الرئيسية

الاغتراب والصوفية (2)

ali mohamadalyousifيصف كولن ولسون بان التصوفية البوذية تصّوف تدمير للذات والجسد، فهي تضطهد الجسد وتشهر عليه حربا فتبغي الوجود خارج الوجود الانساني الاصيل، متحققا في الارادة والحرية فهما اختياران فاعلان وليسا ساكنيين سلبيين وان البوذية –والكلام لولسون –تقود للشقاء والحمق والجبن، وتعتبرها الحقائق الاساسية الثلاثة لوجود الانسان .

ومع ان بوذا يعترف بانه لا يؤمن بإله او شيطان فان نظرته في الواقع تفترض سلفا وجود ضرب من قوة شريرة عظيمة انشأت الحياة كنكتة سادية بائسة وعليك- ايها الانسان - ان لا تبذل جهدا ولا تهتم حتى بان تشتهي تلك

الفتاة … لان ذلك يهدر طاقتك الحيوية فقط(1).

ولقد سعى بوذا كذلك الى عزل البشر عن المجتمع وعن كل رغبة وارتباط. واسس نظاما للرهبنة دون ان يلقن أي احساس بالمجتمع، وقيل ان آخر الكلمات التي تفوّه بها بوذا كانت (اصنع خلاصك باجتهادك).

وغير خاف مدى تاثير مثل هذه التعاليم عند توظيفها في قوالب فلسفية مادية –روحية في انبثاق تعاليم ومفاهيم وجودية كما هو واضح في اعتماد فلسفة سارتر على امثال المقولة المذكورة . كما ان والتركوفمان يشير الى الهندوكية  قائلا: (سعى الاوبانيشا الى تغريب اتباعهم عن الطبيعة والمجتمع بل وعن اجسادهم وعن أي شئ اخر يعتبرونه ذاوتهم، فكل ذلك ابعد مايكون عن الحقيقة للوجود الذي يتجاوز الجمع والذي يتطابق مع (براهما) اذ ان الخلاص يمكن ان نجده بعيدا تماما عن المجتمع في الانسحاب الكامل منه.

***

وتذهب الصوفية في الاسلام بتميزها لنوعين من الادراك، ادراك عقلي وهو (العلم) الذي لا تأخذ به، وادراك قلبي وهو (المعرفة) وتعمل به لانه ادراك (ذوقي) لماهية المحبوب والاقبال الكلي عليه هو النزوع (2) . وتجمع الصوفية في الاسلام على ان المعرفة والحب الالهي شئ واحد وحقيقة واحدة يدل ذلك اطلاقهم  اسم العارف على الصوفي الفاني في محبة الله وهو في حال استغراقه في حب الله يدرك نوعا من المعرفة واللذة لا عهد لغيره بها .(3)

تقول رابعة العدوية في دعائها مؤكدة (اغترابيتها السلبية) : (الهي ان كنت اعبدك مخافة النار فاحرقني بها، وان كنت اعبدك رغبة في الجنة فابعدني عنها وان كنت اعبدك لذاتك فلا تصرف عني جمالك السرمدي ) (4).وهي عبارة مأخوذة عن الامام علي بن ابي طالب مع بعض التغيير فيها .

ويقول محي الدين بن عربي : (ان اول غربة اغتربناها وجودا حسّيا عن وطننا، غربتنا عن وطن القبضة عند الاشهار بالربوبية لله علينا، ثم عمّرنا بطون الامهات فكانت الارحام وطننا، فاغتربنا عنها بالولادة )(5).

فالعارف –أي الصوفي في التسمية الاسلامية  -: اذا نطق لن يكون كلامه الا شطحا ففضل المتصوف (النفري) في وقفاته وتاملاته واستغراقاته الصمت ….الا ما كان يسطّره او يمليه على قصاصات يجمعها له غيره….

والصمت هنا في حالة المتصوف النفري صادر عن الدهشة او ناتج منها، كما انه دليل عجز العبارة في ان تنقل ما تريد تماما كما ان الصمت مجال رؤية وادراك وتأمل وتدبر لحشود من المعاني العميقة والتداعيات الاستبطانية الكشفية التي تضيق بها العبارة لتتسع الرؤية وتنفذ التجربة اعمق…. ويؤكد النفري بحق وصدق قولته الشهيرة : (اذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة) (6) .

وما يهمنا التجربة الصوفية كما المحنا في بداية الفصل في خصوصيتها المتسامية تغترب في تجربتها لدى قلة قليلة جدا، التجربة الصوفية وتجربة اللغة معا …  فهذا التركيب الاغترابي المزدوج يجعل من الصعب، بل الصعب جدا في حالة توظيف او حتى تقمص مثل هذه التجارب الصوفية على صعيد ابداع اللغة والادب، التواصل بها او الاعتداد بها والركون للاستفادة حتى الذوقية الجمالية الاستشعارية فقط من خلال نص ابداعي … وتستعصي اللغة اكثر وتكف ان تكون ابداعا لحالة سمو حقيقي متى ما كان تَمثُّل اللغة ابداعيا يتم عن تجربة تصوّف مسطّح، او اغراق تأملي لا يتجاوز حدود الاغراب السريالي في تفكيك اللغة(7).

مثال ذلك اللغة الشعرية الحديثة، فهي من جانب لغة فوق المدركات الحسية والشعورية المباشرة وفوق مستوى وشائج التواصل والاتصال الوجودي للموجود الاخر ولا يهمها اصلا مثل هذا النوع المتخلف !! من العلاقة، ان تكون اللغة اداة توصيل اجتماعي.

وتختلف تجربة المتصوف الاغترابي عن تجربة المبدع الاغترابي  فالمتصوف رحلته الكشفية الاستبطانية ذات طريق واحد لا رجعة منه لسالكه من الداخل الى الخارج فهي رحلة امتداد في الداخل بلا حدود. اذا ما توفر صدق التجربة . بينما تكون رحلة الابداعي الاغترابية في حالة محاولة الافادة من تجربة التصوف فهي تبدا بالرحلة الى الداخل وفي وعيها لذاتها لها عودة رجعة نحو الخارج أي الى الموضوع والمحيط … بعبارة اوجز تجربة التصوفي غير المبدع لا تكون تجربته من نوع فني تتموضع فيها ذاتية المتصوف الاغترابية … بينما تكون لدى الشاعر مثلا ان تجربته تتوخى موضعة ذاته فنيا بجمالية تعبيرية او فنية . وتجربة الصوفي الديني غير المبدع حسب تعبير الاستاذ د.فتح الله خليف ان المعرفة الحاصلة فيها ليست راجعة الى الحس او العقل وانما هي نور يقذف به الله عز وجل في قلب من احبه.

الاغتراب الذي يعانيه المبدع في تجربته الذاتية يكون فعلا اقل في درجته واختلافه في النوعية ايضا من تجربة وعمق المتصوف الديني الصادقة غير السطحية … فكلتا التجربتين هما اغتراب ذاتي وكلاهما الصوفي، والمبدع  يسعيان الى الوصول الى حالة من تركيز التخصيب الخيالي – الاشراقي لاستجماع مفردات تكوينات بناء عمل فني –بالنسبة للمبدع – الذي غالبا ما يستطيع ترجمة تجربته لغويا كوجود محسوس مدرك معقلن فنيا وجماليا ممثلا في قصيدة او في لوحة تشكيلية. في حين كلما زادت تجربة التصوفي صدقا واصالة وامتدت اكثر وابعد غورا في الوجد الروحاني في رغبة الحصول على غاية اثمن ولذة ورضا واطمئنان غير اعتيادي، انعدمت لديه وسائل القدرة على تجميع مفردات تكوين هيكل ونسق لغوي وجمالي او حتى هذاءات وانجذابات تعبيرية لا رابط بينها مشتتة.

فكما مر بنا الاغترابي الابداعي يستطيع ثانية الارتداد من منطقة الغور الخيالي في العودة الى ادراكية الواقع المحسوس بارادة مسبقة. في حين ليس للتصوفي مثل هذه القابلية لان تجربته الاستبطانية الكشفية وغورها بعيدا جدا عن شواطئ المدرك المحسوس تعطيها امتدادا سديميا من الصعوبة – وهذا يتوقف على صدق التجربة – الالتفات الى الوراء…ثانية أي العودة الى الحياة الاجتماعية.

والفنان المبدع والمتصوف الحقيقي كلاهما تحدوهما وتستحوذ خيالهما رغبة وطواعية تجربة الفعالية الاغترابية بفارق ان تكون اغترابية المبدع ايجابية بالنسبة له وللاخرين، وتكون لدى التصوفي ايجابية بعض الشيء له، سلبية بالنسبة لغيره الاخرين…

وكما المحنا قبل قليل ان رؤية التصوفي وصدق استبطانه ورؤاه الكشفية ربما كانت وهي بالفعل كذلك ابعد غورا في صدقها وصدق مسارها بالنسبة لها ذاتيا من آماد تجربة المبدع الاغترابية، مهما بلغت درجة اصالتها في تموضع ذاتها بعمل جمالي- فني فقط.

فالمبدع بعد رحلته الاغترابية يرتد ثانية الى الواقع والحياة حاملا حصيلة رحلته، انتاجية تعبيرية ادبية أو فنية… في حين اذا عاد المتصوف تكون رحلته خالية الوفاض بالنسبة لغيره وتكون حصيلته هو منها المتعة الاستشعارية السامية الذاتية التي زود بها من رحلته في التسامي الروحي.

اغتراب المبدع الذاتية رحلة عمل … واغترابية المتصوف الذاتية رحلة استكشاف من نوع يغذي الروح ويفني الجسد المحسوس. بهذا تكون رؤيا التصوفي حقيقية أصيلة اكثر من تجربة الفنان التصوفية السطحية …. فاغترابية المبدع الغائب والتي ينشد من ورائها وبسببها انتاج فعالية ابداعية يكون في تجربة الغور التصوفي مشدودا بالواقع الحسي ومفردات الحياة الحقيقية الواقعية بشبكة معقدة مجدولة من الحبال والاوتاد فهي رحلة (جلفر) في جزيرة الاقزام في مخيال التجربة وبلاد العجائب لذا تكون تجربته الخيالية في تخصيب خياله واستلهام ابداعه قريبا جدا من السطح. في حين تذهب تجربة التصوفي الصادقة شوطا عميقا في تجربة اغتراب الروح المتسامية في المطلق المحسوس غير المدرك في انعدام مادية الوجود.

لقد ازعجت ماركس عبارة هيجل بقوله: (الاغتراب نبض الروح) في حين اراد ماركس ان ينزل، شانه في كثير من المفاهيم، الاغتراب من علياء السماء … الى الارض فقد كان يتطّير من التحليق وقد طبّق في الكثير من مفاهيمه مقولة نيتشه : بامكاننا ان نبقى دائما امناء على الارض … ومن المرجح ان هيجل لم يقصد من عبارته التحليق بقوله نبض الروح وانشداد الانسان بالميتافيزيقي المطلق حيث ينسى الانسان في احيان كثيرة وقع اقدامه على الارض واثارهما عليها. وانما حسب فهمنا ان هيجل قصد انه مع ازدياد انتشار عصرنة الحياة مستقبلا في زيادة الحرية وتقدم العلوم وانتشار التعليم وتصاعد وعي الانسان بذاته، فان اغترابات الانسان ستزداد طرديا مع هذا التطور المتوازي. وقبل هيجل حذر افلاطون ان لا نقع في وهم (ان هناك تناسقا مسبقا بين الحرية والسعادة). ومن امثلة الاساءة لفهم تطبيق الحرية تحليق المتصوف الذي في نشدانه الحرية يعلن بدئه الحقيقي بتدمير ذاته… وكذلك فعل سارتر عندما زرع في اجيال عديدة منذ الخمسينات فكرة الانسان كينونة وجودية حرة قبل ان يكون جوهرا انسانيا اجتماعيا، وقاد بذلك الانسان راضيا الى حتفه الوجودي على الارض بدءا بتدمير الذات (وما يمكن ملاحظته في رواية الغثيان) كما في غيرها هو ان شخصيات سارتر هي نتاج خيالي لا واقعي، هي افكار مشخصنة اكثر مما هي وقائع فعلية، فغدت ابطاله صفات منمذجة مجردة بلا روابط واقعية)(8). ولذا كانت نصيحة (شوبنهاور) : (ان الخلاص بالانتحار… لماذا الحياة!؟ من العبث اننا ولدنا من العبث اننا سنموت)(9).

الاغتراب الذاتي، اغتراب الانا عن الجوهر الحقيقي للانسان المثالي الكامل المطلق، هو اغتراب سلبي يعنى بـ (أناه) فقط وشملنا ضمن هذه الاغترابية السلبية الاغترابات الدينية التصوفية، والاغترابات الوجودية وتتعزز سلبيتها لانها في اغلبها اغترابات تنأى ان تترجم في الواقع الى فكر وممارسة، لغة وفعل، نظرية وتطبيق.

وقبل قليل ايضا تطرقنا للفارق الجوهري الضئيل الذي يفصل تجربة الابداعي عن تجربة التصوفي وكلا التجربتين ذاتية، فاغتراب المتصوف في بعض الحالات هو نوع او شكل من اشكال انفصام الشخصية، يلتقي بانفصامية المبدع كما في نموذج بطل رواية دستوفيسكي القرين او المثل The Double فبطل الرواية (جوليا دكين) يحارب بعضه بعضا، أي يتمثل لديه اكل الذات داخليا واستمر ذلك طوال الرواية الى ان كانت نهايته جنونا مطبقا، وكذلك بطل رواية البرتومورافيا (انا وهو) (ريكو) الذي يعي جيدا اغترابه الانفصامي وشخصيته المريضة ويستمرئ ممارسته للاغتراب تسفيلا للذات مرة وتصعيدا للذات مرة اخرى من خلال ايروتيكية الجنس.

اما الاغترابية الفردانية التي تحمل همومها وهموم النحن معا المغتربة عن البنية الكلية الاجتماعية غير السوية بعلاقتها المنحرفة، فقد اعتبرناها اغترابية ايجابية ونمطها الاغترابي المبدع المحتد جدليا بظواهر الحياة غير السوية ومحاولته الدائبة تبديلها وتطور هذا النوع من الاغتراب على يدي ماركس الذي تحدثنا عنه في اغتراب الطبقة العاملة ومثله من بعده فعل (برتولد بريخت) في مسرحه الملحمي.

يتبع في ج3

 

علي محمد اليوسف/ الموصل

....................

(1) الشعر الصوفية ص30-48

(2) علو الفكر مصدر سابق الاغتراب في الاسلام د.فتح الله خليف ص66

(3) نفس المصدر السابق ص95

(4) شهيد العشق الالهي د.عبد الرحمن بدوي ص73

(5) الاغتراب وازمة الانسان المعاصر مصدر مشار له سابقا د.نبيل اسكندر ص32

(6) مجلة الاقلام العراقية العدد1-4/1996 ادونيس –النفري :القراءة والتأويل ص99 .

(7) بالنسبة للفنون التشكليلية حيث تنعدم اللغة الصوتية لتصبح لغة في التصوير فيكون مجال الاغتراب واسعا جدا مما يستلزم حاسة نقدية متخصصة جدا للكشف عن جوانب الاصالة والزيف في تجربة الرسم .

(8) في الادب الفلسفي، مصدر سابق، د. محمد شفيق شيا، ص 249.

(9) نفس المصدر السابق، ص 231.