الرئيسية

ميتافيزيقيا التصوف

ali mohamadalyousifإن اول فيلسوف روماني وضع بذور التصوف الديني افلوطين (240-270 ميلادية) وكان له تأثير كبير على الفكر المسيحي، لا يقل اهمية بالنسبة إلى هذه الدراسة عن الطريقة التي استطاع بها ان يتجاوز أو بالأحرى يكتسح جانب التناقضات الموجودة في نظرية افلاطون حول خلود النفس وتقوم هذه النظرية على الوجود (التصوفي) وهي التجربة التي يدرك افلوطين في اطارها استقلال النفس عن اطار الجسم الذي تسكنه، حيث يقول (كثيراً ما اتيقظ بذاتي، تاركاً جسمي جانباً واذا غبت عن كل ما عداي أرى في اعماق ذاتي جمالاً بلغ اقصى حدود البهاء، وعندها اكون على يقين من انني انتمي إلى مجال ارفع) (1).

وكان افلوطين يخجل من كونه اسير الجسم وقد رفض الجلوس امام نحات وكانت كلماته الاخيرة متفقة مع فلسفته، ومع موقفه من الوجود الارضي والموت، حيث قال: (انني ابذل جهدي الاخير لارجاع ما هو الهي بداخلي إلى ما هو الهي في الكون)(2).

ومن الجدير ذكره ان برجسون يعتبر تصوف افلوطين تصوفاً ناقصاً لانه لم ينته بالعمل، بل توقف عند حد التأمل والنشوة، وان افلوطين يتنكر للعمل حيث قال: (العمل يضعف التأمل)، وظل اميناً على النزعة العقلية اليونانية، ويعقب المفكر صادق جلال العظم إلى فهم برجسون القاصر لمعنى العمل عن افلوطين بقوله: (ان فهم برجسون للعمل هو غير فهم افلوطين له فالعمل الذي يضعف العمل لدى افلوطين، هو العمل الذي يغرقنا في توافه الحياة وتفاصيلها المتكررة الرتيبة، وليس العمل الخلاق المنتج)(3).

ولا يفوتنا في هذا المجال من ان برجسون يفهم التصوف كالتالي:

1- ان التصوف الكامل بزعم برجسون يتمثل في التصوف المسيحي فقط، وما عداه في مثل الاسلام واليهودية والاديان الاخرى غير السماوية كما في البوذية والهندوكية والزرادشتية فان التصوف فيها ناقصاً علامة واحدة لانه يتخطى حدود مرحلة الوجد والتأمل والنشوة، ولا يتتوج بالعمل والفعل بل يكتفي بالتأمل (4).

2- ان الحدس الصوفي يكشف لصاحبه ماهية الحقيقة الميتافيزيقية المطلقة، (الله) بصورة مباشرة لا تعتمد التصورات ولا العقل، ولا على الافكار مطلقاً، انه نوع من المعرفة الفائقة للعقل، وتعطيل لوظائف العقل النقدية كشرط لتحقيق التجربة الصوفية الكاملة (5).

3- ينفرد التصوف المسيحي، التصوف الكامل الحقيقي بنظر برجسون بثلاث خصائص هي العمل والخلق والمحبة (6).

4- يعتبر برجسون كما مر بنا تصوف الفيلسوف اليوناني افلوطين ناقصاً.

5- تصوف البوذية تعلم الانسان اطفاء ارادة الحياة على حد تعبير برجسون (7).

ويهاجم الفيلسوف الانكليزي المعاصر براتراندرسل

(1872-1979) الصوفية بضراوة ويقول: لا وجود للزمن في التصوف، فالزمن ملغي تماماً عندهم، فهم لا يهتمون بالماضي ولا بالحاضر ولا بالمستقبل لذلك لا نجد لهم حضوراً في فلسفة التاريخ لا من بعيد ولا من قريب، فرديتهم فوق كل شيء، سلبيون اجتماعياً، لا تستقيم بارائهم التربية، ولا يمكن الاعتماد عليها تربوياً وتعليمياً، ويضيف رسل ان الطريق التي يتبعها المتصوفة لا يمكن لها بناء أي حضارة، فغياب الامل وعدم الاعتراف بالاعمال الدنيوية كل ذلك يتعارض مع إمكانية قيام حضارة (8).

كما يؤكد رسل ان المتصوفة يجاهرون ان العلم بحد ذاته غير كافٍ لتفسير جميع الظواهر المتعلقة بالإنسان، وهذا ما لا يدعيه العلم نفسه، فالعلم لا يستطيع ان يطبق وسائله على ما هو روحي صوفي، إذ يؤكد المتصوفة ان الحقيقة تكمن في داخل انفسهم، وهي متعلقة بالنفس الإنسانية وهذه حقيقة متوقعة على التجربة الفردية وحدها، حالها حال الجمال والإحسان والصداقة ومعرفة الله، فمثل هذه التجارب الروحية يقع إدراكها وراء العلم، وتقع خارج إمكانية العلم، وعلى هذا الأساس فليس للعلم أي شيء يقوله عن مثل هذه التجارب الروحية (9).

ويؤكد رسل كذلك على عدم إمكانية التحقق من التجربة الصوفية، ومن المشاهدات التي يتفق عليها اغلب المتصوفة، فهو يرى: ان من غير الممكن التحقق من النتائج التي توصل اليها المتصوفة فعندما تسأل الصوفي عن كيفية وصوله إلى الحقيقة؟ يرد عليك قائلاً: بأنك لا تستطيع ان تفهم شيئاً من دون ان تمارس ان أمارسه، فالتصوف له طقوس ورياضيات خاصة، وهو نظام جسمي يسمى (اليوغا) وهذا ما يقوم به البوذيون، فأنهم يحيون حياة فردية لا يمكن عدها إلا عزلة وهمية تمارسها ذات واحدة معتقدة بأن لا شيء موجود إلا وحدة الكون التي هي وحدة الحقيقة (10).

واليوغا نظام فلسفي وطريق فلسفي يفضي إلى التوحد والى الفناء في الله، وهي تنادي الانسان كي يترفع عن امور دنياه، وان يرتفع عن العقائد والمذاهب والطائفية، والتمركز في الطقوس، وان ينظر إلى الاديان نظرة اخاء ومحبة وصفاء، واليوغا في الهند هي طريق المعرفة الصوفية أو عن طريق النقاء أو الصفاء، والتصوف الهندي أو طريق اليوغا قد وضع الاسس والتبويبات التي تأخذ بيد السالك إلى الخلاص فهي تجلي صدأ القلوب، وتزيل الهموم، وتسكن الروح في قلوب المؤمنين وتوجه الناس إلى عمل موحد، يخرجها من مشاكله العصبية، ومن احقادها وحروبها فيحل السلام والوئام ويتعاون الانسان مع اخيه الانسان، لرفع قيمة الحياة إلى المستوى الذي يليق بالإنسانية والذي اراده الله لعباده (11).

واليوغا كالتصوف فلسفة تمخر في بحر زاخر من المعرفة وهي كفلسفة التصوف ذات طابع عالمي (12)، وكما وصفت الصوفية في الحضارة اليونانية بالحكمة، فان كلمة بوذا (Bouddha) الهندية معناه ايضاً الحكيم المستنير أو المبارك، وكان بوذا قد المح في آخر حياته إلى انه اول البوذات (الحكماء) ولن يكون آخرهم. ويبدو ان الفيدا (Veda) وهي كتب البراهمة المقدسة كانت تبشر بحكيم يحي ويبحث ما محاه الزمن من معالم الديانة البراهمية، وينقيها مما علق بها على توالي العصور والاجيال، وترى غالبية البراهمة والكهنة المتخصصين في دراسة الفيدا يترقبون مجيء حكيم يكون مهدياً منوراً مخلصاً (13).

لذلك نرى البوذيون يترقبون إلى يومنا هذا ظهور حكيم من بينهم يجيء لينير ويهدي ويُنقي الدين ويحدد تعاليمه ويبعثها مجدداً (14). وقد عرف بوذا من خلال تعاليمه السامية التي دخلت القلوب دون استئذان، ومن تزهده في هذا العالم الفاني واصراره على قول كلمة الحق حتى ولو كانت لا تلاقي قبولاً من الملوك والامراء والوجهاء والكهان وذوي السلطان (15).

وطمح زرادشت الذي لم تفته ماهية الفلسفة الروحية (التصوف) فعاد إلى تفحص سرائر الانسان واهواءه ودعاه إلى حل المعضلات الاجتماعية، وعاد زرادشت إلى الشريعة الاولى يختلس منها آيتها الكبرى ليوردها وصية لدنياه فقال: حذاري في الطفرة في مسلك الفضيلة، فعلى كل فرد ان يسير في طريقه وان جنح على مسلك الآخرين، فلا يطمحَّن إلى بلوغ الذروة وحده، إذ على كل سائر ان يكون حبسه للمتقدمين قدوة للمتأخرين (16).

وخاطب زرادشت قومه فقال: (أحب من تفيض نفسه حتى يسهوا عن ذاته عندما تحتله جميع الاشياء فيضحك فيها ويغني بها)، أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله حتى اصبح دماغه بمثابة احشاء قلبه، لقد آن للانسان ان يضع هدفاً نصب عينيه لقد آن له ان يزرع ما ينبت أسمى رغباته فيجتنب ويمتنع عن أية دومة ان تنمو فوقها.

والتصوف في البلاد الصينية يعرف بالتاوية (Toisme) والتاو (Tao) كلمة صينية معناه الطريق أو النهج أو السبيل، ويقصد به اسلوب الحياة أو الطريق الصحيح، طريق السماء والتاوية هي ديانة ومذهب فلسفي في وقت واحد، أسسها في القرن السادس قبل الميلاد لوتشو (Lawtzu)، فخاطب العواطف ونزع إلى التأمل الصوفي حاول انصاره فيما بعد العناية بالكيمياء بحثاً عن اكسير الحياة (17).

ويعرف الصوفية في اليابان بأسم الزن (Zen) وتعني حرفياً التأمل وهي مدرسة من اهم المدارس في اليوغا وتزعم انها تعبر عن جوهر البوذية وروحها عندما تحاول المرور (18)، بتجربة الاستنارة التي بلغها بوذا الكبير، وقد نشأت هذه المدرسة في الصين في القرن السادس بأسم شان (Shan) وهي صورة من صور المهايانا البوذية، ثم انتشرت في اليابان منذ القرن الثاني عشر، والتصوف في اليهودية هو الربانية، وفي المسيحية هو الرهبانية، وفي الاسلام علم الحقيقة أو عين الحق، وحق اليقين (19).

وهناك من يؤكد ان التصوف الإسلامي تأثر بفلسفات هندية وفارسية ومصرية ويونانية، وان نظرية الفناء الروحي دخلت التصوف الإسلامي من باب الفلسفة الهندية، وهناك من يرى ان المسيحية أثرت في التصوف الإسلامي من ناحية الدعوة إلى الزهد (20).

وتشير المصادر إلى ان الحلاج الحسين ابن منصور ذهب مذهب (وحدة الوجود) والعشق الألهي طريقاً إلى معرفة الاسباب، سمي بالحلاج ولد عام (244هـ) بواسط في العراق، تصوف وعمره ستة عشر عاماً، سمي بالحلاج لانه مطلع على سر القلوب، ويستخرج الكلام كما يستخرج الحلاج لب القطن كما يقول الخطيب البغدادي، وكان الحلاج يلقب بالقاب عديدة ومن تلك الالقاب الزاهد المغيث، حلاج الاسرار، المميز المحير، الشيخ، ذات الذات كان الحلاج جسوراً على السلاطين والطغاة يحرك الجماهير وينادي بالاصلاح ويبشر بفكر الحكومة المثالية التي تقسم الشريعة الدينية على انظمة المحبة والعبادة الخالصة لله، وهنا كان لابد للسلطة من مطاردة الحلاج وجمع التهم ضده، وسجنه عدة مرات، ووضعه تحت الاقامة الاجبارية، دليل صراحته وطلاقة وقوة فكره الفلسفي الصوفي إلى ان قتل، ويظل المشهد الابشع لوجه السلطة في الاسلوب الهمجي الذي نفذ فيه مقتل الحلاج، ومهما تباينت صور وصفه بالمصادر، يظل قائماً في التاريخ لصالح هذا المفكر المتصوف الكبير الذي انتشرت افكاره من بعده في كل بقاع الارض، ويروي ابو بكر الشبلي مقتل الحلاج، وقد قطعت يداه ورجلاه، وصلب على جذع ثم ضربت عنقه ولفّتْ بحصير، وصب عليه النفط، واحرق وحمل رماده على رأس منارة لتنسفه الريح، وقال ابن كثير عن ابي الحديد: فضرب الف سوطاً ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في كل ذلك ساكت، ولم ينطق سوى بكلمة (أحد أحد) وتتفق المصادر كافة على يوم مقتله يوم الثلاثاء من ذي القعدة عام 309هـ وحرمت بيع وشراء كتبه التي بلغت (25) كتاباً.

جعل الحلاج من لحب الألهي فلسفة كاملة ومنهجاً متماسكاً، وعثر الحلاج ولم يكن له من يأخذ بيده (21)، وان اول الفلاسفة الذين قلدوا الصرامة والشدة التي اخذها اخوانهم في الدين الشرقيون (مشرق العالم الاسلامي) من الرهبان المسيحيين، وربطت بمراسيم المؤمنين الاطهار، فلسفة وحدة الوجود وعقيدة الحلول هو ابن عربي (560هـ- 1165م) كما كان لابن رشد (520هـ- 1126م) وفلسفته اثر كبير على اوربا وحتى ميلاد العلم التجريبي الحديث، وهاجم ابن رشد المتصوفة. أما الغزالي ابو حامد الطوسي (1058هـ- 1111م) فبعد كل مجهوداته في البحث عن الحقيقة الا انه لم يجد في الاخير ما ينير له سبيل السلوك الا التصوف اذ قال عن لسانه (ثم اني لما فرغت من العلوم، اقبلت بهمتي على طريق الصوفية ولما احسست بعجزي وسقط من كليتي اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر اذا دعاه وسهل على قلبي الاعتراض عن الجاه والمال والاهل والاصحاب)(22)، ومن الجدير بالذكر انه لبيت الحكمة في عهد المأمون، وما قام به العرب المسلمين من ترجمات فلسفية الاثر الكبير في التصوف الاسلامي.

التصوف في وسط آسيا والقفقاس هم انفسهم قادة الطريقة النقشبندية الصوفية، وكانت هذه الطريقة انتشرت انتشاراً واسعاً في القرن الثامن والتاسع عشر في وسط آسيا، ابتداءاً من ولاية هانسو الصينية حتى قازان واستطنبول وايران واذربيجان، ولعل انشط اقسام النقشبندية واكثرها تعبيراً عن روح الجهاد القسم الذي يمثل منطقة شمال القفقاس في الداغستان والشيشان، لقد اشار الكاتب الامريكي جي، اف بادلي في كتابه (الغزو الروسي للقفقاس) إلى ان حروب القفقاس التي شنتها الطرق الصوفية النقشبندية على روسيا للدفاع عن بلادها قد أسهمت في التدمير المادي والمعنوي للأمبراطورية القيصرية وشاركت تلك الطرق في اسقاط حكم أُسرة رومانوف واقامة النظام البلشفيكي (23).

والنقشبندية الصوفية التي انتشرت في العالم الاسلامي وجدت لها المجال الأرحب في كردستان العراق على يد العلامة الشيخ خالد الشهروزوري وكان قد رحل إلى الهند، وثم عاد إلى كردستان اسس في السليمانية هذه الطريقة، ثم قصد بغداد وفتح له (تكية) زمن الوالي داود باشا، ولم تكن الطريقة النقشبندية الصوفية مقتصرة على الرجال فقط، وانما شملت النساء ايضاً، والعارفون باحوال كردستان يعلمون ان قلوب معظم سكانها الكرد تتعلق تعلقاً معنوياً وروحياً بالطريقتين النقشبندية والقادرية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني، ولد عام 470هـ، في جيلان وتوفي 561هـ في بغداد، ومن ابواب فضائل التصوف باب صحبة الصوفية، باب المحبة، باب المعرفة، باب التوكل، باب ثواب توكل الكفاية، باب الرضا، باب السخاء والكرم، باب الشفقة، باب حسن الخلق والتواضع، باب مكارم الاخلاق، باب الوصايا، باب شروط التصوف (24).

نعود الان إلى التصوف في الفكر الغربي وهو مناقض لمفهوم التصوف في الفكر الاسلامي الذي مررنا ببعضه، فبمجيء القرن الثامن عشر برز الانكار المتشدد للخلود، إلى جانب رواج خطابات الموتى لما بعد الموت، وتناسخ الارواح، وتتمتع في هذا الصدد الاطروحة التي كتبها الروسي الكسندر راد يشتيف عام 1792م، فهو يرى ان حجج فناء النفس، اكثر اقناعاً من حجج خلودها، وينتهي إلى القول بأن الحجج الميتافيزيقية والعقلانية المحض غير مقنعة، وان على المرء ان يضيف لها مبررات القلب، ومع ذلك ترك للقارئ حرية الاختيار في تأمل البراهين التي تؤيد الخلود وتلك التي تفنده وان يتوصلوا إلى نتائج خاصة بهم، ومن جانبه يؤكد ان الخالق الرحيم لم يخلق الانسان ليجد ان الغرض من الخلق كان بلا طائل. كما يضيف هوبز قائلاً: النفس ليست خالدة، لكن الرب في يوم الدينونة سيبعث المخلصين باجسام روحانية مجيدة، وتلك بالطبع معجزة، ليست بعزيزة ولا مستحيلة على الخالق (25).

كما ان موران يشير إلى اسبينوزا يردد وان يكن في اطار المنطق الديكارتي صدى القضية الرئيسية للهندوسية، وهناك ضروب ملحوظة من التماثيل بين ذلك الشيء الذي هو ماهية النفس عن اسبينوزا، وبين الاثمن (براهما) بين اله وحدة الوجود، وبين (براهما)، بين الغبطة الاسبينوزية، أو المعرفة الكاملة، وبين المعرفة الصوفية عند البراهماتية للراجا (26). ان حالة الخلود عند اسبينوزا سواء سميت بالخلاص أم بالقداسة، أم بالانبعاث الروحي، تعتمد على الحب المتبادل بين الرب والانسان، وذلك كما يشير ولفسون ليس بالامر الجديد فقط قال به اللاهوتيون قبل اسبينوزا وهو يعترف بذلك قائلاً: ان هذه السعادة الروحية تسمى بالمجد في الكتابات المقدسة ولذلك ما يبرره (27).

في تجربة باسكال الصوفية يدعو إلى التخلي عن العقل الطبيعي وهو اكثر ما يستطيع الناس فعله، كما ان الايمان ما دام يأتي من العادة، فافعل كما لو كانت تؤمن، حادثة التصوف وقعت كما يشير جاك شورون في حياة باسكال وهو كما معروف عنه عالم رياضيات ما بين العاشرة والنصف والثانية عشرة والنصف ليلاً، في ليلة ثلاث وعشرين نوفمبر عام 1654ميلادية وقد عثر على وصف تجربته الصوفية عقب وفاة باسكال مكتوبةً على قطعة من الرق، حيكت في بطانة سترته، وكان كلمة النار أو بترجمة افضل اللهيب مكتوبة في اعلى الرق بحروف كبيرة: (رب ابراهيم واسحاق ويعقوب لا رب العلماء والفلاسفة يقيناً يقيناً يقيناً، فرحة سلام رب يسوع المسيح، نسيان العالم من كل شيء عدا الله، وينتهي الرق، خضوع شامل لليسوع المسيح والكاهن الذي يتلقى اعترافي. آمين).

كما يؤكد كانط اثبات الخلود على الحجة الاخلاقية بدلاً من الرجوع إلى التجربة الدينية والايمان الاعمى، انه نتيجة نفور كانط من النزعة الصوفية فيقول: القانون الاخلاقي الكامن فينا، هو الذي يكشف لنا ان العالم في يد عناية الهية حكيمة وان الانسان كائن ينتمي إلى عالمين هما العالم الظاهري والعالم في ذاته.

أما بالنسبة لنوفاليس (1772-1801) أعظم الرومانتيكيين واكثرهم عمقاً فالموت ليس عودة إلى الكل، وذلك على الرغم من فلسفته تختلف عن كل من كانط وفخته لاعادة تأكيد الايمان بالخلود، كذلك فهي تناقض ايضاً فلسفة الماديين الفرنسيين الذي ذهبوا إلى الموقف الرواقي باعتبارهم الموت فناءاً شاملاً، فالمعرفة بحسب الرومانتيكيين بأسرها هي في نهاية المطاف معرفة صوفية، وعلى روح الانسان ان تتجه إلى الداخل لتعيد خلق عالم جديد، وعلينا ان نتوغل داخل الاشياء ونخلع عليها بعداً آخر هو بعدها الحقيقي (28).

أما بالنسبة لشوبنهاور فهو قد وضع البذرة الاولى امام الوجودية الحديثة في قوله: (الرغبة في ان تكون الفردية خالدة، تعني حقاً التطلع إلى دوام الخطأ بلا انتهاء، فكل فرد هو في اساسه خطأ فحسب، خطوة زائفة، شيء كان من الافضل ان لا يكون، بل شيء بعد خروجنا منه هو الانتهاء الحقيقي للحياة).

ويذهب ياسبرز ان العلو الشامل يمكن ان يدعى الله، وهو يضل شيئاً لا يمكننا تخيله تماماً، خارجاً عن أي اتصال انفعالي، والارتقاء إلى العلو ليس تجربة صوفية، ليس توحداً مع الله الحي، ما يقدمه ياسبرز ليس إيماناً دينياً وإنما هو إيمان فلسفي دون عقيدة واعتقاد.

أما وليم جيمس فهو يقول: (وأما في الحالات الصوفية فان الذات تشعر باتحادها بالله بضرب من التحول والابدال Deplacement في مركز طاقتها الشخصية نتيجة لذلك الاتحاد، وليس الحالات الصوفية بمثابة انحرافات في صميم الشعور الديني، بل هي اعلى صورة من صور ذلك الشعور النفسي الذي يستولي علينا حينما نحس بان وجودنا قد اتسع باستغراقه في موجود اعظم منا، وهذا الشعور نفسه هو صميم الدين باعتباره تجربة حية، فعلى كل حال فان الرجل الديني اياً كان ايمانه الديني، يشعر بان علاقته بذلك الموجود الاعلى الذي يتعلق به هو مصدر قوته وطاقته ورجائه في الحياة، وهو لهذا يستمد من تلك العلاقة نفسها سعادة وسلاماً وغبطة روحية ما كان يمكن مطلقاً ان يحصل عليها عن طريق آخر) (29).

والواقع ان من شأن فكرة الله ان تخلع على نظرتنا إلى الكون شيء من الاتساع والعمق فضلاً عن انها تجعل الكون اقرب الينا واكثر تآلفاً معنا، وليس الله مجرد اسم أو موجود مجرد، بل هو شخصية حقيقية متناهية توجد في الزمان، اعني – حسب جيمس- انها ذات الهية أو بالاحرى انت، ولما كان الله شخصية متناهية فانه لا يمكن ان يحيط بكل شيء أو ان يعرف كل شيء، ذلك لان اعظم الذوات واوسعها عقلاً قد تجهل مع ذلك طائفة من الاشياء، التي تنكشف لغيرها من الذوات، ولا يتصور جيمس الله على انه خارج عن العالم أو متعال عليه، بل هو يتصوره على انه جزء من الكون أو هو من يتحدث عنه احياناً كما لو كان الحقيقة المثالية الباطنة في صميم الاشياء، وما دام الله هو الجانب المثالي من الاشياء، فانه لا يمكن يحوي كافة الاشياء من الخارج بل قد يكون من الممكن ان نقول ان الاشياء في جانبها المثالي تكون جزءاً من صميم وجوده، ومعنى هذا ان الله لا يخلق كل شيء، هذا فضلاً عن ان الخلق بالنسبة اليه ليس بمثابة مجرد تنظيم آلي، وتبعاً لذلك فان وجود الشر ليس بدليل مطلق على عدم وجود الله، إذ ان الله شريكنا الاعظم الذي لا يكف عن محاربة الشر دون ان يفرض علينا بعنايته طريقاً معيناً لا يكون علينا من بعد سوى ان نسير فيه، وليس في استطاعة الله ان يضمن لنا خيرية العالم هذا فضلاً عن انه هو نفسه ليس بقادرٍ على كل شيء، ولكن اذا كان العالم كثيراً ما يحيد عن الطريق المرسوم فذلك لان الله لا يكاد يكف عن ان يتخذ تصميمات جديدة، وبالاجمال يصنف جيمس الله بانه الخير ولكنه لا يقول انه لا متناه، أو انه قادر على كل شيء (30).

ومع ذلك فان وليم جيمس يؤمن بنزعة فائقة للطبيعة، لانه يرى ان هناك معجزات تعبر عن تدخل الله في صميم النظام الطبيعي بطريقة مباشرة فالعالم المثالي كثيراً، ما يتدخل بطرق مفاجأة في صميم العالم الواقعي، مما يدل على ان الله كثيراً ما يغير من مجرى التاريخ بين الحين والآخر، افلا يكون من الصواب ان نقول ان وجود الله انما يتجلى بشكل واضح في تلك المعجزات التي تظهرنا بين الحين والآخر على عمل الله؟ وهذه المعجزات نفسها اليست هي اكبر مظهر على وجود حرية في صميم العالم، ما دامت الحرية على حد تعبير رينوفييه Renouvvier بداية مطلقة؟ الواقع حينما يتداخل المثالي والعالم الواقعي، أو حينما يصطدم كل منهما بالاخر، فهناك تنبثق الحقيقة للجدة في صميم هذا الوجود (31).

ولا يقتصر وليم جيمس على القول بان الله يفيدنا ويشد من ازرنا، بل هو يذهب ايضاً إلى ان الله ايضاً في حاجة الينا، كما نحن بحاجة اليه (أني لست ارى ما يمنع من ان يكون وجود العالم اللامرئي متوقفاً إلى حد ما على ردود افعالنا الشخصية بالنسبة إلى مؤثرات الفكرة الدينية، وفي هذه الحالة ليس ما يمنع ان الله نفسه يستمد من ولاءنا واخلاصنا عظمة وجوده ومقومات بقاءه) ومعنى هذا اننا بإيماننا بالله نؤدي لله اجل خدمة واعظمها إذ نساهم بذلك في تثبيت دعائم ذلك العالم المثالي (32).

وفي تساؤل جوهري فلسفي هام يتساءل جيمس، لكن هل يكون معنى هذا ان الله مجرد فكرة يخلقها الانسان لتقوية عزيمته وشحذ همته بحيث يكون الله مجرد تصور مثالي؟ ومن رحم هذا التساؤل اذا كان متناهياً فما الذي يضطرنا إلى التحدث عنه بصيغة المفرد؟ كأن ليس هناك الا إلهاً واحداً، الا يمكن ان يكون هناك آلهة متعددة، يجيب جيمس ان فرض الشرك ليس اقل احتمالاً من فرض التوحيد، فلماذا لا نقول بوجود قوى متعددة تحكم الكون؟ (33).

أليس من المحتمل ان يكون العالم مؤلفاً من مجموعة القوى الفردية الالهية التي تتمتع بدرجات متفاوتة من الحكمة والفهم، دون ان يكون بين هذه القوى العديدة أية وحدة مطلقة؟ ان الناس يتصورون الله على انه حاكم قوي أو طاغية مستبد، ولكن الله في الحقيقة إلا واحداً بين معاونين كثيرين في وسط جمهرة من مشكلي أو صائغي مصير هذا الكون العظيم، هكذا نجد ان عالم جيمس هو اقرب ما يكون إلى جمهورية شاملة يعيش فيها مواطنون احرار يعملون جميعاً على قدم وساق بغية الوصول إلى تحسين هذا الكون (34).

ويأخذ الدكتور زكريا ابراهيم على وليم جيمس: ولسنا نفهم كيف يمكن ان تكون ارادة الاعتقاد هي التي تكون ماهية الدين، بينما الدين في صميمه هو اتجاه الذهن إلى اكثر الاشياء موضوعية وواقعية على حد تعبير هوكنج... ان الله لن يكون شيئاً على انه من خلقنا، فلن تكون له اهمية عملية على الاطلاق لانه عندئذٍ لن يكون حتى ولا مجرد فرض ملائم في صميم حياتنا.

 

علي محمد اليوسف

....................

 (1) التساعيات، التساعية الرابعة، ترجمه إلى الانكليزية: استفين ماكينا، لندن، 1957.

(2) جاك شورون، مصدر سابق، ص 284.

(3) صادق جلال العظم، دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة، ص 179-181.

(4) علي محمد اليوسف، فلسفة الاغتراب، الدار العربية للموسوعات، 2013، ص 156.

(5) نفس المصدر السابق، ص 157.

(6) نفس المصدر السابق، ص 157.

(7) نفس المصدر السابق، ص 157.

(8) د. محمد فاضل عباس، مجلة دراسات فلسفية، بغداد، ع21، 2008، نقلاً عن: Russel Betrand, Oxford university press, London, p176.

(9) نفس المصدر السابق.

(10) نفس المصدر السابق.

(11) د. عبد القادر ممدوح، فلسفة التصوف، ص 27.

(12) عباس المسيري، اليوغا والتصوف، ص 21.

(13) نفس المصدر السابق، ص 28.

(14) محمد علي الزعبي، ومحمود مقلد، البوذا في التصوف في الهند، ص 113.

(15) عبد القادر ممدوح، مصدر سابق، ص 28.

(16) عبد القادر ممدوح، نقلاً عن فريدليك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، دار القلم، ص 15.

(17) جفري براندرار، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، عالم المعرفة، ع 173، ص 421.

(18) عبد القادر ممدوح، مصدر سابق، ص 30.

(19) عباس المسيري، مصدر سابق، اليوغا والتصوف والرهبانية، ص 63-64.

(20) عبد القادر ممدوح، نقلاً عن احمد الشرباصي، الغزالي والتصوف الاسلامي، ص 150-151.

(21) عبد القادر ممدوح، فلسفة التصوف، هامش صفحة 13.

(22) عبد القادر ممدوح، مصدر سابق، ص 81.

(23) Baddly, J, F, The Russian conquest of the Caucasus, 1980.

(24) عبد القادر ممدوح، فلسفة التصوف، مصدر سابق، ص 142- 147.

(25) جاك شورون، مصدر سابق، ص 143.

(26) ادجار موران، الانسان والموت، باريس، 1951م، ص 222.

(27) الاخلاق، الكتاب الخامس، القضية 36.

(28) شاك شورون، مصدر سابق، ص 168.

(29) دكتور زكريا ابراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة نقلاً عن: بوترو (العلم والدين) E Boutrox: science of religion dans La philosophy

(30) المصدر السابق، ص 51، نقلاً عن: W. James "Prgmatisim", p.928

(31) المصدر السابق، ص 52.

(32) نفس المصدر السابق، ص 56.

(33) المصدر السابق، ص 57.

(34) المصدر السابق ص 53.