الرئيسية

الاغتراب في الوجودية الحديثة (1)

ali mohamadalyousifاغتراب المبدع يختلف ايضا عن الاغتراب التي بشرت به الفلسفة الوجودية الحديثة كما تذهب له المدلولات الفلسفية في الادب والمسرح والرواية والقصة وفي ادب اللامعقول ومسرحه, وفي وجودية كولن ولسون المتفائلة (سارتر، كولن ولسون، كامو، كافكا، بيكيت، اوجين اونيسكو، ……. الخ) اغتراب العبث في لاجدوى الوجود الانساني ولامعقولية هذا الوجود وعقم الحياة ولامعناها، وعدمية الخلق ولاغائيته، وقلق الانسان السلبي المسكون به منذ يعي ذاته حتى مماته وظلامية التخبط والعشوائية في لا امكانية الاختيار اصلا … واين الصحيح كي تختار!؟

وكل اغتراب – وهذه وجهة نظر لنا – مهما كانت نظرته مختلفة في تفسيرها لمعنى الوجود الانساني هو التزام بشكل ما، وطريقة ما بالانسان كوجود ومصير فقط , بفارق ان يكون هذا الالتزام جادا اراديا مستقلا يخدم الانسان في حياته ام لا, يخدمه بالمعنى المختلف عليه مع/او ضد من اغتراب فلسفة الوجودية الحديثة لدى ابرزهم (سارتر) ويليه الاخرون غير الذين مرّ ذكرهم من امثال اللاهوتي (جابريل توماس)(*) واللاهوتي الوجودي (تيليش) فهما يجمعان على (ان لا معنى لأن نعيش ولا معنى لأن نموت) وان الانسان في تعبير سارتر (نزوة لا جدوى منها).

الا ان الاهم من كل ذلك هو ان الاغتراب في الوجودية الحديثة صنو او قرين الانسان في وجوده منذ ان قذف به من غير ارادته واختياره في اتون هذا العالم الصاخب. فالوجودية وادب ومسرح اللامعقول يعتبرون الاغتراب اكثر من حتمية تاريخية انسانية.

وان الاغتراب داخل في صميم الوجود الانساني وانه داخل في نسيج الانسان ونحن مدانون بالاغتراب ومهما حاول الانسان من خلال الحرية ومن خلال احساسه بالزمن ومن خلال علاقاته الاجتماعية ومن خلال العمل ان ينحاز او ان يشفى من الاغتراب فانه سيموت اغترابيا لان الحياة نفسها اغتراب، والانسان يوجد مغتربا، وان الاغتراب ناشيء منذ البداية.)([1])

وبدءا نحاول التنبيه الى الفارق الجوهري الكبير بين (حتمية اغتراب الفرد) الذي تؤكده الفلسفة الوجودية الحديثة وبين (حتمية الاغتراب الانساني) الذي تجمع عليه تقريبا جميع الفلسفات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية المعاصرة في العالم اليوم.

ومثال هذا الاختلاف نأخذ (حتمية الاغتراب) كما يفهمها (والتركوفمان) وهو من اقطاب فلسفة الاغتراب المعاصرين:(ان الاغتراب هو احد السمات الجوهرية للوجود الانساني والنزعة الخلاّقة… هي احد ردود الافعال ازاءه والالتزام به هو رد فعل آخر… وكلاهما – يقصد النزعة الخلاقة والالتزام- يترتب عليهما المزيد من الاغتراب وهناك اشكال عديدة للانفصال والاندماج والنزعة الخلاقة يمكنها التزام اللا مبالاة ازاء المشاكل الاجتماعية بينما العمل في القضايا الاجتماعية يمكن ان يكون غير خلاّق بصورة نسبية وان لم يكن ذلك بالضرورة.)([2])

ويضيف كوفمان: (ان كل من يحاول حماية الشباب من الاغتراب انما يعلن يأسه من الانسان,  وسوف يكون اكثر التزاما بروح الانبياء بني اسرائيل وكونفوشيوس وسقراط ان نقول بدلا من ذلك ان الحياة بدون اغتراب ليست جديرة بان نحياها… وان ما يهم هو زيادة طاقة الانسان على معالجة الاغتراب…)([3]).

اما الانسان الوجودي وحتمية اغترابه كما تريده وتفهمه ودعت له الفلسفة الوجودية الحديثة , هو الانسان الاغترابي السلبي الذي يفهم جوهر اغترابه هو في اعتزال المجتمع والتمرد والرفض له وبالتالي الانسحاب التبريري الذاتي الطوعي من الحياة…ولو ان سارتر الذي رسّخ الوجود الفردي يدعو للمشاركة بالحياة.

الانسان الوجودي لديها - أي في الوجودية الحديثة - يعي اغترابه جيدا على مستوى الذات والموضوع وبفهم ثقافي فكري عميق . وهو ساخط ليس بالضرورة على الاخرين ولكن على الحياة وقدره ومصيره فيها . الحقيقة في الفلسفة الوجودية الحديثة هي الذات المنعزلة وليست الفردانية التي هي جزء من مجموع اذ (ليس هناك ما يمكننا ان نسميه انسانا وان الوجود يسبق الجوهر) ([4]).

من الامور التي لا نريد عبورها . هو ماالفرق بين اغترابية المبدع واغترابية الفلسفة الوجودية الحديثة !؟

ان مشكلة الوجودي الاغترابي في الفلسفة الوجودية الحديثة وادب ومسرح اللامعقول جزء منها هي ذاتها مشكلة (روكانتان) بطل رواية الغثيان او أي رواية اخري لسارتر. او (ميرسو) بطل رواية الغريب لكامي او ابطال القلعة او المحاكمة لكافكا، اوبطل مسرحية في انتظار جودو لصموئيل بيكيت, وهم جميعا نماذج سلبية للاغتراب. واتبعناهم بنماذج التصوفية السلبية الدينية وغير الدينية كما هي في الوجودية الصوفية الروحانية لدى كولن ولسون… وكلهم نماذج صارخة عن تمزّقات الاغترابات السلبية وابعدناهم عن الصفة الايجابية للاغتراب. لأنها كما اشرنا في تجربة التصوفي، الوجودي الاغترابي يبدأ رحلته الذاتية المفارقة لجوهر ذاتيته المثلى من جهة والمفارق لموضوعه الذي هو البنية الاجتماعية او الكلية الاجتماعية من جهة اخرى أي ان اغترابه مزدوج او مركب .

والفرق بين اغترابية التصوفي, عن اغترابية الوجودي ان كليهما يبدآن نقطة شروع اغترابي واحدة, فالمتصوف يحاول ويسعى في رحلته التي لاعودة منها العثور على الجوهر الكامل المثالي المطلق في التطابق مع الذات، الذات الاغترابية مع الذات المثلى ذات الصفات الحلولية الالهية ولا يهمه– التصوفي- ان كان في نظر الآخرين مغتربا عنهم ام لا. في حين ان الوجودي يبحث عن ذات اخرى جوهرية مثالية يطابق ذاته الاغترابية معها قد تكون موجودة والاكثر احتمالا وترجيحا انها غير موجودة … انما هو ينكفئ ذاتيا باغترابه عن الموضوع أصلا أي عن المجموع وليس عن الذات.

الفرق الثاني ان رحلة الاغترابي التصوفي تبدا بنقطة وكذلك لدى الوجودي تبدا بنقطة… كلما غاص وتعمق التصوفي فانه في امتداده الاستكشافي الاستبطاني يشكل حركة ديالكتيك دائرية حلزونية صاعدة تحاول الاقتراب من هدف الوصول للمثالي والمطلق الكامل في الحلول بالذات الإلهية … اما الوجودي فحركته نحو تؤكيد ذاتيته تبدا بنقطة ولا تنتهي بنقطة, أي لاتشكل الا امتدادا مستقيما سائبا, فهو لا يسعى الى التطابق مع ذاته بمواصفات مثالية يفتقدها ويسعى لها, وهو من جهة اخرى يرى في الاخرين هم الجحيم على حد تعبير سارتر… واللاعودة لدى التصوفي مسافة تقرّبه من الهدف … اما اللاعودة لدى الوجودي فهي في محاولته الوصول تخوم بعيدة جدا من الضياع المطبق تخوم الحد الفاصل بين الجنون المطبق…او الانتحار الخلاص . والمنتحر يبقى يعي ذاته ويعي موضوعه بينما يضيع المجنون الاحساس بالذات ولايعي الموضوع .

ويختلف الاغترابي الحقيقي الذي اطلقنا عليه الاغترابي الابداعي فهو عودة انفصال لتأمل الذات, بعد انسحاب مؤقت من مسافة رصد معينة من منطلق استثارة واستفزاز المحيط له . وفي تأمله الذاتي يكون الخارج دوما ماثلا في تفكيره

- أي الموضوع - وعودته الى المجتمع ثانية ليس بصيغة التجانس والتسليم او التكيف وانما بصيغة الاتيان بافكار تتجاوز اغترابه واغتراب الاخرين ان امكن …

عن هذه الحقيقة، حقيقة ظاهرة الاغتراب في بعديها التاريخي - الحضاري يوضح نفس الفكرة الفيلسوف المؤرخ توينبي دونما استعماله لمصطلح الاغتراب بمعناه الوجودي-الفلسفي, بل يستعمل عوضا عن ذلك ما يطلق عليه واشرنا سابقا له قانون التحدي والاستجابة او صيغة الانسحاب والعودة أي تحدي المجتمع واستفزازه للفرد يعقبها استجابة من الفرد في الانسحاب عن المجتمع ومن ثم العودة اليه بمعالجات ويشرح توينبي فكرته قائلا : (ان الاقليات المبدعة وقد لا تعني مجموعة من الناس وانما قد يجوز ان يكون الفرد الواحد هم الذين يصنعون الحضارة الناجحة, هذه الاقلية المبدعة تتألف من مجموعة من الافراد القلائل الذين يستطيعون ان يجابهوا التحدي الذي يواجه المجتمع بعملية  يطلق عليها الانسحاب والعودة فهؤلاء القلة ينسحبون من المجتمع ويغرقون في الوحدة (*) ليصارعوا المشاكل وحدهم وتزداد في هذه الوحدة طاقتهم و مدركاتهم بعد ذلك يكونون مزودين بالقوة على تحريض بقية افراد المجتمع للتغلب على التحدي)([5])، وعلى وفق هذه العملية تتم جدلية الاغتراب وايجابيته في الاحتدام مع جدلية

الحياة .

*****

تعبيرات السلبية الاغترابية لدى الوجودية تتلخص

- برأينا - بألفاظ لا تستوعبها معان ومعان لا تستوعبها ألفاظ . ففيها الوجود علّة بلا معلول, وموضوع بلا جوهر, وحقيقة بلا معنى, ووجود لذاته مفعم بالحرية المسؤولة المقعدة بقصور الارادة, وواقع مجرد من ايجابية وفاعلية الادراك والوعي الجمعي للحياة والهدف.. وفي عبارة محسّنة للتخفيف عن المغالاة الوجودية - السارترية : (لا يمكن ان يكون هنالك حياة بلا معنى الهدفية) وكما عبر (تورانس) من أن ابداعية الانسان هي اكثر المصادر النفسية القيّمة في صراعه مع مشّقات الحياة اليومية واحباطاتها .

الفهم السكوني الاستاتيكي الذي ارادت الفلسفة الوجودية تكريسه في العمق الانساني للوجود, رغم ماطفت على سطحه من فقاعات المغالاة بالحرية و تيارات الزبد المتلاطمة بان الانسان لذاته مركز العالم … هذا الفهم لخصّه صموئيل

بيكيت : (لا شيئ يمكن عمله لاشئ يستحق العمل) انه تكريس سلبية اغترابية الانسان في وجوده المقذوف به بلا ارادة في اتون الحياة المغتربة عنه المغترب عنها . في حين الاغتراب الايجابي السوي يمثل جوهر الاشياء وعلة الوجود ومهماز الفعل وملهم الابداع وهو (الضرورة) التي تحكم جدل الاغتراب بالحياة في حركتها وملازمته لها .

يقول (نيل ويتنيرج) (الاغتراب متعدد الابعاد ليس بمعنى تعدد مظاهره و تجليّات الظاهرة الواحدة،وانما بتعدد مصادره الدفينة المستوحاة) يغترف من دينامية  الواقع  وحركة التاريخ وسيرورتهما, ومن العلم في تحققاته وانجازاته,ومن الحضارة في امتدادها الانساني غير المحدود… لذا فاغتراب المبدع يمثل جدل الفكر بالواقع، والفعل بالطبيعة، انه يمثل ضرورة الوجود الانساني الفاعل في الطبيعة والكون والوجود وحيويته في امتلاك المصير والحرية والارادة . اغتراب الفلسفة الوجودية الحديثة ارتداد سلبي الى داخل الانسان في عبوديته الطوعية واستلابه الانساني الميئوس منه. امام غول الحياة والوجود بدلا من انفتاحها على الخارج في تحقيق حريته وارادته… وتؤكد الفلسفة الوجودية مبدأ الحرية بتقديس مبالغ فيه لأرضاء نوازع الذاتية-الفردية في اطمئنان الانسان الوجودي الى حذر زائف في تمتعه بالحرية وارادة الاختيار على وفق فهمه الخاص للوجود, دونما الوصول لمحصلة اجتماعية وان كانت صرختها: حقّق حريتك بحرية الآخرين صدى مقولة (هولباخ) (ان حرية الانسان لا تتحقق فعلا الا في حرية الاخرين). وفعلا كانت صرخة استنجاد جمعي للانعتاق والافلات من فوضى وعشوائية الحياة المنمّطة على الطريقة السارترية .

حاول جورج لوكاتش الجمع بين تقديس فردانية الفرد في حريته المطلقة لدى الوجودية ومزاوجتها بتقديس وحدة المجموع في اجتماعيته الاقتصادية النفسية في الالتقاء على ارضية - الاغتراب - في الجمع المشترك بين الماركسية والوجودية الحديثة لدى سارتر وفشل .

المصلحة الذاتية التي تمجدها الوجودية تؤدي بكل انسان الى ان يرى الآخرين لا يحققون حريتهم فقط, وانما يقيدونها على حد فهم الماركسية في حين ذهب سارتر في كتابه نقد العقل الجدلي, الى ان تموضع الذات ظاهرة ايجابية اساسا ومن خلالها وحدها يمكن ان تتطور حياة المرء وشخصيته وفرديته([6]) يقول شاخت : لا يمكننا اعتبار الاغتراب نمطا من انماط التحلل من الاعراف الاجتماعية([7]) وهنا يتوجب علينا فهم العبارة باكثر من بعدها الاخلاقي في المشاركة الفاعلة بالحياة .

ولنتأمل كم جاهدت الفلسفة الوجودية لقلب هذه المعادلة الرصينة وفشلت ايضا. لان التركيبة الاجتماعية لعصر ماهي الا مجموعة تفاعل نظم وافكار وقوانين وايديولوجيات وعلاقات اقتصاد وغيرها, ومن حصيلة تفاعل كل هذه العوامل وغيرها تبرز تركيبة اجتماعية معينة بملامح وصفات زمان ومكان ذلك العصر…عليه فان زوال او تحلل واضمحلال أي عرف اجتماعي لا يشترط ان يكون اخلاقيا فقط. يستغرق حتما امدا زمنيا يطول او يقصر بفعل اطرادي مع نضوج عوامل انحلاله الذاتية والموضوعية في الاضمحلال . ومن ثم التلاشي في ظاهريات اخرى لاتشبه الاصل الذي انحلّت عنه . لذا يكون التحلل من العرف الاجتماعي السائد - اؤكد غير الاخلاقي- لا يتحقق بنزوة فرد او رغبة مجموعة من الافراد الا اذا توافقت تلك الرغبة مع نضوج عاملي  الذاتية والموضوعية باضمحلال ذلك العرف الاجتماعي  السائد الذي يمثل مصالح شريحة اجتماعية اصبحت مجاوزتها حتمية وضرورة.

 

علي محمد اليوسف

نلتقي في ج2

.................

(*) ربما يتبادر الى ذهن القارئ أليس هؤلاء الفلاسفة والمفكرين والادباء والفنانين هم مبدعون وينطبق عليهم اغترابهم الابداعي الاصيل:؟== ==والجواب بكل تاكيد نعم … والفرق في الالتباس انني هنا اناقش (اغتراب فلسفة) اغتراب فكر ولا اناقش اغتراب فيلسوف بذاته وسأتطرق لهذا الالتباس . ومر بنا قبل هذا المجال اقتباس ثبته الدكتور محمد شفيق شيا قوله:(  ما يمكن ملاحظته في الغثيان كما في غيرها او ما قد يقال هو ان شخصيات سارتر هي نتاج خيالي لا واقعي, هي افكار مشخصة اكثر مما هي وقائع فعلية فغدت ابطاله صفات منمذجة مجردة بلا روابط واقعية) . انظر كتاب د. محمد شفيق شيا في الادب الفلسفي، ص 249.

(1) عالم الفكر، مج1-، ع1، 1979، ندوة حول الاغتراب، مصدر سابق، د.حسن حنفي، ص136.

(2) مقدمة كتاب شاخت (الاغتراب)، مصدر سابق، والتركوفمان، ص 55.

(3) نفس المصدر السابق نفس الصفحة ايضا.

(4) سقوط الحضارة، كولن ولسون، ص 289.

(*) حتما مايعنيه بالوحدة هو الاغتراب .

(5) نقلا عن كتاب سقوط الحضارة مصدر سابق ص105

(6) شاخت ص 245

(7) شاخت ص 245