الرئيسية

يفهم (فويرباخ) الذي سبقت مفاهيمه الفلسفية الوجودية لفترة زمنية طويلة (الاغتراب طارئ على الصحيح وليس ناشئا منذ البداية والعودة الى الحقيقي هو عود الى طبائع الامور والاشياء، الصحيح هو الاساس والاغتراب هو العرض واذا كنا جميعا مازلنا مغتربين فان تطورنا الاساس –الانثروبولوجيا- هي علم المستقبل ومبادئ فلسفة المستقبل(1).

هذا التصور الذي يبدو ظاهريا انه يتناسق ومفهوم الوجودية الحديثة للاغتراب فهي لا تأخذ به … لقد ركز (فويرباخ) في فلسفته عن الاغتراب، على الاغتراب الديني، ولا نعتقد انه في دعوته للتحرر من الاغتراب كان يرغب ان يرى مجتمعا خال من الاشكال الاغترابية للانسان في الطبيعة والمجتمع غير الاغتراب الديني فقط فتلك امنية تدحضها –الانثروبولوجيا- والتطور الحضاري للانسان الذي استشهد هو فيه .¸فقد كرس فويرباخ فهمه للاغتراب بانه ديني فقط وبنهاية هذا النوع الاغترابي لا تبقى بواعث اغترابية لدى الانسان باشكال اخرى … اذا اعتبرنا اغتراب الانسان الديني اغترابا زائفا يمثل ثيولوجيا الدين أي الجوهر المزيف للدين(2 ). واعتبر فوير باخ اغتراب الانسان الديني اصل ومنشأ أي شكل آخر من اشكال اغترابات الانسان في عصر طغى عليه اللاهوت وسيطرة الكنيسة طغيانا تاما شاملا، واعتبر تخليص الانسان من اغترابه الديني يعني خلاصه وتحرره من كل اشكال وانواع الاغترابات الانسانية الاخرى… وسارع ماركس الى نقل هذه الفكرة عن الاغتراب الى نظريته لديه ولدى هيجل في العمل المغترب واعتبر اغتراب الانسان طبقيا أي اغتراب الطبقة العاملة اصل ومنشأ جميع الاغترابات الاخرى التي تنتاب الانسان. ومتى ما تخلص الانسان من اغترابه الاقتصادي نتيجة تقسيم العمل وملكية وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج زالت جميع مظاهر واشكال اغترابات الانسان الاخرى لديه ... وهذه ليست المرة الاولى التي يقتفي ماركس اثار الافكار الفلسفية لفيورباخ الملقب باللاتينية (قناة النار).

ففي معرض نقد فويرباخ الاغتراب الديني اوضح كيف ان الانسان في اغترابه الديني – قد وضع افضل صفاته في الالوهية الى ان اصبح الاله صورة الكمال وغدا الانسان خاطئا يفتقد الكمال بصورة لا يرجى منها البراء، ان الانسان – والكلام لفيور باخ- يجر ذاته من كل ما هو طيب وقوي ليخلعه على الاله . وكلما جعل الهه أعظم جعل من نفسه اكثر ضآلة وقد سعى ماركس ثانية اقتفاء فكرة فويرباخ ونقلها الى قوانين الاقتصاد السياسي واعزى ماركس سبب اغتراب الانسان الى العلاقات الانتاجية والاقتصادية الجائرة بحق البروليتاريا، والى اغتراب رأس المال والعمل المغترب واكد انه بزوال هذا النوع من الاغتراب الانساني تنتهي الى الابد من حياة الناس جميع اشكال اغتراباته الاخرى . ونادى ماركس بنفس فكرة فويرباخ المثالية الدينية الروحانية وانزلها الى واقع الحياة الاجتماعية – السياسية فقال : كلما زاد العامل من طاقته الانتاجية زادت (قيمة) وجوده ووفرة ناتج العمل … كلما ازداد العامل بؤسا وفقرا (قل) شأنه وتضاعفت (وضاعته) وقلت قيمته الانسانية… وبالتالي يتعمق اغترابه . اثبتت الوقائع التاريخية وتطور الحضارة الانسانية ان حصر ظاهرة الاغتراب في بعد انساني واحد غير صحيح. ومحاولة ازالة اغترابات الانسان باشكالها دينيا واقتصاديا واجتماعيا ونفسانيا وغيرها قمين بازالة كافة اشكال الاغترابات الاخرى في المجتمع رؤية قاصرة واستنتاج غير دقيق اثبتت الوقائع لا واقعية ولا تاريخية ولا حضارية هذا الطرح… فاغتراب الانسان بجميع اشكاله الشاملة هو توأم الوجود الانساني وحتمية ذلك الوجود انه القلق المسكون به الانسان بنقد الحياة دوما وتبديلها وتطويرها نحو الافضل …الاغتراب تساؤل يؤرق الوجود الانساني.ولا ينحصر في بنية اجتماعية معينة،ولا في ظاهرة من الحياة.

والاغتراب يلازم الانسان بهذا الشكل او ذاك ملازمة الظل والوجود ولا يمكننا ان نتصور عصرا من العصور الماضية او مجتمعا من المجتمعات الحالية ولا في المستقبل لا يكون الانسان فيه اغترابيا… فمثل هذا الافتراض النظري الوهمي او هذه الرغبة المستحيلة انما يدحضها حاضر الانسان ودحضها قبل ذلك ماضيه، ويدحضها مستقبلا آتيه… ونحن الان في كل مجتمعات الارض يمثل الاغتراب جزءا هاما وحيويا جدا في الحياة العصرية واغتراباتنا الدائمة المنوعة دليل هذه الحقيقة.

وفي رأي الدكتور مراد وهبة ما معناه : اذا افترضنا جدلا ان يأتي يوم يتمكن الانسان فيه انهاء اغترابه الارضي ذاتيا ومع الطبيعة والوجود الآخر بمثالية انسانية في ارقى درجاتها وصورها الحضارية المتقدمة فان الانسان سيتحول باغترابه نحو (الكون) وما وراء الطبيعة والفضاء التي بدأت اولى مراحله في وضع ارمسترونغ اقدامه على ارض القمر.

***

من اعتبارنا الاغتراب كما يذهب (والتر كوفمان) حتمية حياة وعصر وزمن ووجود، وان الانسان مسكون باغترابه فاننا بذلك نرتد ثانية الى الاخذ لا اراديا فهم الاغتراب وجوديا كما في فلسفة سارتر فقط بفارق:

1- ان ظاهرة الاغتراب في الفلسفة الوجودية وجود انساني سلبي والاغتراب ليس ظاهرة ولا ظلا لذلك الوجود . انما الانسان في جوهره حقيقة اغترابية وان لم تكن الوجودية السارترية تعترف بان للانسان جوهر والوجود يسبق الماهية لديها.

2- استحالة تفسير الوجود الانساني بمعيارية الاغتراب استاتيكيا سكونيا ثابتا، ولا في اعتبار المجتمعات البشرية تجمعات كونية في قياس الزمن الارضي عليها بشكل سرعة الضوء بالثانية، لا بل ان الزمن الارضي هو ملايين السنيين التي استغرقتها عملية التطور في الحياة -الارض والانسان– بوضعه الحالي وحضارته التي بلغها ودرجة رقي نموذجها المعاصر، من هنا فاغتراب الوجودية مرحلة فقط من الحياة .تمت مجاوزتها اغترابيا تاريخيا.

ما يؤكد كلامي هذا ان مفاهيم الفلسفة الوجودية الحديثة التي بلغت اوجها في النصف الثاني من عهد الخمسينات وذروتها في النصف الاول من عقد الستينات اصبحت الان بعد مرور مدة لا تزيد على ستين سنة تراثا فلسفيا حضاريا انسانيا محفوظا بين سطور الكتب ورفوف المكتبات والمتاحف اكثر من ان تكون او تشكل مفردات حياة يتقبلها و يعيشها بضعة ملايين من سكان العالم الان!!! كفلسفة وفكر ونظام حياة وحتى كـ(منهج) بالدرجات الدنيا من الانتساب الى الفلسفة الوجودية الحديثة التي الهبت نفوس وعقول اجيال مابعد الحربين العالميتين في اوربا اجمع بل وحتى في مناطق عديدة من العالم.

فهمت الوجودية - ولا اقول تفهم - الاغتراب الانساني انه مركز ثقل الانسان الذي يمر خطه الشاقولي الوهمي الذي يحفظ توازن الجسم ابتداءا بعمل المخ وانتاجية الدماغ… بمعنى ان اغتراب الانسان البؤرة المركزية الطاردة التي يدور في فلكها الوجود الانساني برمته، تفكيرا وممارسة، ابداعا فلسفة ادبا مسرحا وعلى ضوء ذلك فقط يتوجب تفسير ذلك الوجود .

بينما الفهم الصحيح ان اغتراب الانسان هو المرتكز او المنطلق الذي ينطلق الانسان منه في تمكنه من صنع وجوده الايجابي وتاريخه وحضارته وهذه الانطلاقة يتم مجاوزة ظاهرة الاغتراب فيها باعتبارها وان كانت ظاهرة خلاقة فهي (واجبة النفي) . تنتهي من مجتمع معين وعصر معين لتستحدث نفسها ثانية باشكال مختلفة اخرى وفترة لاحقة اخرى وهكذا… قانون الدياليكتيك المادي (نفي النفي) ظاهرة اجتماعية يتوجب نفيها لتستحدث نفسها ثانية بصورة أعلى من رحم الاولى انها العنقاء التي تولد من النار.

ان نموذج الاغترابي السلبي في الوجودية الحديثة لدى سارتر هو النموذج الذي تفصّل وتخيط الوجودية له مقاس اغترابه من قماشها وطريقة فهمها من عبث وهدف ولا جدوى اغترابه من لا معنى حياته. فالانسان اغتراب قبل ان يكون جوهرا وهو ماتسعى الى تثبيته الوجودية.

والوجودية اخطأت ايضا بتوظيفها الفلسفي السلبي للاغتراب في مخاطبة الفرد عندما اعتبرت الاغتراب ناشئا منذ البداية ولازمة الانسان في وجوده لا يمكنه الخلاص او الفكاك منه، واعتبرت اغتراب الانسان هو الوجود الحقيقي القلق المذعور للوجود الحقيقي والتخلص منه اما بالموت او الفناء او بنوع مختار من الانتحار الجسدي او العقلي…

لم تول الوجودية اهتماما كافيا في دراسة علاقة ارتباط علاقة الانسان بمؤثرات البيئة والمحيط والمجتمع بل نقلت الاغتراب الى نقطة منتهاه بعلاقته بالميتافيزيقيا ووضعته امام تساؤلات ازلية مريرة وادخلته دوامة اللاجدوى من عمل شئ، فاغترابات الانسان تصل به الى علاقة الانسان بالوجود وبالطبيعة وبالكوني وبالمغزى وبمعنى الحياة ومعنى الموت… لكن كل هذه مفردات ظواهر اغترابية ناضجة جدا فلسفيا وثقافيا. ولهذا يمكننا القول ان سارتر وان خاطب جيل ما بعد الحربين  الكونيتين، لكنه بالخصوص كان يخاطب الثقافة البرجوازية والراسمالية الناشئة، ولهذا أيضا يمكن اطلاق عليها فلسفة نخبة وليست فلسفة الانسان في كل مجتمع وفي كل مكان حتى  في تأكيد الوجودية على ان الانسان حقيقة اغترابية ولازمة وجودية ترافقه من ميلاده حتى مماته كصبغة كروموسومية في تركيب جينات الوراثة البشرية التي تنتقل عبر الاجيال بيولوجيا DNA، اعتبرت ذلك مسلّمة فلسفية واغلقت ابواب الزنزانة على الانسان وتركته وحيدا يحاول خلاصه منفردا ان كان ثمة امل في الخلاص. والاغتراب في الوجودية الحديثة قدر انساني لافكاك للانسان منه. اغتراب لصيق بالانسان المتحضر وهو احدى حقائق ذلك الوجود. انما ان لا يمتلك الانسان قهر اغترابه في مجتمعه واعدام كل الفرص امامه لم تكن دقيقة. وفي تفسيرها الاغتراب في سلبياتها المعهودة بانه حالة من اللاجدوى وتعتبر الانسان مشارك فاعل في المأساة مأساته ومأساة الاخرين وفي ذلك تشل قدرة الانسان وتقتل فيه روح الامل والعمل والابداع في توقه الدائم لعقلنة وجوده بجدل ايجابي بالمجتمع والطبيعة والعالم. والحرية المطلقة في الوجودية هي غيرها التي عبر عنها (سبينوزا): (لقد اطلقت حرا على ذاك الذي يسترشد بالعقل فقط) فمثل هذه الحرية تكون مسؤولة ملتزمة في التمرد والرفض للواقع المدان بكل سوءاته وانحطاطيته واستلابه الانساني وتفاهة بعض جوانب تلك الحياة وذلك الواقع.

نخلص ان ثمة رأيان : الاول يقول الاغتراب ظاهرة ملازمة للوجود الانساني لا فكاك للانسان في التخلص منها والاغتراب جزء من طبيعته ووجوده . والثاني يقول الاغتراب ظاهرة عرضية يمكن ان تزول بزوال بواعثها ومسبباتها وللارادة الانسانية في ذلك دور اساس في تحقيق ذلك(3).

اننا وكما سبق واشرنا مع الرأي الثاني الذي يقر ملازمة الاغتراب للانسان ويحث على ضرورة بل واجب ازالته والتخلص منه ولكن لا يمكن ازالة كل اشكال اغترابات الانسان في مختلف المجتمعات وعلى مر العصور والى الابد نهائيا من حياته .. فالاغتراب يمثل تحدي الطبيعة والوجود الانساني والكوني للذات الانسانية وهو تضاد ازلي لا انتهاء له، لان الانسان كوجود في الحياة امتداد مطلق غير محدود ولا نهائي ايضا … وسعي الانسان المضني في الحياة تحديد ما لا نهاية له والامساك او الوقوف على ابعاد شمولية الوجود والاشياء وليس الاكتفاء بسبر اغوار اجزائها … وليست كل سلبية اغترابية هي بالضرورة تمثل اغترابا وجوديا يقود بالحتم والنتيجة الى سلبية لا جدوى الحياة وعبث الانتماء والرفض والتمرد لتنتهي بالحقيقة الازلية الماساة الموت، الحتمية والمصير الذي يؤرق الانسان … وماذا بعد !؟

نتيجة امتلاء الانسان  بخواء نفسي وجودي وضياع بلا حدود في تجويف وجودي غامض يلازم الانسان في معاناته الدائمة… فالمعاناة الاغترابية احيانا – حتى لدى غير المبدعين – عامل مهم في تحويل سلبية اغترابهم الى ايجابية اغترابية وايقاظ ارادته الفاعلة فمثلا (روكانتان) بطل رواية الغثيان يجد هدفا لخلاصه الاغترابي الوجودي عندما يشرع في كتابة رواية .

اكدت الوجودية الحديثة على مضمون ومعنى الانسان (لذاته) وليس الانسان في (ذاته)، وما لم تؤكد او تحاول ان يكون انسانا فاعلا في محيطه او مجتمعه، ولا نعني بهذا ان تلزمه بشكل من اشكال الالتزام الايديولوجي المفروض على الانسان الوجودي من الخارج قسرا… وحاول سارتر في اعماله المبكرة الاستفادة من المنظور الماركسي للانسان بشكل تلفيقي ولم يفلح . كذلك اعطت الوجودية للانسان تحت الحاح هوسها المبالغ فيه على الحرية الفردية والرفض والتمرد ان تكون امينة ربما عن غير علم على ان يرفع كل انسان شعار (بوذا) في الخلاص: (ابحث عن خلاصك بنفسك) ولم تقم اعتبارا للآخرين الذين وصفتهم بـ(الجحيم) ولا للمجتمع الذي حذرت منه واعتبرته (فخ) فآخر اهتمامات الفلسفة الوجودية كانت تناول الاغتراب الجمعي للانسان وخلاصه الجمعي منه. فالمسلمة الوجودية كانت تدعو (كل انسان ان يكون صانعا لقيمه الاخلاقية الخاصة به وحده)(4).

علي محمد اليوسف

ملتقانا في ج3

............

(1) الاغتراب الديني لدى فويرباخ مصدر سابق د. حسن حنفي ص 45.

(2) نفس المصدر السابق.

(3) ندوة حول الاغتراب، مصدر سابق  د. فتح الله خليف ص 137.

(4) سارتر بين الفلسفة والادب موريك كرانستون ترجمة مجاهد عبد المنعم ص90