليرحلوا هم أيضا فى طريق وحدتهم و ذكرياتهم. البشر تعساء جدا لأنهم لا يملكون سوى الذاكرة و الوحدة و جنون الدوران الدائم فى متاهة البحث عن المؤانسة. أحيانا كثيرة أحسد مرضى التوحد ربما لأنهم الأصدق فى رؤية العالم على حقيقته.  بلا ضجيج تخبرهم عقولهم ، التى نصفها لسذاجتنا بالمريضة، بأنه ليس هناك مايحتاجونهم سوى أنفسهم فقط. لتبدأ رحلتهم الأهم الى الداخل. فيصلوا سريعا الى جوهر الحقيقة. ربما أسرع من العجائز أنفسهم بعد عمر طويل لايسمح لهم بالوقوف مرة واحدة، مرة واحدة فقط، للنظر الى الداخل).

إن أشرف المدني ليس إنسانًا مثاليًا بقدر ما يبحث عن المثالية الغائبة، والتي تعني في تصوره إزاحة العوائق الأنانية من طريقٍ يمكن للسلام الأخوي أن يقطعه نحو الكمال .. التعويض المناسب عن انفصال آدم وحواء .. ربما نشعر أيضًا أثناء هذه الرحلة لتحرره الذاتي أنه يمتلك إيمانًا ـ حتى لو لم يكن مدركًا بالنسبة له ـ بأن هذا التحرر لا يتعلق به وحده، وإنما يتعلق كذلك بالموتى الذين حطمتهم هذه السلطة، ولن نكون مخطئين لو تعاملنا مع رسالة صديقه (نواز) ورسالة أبيه كدليلين دامغين على هذا .. كأنه يعيد للموتى الأنثى التي فقدها كل منهم مثلما سيفعل هو نفسه في نهاية الرواية، وأقصد هنا ما ستصير إليه علاقته بزميلته الطببية (هناء محمود).

(أشعر بأن الأرض تحتضنى، أحس بنفس الآمان الذى كنت أشعر به فى حضن والدي، الذى لابد و أن عظامه تحولت الى رماد مثل هذا الرماد فى مقابر أهلي بسيوة. أعطاني هذا الشعور راحة استطعت معها التخلص من كل ألمي. و كأنني أعود بسلام الى جوهري الأرضي. متحدا مع كل أرواح من سبقونى منذ بدء الخليقة. لألامس لأول مرة معنى السلام الأبدي. أتصل بروح الخالق الذى أحب أن نكون من التراب، لأنه ربما أكثر قيمة من كل المعادن التى تخيلنا أنها نفيسة. مجرد ارتمائي على الأرض كان كأنه عودة حقيقية لسلام حياتي السعيدة فى رحم أمي. وفي غمرة كل هذه السعادة كان جسدي يزيد من التحامه بالأرض. وكأنه باستطاعتي الذوبان كلية فيها. والتحول الى مجرد نبتة صغيرة تحمل زهرة لا أعرفها. كان من الممكن أن أمكث هكذا لسنوات لا يهمني أن أعرف عددها. لولا يد تيكانا التى أيقظتني من حلم سلامي الذي بلا حدود. لتذكرني بوجودها و بكينونتي البشرية المريعة).

لكن الرواية تطرح أيضًا استفهامين أراهما ضرورين للغاية: هل تمثل هذه السلطة الرمزية أساسًا يمكن خلخلته فعليًا، أم أنه طبيعة تخضع لأبوة تتجاوز التاريخ نفسه، وأقصد هنا الأبوة الإلهية؟ .. هذا التساؤل هو ما سينجم عنه الاستفهام الثاني: إلى أي مدى يمكن لـ (ذات) أن تتحرك خارج ذكورتها، أو بالأحرى خارج ما يفترض أنه حدود هيمنتها المحكومة بإرث لم تتدخل في إنتاجه، كما أنها ليست إلا ممرًا مؤقتًا له؟ .. لنفكر جيدًا في التناقض بين (التراب الأكثر قيمة من كل المعادن التي أحب الخالق أن نكون منها)، و(كينونتي البشرية الوضيعة) في الفقرة السابقة .. إنه الفصل التقليدي بين (الطهارة) التي أنتجت أجسادنا، و(الدنس) الذي صرنا إليه .. كأن هذا لا يمكن أن يؤدي إلا ذاك .. هكذا يمكن التفكير في إجابة للاستفهامين حول الأبوة الإلهية، وحدود التحرك خارج الذكورة.

(ربما أدركنا أن انصهار الوقت لا يؤدي إلا لإعادة تكوينه. فالانصهار لا يؤدي أبدا الى فناء المادة الخام. لأنه يعيد تشكيلها. تماما كالوشم الذى لا يفني الجلد و لكن يعيد تشكيله برسم مختلف. و تبقى اذا ذاكرتنا التي تصهر الوقت و تحتفظ لنفسها دائما بمادته الخام. ذكرياتنا عن الوقت نفسه الذى ينتهى بفنائه الذاتي. الآن فهمت لماذا أرسلت لى كارما هديتها الجميلة).

لو وضعنا عدم فهم البطل لمشهد قطع العين في فيلم (كلب أندلسي) بجانب تحليله (المسالم) للوحة (إصرار الذاكرة) لسلفادور دالي فإننا سنكتشف معنى آخر للبحث عن المثالية الغائبة عند بطل الرواية، والتي تتجاوز السلام الأخوي بين البشر .. إنه الحد الذي سيتوقف عنده أشرف المدني، حيث العودة الحتمية إلى (الرجل)، كأنه كان طوال الوقت يعمل على إنقاذ السلطة الذكورية بأن يجعلها ضامنًا للاندماج المنتظر مع الأنثى .. إن أسامة علام لم يقترب من المطلق الذي قطع لويس بونويل عينه في (كلب أندلسي)، وسخرت منه ساعات سلفادور دالي الذائبة في (إصرار الذاكرة) بل كان يسعى لتصحيح نتائجه فحسب .. أن يعالج الخلل الذي انحرف بالطبيعة ضد إرادة هذا المطلق .. كأن الوشم الأبيض قرار غير مرتبط بالغيب، أي لعنة طارئة يمكن محوها في يوم ما.

 

ممدوح رزق

 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم