صحيفة المثقف

نزف الروح في مراوي المرواتي عمار أحمد

iklas mahmodabdulahيُحدد الكاتب منذ البدء هذا العمل بـ (الالتماعات) وهي نوع من المراوي القصيرة جداً التي يجترحها المرواتي بوضفها فضاء سرديا موازيا لـ (ق.ق.ج) وبهذا نعرف جنسها الأدبي وتحت اي بند كتبت. كما يصرح الكاتب في متنه بنوع كتاباته: (يا التماعةٌ من لحم ودم)(1). (أنت التماعُ الوقت مدهوشاً بمكانِ)(2).

إن هذه الالتماعات أشبه بسيرة شعورية ذاتية يوظفها باسلوب التماعة خاطفة تعطي الفكرة وبمزيد من الشعور الذاتي الصادق المعبر عن حرارة العاطفة واتقادها.

يشتغل النزف بحفر الياته في النص على الصعيد الخارجي من الكلمات والداخلي في الدلالة، كما هو في الروح والجسد ،إذ يضع بصمته من مرارة وحزن داخليا، ونحل وضعف خارجيا ، وهذا ما يمس الذات بوصفها الكون الصغير والوطن الكون الكبير ويتكلم عنه المرواتي في سيرته الالتماعية معبرا عن الوجع بالوجع والنزف بالذات وليظهر تمدده في الآخر ،وهذا الانتقال بين أنا وأنت يؤسس الحس العميق بالانتماء والوجود .

يعتمد اسلوب الحكي في الالتماعات هذه (كان ياما كان / صار ياما صار) فضلاً عن الفاظ اخرى: (يُحكى أن / يَحدث أن) و أحياناً يأتي اسلوب الحكي بـ: (يقول المرواتي) دعما لاستمرارية الحاضر، وأخرى بختم الحديث بـ (قال المرواتي) لحضور الماضي وتأكيده كما في:

(... وبهجة الحياة ..

صرت اخضرار الشباب .. (قال لي المروائي).

(يقول المرواتي: الكتابة معتقلي الاختياري الشاسع الذي لا تضاهيه إلا الحرية نفسها!! ويقصدُ (أنتِ) فتعانقك موسيقاه فرحاً بالقصد..) (3).

وفي هذا الجو ينقل الخبر من المرواتي لآخر، وهذه العملية تتضمن وصول وتدفق المراوي القصيرة المكثفة منه الى الآخرين مما يعطيها الإستمرارية والديمومة في الحضور الزمني. كما يضمن لها جهة الإنتساب والعرض.

في البدء تأخذ اللعبة السردية مداها بين أثنين (كان ياما كان) (صار ياما صار) إذ يدور الحدث بينهما ولا يحيد . واحدة تفتح العرض على مسرح الحدث والأخرى تختتمه (كان) تقص عبر الزمان وتكشف الحقائق الزمنية الماضية وبهذه التقنية للعرض بين الكان والصار تلخص الحدث، وكأنما تعرض الفكرة بشكل ملخص لما كان وما صار عليه الحال للتحول والإنتقال عبر ماصار من حالٍ الى حال. فتعمل (كان) الفعل الكلامي الناقص في الروي الحكائي فاتحة باب الحدث على ماضٍ مبتسم آمن في رويها المعتاد (كان ياما كان) كاشفة الماضي المحكي بهذه النبرة الكلامية المتداولة والحكائية المتوارثة من القدم.

من هذا يتضح أن الالتماعات تأخذ منذ البدء هذا السرد المعتمد على الماضي ثم يستدرك مباشرة بالتغير في العرض عن طريق التحول بـ(صار) وهنا يبتكر المرواتي صيغة جديدة تماما لتحويل الحكي إلى (الآن) الحاضر وقلب المألوف الذهني القار (كان يا ما كان).

ومن اساليب المراوي هذه استخدام الحوار الذي يقوم على بنية القول في: (قلت / قالت) (انتبهي.. انتبهي.. وإذا ستظلين على عنادك واهتمامك بعمار أحمد فقد أقتلك.. نعم أنا أغار مني جداً)(4).

(غادر عمار الطفولة دون إذن مني وتركني، فهل أخاصمه؟)(5).

ليعزز استمرار المحاورة بين اثنين وهما جوهر العملية الحكائية وطرفاها إذ لا استغناء عنهما. فضلاً عن أنه يضمن تدفق الحكي وإدامة التواصل بينهما وما هذا التواصل إلا في المحبة و سبر اغوار العمق المعرفي بإتجاه كينونة الذات والآخر في اطار الحكي المتبادل المتداول.

في مقابل هذا يصعد في الذات الشعور بتجديد الانتماء وبيان الهوية فتلجأ الى عناصر شتى لإبراز الهوية الفردية مقابل الآخرين كنوع من إثبات الحضور وتأسيساً لقيم الذات وإعلاءً لشأنها ومن هذه الوسائل:

استخدام الاسم: ويأتي هذا الاستخدام إما بالاسم الصريح للكاتب (عمار)، أو باللقب (المرواتي) المتعارف عليه الذي وضعه هو بنفسه كي يعلن عن وظيفته الأساس وهي (كتابة المراوي) ،وبما أنه المرواتي فهو من يرويها وينظم سبكها. وما هذا الإعلان بالاسم إلا ليثبت سمته المعرفية ويعلمنا بحجم وظيفته، كما في قوله: (وإذا ستظلين على عنادك واهتمامك بعمار أحمد فقد اقتلك .. نعم أنا أغار مني جدا ..)   وقوله: (اغادر عمار الطفولة دون إذن مني وتركني)   .

استخدام (أنا) بكثرة وهذا النوع من الظهور الذاتي يتسم بالفخر والشعور بحضور الرغبة للذات المتكلمة بحكي رمزيتها تعريفاً للآخر بماهيتها وإشعاراً بذاتها المتأزمة المكلومة وسط دوامة الزمن .

ومن وسائل حضورها في الحكي إما بشكلها المفرد، أو بشكلها المقرون مع الآخر (أنت) لتتقابل (أنا، أنت) العمل الحكائي وتضخ فيه السمة المتبادلة بينهما خاصة وأنهما جوهر العملية الحكائية ومناط العمل والإهتمام.

تأتي الإلتماعات بشكلها الدارج دون مقدمة أو إعلان مسبق وبهذا تنطوي على عنصر المباغتة والمفاجأة وهي السمة البارزة فيها خاصة وهي التماعة لها من اللمع والسرعة الشيء الكثير.

وقد تأتي أحياناً بتسمية تنفرد بها لتميزها لكن هذا العنوان لها يظهر في نهايتها وهو مخالف لما هو مألوف من ذلك قوله: (كان ماء عينيها وتمنت أن يكون – إذا جار الزمان- عصاها .. لكنه زادَ عماءَ عينيها حين عصاها..(سيرة قصيرة جداً لـ عاق.)(6) .

يظهر نزف المرواتي على شكل التماعات حادة تمس القلب وتضع في الروح بصمتها لصدقها وبساطتها. ويعرض في التماعاته جملة من التكرارات (لستُ إنساناً / لستُ ذكياً / ضعيف أنا) يبتدئ بها الأسطر ليضعها أمام الجميع هذه الكلمات التي تسطر ضعفه وعجزه ولا إنسانيته جاءت متتالية لتوكد معنى ال لاحول ولاقوة أمام ما يحدث ولاعجب إذ الضعف ديدن الإنسان.

تلعب الإلتماعات على أوتار التضاد ليعكس البنية العميقة من الوجع الذي لا ينتهي ويكشف قدر الإنتماء الروحي لهذا الكون. ومن ذلك اللعب بين رنة وتر التضاد في: الإقتراب / الإغتراب في: (يا وطني كلما أخلصتُ له بالاقتراب – عاشقاً – لفظني منبوذاً .. وأغرقني بالاغتراب).

كما يستخدم السؤال المتعجب المدرك بما فيها المكتنز بتفاصيلها وهمومها. في: (أيّتها الحياةُ يقولون إنك حلوة ..!! فكيف اختزنت كلّ هذا الموتِ والخرابِ إِذْن..!!).    والوقت بتفاصيله أو بما يحويه ويتضمنه من (نهار، ليل، وقت).

(هذا الوقتُ مسجونٌ والليل قفلٌ والنهار مفتاحٌ ضائع..) ليأخذ السجان الشرعية في:

(يالضراوة العُمر يا حبيبتي عندما يكون السجانُ سّيداً تحمية أسواطُ الشرائع..!!)

ثم يظهر الكاتب بشخصيته المباشرة عبر لقبه (المرواتي) بترانيمه في:

(صار المرواتي يترنّم بهذه الكلمات على وقعِ نقر دفوفٍ تحملُه النسائم في عميق ليلهِ المنهوك بالغياب..)  ليصل بعد تأكيد ذاته وهويته إلى الحقيقة عبر الذات المتمناة في:

(لا حقيقة كالخيال، ولا إجابة كأنها – دائماً- سؤال-.. إلا أنت يا حديث سريرتي .. يا سُروري ..!!).

فنلحظ ظهور العنوان بتفاصيله في السرد ليس دفعة واحدة، وإنما على لمعات وفيما سبق تأكيد لشخصيته المرواتية، وفيما يأتي استكمال لضخ العنوان (انزف على عودي في حقل انغام) في السرد .

وبما أنها التماعات في حقل أنغام، لذا يظهر النغم فيها فضلاً عن آلات الغناء التي تصدره من العود الذي يظهر صراحة في العنوان ثم الكمان والدف والناي من ذلك: (صار المرواتي يترنم. بهذه الكلمات على وقع نقر دفوفٍ تحمله النسائم)(7).

(شتلاتُ نغماتٍ على ممشاك قد غرستُ لك فَدعِ النهاوندَ الحزينَ لحزنهِ وثُقل إيقاع الأسى لوَزنهِ ولكَ البياتُ صافياً ولك الحُجازُ صادياً سيكا حناني والصَّبا و الرَّست لكْ)(8).

(تلألأ رفيفُ أوتارِ عُوده .. وَرَقّ صوتُ ليلهِ وانثالَ فرحُ الورد على مراويه!!)(9).

(فكنْ جَلدا ولاتهتزْ.. دعْ ملامِحَكَ الباسمةَ – على حالها- تُذكّرُ بالموسيقا .. اثبتْ .. اثبتْ من أجلي ..!!)(10).

(أنا كّلما نظرتُ في عينيك يا حبيبتي تعطلتْ مدهوشةً لغة ال .. كمان ..!!)(11).

(وأوراق الصمتُ بروحيّة مقام حُجازْ)(12).

(العودُ يبتسم .. واللّيل صارَ يُدندن ضحكتها)(13).

(في قسوةِ النأي حلمي سَرى بك .. قد صِرتُ حزن الناي يرويه وهُم الماءِ في .. سَرابك.)(14).

لتظهر الألحان والانغام كلها مجتمعة بشكل أغنية:

(سأظلّ أغنيكِ حلماً آيلاً للتحقق .. وقابلاً لهناءِ السطوع .. ومّياساً كفرحي المتلألئ .. بك.)(15).

(للناس أغنياتٌ.. وأنت أغنيتي.. ما أسعدني بتفاصيلك ياكّل طربِ الأنوثة..!!)(16).

أما النغم والأنغام والألحان كما في:

(فتدليتُ عناقيد أنغامٍ.. ثم انتثرتُ سِحرا)(17).

(ثوبك المنسوج من ألحاني وأنا أطرزه باكسسوارات من التماع حروفي بك.)(18).

فتظهر علاقة العنوان الذي يحتوي على الأنغام في خلال قوله في اعتراف:

(نعم أعترف .. فثبتوا عليَّ التهمةَ: أنا المسؤول عن زراعةِ حقولِ الأنغامِ.. في دروب العاشقين)(19).

إن من الصور التي تكرس مروياته الحياتية الشعورية قوله:

(وأقفُ على ربوة فرحنا بنا وأضع فمن بين قوسين هما كفّاي وأنادي:

ياااا أنت .. فيأتي الصدى مترفاً بابتسامتها، محمولاً على ثراءِ صوتها الملون بأنفاسها: أنا .. أنا .. ناااااااا!!!)(20).

يظهر الفرح واضحاً في هذا النداء المرواتي، إذ باجتماعهما وحضورهما تكون الحياة وتزدهر، إن هذا النداء كنوع من إثبات الحضور ودعمه وإذ يناديها فكأنما ينادي حياته كلها المكتنزة بالرضا والفرح، فيعمل هذا النداء على تعزيز صورة الإقتراب بينهما، وما بين النداء والإجابه يتمخض ال (انتِ/ أنا).

ومن عناصر التشكيل الصوري نرى:

(آزرني يا حرفُ ... رافقني يا نغمُ .. أترعني ياراحُ.. فكيف بي وبعض الحسن ذبّاح..؟!!)(21).

وهي عناصر مساندة تعمل على الدعم المستمر للذات وإن كانت قد لا تفلح في مواطن الحسن والجمال للآخر / لها.

يأتي بعد ذلك بإثبات ملخص المراوي هذه بقوله:

(أقول: سأصرُّ على الحب وأعني أني مُصرٌ على جمالِ الحياة .. أليس هو سِرُّهُ؟!)(22).

هذا هو الهدف الأسمى من وراء الالتماعات الحب سر نبض الحياة .

إن الالتماعات هذه كشفت عن ابتكار صيغ واساليب بلاغية مثل: _ على سبيل التمثيل لا الحصر_ (شتلات نغمات/ أقبّل صوتك/ ظلي الملون) غير مسبوقة وهي جديرة بدراسة مستقلة تعطيها حق السبق الإبداعي ولا سيما أنها موثقة بتواريخ نشرها على متصفح المرواتي قبل نشرها بين دفتي كتاب.

 

د. اخلاص محمود عبد الله

..............

(1) أنزف على عودي في حقل أنغام  ع. المرواتي، وراقون للنشر والتوزيع، العراق، البصرة، ط1، 2016: 12.

(2) المصدر نفسه: 36.

(3) أنزف على عودي في حقل أنغام: 96-97

(4) أنزف على عودي في حقل انغام: 45.

(5) المصدر نفسه: 55.

(6) أنزف على عودي في حقل أنغام: 86.

(7) أنزفُ على عودي في حقل أنغام: 8.

(8) المصدر نفسه: 14.

(9) المصدر نفسه: 15.

(10) المصدر نفسه: 16.

(11) المصدر نفسه: 19.

(12) المصدر نفسه: 21.

(13) المصدر نفسه: 24.

(14) المصدر نفسه: 34.

(15) المصدر نفسه: 35.

(16) أنزفُ على عودي في حقل أنغام: 55.

(17) المصدر نفسه:37.

(18) المصدر نفسه: 45.

(19) المصدر نفسه: 83.

(20) المصدر نفسه: 23.

(21) أنزف على عودي في حقل انغام: 49.

(22) ) المصدر نفسه:82.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم