الرئيسية

الشّاعرة اللّبنانيّة سوزان عليوان وبناء عالم الموت.. قراءة في ديوان: لا أشبه أحداً

madona askar"لا أشبه أحداً" (1996) ديوان للشّاعرة اللّبنانيّة سوزان عليوان يضجّ بفلسفة الحبّ، والوجود، والانتماء، لا سيّما الموت الّذي يتّخذ مساراً قد لا يدركه إلّا الشّعراء الّذين تكتبهم قصائدهم. هو الموت المرتبط بالحبّ، أي التّصالح الرّوحي كما تعبّر عنه فلسفة هيجل: "إنّ الموت هو الحبّ ذاته، ففي الموت يتكشّف الحبّ المُطلق. إنّه وحدة ما هو إلهيّ مع ما هو إنسانيّ. وإنّ الله متوحّد مع ذاته في الإنسان، في المتناهي".

الحبّ/ الموت، كمفهوم يندرج في إطار اللّانهائيّة يرتكز عند الشّاعرة عليوان على الانتماء. ولعلّها تجد في هذا الموت انتماء لم تحظَ به في هذا العالم. تحيا الشّاعرة غربة منافية للانتماء، تقودها للبحث عن انتماء خاص حتميّ وأكيد. ولعلّ العنوان "لا أشبه أحداً" يمهّد للتعرّف على هذا الانتماء، الحبّ/ الموت. فالشّاعرة في اختيارها للعنوان لم تشأ التميّز عن الآخر بقدر ما شاءت التّعبير عن غربتها، خاصّة في قصيدة "الغريبة" (ص 15).

تتشابهُ بطاقاتُ الأصدقاء

أمطارُ الشتاء

المقاهي

المتاجرُ

وجوهُ الناسِ

في الزحام.

وحدي أنا الغريبةُ

لا أشبهُ أحدا.

إلّا أنّ هذه القصيدة تشكّل تعريفاً خاصّاً بالشّاعرة، إذ إنّها أشبه بسيرة ذاتيّة تعبّر من خلالها عن تجربتها الخاصّة مع طفولتها الضّائعة ومراحل حياتها. فهي بصدد إعادة قراءة للماضي على ضوء هذه الغربة:

حملتُ

نعشَ طفولتي

على كتفي

ومشيتُ

في جنازةِ أحلامي.

الشّاعرة لا تشبه أحداً، إن من ناحية الصّياغة الشّعريّة غير المتكلّفة، وإن من ناحية المضمون الشّعريّ الّذي يفرض نفسه كشعر لا كبوح. فالشّعر أعمق من مشاعر يباح بها، وأرقى من عواطف تترجم على الورق. إنّه "الشّعر"، عالم الحبّ والحرّيّة والجمال. وفي ديوان "لا أشبه أحداً"، ترسم الشّاعرة لوحة وجوديّة شعريّة، تحرّك من خلالها فكر القارئ، وتستفزّ مشاعره برومانسيّة راقية يخفق لها القلب.

يلاحظ القارئ من خلال  عناوين القصائد ارتباط الشّاعرة بفلسفة الحبّ/ الموت، كانتماء لا مفرّ منه. (لي خلف المجرَّات إخوة وعلى الأرض أصدقاء/ الكوكب الآخر/ الغريبة/ غربة/ سقوط الملاك...). عناوين فاضت من قلب الشّاعرة، لتتوغّل في القارئ وتحاكيه بجمال الرّومانسيّة، ورقّة المشاعر، وعنف الألم الهادئ، ورحابة قلب يودّ استرجاع نسمات الطّفولة.

أيقوناتُ الغربةِ

مُدلّاةٌ من جبيني

ضوءًا

لعتمةٍ

صرفتُ في سوادِها طفولتي. (لي خلف المجرّات إخوة وعلى الأرض أصدقاء /ص 6)

تحدّد الشّاعرة انتماءها إلى عالم غير ذلك الّذي تحيا فيه (لي خلف المجرّات إخوة وعلى الأرض أصدقاء/ ص 3). ثمّة رباط وثيق بين الشّاعرة وعالمها الّذي تنتمي إليه. ويدلّ لفظ (الإخوة) على هذا الرّباط، ويعزّز فكرة الاتّحاد به. فالأخوّة رباط غير قابل للتّفكيك والانحلال.  وفي أكثر من مكان في الدّيوان، سيتبيّن القارئ أنّ عالمها المرجوّ مفعم بالحبّ والسّكينة والهدوء والنّقاء. عالم علويّ، لا يلمس الأرض الصّاخبة بفرحها المزيّف، وأضوائها الخادعة. عالم حقيقيّ بقدر ما تنتمي إليه الشّاعرة، تسكنه بالرّجاء والحبّ بانتظار الخلاص الّذي ترجوه في قصيدة "حجرة" (ص 56). "الموت الأكيد"، السّبيل إلى الانتماء الحقيقيّ. تفرّغ من ذاتها لتلقى ذاتها في عالم الموت/ الحبّ.

سأفارقُ الذينَ أحبُّهُمْ

إلى حجرةٍ بعيدةٍ

خاويةٍ منّي

تملؤها صورُهُمْ

وتذكاراتُهُمْ

حيثُ ينتظرُني

موتٌ أكيد (حجرة ص 56)

في ذلك العالم تصالح روحيّ مع الحبّ/ الأنا، اتّحاد الإنسان مع ذاته في اكتمال إنسانيّ حرّ يعود فيه الإنسان إلى بهائه الأوّل. إلّا أنّ الشّاعرة  تعاين ذاك العالم منذ الآن، في قصيدة "أرجوحة النّعاس" (ص 11)، وتتبيّن معالمه الواضحة، بل تحدّدها كما تشاء:

العالمُ

يبدأُ من أهدابي

وعندَ شاطئيكَ

ينتهي.

تشاء الشّاعرة فيكون عالمها، وتحقّق ذاتها فيه. ترنو إليه وتقرّر الانتماء النّهائيّ إليه:

عيناكَ

دربي إلى الله (الكوكب الآخر/ ص 12). 

 الدّرب إلى الله يمرّ بالحبّ والموت. والعينان، السّبيل إليه، تشكّلان السّبب لوجود الشّاعرة حتّى تبلغ هدفها، فيكون التّصالح الرّوحي، والاتّحاد مع الله بشكل نهائيّ. إلّا أنّ الشّاعرة تخلق فلسفتها الخاصّة، وتغيّر مفهوم الموت، بل تختاره: (أسمّيك موتي/ ص 14). يدلّ قرار التّسمية على سلطة الشّاعرة على الموت. فهي لا تخضع للموت كنهاية حتميّة، وإنّما تتسلّط على الموت لتعرّفه بفلسفتها الخاصّة. فيكون الموت في فلسفة سوزان عليوان، قرار شخصيّ حرّ، يتحدّد بفعل الحبّ. فيمسي الموت فعل حبّ يقود الإنسان إلى موطنه الحقيقي، وبالتّالي إلى المكان الّذي ينتمي إليه بالأصل. وإذ تتكرّر لفظة الموت في الدّيوان، إلّا أنّها لا تغرق القارئ في اليأس والكآبة، لأنّ الشّاعرة لا تهدف في قصائدها إلى إرهاق القارئ واستدراج مشاعر الحزن بقدر ما تسعى إلى بناء فلسفة خاصّة تبتني من خلالها مفهوماّ راقياً للموت كحالة محرّرة، وليس كنهاية تشعل الحزن في قلب الإنسان، وتهدم أهدافه وتحدّ من حياته.

وستطلّ علينا الشّاعرة في آخر قصيدة من ديوانها "انتحار" (ص 58) لتعرّف الموت بالعتمة المغرية، الّتي لا يمكن مقاومتها.

من الطابقِ الثالثِ

للعتمةِ

أطلُّ على موتي.

أمِّي

نجمةٌ شاحبة.

أصدقائي

مصابيحُ مكسورةٌ

تبكي على الجسور.

أحبُّهم جميعًا

لكنَّ العتمةَ

تُغريني.

وحده الموت، "العدم المحرّر" كما يسمّيه أنسي الحاج، يتّسع لحرّيّة الإنسان. فبه انطلاق نحو الحبّ، نحو اكتشاف الحقيقة الإنسانيّة وانتمائها إلى موطن الحبّ والجمال. الموت كما تراه سوزان عليوان، نقطة ضوء تتّسع لإنسانيّتها، على عكس حضورها في العالم، وحيدة، يتيمة كنقطة عتمة في الضّوء (ص 7).

 

.................

* شاعرة قصيدة نثر لبنانية، ورسامّة، وُلِدَتْ في 28 سبتمبر 1974 في بيروت، من أب لبناني وأم عراقية الأصل. تخرجت عام 1997 من كلية الصحافة والإعلام من الجامعة الأمريكية بالقاهرة.