الرئيسية

الموت في اللاهوت والفلسفة

ali mohamadalyousifبالنسبة للرومانتيكيين وشلنج فقد منح الموت يقينا مسيحيا من خلال الاقتناع بالوحدة الحقيقية لله والطبيعة التي غدت متجليّة في المسيح. واليقين بان المسيح اجتاز الموت وارسى من جديد الارتباط بين الطبيعة والعالم الروحاني.

يعتبر انصار فرويد ان غريزة الحنين الى الموت التي نادى بها الرومانتيكيون تتطابق مع صحة نظريتهم. ويلاحظ شلنج انه بدلا من الموت فان التعبير الصحيح هو في التخلّي عن الروح. والروح التي يتخلى عنها المرء في غمار الموت انما هي روح الرغبة المتمحورة حول الانا. والخلاص لا في قمع الارادة المتمحورة حول الانا.كما اشار افلاطون. (1)

لايمكن ان يكون اخلاص الرومانتييكيين مثار شك للموت. ومعظمهم عاشوا تقارب حميم مع الموت ومات اغلبهم شبابا. وكان نوفاليس مصدورا حينما لفظ انفاسه الاخيرة في التاسعة والعشرين من عمره. ونقرا في مذكراته قوله لن انجز شيئا هنا وسأقول وداعا لكل شيئ في ريعان شبابي. وقد مضى الموت راحلا بأخيه الاثير اراسموس. اما بطلة حبه العظيم صوفي فون كين فقد قضت نحبها في الخامسة عشرة من عمرها ومعها مات العالم باسره بالنسبة لنوفاليس. (2)

وعبارة ايفان في قصة الكاتب الروسي دوستوفسكي الاخوة كرامازوف التي وردت على لسانه- (اذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح للانسان.) وقد عالجها باهتمام كبير نيتشة.كما اقتبسها سارتر فيما بعد. وتولستوي ايضا.

وعن الموت في اللاهوت المسيحي، فحينما يتحدث اللاهوتيون المسيحيون عن الموت فانهم يعطونه معنى ثلاثيا، فهناك بادئا ذي بدء "الموت الطبيعي" الذي هو نهاية الحياة العضوية.

ثم هناك "الموت الروحي" ويعبّر عنه وضع الانسانية خارج الايمان المسيحي، وهناك اخيراً "الموت الصوفي" وهو المشاركة في الحياة الالهية التي تجري بالفعل خلال هذا الوجود الارضي على الرغم من الموت الطبيعي.وقد جعل المسيح الوصول اليه ممكنا، إذ يقول القديس بولص "بموتكم تتوحد حيواتكم مع المسيح الرب" ويعد الموت الصوفي انتصاراً على الموت العضوي، وما البعث الا مرحلة اخرى في هذا الموت الصوفي الذي هو في الوقت ذاته حياة خالدة.

بينما يعد الخلود في الفكر الاغريقي سمة باطنية للنفس يكون في الرؤية المسيحية الله وحده يمكنه ان يخلع حياة جديدة على الانسان الفرد كهبة لايستحقها هذا الانسان بسبب طبيعته الخاطئة. وقد اقرّ بعض اللاهوتيين المعاصرين صراحة صعوبة اثبات مبدأ البعث والخلود.

وقد استعيض لدى البعض خلود السماء بخلود الانسان على الارض. وراودهم حلم امكانية البقاء اللامتناهي للحياة البشرية على الارض.بل وفي بعض الاحيان طرحت براهين لاهوتية لتاكيد ذلك. وزعم جون اسجيل في كتيب له ظهر اوائل القرن

الثامن عشر في لندن انه وفقا لعهد الحياة الازلية الذي كشف عنه النقاب في الكتب المقدسة سينقل الانسان الى الحياة الازلية دون ان يمر بالموت. وكانت ردة الفعل عليه عنيفة فاحرق الكتيب علنا وحرم المؤلف من مقعده في البرلمان.(3)

ويذهب جاروسلاف في كتيبه-(شكل الموت)-ان موت الانسان لايمكننا فهمه بمعزل عن الموت لدى آدم والمسيح. والصليب يترك اسئلة دون اجابة وشطرا من الموت دونما اشتهاء الانطلاق ومصاحبة المسيح. ولاقت الفكرة صدى صوفيا بليغا لدى القديس اغناطيوس الانطاكي فيما كان يستعد لاستشهاده الوشيك في مدرج روما. اتجهلون اننا كل من اعتمد المسيح اعتمدنا لموته. وقذفنا معه في المعمودية للموت حتى كما قام المسيح من الاموات بمجد الرب.

هكذا نسلك نحن ايضا في هذه الحياة. ان انساننا العتيق صلب معه ليبطل جسد الخطيئة.(4)

كما تشير "فيكي بيل" في بحثها "فوكو والجنسانية" الى فينومينولوجيا الروح، وطريقة تكونها الانطولوجي الوجودي من الخارج، فالذات هي من عناصر "الحيز" اما النفس (الروح) فهي الحيز او الفضاء الذي تتحرك فيه الذات حينما تتجه الى الداخل.

اما ميشيل فوكو فيأخذ الموت في جنبته البيولوجية –السيسيوتاريخية ,وليس في جانبه الوجودي الفلسفي فيقول: كان الملك في القرون السابقة تحديدا القرون السابع عشر ,الثامن عشر, والتاسع عشر, يمارس حقه في الحياة بتشغيل اساليب حقه في القتل وهو لا يثبت سلطته على الحياة الا بالموت , ان الحق الذي يصاغ كحق على (الحياة والموت) هو في واقع الامر الحق في الاماتة او الابقاء على الحياة , وبعد فلقد كان يرمز الى نفسه بالسيف. اما الحروب اليوم منذ القرن التاسع عشر والعشرين لم تعد تجري بأسم الملك الذي يتوجب الدفاع عنه , ولكنها باتت تجري بأسم وجود الجميع ,وقد غدت شعوب بكاملها تتقاتل فيما بينها بأسم ضرورة ان تحيا , وصارت المجازر حيوية مديرة للحياة والموت, للاجساد والجنس ,وقادت كثير من الانظمة كثيرا من الحروب بقتلها كثير من الناس.(5)

الموت في العهد القديم (التوراة)

الفريسيون، فرقة في اليهودية تعني حرفيا "المنعزلون" او المنشقون، وهم يؤمنون بالبعث وقيامة الاموات، وان التوراة خلقت منذ الازل. والصدوقيون، هم فرقة اخرى وتسميتهم نسبة الى الصادق الكاهن الاعظم في عهد سليمان وهم ينكرون البعث والحياة الاخرى ويوم الحساب، ويرون ان جزاء الانسان يتم على الارض في الدنيا. وعندهم حتى التوراة غير مقدّسة.

والقبالة او القبلانين فهي نزعة صوفية مارسها رجال الدين اليهود للكشف عن المعاني الخفية والرمزية في الكتاب المقدس، لاسيما اسفارهم الخمسة، وكلمة القبالة مشتقة من الاحرف الاولى الخمسة من الوزراء اختارهم شارل الثاني عام 1667. وسفر الزوحار هو مجموعة نصوص صوفية يهودية كتبت معظمها باللغة الآرامية كانت تسمى سفر الجلال انعشت الحياة الصوفية التي كانت تمارسها القبلانية في البحث عن المعاني الرمزية والخفية لنصوص الكتاب المقدس. وافكارهم تصوفية من نوع ما.

ان العهد الجديد لم يعتبر خلود النفس من المسيحية في شيء وانما هو من امور الوثنية. وعقاب يوم الدينونة هو عقاب الاجسام الميتة التي تبعث من جديد. وهذا ماأكده بولص الرسول في احدى خطاباته ماأثار سخرية الفلاسفة الوثنيين.

اما ابيقور صاحب مقولة: الموت لا يعنينا في شيء فهو يقترح علاجا للروح باسم العلاجات الاربع، لسنا بحاجة الى تخوف من الله، الموت يعني غياب

الاحساس، من اليسير تحقيق الخير من اليسير احتمال الشر، ويقول ابيقور: " اللاجدوى كلمة يقولها الفيلسوف ولا تخفف أي معاناة للانسان"، والابيقورية ارادت

التهوين من نهاية الموت فنادت بان الروح هي الاخرى تنحل بعد الموت، حالها حال الانحلال الجسمي للجثة، وبذلك جعلت من جميع المخاوف الدائرة حول معاناة النفس وعذابها بعد الموت اموراً لا اساس لها. وتذهب الابيقورية انه ما دامت الروح موجودة فانها تبتلى بالمرض الذي تسببه المعتقدات الدينية من خشية الالهة وعذاب العالم الاخر، وهكذا نجد في الابيقورية احالتها الآلهة على التقاعد و وبذلك تكون بذرت البذرة الاولى في الالحاد، الذي تبنّاه نيتشه وهيدجر وفويرباخ وسارتر.

كما دعت الابيقورية الى اللذة ومتعة الحياة بغير ابتذال ففناء الحياة أمراً يمكن الاستمتاع به، لأنه خارج اطار لا نهائية الزمن الذي يستبعد شوق الانسان للخلود. وفيما دأبت الابيقورية في منهجها التخفيف من رعب الموت, فانها تعارض أولئك الذين ينتقصون من قدر الحياة مؤكدين ان الخير الاسمى هو ألا يولد المرء، وهنا نعثر في الابيقورية على البذرة الثانية في فلسفة الوجودية الحديثة (سارتر، هيدجر، كيركارد) التي تذهب في مقولتها الشهيرة: ما معنى ان نولد وما معنى ان نموت!؟

ومن هنا تجد الابيقورية ان من يشكو انه ولد فانيا. وهذه الحقيقة انطولوجية انثروبولوجية لا يبالغ في الانين, وفي هذا تحاول تخفيف هواجس الرعب لمرحلة ما بعد الموت، لا في ما قبله، وبهذا تعود الابيقورية لتبذر بذرة وجودية اخرى، في قولها خواء الحياة ورتابتها، اليومية، فنحن دائما منهمكون غارقون في المشاغل. ان هجعة الموت تبعث العزاء في هذه الابيات:

لـ"لوكر يشيوس" لا لشيء إلا لأن الحياة

مؤلمة وحافلة بالعذاب.

سوف ترقد ولن تستيقظ ابدا

وعندما تفارق الحياة تتخلى عن ألمك العنيف

واسوأ ما يمكن ان يحل بك

هوسبات عميق وليل طويل

فكل الخطايا الكئيبة الموحشة التي ينشدها الشعراء

تثبت صحتها على الارض لا في الجحيم

استخلاص

- الموت موضوع ومحرك للفلسفة

تعد مشكلة الخوف من الموت وطبيعته تقليديا من اختصاص الدين.والدين ينكر عادة الطابع المتناهي للموت اذ يؤكد استمرارية الشخصية الانسانية في شمولها النفسي-البدني, او كنفس متحررة من البدن. مؤكدا طابعها المميز المألوف.ومن ثم فان الفلسفة لم تشرع في الاهتمام بالموت الا حينما اصبح التاكيد الذي يطرحه الدين مشكوكا فيه وموضع ريبة. او حينما بدا هذا التاكيد في تناقض لامفر منه مع شهادة حواسنا المباشرة التي لاجدال فيها. وحينما اصبح الرد الديني موضع تشكك سعت الفلسفة الى دعمه بحجج عقلانية. وعندما غدا الامر متعلقا بالتناقض راحت الفلسفة تسعى الى الوصول من خلال النظر العقلي الى رد مؤكد مماثل لذلك الذي طرحه الدين منذ وقت طويل او تصدت للوصول الى التصالح مع الموت منظورا اليه باعتباره عدما نهائيا او بحسبانه خلودا غير شخصي.

من هنا فاننا في غياب اقتناعات دينية محددة تماما كما كان الامر في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في بلاد الاغريق على سبيل المثال. او في القرنين الثاني والاول قبل الميلاد في روما نجد الموت لا كموضوع للفلسفة وحسب وانما كمحرك لها ايضا. ولكن مع مجيء المسيحية ووعدها بالبعث والحياة الخالدة في العالم الاخر تقلصت الضرورة الحيوية لقيام الفلسفة بتناول الموت حيث بدت المشكلة وكأنها قد حلّت.

اضف الى ذلك ان حل مشكلة الموت لم يكن سوى احدى مشكلات الحياة والفكر المسيحي. حيث غدت الفلسفة ذاتها لاسباب عديدة تابعة للاهوت. لكنه سيكون من قبيل الخطأ الاستنتاج بان الانشغال بالموت اختفى في العصر المسيحي. ولكن ادّى الظهور التدريجي لتصور محدد للحياة الاخرى التي طورها اللاهوت وجعلها الشعر والتصوير والنحت واقعية بصورة مرئية. وتزايد التأكيد على صعوبات الخلاص من الموت الابدي ادى الى تكثيف الخوف من الموت والاحتضار الذي بلغ ذروته خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر في نوبة تسلط الموت على الاذهان والقلوب. حيث اثارت لحظة الموت الفزع والشؤم في هروب النفس من الجسد المحتضر وهي الفرصة الاخيرة لقوى الجحيم من السيطرة على هذه النفس.

ونجد مع استئناف التفكير الفلسفي المستقل في عصر النهضة ان الفلاسفة يميلون فيما يتعلق بمشكلة الموت الى انكار الخلود الشخصي. ويمكن ان يقال انه منذ اللحظة التي انحاز فيها بيترو بومبو ناتزي الى صفوف القائلين بانكار الخلود, اصبح انكار خلود النفس بصورة تدريجية هو الموقف الفلسفي غير المنازع في القرن الثامن عشر في فرنسا والقرن التاسع عشر في المانيا. غير ان ذلك لايعني الاهمال الكامل لمشكلات الموت في الفلسفة. فحتى الماديون الفرنسيون في غمار انكارهم خلود النفس ووصفهم بانه (كذبة كهنوتية) – وانه عقبة في وجه تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الا انهم تناولوا الموت بالدراسة. وذلك على الرغم من ان المشكلة قد ضاق نطاقها وانحدر الى مستوى السيطرة على الخوف من الموت ومنعه من افساد بهجة الحياة. وكان هناك دائما جهد دائب من جانب بعض الفلاسفة لاثبات خلود النفس. غير انه بصفة عامة مع تحول الفلسفة الى فرع مستقل من فروع المعرفة راحت تطور وتركز على مشكلاتها الفلسفية بصفة خاصة واصبح الموت كموضوع للتفلسف استثناءا. وهكذا فانه بالاضافة الى الفوارق بين الفلسفات فيما يتعلق بنوعية الرد الذي تقدمه على الموت فان هناك فارقا تتعين ملاحظته يتمثل فيما اذا كانت تتناول مشكلة الموت او تهملها كلية.

واقعة الموت في عجز الفلسفة

ان جميع الفلسفات التي تتناول مشكلة الموت تظهر العلاقة بين واقعة الموت والبحث الفلسفي في ثلاثة جوانب هي:

1. يمكن ان يكون الموت مصدر الهام للفلسفة وقوة الدفع الكامنة وراء التفلسف الذي يهدف اساسا الى السيطرة على الخوف من الموت والتصالح مع حتمية الموت. وتلك هي على نحو ما رأينا نظرة شوبنهاور الى هذه العلاقة.

2. يمكن ان يكون الموت اداة الفسلسفة التي تزعم انها وحدها تناسب الوصول الى فهم الوجود والكشف عن طبيعته الحقة التي يتخللها اللاوجود فيما يقول هيدجر.

3. اخيرا فان الموت كما يقول افلاطون يمكن ان يكون الوضع المثالي للتفلسف وحالة يمكن فيها وحدها ان يتحقق سعي الفيلسوف وراءالمعرفة الحقة.

واذا ما فهم الامر على وجهه الصحيح في اطار المثالين الاولين امكن القول بان الخوف من الموت وليس واقعة الموت اي اليقين المرعب من الموت. او القلق الذي يكشف فيه اللاوجود عن نفسه هما مصدر الوحي او اداة الفلسفة على التوالي.

اما في المثال الثالث فليس الموقف الانساني من الموت وانما طبيعة الموت هي التي تمثل منطلقا. وهذه الطبيعة يفترض بصورة تعسفية انها تعرف باعتبارها انفصال النفس الالهية الخالدة عن الجسم الفاني.

اما الميل الى تجاهل موضوع الموت وهو ما يزعم بعض مؤرخي الفلسفة انه قد بدا تحت تاثير اسبينوزا, فكان يؤكد نفسه بصورة متزايدة واصبح سائدا في حوالي منتصف القرن التاسع عشر.

ولقد سهّل استبعاد مشكلات الموت عن الفلسفة الى حد كبير ذلك التحوّل الحاد الذي طرأ على البحث الفلسفي بكامله تحت تاثير ضروب التقدم المذهلة التي احرزتها العلوم الدقيقة.وساعدت التخمة المتزايدة من التفكير الميتافيزيقي على سيطرة الرؤية العلمية والوضعية. وكنتيجة لذلك لم يكن الفلاسفة يميلون ولا يتوقع منهم احد ان يفعلوا الى الرد على الاسئلة الهائلة والمطلقة التي تطرح حول الغرض من الكون والمصير النهائي للانسان. وبالتالي ترك الموت ومشكلاته على قارعة الطريق.

وعلى اية حال فقد اعلن انصار النزعة العلمية حماس احتضار الموت بينما اعترف به في اسى ممثلو الدين التقليدي. فيكتب مراقب معاصر مقالا بعنوان احتضار الموت يقول: - ان الموت كمحرك قد احتضر... لقد فقد الموت ضروب افزاعه -.

وكتب اخر يقول :– ان القرن العشرين اكثر انشغالا من ان يشغل نفسه كثيرا بالمشكلات التي يطرحها الموت وما يعقبه. فالرجل المحّنك يكتب وصيته ويؤمن على حياته ويزيح موته جانبا باقل صور التاديب.

 الموت والروائيين

يجد ارثر شنتزلر انه كالمعتاد ما من شخص جدير بالاحترام لايفكر بالموت في ساعة هادئة. وبينما انسحب الفلاسفة المحترفون الى البحث المتخصص وراحوا يفكرون في معالجة مسائل لا تقل اهميتها عن مشكلة الموت. اعرب كتاب وشعراء من امم عديدة عن ادراكهم للموت واساهم ازاء الظل المعتم الذي يلقيه على كل ما يحيى ويتنفس وعلى وجودهم بصفة خاصة. فهناك تولستوي الذي كانت فكرة الموت تطارده دونما توقف والذي واصل التساؤل في يأس (– اي حقيقة يمكن ان توجد اذا كان هناك موتا) -. وهناك اونا مونو الذي كانت شهوته للخلود نهمة وشكّه في الحياة بعد الموت يجعلانه ينشد عبثا الهرب من المعنى الماساوي للحياة بان يكرر لنفسه دونما توقف ان على المرء ان يؤمن بالايمان ذاته. وهناك ريلكه الذي اصيب بعذاب الزوال وناضل ببسالة ليحوّل الموت من شبح مفزع الى اعظم حدث في الحياة. وهناك بروست الذي سعى للوصول الى مهرب من المرور الفاني للزمن من خلال محاولة استرجاع الماضي بأمل باطل هو انه اذا كان بوسعه القيام بذلك فان كلمة الموت لن يعود لها معنى بالنسبة له. واذا كان الادب ذو المعنى في عصرنا يصلح كمؤشر للمزاج الحديث فيكفي ان نشير الى همنجواي-فوكنر-مالرو-كامي-اليوت-وديلن توماس- فالموت يثقل كاهل شريحة هامة من الانسانية المعاصرة.

ومع بداية القرن الحالي على وجه التقريب فحسب حدث رد فعل في الفلسفة ضد استبعاد الموت من التأمل الفلسفي. فتمرّد وليم جيمس وهنري برجسون على استبعاد جميع العناصر الشخصية من الفلسفة. ولاحظ جورج زمل بأسى ان  جانبا بالغ الضالة من المعاناة الانسانية شق طريقه الى الفلسفة .

الموت والفلاسفة المعاصرين

هناك انقسام حاد بين الفلاسفة المعاصرين فيما يتعلق ان كان من الضروري اعتبار الموت موضوعا مناسبا للفلسفة من عدمه. وذلك غالبا جاء من نطاق فصل الفلاسفة التحليليون عن اولئك الذين يتعاطفون مع تصور اشمل لمهمة الفلسفة. باعتبارها تعنى كذلك بمسائل المصير النهائي للانسان. ولكن هناك كذلك اشكالا آخر لهذا الانقسام فمثلا كان يعتقد ان اهتمام مارسيل جبريل الفيلسوف اللاهوتي الوجودي بالموت كان اهتماما مرضيا وانعدام الاهتمام عنده بالموت يرجع الى واقعة ان هذه المشكلة بالنسبة له قد حلت بالفعل حيث ان الوجود الانساني يكتسب في مؤلفه ( فلسفة الروح) معنى لايمكن للموت ان يقضي عليه.

لدى نيكولاي هارتمان 1882 – 1950  وهو فيلسوف مثالي الماني صاحب مذهب الانطولوجيا النقدية كما وضع مذهبا للاخلاق ونظرية القيم وعلم الجمال ونظرية المعرفة. له اسباب اخرى حول الانقسام الفلسفي اتجاه الموت. فهو يتحدث عن رجال الميتافيزيقيا الذين يعذّبون انفسهم وينكر عليهم اهتمامهم الفلسفي بالموت لان تعذيب الذات امر لااخلاقي. ويذهب الى القول بانه اذا لم يكن الموت الا عدما فانه لايمكن ان يكون شرّا. والمشكلة ان الانسان ينظر الى نفسه بأكثر مما ينبغي من الجدية. ولو انه احتفظ بالمنظور الصحيح فانه سينظر الى نفسه على ما هو عليه بالفعل. اي بوصفه قطرة في غدير الاحداث الكلية. ويكف عن جعل ضرورة موته قضية تثار باستمرار وعلى الدوام.  غير ان شلر يسخر من العبث الميتافيزيقي للفلاسفة الذين لايرغبون في معالجة المسائل المطلقة ومشكلة الموت بشكل خاص.

ويكتب بردياييف قائلا... انني لااميل الى الخوف من الموت على نحو ما كان يفعل تولستوي على سبيل المثال لكني شعرت بألم حاد ازاء فكرة الموت وبرغبة جامحة في اعادة الحياة لكل من ماتو. وبدا لي قهر الموت هو المشكلة الاساسية للحياة. فالموت حدث اكثر اهمية وحيوية من الميلاد.

ينبغي لعبارة بردياييف ان تجعلنا حذرين ازاء محاولات تفسير كل اهتمام بالموت وبالمشكلات الناشئة منه على انها نتيجة للخوف من الموت. فهي توضح لنا ان الضيق بمشكلات الموت يعادل فصل الفلسفة عن اعمق الموضوعات التي حيرت وضايقت ولازمت البشرية منذ الازل. والمبرر الاخر لعدم اهتمام المرء بالموت هو ان مشكلة طبيعة الموت تنتمي لعلم الاحياء.كما ان مشكلة الخوف منه تنتمي الى علم النفس وعلم النفس المرضي. لكن الامر يقتضي الكثير من حدة الذهن ليدرك المرء على سبيل المثال ان قضية خلود الكائنات وحيدة الخلية هي اساسا مسالة تهم التفسير والسيمانطيقا او السيمائية وهي احد فروع علم اللغة ويبحث في دلالات الالفاظ وتطورها.

وفي ما يتعلق بمشكلة الخوف من الموت فانه على الرغم من الاسهامات الهامة التي قدمها التحليل النفسي في هذا المجال لاتزال مشكلة القلق باسرها ابعد ما تكون عن الوضوح. ولا يزال التساؤل قائما حول ما اذا كان الخوف من الموت هو في نهاية المطاف القلق الاساسي. وفكرة ابيقور القائلة بان مهمة الفلسفة مداواة جراح القلب لاتزال وثيقة الصلة بالموضوع حينما تكون هذه الجراح بسبب موت المرء او موت اولئك الذين نحبهم.

مشكلة الموت حياتيا واجتماعيا

ان الحجة القائلة بان الاهتمام بالموت يؤدي الى اهمال المهمة المحدد والملحة المتمثلة في تحسين الوضع الانساني والاهتمام بالرخاء الانساني تتجاهل واقعة ان الموت بدوره ينتمي الى الوضع الانساني. وان الابحاث التي اجريت في السنوات الاخيرة مقنعة بما يكفي لاظهار ان الشخص العادي يفكر بالموت اكثر بكثير مما كان يفترض عا دة  حتى الان.وذلك على الرغم من ضيق نطاق هذه الابحاث. وان اهمال المشكلات العاطفية والعقلية النابعة من واقعة الفناء يساوي التراجع عما ينبغي ان يعتبر المسؤولية الخاصة للفيلسوف ازاء مهمة يمكنه هو وحده القيام بها في وقت تنحسر فيه المعتقدات الدينية.

صحيح ان الانسان قادر على ان يعيش حياة طيبة على الصعيد الاخلاقي دون ان يكون على يقين مما اذا كان للوجود الانساني معنى يتمتع بالحصانة ازاء القوة المدمرة للموت. بل يجد البعض ان بالامكان الحياة بقناعة ان الحياة عبث. وانها مجردة من المعنى. ولكن بغض النظر عن مسالة المرض المحتمل الكامن وراء هذا الموقف الاخير فانه ليس بمقدور انسان عرف وفكر في مصير زهرة الرجال كافة في اوربا وامريكا والخسائر الحربية والمدنية التي اسفرت عنها الحربان العالميتان ان يغلق عينيه ازاء الجانب العبثي لمثل تلك الصراعات ويقمع بضمير خال التساؤل عن معنى الحياة التي تنتهي قبل الاوان وعلى نحوا مفزع.

ولكن ضروب الموت اللامعقول ستستمر حتى عندما يتوقف الانسان عن التسبب فيها. ويجعل التساؤل عن معنى الحياة الذي وضعته في بؤرة حادة ضروب الموت السبقة لاوانها والمجردة من المعنى الردود المعقولة التي طرحت فيما يتعلق بالموت الطبيعي تبدو سطحية وموضع تشكك طالما انها ليست قابلة للتطبيق على ضروب الموت الاخرى ايضا. وقد اقر فولتير بالفعل حق الانسان هذا المخلوق المثير للاشفاق في ان يتذمر في اتضاع وان يجتهد لفهم السبب في ان القانون الكلي لايشمل خير كل فرد.

ومما لايمكن تجنبه ان هذا المازق الذي شغل بسكال طويلا يحتل بؤرة حادة في الحضارة الغربية بتركيزها على القيمة اللا متناهية للكائن البشري الفرد. اذ كيف يمكن التوفيق بين هذه الفكرة الاساسية وبين فناء الفرد الذي يبدو شاملا في الموت.

ويقدم مالرو صياغة بليغة لذلك حينما يقول ان الحياة رخيصة ولكن – في الوقت نفسه – لاشيء غال كالحياة.

قد يقال ان كل ما يمكن ان يطمح اليه البشر هو ان يعيش ذلك النوع من الحياة الذي يسمح لهم بالا يشعروا قبل ان يسدل الستار الاخير بما شعر به رابلييه من ان المهزلة قد تمت.

 

علي محمد اليوسف

..................

 المصدر الاساس الذي اعتمدناه في هذا البحث كاملا:  كتاب جاك شورون، الموت في الفكر الغربي صفحات 279 -289 ، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة وتقديم د. امام عبد الفتاح امام، سلسلة عالم المعرفة الكويت.

ونود التنبيه الى اننا اهملنا تثبيت المصادر والاقتباسات التي اعتمدها المؤلف في اللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية بضمنها احالات وهوامش المترجم والمراجع ايضا.

...........

 

هوامش

(1) جاك شورون مصدر سابق هامش ص318 -.

(2) المصدر السابق جاك شورون ص 148.

(3) جاك شورون-مصدر سابق هامش ص313.

(4) المصدر السابق هامش ص316-.

(5) ميشيل فوكو-حق الموت والسلطة على الحياة- تاريخ الجنسانية- ارادة العرفان ص113 -114.