الرئيسية

الاغتراب والصوفية (3)

ali mohamadalyousifنعود مرة اخرى الى موضوعة الاغتراب الابداعي وعلاقته بالاغتراب التصوفي السلبي. فالاغتراب الابداعي يمثله احيانا فرد او مجموعة من الصفوة او النخبة المبدعة في المجتمع التي لا يكون اغترابها كمجموعة طبقيا لاختلاف عوامل وبواعث اغترابها كافراد، وليس كما هو حاصل في اغتراب الطبقة العاملة لدى (ماركس) بسبب (العامل الاقتصادي) وهذه الطبقة لا تمتلك تفاوتا كبيرا في نوعية وشكل تفكيرها ولا في نوعية وشكل نضالها للتخلص من اغترابها مجتمعة وهذا ما لا يتوافر للمبدعين كمجموعة, اذ لكل واحد منهم تجربته الاغترابية الخاصة وان التقوا في النتائج المبتغاة اخيرا في تحقيق المنجزالابداعي. .

اذن الاغترابية المبدعة المتمثلة بالنخبة لعوامل فنية تدخل في بنائية وتركيب الفعالية الابداعية لا تعبر عن اغترابها ايديولوجيا أي بالخطابة المباشرة أي لا يكون نضالها للتخلص من اغترابها واغتراب الاخرين تثويريا صرفا، وانما يكون هدف اغترابها تنويري تثويري في وقت واحد . وتاثيرها في المجتمع يكون اقوى من الايديولوجيا التي هي مجموعة افكار  منظمة جافة في علاقة تواصلها بالآخرين… اما لدى الفنان الاغترابي فتواصله مع الاخرين يتصف بالتذوق والجمال والفن كلية.

فمقياس ايجابية او سلبية اية فعالية اغترابية انسانية انما تقاس بمعيارية ما تتركه من اثر متحقق في حياة الاخرين ووجدان الجماعة وتغيير علاقات المحيط وايجاد وجود انساني افضل … ومن هنا اعتبرنا التجربة التصوفية اغترابا زائفا سلبيا منغلقا ساكنا غير فاعل يتساوى في شكل ونوع سلبيته الاغترابية مع أي شخص عادي الّمت به واصابته ازمة نفسية محبطة اوجبت اغترابه عن مجتمعه بسلبية اغترابية زائفة بلا معنى ولا محتوى ولا تعبير عنها… لقصور امتلاك صاحبها امكانيات التعبير عن اغترابه ايجابيا في التأثير بعلاقته بالاخر بوسائل تتواءم وتلائم نوع وشكل تجربته الاغترابية. فالاغترابي الإبداعي الذي يكون اغترابه ذاتيا صرفا وليس فردانيا مجتمعيا تكون وسائل التعبير عن اغترابه الذاتي متمركزة على بؤرية الذات نفسها وامكانية تموضعها في قصيدة شعرية او لوحة تشكيلية فتكون اغترابية ناقصة – زائفة بالقياس لما تتركه من اثر في المحيط وفي الغالب الاعم يكون الاغترابي الابداعي راضيا عن إبداعه فلا يهم بعد تموضع ذاته في التعبير المتجسد في عمل فني يعني احدا او

لا يعنيهم، المهم هو توافر اشتراطات جمالية – فنية ذوقية في نتاج عمله وهذا بحد ذاته انجاز يكفي الفنان او الأديب، فيكون بهذا الاغترابي المبدع هو الوجه الاخر للاغترابي التصوفي العاجز عن إيصال تجربته على شكل تعبير مهما كان شكله او مضمونه, يعطي قيمة تواصلية للفعالية الإشراقية الاستبطانية التي يمر بها…

ولا يعني هذا اننا نضع حاجزا بين التجربة الابداعية يمنع الالتقاء بالتجربة التصوفية. فأرقى درجات الاغتراب الابداعي ايجابيا عندما يكون المبدع اغترابيا ذاتيا ومتصوفا روحانيا في وقت واحد. وترجمة هذا النماذج لانتاج فعالية تعبيرية جمالية فنية فالمبدع الاصيل يستطيع التوّسل وتوظيف بعض خصائص التجارب الصوفية ويسد النقص الافتقاري والعجزي من اغناء تجربته واثرائها بمعطيات ومديات تعبيرية غير اعتيادية متفردة متميزة.

كما ان التصوفي الذي يتمكن من نقل بعضا من تجربته الاستبطانية الاشراقية الكشفية, لما هو غير محسوس مباشر للعقل او الشعور بوسائل ايصال فنية تعبيرية تحقق حضورا وارتباطا صحيحا بالاخر, بأي صيغة كانت نثرا ام شعرا ام غيرها انما تعد اغترابا ايجابيا خصبا يفتقده الكثيرين جدا من المبدعين في تحقيق مثل تلك الابعاد في نتاجاتهم. وهو ما حدث على ايدي بعض متصوفي الاسلام الدينيين في وقوفهم بوجه الظلم والاستبداد والاستلاب الانساني للاخر كأبن عربي والحلاج والسهروردي وسفيان الثوري وغيرهم كثيرين…ونجد في تجارب بعض اللاهوتيين المتصوفة الغربيين وحتى بعض متصوفي البوذية والهندوكية وبعض الديانات الفارسية الغير السماوية القديمة الزرادشتية مثل هذه الافصاحات التي لاتستطيع الحكم عليها الا انها نماذج اغتراب ايجابي… يبقى الوجه الاخر للظاهرة… متى يكون الابداعي سلبيا في اغترابه ومتى يكون التصوفي سلبيا في اغترابه ايضا!؟

زيف اغترابية المبدع احيانا تلتقي مع زيف اغترابية التصوفي في اغلب الاحايين … فكلاهما ينشدان خلاصهما روحيا حتى لو جاء ذلك على حساب الاخرين كل الاخرين… وكلاهما ايضا يبحثان عن خلاصهما الروحي المادي لا في خلاص المجموع ولا بالمجموع ولا مع المجموع. وبذلك يكون اغترابهما سلبيا منعزلا عن حركة المجتمع منكفئاً فرديا يدور في عوالم مغرقة في خصائصها الذاتية الخالصة واجترارهما – أي الاغترابي الزائف والتصوفي الزائف - المتكرر بـ (تجريب) وجودي منعزل تماماً عن العالم المدرك المحسوس الواقعي المفعم بمختلف الظواهر الذي يعج بما لا حصر له من الانحرافات والظلم والاستلاب.

ربما يحصل الاغترابي الزائف على شلة من المريدين المزيفين كما يحصل التصوفي ايضاً على شلة من المريدين ايضا غالبيتهم مريدين مزيفين… وهذا لا يلغي فشل تجربة الاثنين.

احيانا أخذ بعض المبدعين من شعراء وادباء وفنانين وبخاصة تشكيليين على اعتبار اغتراب المتصوف الروحاني الوجودي اغتراب من نوع خلاق يجب تقليده والاستفادة من بعض معطياته في اسقاطها على وقائع الحاضر اجتماعيا تاريخيا اذ ان المتصوف يستبطن برؤاه غير العادية ما هو غير مألوف في حقائق الاشياء المدركة المحسوسة وظواهرها, وبالتالي فهو يكشف وجوده الاغترابي روحياً… وهذا وان كان صحيحا فهو غير كاف لان الانسان في سعيه لتوازن ما هو روحاني لديه مع ما هو مادي, ليس مادة هيولية هلامية غير محدودة المعالم مشدودة في المطلق اللامتناهي تنشد خلاصها لوحدها فقط، وانما الانسان في جانبه الاخر كينونة وماهية وجوهر يتجلى ماديا بمختلف النوازع وانواع التباينات، وبالتالي فالانسان وجود دينامي يتغير ذاتيا ويتغير موضوعياً… وفي جانب من ذلك فالانسان تحكمه مجموعة من العلاقات الاقتصادية الاجتماعية النفسية المتداخلة بضوئها وبها يتحدد وجوده في المجتمع ويتحدد وجود المجتمع به.

فالتصوفي في اغترابيته الذاتية المحضة انما يحقق وجودا ذاتياً حلولياً انفراديا روحانيا لتجربته في المطلق والميتافيزيقيا لا في الحياة… أي حلولا، ربما يكون متحققا او لا, حسب صدق التجربة في محاولة التشّبه الكمالي في بعض الصفات الالهية .. وليس السعي في استكمال صفاته الجوهرية المبعثرة التي تحقق له تطابقا دنيويا مع الذات والنفس. وتحقق له توازنا وجوديا ماديا ضمن جدلية مجتمعه. والمتصوف في انكفائه على الذات استبطانيا انغلاقيا في كشف محموم لطريق الرؤية الايمانية المتفردة انسانيا المتوحدة بالذات الالهية الحلولية , هي ايضا اغتراب وجودي غير فاعل ولا يقدم تجربة يعتد بها او يؤخذ بها. (وهو اغتراب روحي وجودي مطلق قائم بذاته ولذاته فقط ما لم يكن متحققا بفعل او اثر ابداعي في الكلية الاجتماعية مؤثرا في الكلي مجسدا في كينونة)(1).

فحقيقة الوجود الانساني هو في تبني الآنية Moment على حد تعبير باسكال أي الامساك بالزمن واللحظة التاريخية لا تجريده وتجويفه – أي الوجود - حتى لا يبقى منه الا القشرة فيضيع في الميتافيزيقيا(2). فالوجود الحقيقي يتم احتضانه من قبل الانسان الفرد في وجوده الاغترابي الايجابي فيكون من نمط تاريخي ينطوي على ممارسة الحرية باسلوب الارادة الفاعلة. والحقيقة ان تعيشها لا ان تعرفها فالمعرفة التي لا تفضي الى فعل ليست شيئا اما هذه الأنا التي تضيع خارج الزمن فابعد ما يكون عن الحياة.(3) والكائن الذي لا موضوع له خارج نفسه ليس بكائن حقيقي لانه لا علاقة له باحد ولا علاقة لاحد به(4). ومن مجموع ما مر بنا وغيره الكثير مما اكده غيرنا او حتى نجهله لحد الان يمكننا ان نفهم صرخة المسيح الاغترابية الرهيبة المسكونة باغتراب الوجود الانساني كله على الارض في حقيقته الغائبة الوقتية الزائلة امام الحقيقة الكونية الازلية الباقية قائلا: (انا الطريق والحق والحياة).

فالاغترابي التصوفي اغترابي سلبي زائف – ما عدا استثناءات مررنا بها واعطينا مواصفات اغترابها- يتساوى في سلبيته الزائفة التصوفية مع أي انسان عادي مغيّب لا يعي وجوده الحقيقي، مغّيب لهذا السبب او ذاك عن وجوده الفاعل في الحياة, ولا يشترط باي اغترابي ان يكون شرط تجاوز اغترابه هو انتاج نوع من فعالية ادبية او جمالية فنية فقط … وانما قد تكون في المشاركة بتصور واع مسبق لما يجب ان تكون علاقته بالاخرين وعلاقة الاخرين به وببعضهم . بما يحقق لهم شروطا انسانية افضل قد لا يدانيها انتاج فعالية ابداعية يكون تاثيرها محدود جدا. وبامكان أي فرد يعاني من شكل من اشكال الاغترابية السلبية ان ينقلها ايجابيا الى حالة تحسس الواقع ووطأته ولا انسانيته بقدرة التحمل وصبر التجاوز…

وتقول ماري ستيوارت: (الذين يملكون بصيرة الهية هم غالبا في عمى…حينما يتعلق الامر بشؤون تفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية)(5).

ويقول تاسو في مسرحية غوته:

حينما يلف الانسان الصمت في معاناته

فان الها ما يهيب بي ان اصرخ بما اعانيه

تقول غادة السمان العصابي الحقيقي – وانا اقول الاغترابي الحقيقي-: (لا يهجر العالم او يقطع خيوطه كما يفعل المجنون، وانما هو كالعبقري يعي وجود خلل في العلاقة بينه وبين الاشياء حوله والمهم ان يقدر على تحليل ذاته وتحليل عالمه … ليعي الفرق بين رؤيته الخاصة الاصيلة للوجود والرؤية السائدة وليحاول ابداء وجهة نظره وتجسيدها في موقف والخطأ الذي يرتكبه العصابي (الاغترابي) هو محاولة الاستسلام للاشياء كما هي حيث يصبح طموحه هو ان يعتبر انسانا عاديا)(6).

بطل قصة العاصفة لجبران خليل جبران – يوسف الفخري – بطل اغترابي سلبي يعتزل الناس تعاليا ويهرب معتصما في كوخ مستوحداً بين الجبال العاصية, وعندما يبوح بسر اعتصامه الاغترابي يقول: (هجرت الناس لان اخلاقي لا تنطبق على اخلاقهم واحلامي لا تتفق مع احلامهم تركت البشر لأني وجدت نفسي دولابا يمنة  بين دواليب تدور يسارا… يا أخي لم اطلب الوحدة للصلاة والتقشف بل طلبتها هاربا من الناس وشرائعهم وتعاليمهم وتقاليدهم وافكارهم وضجيجهم وعويلهم . طلبت الوحدة لكي لا أرى وجه الرجال الذين يبيعون انفسهم ليشتروا باثمانها ما كان دون نفوسهم قدرا وشرفا…)(7).

واّراء براتراندرسل في التصوف اذ يقول لاوجود للزمن لدى الصوفية , فالزمن ملغي تماما عندهم, فهم لا يهتمون بالماضي ولا بالحاضر ولا بالمستقبل ,لذلك لانجد لهم حضورا في فلسفة التاريخ لا من بعيد ولا من قريب, فرديتهم فوق كل شيء, سلبيون اجتماعيا, لاتستقيم بارائهم التربية , ولايمكن الاعتماد عليها تربويا وتعليميا .

ويضيف رسل ان الطريق التي يتبعها المتصوفة لايمكن لها بناء اية حضارة , فغياب الامل وعدم الاعتراف بالاعمال الدنيوية كل ذاك يتعارض مع امكانية قيام حضارة .

كما يؤكد رسل ان المتصوفة يرون العلم بحد ذاته غير كاف لتفسير جميع الظواهر المتعلقة بالانسان , وهذا مالا يدعيه العلم نفسه , فالعلم لايستطيع ان يطبق وسائله على ما هو روحي صوفي, اذ يؤكد المتصوفة على ان الحقيقة تكمن في داخل انفسنا , وهي متعلقة بالنفس الانسانية , وهذه حقيقة متوقفة على التجربة الفردية وحدها حالها حال الجمال والاحسان والصداقة ومعرفة الله , فمثل هذه التجارب الروحية يقع وراء العلم ادراكها وهي خارج امكانية العلم في تأكيدها , وعلى هذا الاساس فليس للعلم أي شيء يقوله عن مثل هذه التجارب الروحية.(70)

ومن نافل القول ذكر ان براتراندرسل يؤمن بالنظرية العلمية التي تذهب الى انه بعد سنين طويلة تكون الشمس قد استنفذت الهيدروجين المولد الاول للطاقة الحرارية الشمسية مما يعني برودة الارض تدريجيا وانعدام الحياة بكافة اشكالها عليها .

 

علي محمد اليوسف

........................

هامش:

(70) - د. محمد فاضل عباس – مجلة دراسات فلسفية بغداد عدد 21 , 2008 نقلا عن براتراندرسل  Russell, Betrand, Religion and science , oxford university press , London p.176.

(1) الصراع في الوجود الفكرة لجى كيركارد بولص سلامة ص 155.

(2) الصراع في الوجود التاريخية والابدية بولص سلامة ص 229.

(3) نفس المصدر السابق، ص 231.

(4) نفس المصدر السابق، ص 231.

(5) السباحة في بحيرة الشيطان، غادة السمان، ص 43.

(6) نفس المصدر السابق، ص 72.

(7) جبران في عالمه الفكري، د. نديم نعيمة، مجلة الاديب،ع10 لسنة 1972، ص46.