الرئيسية

الاغتراب الابداعي والعزلة النفسية والجنون

ali mohamadalyousifنعتقد ثمة تفريق تجاوزنا فهمه في تناولنا دراسة ظاهرة الاغتراب . فالاغتراب Alienation هو غير العزلة النفسية self-estrangement كما يحلو الخلط للبعض بين المضمونين والمصطلحين . وسواء اكانت العزلة النفسية–سوية (صحية) غير مرضية او كانت عزلة نفسية بعوارض مرضية –مثل انفصام الشخصية، او الذهان العقلي، او العصاب النفسي… الخ فهي لا تمثل شكلا اغترابيا من اشكال الاغتراب… فهي مرض لا غير.

وان كان يفترض مسبقا ويشترط ان يكون كل موقف او مظهر اغترابي تستوطنه، تدخله، تتقمصّه عزلة نفسية , هي في نظر علم النفس الطبي والعقلي ان جميع اشكال العزلة النفسية مرضية، الا انها تختلف لدى الاغترابي او الشخص  المبدع في (درجة) و(نسبية) المرض. والا انتفت خاصية الابداع الفني الجمالي عنده حين يكون الاغتراب حالة لجم وتقعيد الفعالية الابداعية.

فالعزلة النفسية لدى الاغترابي المثقف المبدع، عزلة نفسية غير مغيّبة أي بمعنى تعي ذاتها وتدرك محيطها وتعرف بواعث عزلتها، لذا فقد يكون الفرد الاغترابي عصابيا نفسيا من نوع ما وقد يكون معافى نفسيا . فالعزلة النفسية لدى الاغترابي ضرورية لترك مسافة الرصد والمعاينة لوعي الذات اكثر ورغبته الاكيدة في التأثر والتأثير بالمحيط .. وهذا ما لا نجده لدى المصاب المريض بالعزلة النفسية المرضية غير المنتجة، عليه لا تكون كل اشكال العزلة النفسية او حالات العصاب النفسي بالضرورة تشكل ظواهر اغترابية .

والاغترابي الثقافي، او المبدع بالتحديد ربما لا تكون عزلته النفسية من وجهة نظر طبية نفسية عقلية تمثل انفصاما شخصيا تفقد صاحبها قدرة الابداع او التأثر او التاثير بالاخرين والمحيط, بينما تكون بعض حالات العصاب النفسي او الانفصام او الذهان العقلي وغيرها امراضا مصحوبة بعوارض وعلامات وسلوك وتفكير مريض تفقد صاحبها قدرة التعامل السوي مع المحيط، غير مدرك (لذاته) ولا يعي (الموضوع) وعيا سليما.

والفرق بين الاغتراب والعزلة النفسية المرضية:

ان الاغتراب ابتعاد او انفصال عن الجوهر الحقيقي المثالي للذات، او الانفصال عن الموضوع سواء اكان الآخر  المجتمع ام المحيط، والاغترابي يستثمر عزلته النفسية بالتأمل ومراجعة الذات والاحتكام الى معيارية حقيقتها الجوهرية المثلى ومن ثم دراسة بواعث اغترابه الاخرى الموضوعية واستحضار تصورات ومفاهيم ارتدادية للعودة ثانية للمحيط الذي اعتزله برؤى وابداعات قد تكون فكرية، اجتماعية  ادبية، فنية …. الخ.

اما العزلة النفسية المريضة غير المبدعة فقد تكون رد فعل سلبي مبعثه ومسبباته المحيط او المجتمع والانكفاء نحو الداخل بسلوكية وتفكير منغلق على الذات منبت (مقطوع) الصلة بالآخر، مغيّب عما يجري في المحيط من حوله.

ويجمع من لا حصر لهم من اختصاصيين اجتماعيين وعلماء نفس وادباء ان العزلة النفسية – الفصامية هي خاصية المبدعين المتميزين من مفكرين وادباء وفنانين ممن كانت عزلتهم النفسية غير السوية من وجهة نظر الطب العقلي والتحليل النفسي هي مبعث ابداعهم ولو احتوتهم شواغل الحياة اليومية والاندماج الطبيعي!!! مع المجتمع لما اصبحوا مبدعين اساسا.

باختصار العزلة النفسية التي هي مبعث ومنشأ كل انتاجية ابداعية ادبية فنية جمالية انما هي تموضع (أناني) للذات في تمايزها الاجتماعي . والاغتراب الذي يحتوي العزلة النفسية يكون اغترابي بالمجموع، بالكل الذي قدرة تأمل الذات–المجموع من نصيبه وحده، فالاغترابي ليس ايديولوجيا تثويريا في المجتمع، لكن جزء من فعاليته الاغترابية هي تلك… فهو لا يعيش عزلة نفسية تعنى وتنشغل بعبادة وثنية للذات حتى في سماتها المثالية الجوهرية – وان كان ليس هناك ذات انسانية بسمات ومواصفات مثالية كاملة باستثناء مواصفات الذات بمقارنتها معياريا بالكمال الالهي المطلق اللامحدود اللانهائي، فعند مقارنة الصفات الذاتية الانسانية بالصفات الذاتية الالهية عندها يمكننا (تصور) فقط انسانية مثلى متمايزة جدا عن بقية البشر… وهو ما لايتوفر عليه البشر.

سمات وصفات الاغترابي المبدع:

يعي ذاته جيدا، ويتحسس بواعث اغترابه عن موضوعه وحتى عن الكوني وما وراء الطبيعة.

يمتلك تصوراً مسبقاً لضرورات تجاوز اغترابه واغتراب الآخر.

العودة ثانية الى معترك الحياة في نشدان قهر اغترابه بالاسلوب والمواصفات والمميزات والمؤهلات التي تمكنه من بلوغ غايته.

يذهب (بلوير): (ان واقع العالم الانفصامي قد يكون اكثر صدقا من العالم الحقيقي، فالمريض يتحدث عن تخيلاته على انها حقيقية وعلى الواقع انه وهمي وان امكانية ان يكون الواقع الاجتراري اكثر صدقا من الواقع الحقيقي)(1).

مر بنا ان العزلة النفسية باستثناء مجموعة من الادباء والفنانين، سواء اكانت لدى غيرهم حالة انكفاء نفسي مرضي او عقلي او ذهاني، او انفصامي، او حتى لو كانت حالة طبيعية سوية فليس من شرطها او من جوهر سماتها الابداع والخلق او تجلي موهبة او نبوغ.لان الموهبة تلعب دورا اساسيا في انعزال الاديب او المثقف.

فالعزلة النفسية لدى المصاب باكتآب مزمن او لدى المنفصم الشخصية الحاد، او صاحب الذهان العقلي، او العصاب النفساني المنكفئ في رحلة الداخل بلا رجعة للذات ووعي المحيط، وحتى احيانا صمت المجنون او عزلته وهذيانه، كلها علامات وعوارض لظاهرة سلبية مرضية لا فائدة من ورائها في كل المقاييس وسيتوضح لنا اكثر في مجال قادم.

ان ما يذهب له (بلوير) و(فوكو) و(آرتو) و(كرتشمر) و(هولدرين) من تقييم رد اعتباري اخلاقي–انساني–اجتماعي للجنون ممن يعتبرون حتى هذاءات المجنون ربما كانت او بالاحرى جازمين انها تعبير صادق عن الحقيقة والذات ومبعث هذا الاتجاه كما ذكرت عاطفي انساني تعالج الوضع الاجتماعي ومكانته كانسان من حقه ان يعيش الحياة التي تعيش هي به ولا يعيش هو بها .

ولتوضيح الفرق بين الاغتراب الطبيعي الابداعي لدى الاديب او الفنان وبين هذاءات المريض الفصامي او الذهاني او المجنون استشهد بوجهات النظر التالية كتمهيد للدخول في مناقشة اشمل للموضوع:

1- يشير الاستاذ الدكتور شاكر عبد الحميد في بحثه القيم (المرض العقلي والابداع الادبي)(2)، ان اخذ الفروق الحاسمة بين التفكير الابداعي والوقوف فريسة (الذهانية) هو ذلك التحكم الارادي والفرضية الواضحة في سلوك المبدع بينما يبدو المريض الفصامي مثلا منقادا مدفوعا بواسطة افكاره .. وان الفنان ينظم افكاره ويشذبها في عملية الخلق الابداعي بينما تبقى افكار المريض اجترارية ضاغطة  مستمرة بشكل ملح غير قابل للتحكم، بينما افكار الفنان مصاغة وقد تم تشكيلها في قوالب فنية قابلة للتوصيل والتذوق.

2- يقرر الاستاذ  الدكتور محمد على الكردي في بحثه (الجنون في الادب)(3)، ان الذهان الذي هو انفصام حاد بين الأنا والواقع كثيرا ما يؤدي الى سيطرة الغرائز والدفعات الاولية على الأنا واعادة صياغة الواقع بطريقة خيالية تتلاءم مع هذه الدفعات.

3-  في معرض حديثه في ندوة عن الاغتراب يعرف الاستاذ الدكتور حسن حنفي الاغتراب السوي أي الابداعي بقوله (الاغتراب توحد الذات بالموضوع في الانسان فيصبح الانسان واعيا بذاته عن طريق الموضوع والوعي بالموضوع هو وعي بالذات)(4).

4- المفهوم السايكولوجي لتجربة العزلة النفسية المرضية في حالات الجنون والفصام والذهان والعصاب … الخ  يختلف عن المفهوم السايكولوجي للاغتراب الابداعي السوي ان هذا الاخير حالة او حالات عقلية او نمط من الخبرة او التجربة تتوقف على التناقض بين توقعات الفرد عن قدرته في التحكم وما يتاح له في الواقع من فرص للسيطرة والتحكم او هو خبرة ذاتية كما يرى (اريك فروم) او خبرة او حالة شعورية طبقا لما يراه (كينستون)(5)، كذلك يرى الاستاذ الدكتور قيس النوري ان مبررات ودوافع الاغتراب: (انعدام السلطة والانخلاع والانفصال عن الذات والاشياء والتذمر والعداء والعزلة وانعدام المغزى في واقع الحياة والاحباط)(6).

5- اهتم (كرتشمر) بحالات الانفصام الشديدة المعبر عنها بتجليات ابداعية تصعيدية كما في دراسته عن الشاعر الالماني (هولدرين) الذي اصيب بالجنون وقد اطلق (كرتشمر) على تلك الحالة الانفصامية (تنويعة هولدرين)(7). وهذه الحالة بحسب رأيه تتسم بان الفرد الذي يعاني منها يكون حساسا بشكل كبير لبيئته ومن ثم يتراجع الى الحياة الداخلية الخيالية … ومن الجدير بالذكر ان تجرية (هولدرين) مع الجنون وتصدع حياة (آرتو) و(فيرلين) و(لتريامون) و(فان كوخ) و(ياجنسكي) و(نيتشه) جعلتهم جميعا لا يقدمون أي نتاج ابداعي يضاف لعبقريتهم السابقة شيئا قبل محنة الجنون.

(2)

(الخبرة الفردية جنون متفق عليه) لانج عالم نفس اديب

(الجنون هو التدمير الكامل للعمل الفني) ميشيل فوكو

(انا افكر الذي هو نفسي او جوهر منفصل ومنعزل انعزالا تاما عن العالم) فيخته

(هناك امر واحد سيظل ادراكه مستحيلا الى الابد الا وهو ان يكون الانسان عاقلا .) نيتشه

(الايمان بالحقيقة هو الجنون بعينه) نيتشه

(اجمل الاشياء التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل) نيتشه

التساؤل الآن هل ان مثل هذه الافكار الاغترابية الفلسفية التي لاتحد تعتبر ضربا من كشف عقلي غير اعتيادي وفوق الطبيعي لايمكن لكل شخص مهما حاول الوصول اليه!؟ ام انه ضرب من عبقرية الجنون التي تصاب احيانا ببصمات واضحة من التفكير الاخرق الجذاب بشكل مدهش لا حدود له!؟

ثمة مدخل للموضوع لاستعراض وجهات النظر على جانب كبير من الاختلاف والتباين والتعقيد المتخصص حين يعبر جميع المهتمين بهذه الظواهر عن هذا اللاتشاكل بين ملكة الابداع والخيال الجامح غير المسيطر عليه بمعيارية العقل في اعطاء مواصفات جمالية – فكرية – فنية للعمل الابداعي تميزه عن المنجز الفوضوي العشوائي المسطح.

بعض من هذه الآراء تقول ان الجنون ظاهرة فريدة تجمع بين الاضطراب العقلي والنبوغ الابداعي لافكاك لاحدهما منها … حيث كان يظن بعض الرومانسيين شعراء الليل والتصوف والاحلام ان العبقرية الحقة لا يمكن ان تخلو من قدر معين من الجنون، كما ان هذا اللون الاخير من الجنون يطلق عليه (ميشيل فوكو) (اللا-عقل) ضرب من الدروب المتوهجة او اشعاع خاص من الاشعاع الكاشف لاغوار النفس والوجود(8).

ويذهب (لانج) قريبا من هذا الفهم المتقدم عندما يعتبر الجوانب اللاعقلانية واللامنطقية هي الجوانب الحقيقية وحيث الجوانب العقلية والمنطقية هي الزائفة وينكر (لانج) اية امكانية للفرح الحقيقي او الانتاجية الابداعية للعقل الشعوري ففي عمله الواعي يظهر العقل الشعوري  احادي الجانب محروما من وظيفته المعقدة كوسيط بين العالم الداخلي للغريزة والحلم والتهويم(9).

كما ترى الاديبة اللامعة غادة السمان في استعراضها كتاب الدكتور عالم النفس الاديب (لانج) (عصفور الجنة ومبادئ التجربة) في فصل كتابها :- (السباحة في بحيرة الشيطان) تحدثت فيه عن الجنون … اذ تتحمس لوجهة نظر (لانج) في رد الاعتبار الانساني والاجتماعي للمجنون… فالكاتبة ترى ان (لانج) لا يصف علاجا لشفاء الناس من الجنون وانما يبحث عن علاج لشفائهم من (العقل) ولانج ليس حزينا من اجل المجانين وانما هو حزين لان الافراد العاديين فخورين بظنهم انهم عاقلون … وتقول الكاتبة ان (لانج) لا يتحدث عن المجانين داخل المستشفى وانما عن عالم المجانين خارج المستشفى … وهو ليس فخورا كبقية الاطباء عادة بتقديمهم الوسائل العلمية في معالجة المجانين، فهو يرى في جنون التطور العلمي اهم اسباب الجنون المعاصر… والمجنون بالتالي لا يهدد بقاء المجتمع الانساني وانما هو اول ضحايا المجتمع اللاانساني المتجه نحو تدمير ذاته… انه صفارة الانذار ليس المهم اسكاتها كي لا تزعجنا بل الاهم ان نعرف لماذا انطلقت!؟

فالمجانين كما تقول الكاتبة هم رواد الحقيقة المدفونة في اعماق النفس البشرية هم رواد عالم الروح ونحن بحاجة اليهم اكثر من حاجتنا الى رواد فضاء … انهم كهنة النفس البشرية ولذا اذا استطعنا اقناعهم بالعودة الى عالمنا وقبولهم الحوار العميق معنا فقد يكون لديهم الكثير من الاسرار التي تهدينا الى يقين ما … وهكذا فالمجنون الذي يعود الينا ليمنحنا تجربته هو كنصف المبصر الذي يقود أعمى في مجاهيل الحقيقة الانسانية(10).

وتتساءل الاديبة غادة السمان ترى من كان على حق ؟ الطيار الذي ضغط بزر فأباد وشوه ملايين من البشر في (هيروشيما) الذي اصيب بالجنون فيما بعد … أم قرار الاكثرية غير الانسانية ممثلا في قيادة دولته يومها!؟ أم محكمته الداخلية – تقصد الضمير- التي دفعت به الى رفض مجتمعه ذلك المجتمع الذي دفع به الى الجريمة تحت لقب (الواجب) فكان رفضه لمجتمعه ما نسميه عادة (الجنون) … وتستنتج ألا يمكن ان يكون جنون انفصام الشخصية هو احتجاج الأقلية المرهفة الحس والوجدان الانساني ضد الاكثرية التي غاب عنها صوت الذات الانسانية تحت اكداس الاصوات المتوارثة عن قيم سائدة ومفاهيم مكرسة مرفوضة سلفا اعادة النظر فيها!؟ صرخة احتجاج تتخذ احيانا صورة الهجرة عن الناس وعن عالمهم.

لنا بعض الملاحظات في الجوانب التي تخص الجنون بموضوعنا الاغتراب:

1- لا يمكن لأحد (تعميم) تجربة جنون الضابط الامريكي ان صح جنونه فعليا مقياسا لتجربة جنون مئات الالوف من البشر لاسباب مختلفة جدا عن مسببات القاء القنبلة الذرية من قبل الضابط ومروره بمحنة تأنيب ومحاكمة الضمير الذي قاده الى الجنون فلا يصح محاكمة حالة جنون خاصة بالحكم على حالة جنون مختلفة هي جنون مجازي (عامة) كان مسؤولا عنها في حينها (ترومان) رئيس الولايات المتحدة الامريكية.

2- ان المجتمع، أي مجتمع على واجهة الارض هو فعلا في الكثير من جوانبه مهما كان مثاليا اخلاقيا في رعايته حقوق الانسان الحقة الطبيعية لا يمكن وجوده بل ولا حتى تصوره على وجه الكرة الارضية، يمكننا ان نجعله مجتمع ممكن الاحتكام اليه لتبرير اسلوب رفض الآخرين ومنعهم من عزل، المجنون صحيا واجتماعيا – حتى لو لم يكن المقصود الجنون المرضي العقلي المطبق تماما – او بالدعوة غير الواقعية بالتمرد الفوضوي الجنوني الذي يعيد الامور الى نصابها الصحيح اجتماعيا انسانيا اخلاقيا!! فالمجتمع الذي ضاعت فيه (السمة) الانسانية الكلية لمجموعه هل يصح ان يجد فيه (مجنون) انسانيته المضّيعة وحقوقه الإنسانية المهضومة متحققة في ذلك المجتمع!؟ وهل يجمع الماء بالغربال!؟ وهل من المجدي مساعدة المجانين باكثر من رعايتهم الطبية والاجتماعية النسبية في بحثهم – ان كانوا حقا يبحثون – عن إنسانيتهم التي هي اساسا حسب تصور البعض (الأسوياء!!) ليست مفقودة لدى المجانين وحسب وانما مفقودة في مجتمع بأكمله!!.

3- كيف لنا التأكد من صحة جمع مستحيلين في وقت واحد وتلازمهما !؟. المستحيل الاول هو عدم وجود (يوتوبيا) بشرية لا في  الحاضر ولا في مستقبل البشرية، مجتمعا انموذجيا معياريا يكفل للانسان كامل انسانيته ويشبع لديه جميع رغائبة ومتطلباته بكافة اشكالها وانواعها . ويبادل الفرد ذلك المجتمع بكامل التسليم وكامل العضوية السوية فيه. كيف لنا ان نجمع الى جانب هذا المستحيل مستحيلا آخر هو الترويج لخلق نموذج بشري سوي بمقاييس لانج والكاتبة (مجنون- بعقل) على اعتبار ان الجنون حالة تقع مسؤوليتها على المجتمع الذي اودى بالفرد المجنون الى هاوية الانفصال والانعزال اللاتكيف واللاعودة الشعورية الى المجتمع … وان على (المجانين) طبيا، الاسوياء اجتماعيا ان يعقلوا ضرورة تحقيق هويتهم الفردية الانسانية الاجتماعية من خلال اندماجهم بالمجتمع كبشر وافراد وقيمة عليا في الحياة !؟

وأرجو ان لا يفهم من كلامي انني ادعو ضمنا لا تصريحا معاملة المجانين طبيا كمعاملتهم للمجنون في اوربا القرون الوسطى بالحجر عليهم كمرضى الجذام والطاعون – وهو ما يمارس فعلا في بعض مستشفياتنا مع حالات الجنون!!.

ونخالف الاديبة الكاتبة – حتى ان كانت دعوتها مجازية – املتها حرارة العاطفة الانسانية في دعوتها  معالجة الجنون – ربما غير الطبي – ليس من خلال وعلى ايدي اطباء اختصاص نفسانيين لان من بينهم لا يمتلكون الرهافة والضمير والحس الانساني والوجداني العاطفي لمعالجة المجنون والواجب حسب رأي الكاتبة معالجتهم يجب ان تكون من اختصاص الادباء والفنانين وحاملي القلم … وهم في غالبيتهم ضحايا ظواهر جنون طبي … وجنون اجتماعي!!

تصدى (ديكارت) بمنهجه في اعلاء شان العقل بحسم ان تكون للجنون او أي من مظاهر الاختلال العقلي والعصاب النفسي قدرة ابداعية وقد اكد هذه الافتراضية ميشيل فوكو من بعد ديكارت قائلاً: (الجنون هو التدمير الكامل المطلق للعمل الفني).

يناقش ديكارت فيقول: (ان القاء الشك على ما هو بديهي تماما انما يعد ضربا من الجنون.. اذ كيف لي ان اشك اني اجلس هنا الى جوار المدفئة وارتدي حلة نومي وامسك الصحيفة بين يدي، كما امسك بأشياء اخر غيرها!؟)(11).

وكيف لي ان انكر بان هاتين اليدين يداي وان هذا البدن بدني اللهم الا اذا قارنت نفسي بأولئك المجانين الذين اصابت الكآبة الصفراوية القاتمة أدمغتهم بالاضطراب والغشاوة حتى وصل الامر بهم الى ان يذهبوا هنا وهناك قائلين انهم ملوكاً بينما هم عراة تماماً او يتخيلون انهم اباريق او ذو ابدان زجاجية ..انهم على اية حال مجانين وقد لا اكون اقل منهم جنونا لو سرت على نهجهم(12) ويمضي قائلا : (اني انا الذي افكر فلا يمكن ان اكون مجنوناً)(13)، واقصى ديكارت عن الذات التي تشك كل من لا يفكر وكل من ليس موجودا ووجود الفلسفة لديه وجود يتحقق في (اللاجنون) في حين يهبط الجنون الى درك اللاوجود(14).

ان امثلة عديدة جدا من فلاسفة وادباء وفنانين بقوا اغترابيين منعزلين لكنهم لم ينقطعوا عن عطائهم الفلسفي والفكري والفني ونقل رؤاهم وتجاربهم في اغناء الفكر الوجودي الانساني والنفاذ الى اعماق النفس البشرية واكتشفوا مجاهلها واناروا الطريق امام اجيال رغم كل ممارساتهم الانعزالية التي هي سمتهم الاغترابية الايجابية كما تشير على سبيل المثال سيرة حياة (ديكارت) اذ بقي يتنقل ويسافر متنكرا، محتجبا عن اقرب المقربين اليه… بينما عطّل الجنون (نيتشه) لاكثر من ثلاثة عشر عاماً قضاها مجنونا ثم مريضا وكان في جنونه معطلا عن أي عطاء فلسفي او ابداع…

فالغربة النفسية لدى المبدع حتى وان كانت في ثناياها عصابا نفسيا او انفصاما بالشخصية وليس جنونا مطبقا، فهي تبقى عنده غربة عدم ضياع في متاهة الذات المغيبة بلا رجعة مثلما هي لدى المجنون والعزلة النفسية، أي مبعث اغترابية المبدع رحلة طويلة شاقة وصراع واحتدام مع الذات والموضوع ليست مغيبة ولا مقطوعة الجذور والعلائق والروابط بالواقع الحي الديناميكي للآخرين… والاغترابي المنعزل نفسيا بأمكانه العودة والرجوع للتفاعل مع المحيط متى رغب واراد وبوعي وادراك سليمين ورحلة الفنان الاغترابي المبدع تشبه الغواص الذي يبحث فقط عن الاصداف التي في داخلها لآلئ…  ورحلة الاغترابي تأمل الذات والمحيط بعمق قد يطول, انها ليست رحلة استجمام او رحلة ضياع في تعامله مع الحياة لا يعرف منتهاها او يجهل الغايات من رحلته، فهو يستطيع في كل وقت العودة الى شاطئ الانطلاق ثانية لانه يعي ذاته واغترابه اولا ويعي اغترابه عن موضوعه ثانيا…

الغربة النفسية الغير سلبية التي هي من اختصاص رجل الابداع في تعامله مع الحياة بكل ظواهرها تقوم على مبدأ المؤرخ المشهور الفيلسوف (توينبي) في تفسيره حركة التاريخ ونشوء الحضارات واندثارها انه مبدأ (التحدي والاستجابة) تحدي المحيط المستفز لفرد او مجموعة من الافراد يمثلون الصفوة او النخبة.. التي تأخذ على عاتقها مهمة الاستجابة والرد تجاه التحدي واستفزاز المحيط برؤى جديدة تتجاوز بواعث ومسببات هذا الاستفزاز.. ويذهب توينبي انه كلما كانت تحديات المحيط اكثر قسوة وشدة ووطأة يكون رد فعل الابداع الحضاري بالضد منها موازيا لها او اكثر بالشدة والاصرار والعزم… وكلما ضعفت في المحيط عوامل الاستفزاز والتحدي .. ضعفت امامها طرديا عوامل استجابة التغيير والتبديل…

ومن خصائص الابداع القدرة على تحويل ما هو سلبيي في المحيط ومظاهر الحياة الى قيم ايجابية جمالية تحل محل مظاهر الخلل السلبية والقصور والنقص في الكثير من جوانب الحياة، يمكنه من ذلك – المبدع- قدرته العالية على امتلاك الحساسية المعقدة الخاصة جدا والاستعداد الموهبي في تحويل ما هو سلبي الى ايجابي … وبهذا لن تكون العزلة النفسية للمبدع، اغترابا سلبيا، مغيبا عن تأثيره في المحيط.  يساهم في تخريب (مصنع الحيوية البشرية) كما يعبر غوردييف اذ يعتبر انفعالات الانسان السلبية المستمرة والخوف الدائم والاشمئزاز والغضب والتمزق كلها من مظاهر تخريب مصنع الحيوية البشرية . ويعبر سارتر عن نفس الفكرة : ان الوجود بذاته – أي الموضوع الذي لا وعي له، والوجود لذاته – أي الانسان في وعيه وضميره هما شكلا الوجود الانساني والانسان بلا موضوع لا يكون شيئا.

لابد من تفريق سريع هنا بين مفهوم الزمن في الاغتراب ومفهوم الزمن سايكولوجيا (نفسانيا) فالزمن لدى الاغترابي المبدع هو الزمن الوجودي الانساني الخلاق الذي اشار له (بريجسون) انه ما يعيشه الانسان بحيث لا يفترق عن الوجود الانساني كالدم الذي لا ينفصل عن القلب والجسم. وهو مفهوم او تعريف مغاير تماما لمفهوم الزمن سايكولوجيا اذ يصبح الزمن فيه موضوعا منفصلا عن الانسان يتأمله ولا يعيشه يحصي الساعات والايام فينطوي على نفسه يتأمل بقدرة عزلاء وارادة مقعدة(15)، وهنا يترتب عليه حتى بدون ارادة مسبقة شكلا من اشكال الاغتراب السلبي في التعامل مع الوجود الانساني فاغتراب العزلة النفسية الذي يعتبر الزمن موضوعا للتامل لن يكون شخصا ابداعيا لسبب بسيط كونه لا يعي اغترابه الوجودي في الزمن ولا يعاين وجوده في الزمن الذي تحكمه ثلاثة ابعاد هي الحرية والفكر والارادة . لذا نجد ان العزلة النفسية لدى عموم او معظم الناس لا هي اغترابا ايجابيا منتجا يضيف جديدا للحياة ولا هي حالة طبيعية سوية بمعنى التكيف والانسجام والتسليم والتوافق مع المجتمع بما يديم حياته وحياة مجتمعه بحياة افضل أي انها تعيش الزمن خارج الزمن الوجودي الحقيقي . وهنا اود التذكير انني في مدخل الكتاب قد اشرت الى عبارات غير دقيقة المعنى ولا حقيقة المحتوى من مثل (طبيعي مع المجتمع) و(تكيف في المحيط) و(منسجم مع الكلية) و(متناسق مع البنية الاجتماعية) فهذه كلها عبارات لفظية لا صحة واقعية لها في التطبيق والممارسة وهي زائفة وتشير الى معان خاوية فالشخص الطبيعي المتكيف المنسجم المتوافق كلها توصيفات لانماط من التشريعات التي تنص عليها دساتير الامم وتمثل قوانين بيروقراطية فوقية تسمح بتبرير سوق القطيع العام المنسجم المتكيف بالوجهة التي تريدها المؤسسة او الدولة المشرعة كي تبقي على مصالح وامتيازات الطبقة الحاكمة ولفئة او شريحة معينة من المجتمع . واعتقد انني اوضحت ان سبب ذلك هو عدم وجود مجتمع طبيعي نموذجي سوي يطمئن للفرد مستقبله ومستقبل اجياله ويسعد حاضره من خلال ما اطلق عليه رواد العقد الاجتماعي ومن بعدهم هيجل (التسليم) و(الاذعان للمؤسسة والدولة) كي يقوم  النظام ويحصل الفرد على حقوقه اذ بقيام النظام تكفل الدولة حقوق الفرد والمجتمع ولا اعني اكون بالاستنتاج والضرورة ادعو الى فوضوية غوغائية لا تقبل تنسيق علاقة الفرد بالدولة وتكون ارادة الفرد وحريته فوق الجميع لا ارادة المجتمع وحريته فوق الافراد انما ادعو الى خلق موازنة بين تسليم الفرد للدولة وتمثيل الدولة وفهمها لمعنى هذا التنازل من جانب الفرد وان الدولة وجود معنوي تقوم مؤسساته المادية بارادة مجموع الافراد . وللافراد منفردين او مجتمعين الحق في مناهضة الدولة باساليب (النظام) وبحصانتهم للحرية التي يملكونها المسؤولة التي ينظمها القانون التي هي في كل الاحوال فوق وصاية الدولة عليها او انتزاعها كحق من حقوق المجتمع والدولة مثال مقدس لا بديل عنه في العصر الراهن لكنها تبقى مثاليتها ناقصة وكمالها نسبي وهذا وحده كفيل بحق الفرد في تعديل انحرافات الدولة.

ثم باي مقياس معياري يمكن ان نحتكم فيه بان الانسان (س) انسان طبيعي وسوي لانه متكيّف!! والاهم متكيّف وطبيعي بالنسبة لمن!؟ طبيعي وسوي كيف!؟ في التكيف القدري بان من بديهيات الحياة التفاوت الطبقي والتمايز المالي والاجتماعي وفي الغاء الاهلية الحقيقية والكفاءة التي ترجح الفروق بين مستويات الافراد!! هل نقول (ص) انسان سوي طبيعي لانه منغمس في تفاهة الحياة اليومية والاستمتاع بالسعادة المادية!؟.

في علم النفس (طبيعي) و(سوي) تعابير غير دقيقة والفاظ لا معنى معياري حقيقي لها وخير مثال على ذلك ان معظم علماء النفس واختصاصيي الطب العقلي والنفسي هم غير اسوياء بالقياس الى نفس المعايير التي يحكمون فيها على الآخرين انهم غير اسوياء . الخطأ في اعتبار التكّيف الانموذجي الطبيعي مع الحياة هو في السير المتوازي – الافقي المهادن لظواهر الفساد والاستبداد والانحراف والاستلاب والظلم ... الخ فهو اذن ليس حالة سوية وهذه تمثلها الكثرة الطاغية في اغلب المجتمعات . وهو على حد تعبير (هيدجر) نماذج نسيان الوجود الاصيل الوجود الحقيقي وهم لدى بارسونز (الناس العاديون هم نماذج للادوار فقط) وغياب او استلاب المجتمع او المؤسسة او الدولة حريتهم منهم وارادتهم واختيارهم وتدجينهم تنطبق عليهم مقولة (كيركارد) الانحطاطية في الوجود . لذا فالاغترابي انسان لا متكيف سوي وطبيعي في معيارية تطابقه مع الجوهر المثالي لذاته ولقيم مجتمعه كما هي وليس وفق أي معيار آخر يضعه له غيره لا يرضي نوازعه الانسانية الحقة.

لابد من الاشارة للعزلة النفسية التي يمارسها متعاطي المخدرات حسب دعوة (الدوس هكسلي) اذ تمنح متعاطيها حسب رأيه رؤيا نافذة وتطلق من كيانه طاقة وقدرة غير عادية في تخصيب خياله واسعاده في شعور غير اعتيادي في تعامله مع العالم بما يزيد تجربة الابداع لديه عمقا لا مألوفا واثراءا لحساسيته الجمالية والفنية في رؤيته للعالم . وهذه تذكرنا بتعاطي (كولن ولسون) للمخدرات جاعلا من نفسه جسدا وعقلا وشعورا حقل اختبار نقل لنا فشلها في احد كتبه ونظريته في الرابوت (Rabout) الذي اعتمدها في كتابه (الشعر والصوفية) والتي تعوّض الانسان عن استخدام المخدرات للوصول الى نفس النتيجة وهي على حد فهمي تمثل اخصاب المخيلة البشرية عند الانسان بالقدرة الارادية المتحكمة في اللاشعور او الشعور الباطني للانسان وتحفيز اتساع (رادار) الرؤيا والنفاذ الى جوهر الاشياء وفق الحاجة المطلوبة في الوصول بالرؤيا الصوفية الروحانية المتسامية التي تعوض صاحبها اللجوء الى استخدام العقار المخدر. متعاطي المخدرات المبدع الكاتب او الفنان او الانسان العادي على السواء, انما يظل تحت سطوة المخدر وسلطته في جعل ذاته هو العالم باكمله والحياة بواقعيتها وخيالها انما بؤرتها المركزية هو (ذات) متعاطي المخدر فيبقى يعيش لفترة مؤقتة فترة مفعول العقار في عزلة نفسية سلبية منكفئة مكتفية بذاتها هروبية من تفاهة الحياة اليومية ورتابتها او تعاستها وشقائها. فاغتراب من هذا النوع اغتراب زائف موهوم بطاقة غير عادية يستلهمها من مصدرها (المخدر) فهو اذن اغتراب مصنوع كاذب يغذيه وهم النفاذ والاستبطان والكشف والرؤيا التي تحقق لصاحبها قدرة حقيقية على تأمل الذات بعمق.

واغتراب من هذا النوع تنتفي عنه الصفات الايجابية والابداع لان الحواجز السلبية تحيط به وتحده وتنضح منه من كل الجوانب المميزات التالية:

فهو اغتراب زائف اولا لانه ناشئ عن حافز مصطنع  مبعثه (المخدر). وليس الواقع او الشعور الحسي اللذان هما وحدهما يبعثان في الانسان شعورا اغترابيا صائبا في علاقة  الذات والموضوع والطبيعة وبقية الظواهر الاخرى . والاغتراب غائية ينفّذها المخدر ويعدمها كون الذاهب في رحلته المخدّرة لن يعود بحصيلة تضيف للحياة شيئا او للمفاهيم والتصورات بعدا, فأين مبدأ التحدي والاستجابة الذي يمثل الف باء أي شكل اغترابي سليم. وفي رحلة متعاطي المخدر في الذهاب فقط لا وجود للموضوع ولا وجود لرد فعل الاستجابة فتصبح العزلة النفسية تحت تأثير المخدر عزلة سلبية صرفة ان لم تكن مرضية.

اغتراب المخدر بالعقار زائف لانه مغيّب عن الواقع الحقيقي ولا يسمح لصاحبه الاسهام في مصنع الحيوية البشرية.

اغتراب المخدر زائف مغيّب عن الواقع الحقيقي يفقد صاحبه القدرة او الرغبة في نقل تجربته مهما حاول استجماع ارادته وركزها وكرسها لتلك المهمة ومن يطلع على تجربة كولن ولسون مع المخدر يتأكد له ذلك فالشخص المخدر حتى وان كان مبدعاً مرموقا فهو اثناء ممارسته التخدير يقع نتيجة مفعول المخدر فريسة تجربة تشظية خيالية وتشتت فكري سيتداخل فيه اللاشعور بالشعور والمحسوس. ولا يتفق ولا يتوائم مع استجماع صاحب تجربة المخدر في امكانية نقله كتجربة كشف ابداعي ووصف لعوالم لا مرئية. واذا افترضنا ان نقل تجربة الفرد المبدع المتعاطي للمخدر يستطيع نقل هذاءاته وتصوراته السريالية الغامضة المتداخلة المعقدة على آلة طابعة او ورق طباعة فستكون التجربة فاشلة حتما وغير كافية لان تكون ابداعا . لان (تراخي) اللغة تستمد مقوماتها من تراخي المخيلة الوهمية العصّية اغلب الاحيان الى التجربة اللسانية- اللغوية الموحية ناهيك عن غياب الاتساق الجمالي وخلوها تماما من الابداع، فاتقّاد اللغة ينبع من اتقّاد وحدّة المخيلة . وكلما استجمع متعاطي المخدر قدرته بغية الافادة من تخصيب مخيلته من تجربة تحت المخدر ابداعيا وفي تركيز سيطرته الارادية وتفعيل صمام ناظم الحرية التي يستشعرها وجموح الخيال الى مديات اوسع وتعيين روح الهدف، فان التشظية والفوضى والعشوائية والدوار والضياع وعدم وضوح الرؤيا هي التي تبدي له جميع الاشياء والظواهر تحكمها وتتحكم بها، فتضيع على المبدع متعاطي المخدر هدفه الوحيد الذي يشير له (فرانك بارون): من ان هم المبدع عادة ما تسيطر عليه حاجة غلابة لاكتشاف النظام الكامل وتحقيقه سواء فيما يحكم منها الاشياء او ما يحكم منها اسلوب وجمالية ولمسات انسانيته على عمله الابداعي المتخلق عن تجربته وهو ما ليس باليد.

ولتأكيد اهمية النظام الكامن في كل الظواهر والاشياء حتى التي يقوم الانسان بصنعها وخلقها ابداعيا وجماليا يشير (جبسون) ايضاً الى اهمية عملية استقبال المبدع من معلومات وتخزينها ومعالجتها وتنظيمها بطريقة جديدة تتسم بالمرونة في العمل الابداعي والابداع هي محاولة تنظيم العالم الداخلي بعلاقته بالعالم الخارجي فاين هذا من الفوضى والعشوائية والتهويمات السائبة التي تسيطر وتحكم عالم المريض المخدّر والذهانية والسلس الفكري نتيجة تعاطي المخدر التي تتحكم جميعها في اعدام شعوره الوجداني النفسي.

وقد تكون دعوة هكسلي ضرورة تنظيم توزيع المخدرات للناس كمثل تنظيم حصولهم على المشروبات الروحية والسكائر يبدوا قد لاقت قبولا مثلما لاقت رفضاً ربما يكشف عنهما المستقبل. وهناك تحقيق ظريف لكولن ولسون اشار فيه ان هكسلي استخدم المخدرات تحت رغبة شحن خصوبة خياله الابداعي وهو في سن الستين بعد ان قطع شوطا طويلا في العطاء الادبي والفكري لم يكن تعاطيه المخدرات احدى حوافز ابداعاته التي تركها او الهامه الثقافي . ويقول (جاستون باشلر) : لاحظ (ادموند جالو) ملاحظة نقدية بخصوص (ادغار الان بو) واصفا افيونه افيون متخيّل. وهو متخيل قبل الكتابة ومتخيل بعدها ومتخيل خلالها ولكنه ليس مكتوبا ابدا خلال التخيّل ومن سيبين لنا الفرق بين الافيون المعاش وبين الافيون الذي يقتحمه الخيال!؟. ان خيال الانسان اقوى من كل السموم وان (ادغار الان بو) يعطي للخشخاش احدى خصائص تجربته الاكثر جاذبية(16) . يصف كولن ولسون الخيال بانه كلمة سيئة الحظ لاننا نربطها على الدوام بالاوهام الخيالية والكذب فيما اساس الخيال انه وسيلة لنفاذ البصيرة ويضيف بان ملكة الخيال ليست غايتها ان تسمح للناس ان يعيشوا في عالم الخيال بل ان تمكنهم من توجيه العقل نحو اوسع معنى ممكنا للحياة (17).

واخيرا يقارن الاستاذ الدكتور شاكر عبد الحميد بين الخيال الخصب وعناصر الابداع الفني من جهة وبين الخيال المريض العضوي الدائمي الذي سببه المرض العقلي والنفساني والخيال المستجلب نتيجة تعاطي المخدرات الذي يعطي ايضا الوظيفة الفسلجية السوية للدماغ في علاقته باللاشعور من جهة اخرى قائلا : (الخيال الذي هو عنصر الارتباط بين الابداع الفني والمرض النفسي وعنصر الاشتراك بينهما ان خيال المريض ومتعاطي المخدرات هو عادة ما يكون خيالهما سلبيا غير منظم وغير متحكم فيه غير منتج بينما خيال المبدع بعكس ذلك فهو ايجابي منظم قابل للتحكم فيه وتحويله الى اعمال ابداعية، والخيال المريض لدى كليهما دون شك نقيض الخيال الابداعي وان اشتركا أي الخيال الابداعي والخيال المريض في بعض المظاهر مثل تلقائية الصور والتداعيات البعيدة والتهويمات الحرة ولكن هناك بالطبع الفروق الخاصة بالتنظيم والارادة والتحكم والانتاجية والقابلية على التطوير)(18).

 

علي محمد اليوسف

....................

(1) عالم الفكر. مج 18 ع 1، 1987 . المرض العقلي والابداع الادبي .د.شاكر عبدالحميد،ص 84.

(2)  نفس المصدر السابق، ص 86.

(3)  عالم الفكر، مج 18، ع 1، 1987، الجنون في الادب، د. محمد على الكردي، ص 22.

(4) عالم الفكر . مج10 ع8، ندوة عن الاغتراب، ص 93.

(5) الاغتراب وازمة الانسان المعاصر، مصدر سابق، د.نبيل اسكندر، ص 284.

(6) عالم الفكر مج10، مصدر سابق، د. قيس النوري، ص17.

(7) نفس المصدر السابق المشار اليه، المرض العقلي والابداع الادبي د.شاكر عبد الحميد، ص22 .

(8) الجنون في الادب، عالم الفكر، مصدر مشار اليه سابقا، د. محمد على الكردي، ص 29.

(9) المرض العقلي والابداع الادبي، د. شاكر عبد الحميد، ص 85.

(10) السباحة في بحيرة الشيطان، غادة السمان، ص 53.

(11) الجنون في الادب، مصر سابق، د.رشى الصباح،ص7.

(12) نفس المصدر السابق، ص7 ايضاً.

(13) نفس المصدر السابق، ص7 ايضاً

(14) نفس المصدر السابق، ص13.

(15)  لتفاصيل اكثر يراجع مفهوم الزمن – بريجسون- الصراع في الوجود – بولص سلامة ص 299.

(16) الثقافة الاجنبية العراقية / انشائية حلم اليقظة تاليف جاستون باشلر/ ترجبة ابو يعرب المرزوقي ع2 1982 ص109.

(17) الشعر والصوفية، كولن ولسون ص98-124.

(18) المرض العقلي والابداع الادبي مصدر سابق ص211 بتصرف.