الرئيسية

افلاطون وميتافيزيقيا عصر النهضة (1)

ali mohamadalyousifيعتبر افلاطون (384-322) ق.م الاب الروحي لميتافيزيقيا النفس (الروح) وفي شذرتين ليوربيدس الاولى تقول: من ذا الذي يعرف ان كانت هذه الحياة ليست موتا، وان كان الموت لا يعد حياة في العالم السفلي؟ وتقول الشذرة الثانية: من ذا الذي يعرف ان كان ما نسميه بالموت ليس حياة، وان الحياة ليست موتا؟ وكان معاصري افلاطون ينظرون إلى النفس أو الروح على انها ذات اصل سماوي وانها تقطن الجسم كما لو كانت سجينة، وبوسعها الهرب عند الموت واستعادة ألوهيتها، وكما يشير كورنفورد فليس ثمة هوة هنا بين الالهي والانساني على ما نحو ما نجد في اللاهوت الهومري، والخلود بهذا المعنى يتميز على نحو جاد على الدوام المحض(1).

وشقت هذه الطريقة طريقها إلى الفلسفة على يد فيثاغورس وأثرت بقوة في افلاطون الذي حاول صياغتها على شكل مذهب متسق من الناحية المنطقية، فتأكيد خلود النفس يعني انها (حينما يهاجمها الموت لايمكن ان تفنى) وقد ادرك افلاطون الشكوك التي ساورت اذهان المثقفين من معاصريه فجعل سيبيز احد تلاميذ سقراط يصوغ وجهة النظر المناقضة عن قابلية الفناء للروح بقوله: ولكن الناس أميل إلى عدم التصديق فيما يتعلق بالنفس، انهم يخشون انها عندما تغادر الجسد سيكون الضياع مقرها، وانها قد تفنى في يوم الوفاة ذاته وتنتهي فور انفصالها عن الجسد، ثم تتلاشى في العدم، لكننا بحاجة إلى كثير من الحجج والبراهيين لاثبات انه اذا مات الانسان فان النفس تبقى رغم ذلك وتظل متمتعة بالقوة والفطنة(2).

ان الحجج التي يسوقها افلاطون تأكيدا للخلود في محاورة (فيدون) هي:

1- ان النفس توجد قبل الميلاد، وهذا الوجود السابق للنفس يقوم على اساس الاعتقاد بان المعرفة هي التذكر (المعرفة الحقيقية المقصودة هنا ليست تجريبية، وانما هي قبلية) اي سابقة للوجود. غير ان ذلك يؤدي فحسب إلى الاعتراف بوجود النفس (الروح) قبل الميلاد فهل توجد بعد الموت؟

2- هناك صور أو (مُثل) خالدة وثابتة، وحيث ان النفس كفيلة بادراكها فانه من المتعين ان تكون هي ذاتها خالدة إلهية (فلاشيء فانٍ يعرف ما هو خالد).

3-  النفس تتحكم في الجسد وتسيطر عليه ومن هنا فهي تشبه الالهة الخالدة.

4-  النفس بسيطة، فهي ليست مركبة، وبالتالي لايمكن ان تنحل (فما هوبسيط لايتجزأ، لا ينقسم انه خالد).

5- النفس في جوهرها الحياة، وبالتالي فهي نقيض الموت ذاته، لايمكن النظر اليها باعتبارها محتضرة اكثر من النظر إلى النار باعتبارها تتحول إلى البرودة.

6- وهناك دليل اضافي في محاورة (فيدروس) فالنفس باعتبارها متحركة بذاتها بوصفها مصدر للحياة والحركة لايمكن اطلاقا ان تكف عن الحياة وعن الحركة.

وفيما يتعلق بهذه الادلة والبراهين فقد ظل حشد من الاسئلة دونما اجابة وقد اثارت حدة الفلاسفة منذ ذلك الحين وقد طرح (جوويت) المترجم والمعلق الشهير لمحاورات افلاطون هذه المشكلات في مقدمته التي كتبها لمحاورة فيدون حيث يقول : ما هي الفكرة التي نستطيع ان تكونها عن النفس حينما تنفصل عن الجسد؟ أو كيف يمكن ان تتحد النفس مع الجسد وتُعد مستقلة رغم ذلك؟ وهل ترتبط النفس (الروح) بالجسد كما يرتبط المثل الأعلى بالواقع، أو الكل بالاجزاء، أو الذات بالموضوع أو السبب بالنتيجة أو الغاية بالوسائل؟ هل نقول مع ارسطو ان النفس هي الكمال الأول، أو صورة جسم عضوي ذي حياة؟ ام نقول مع افلاطون بان للروح حياتها الخاصة بها؟ وهل ترتبط الروح بالجسد كما يرتبط البصر بالعين، أو الملاح بسفينته؟ وهل ينظر للروح على انها في حالة اخرى من حالات الوجود باعتبارها تتلاشى في اللامتناهي دون ان تمتلك وجودا يمكن ان تدعوه بوجودها الخاص، كما هي الحال في مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا وآخرين..؟ ان ينظر للنفس باعتبارها روحا فردية افضى اليها بسر جسم اخر، واحتفظت بطابع شخصياتها السابقة؟ ام ترى ان تعارض النفس والجسد هو وهم محض، وان الذات الحقيقية ليست نفسا أو جسدا وانما هي اتحاد للاثنين في (الأنا) التي تعلوهما؟ وهل الموت تأكيد لهذه الفردية في الطبيعة الاسمى، وسقوط الطبيعة الادنى في العدم؟ ام ترانا نحاول عبثا تجاوز حدود الفكر الانساني؟(3).

كان افلاطون يدرك نقص حججه حول خلود النفس (الروح) فما تم البرهنة عليه هو ان الموت عملية لاتؤثر الا في الجهاز العضوي الجسمي، وان النفس لا تموت. لكن ذلك لايثبت ان النفس (الروح) تواصل الحياة بعد ان يموت الجسد، حقا ان صفة (ميت) لا يمكن ان تحمل على النفس، ولكن من الممكن افناؤها، أو استردادها غير انه لم تتم البرهنة على امكان استردادها، وانما هو يستند فقط إلى الايمان وذلك شأن القول بان الروح لاتفنى، لكن إلهية النفس ووجود صورة خالدة يقتضي المزيد من البحث، وهكذا فأن ما يقدمه لنا افلاطون هو الامل في الخلود، وليس اليقين به، لكنه امر معقول ومستحب(4).

ولكن اذا كان افلاطون يؤمن ايمانا جازما بخلود النفس , وان كان لم يستطع اقناع غيره بهذا الايمان فعلى اية اسس قام عليه هذا الايمان؟

يذهب احد دارسي افلاطون في اجابته على التساؤل (لان افلاطون كان يخشى الموت، ويذهب إلى تدعيم هذا الادعاء بان افلاطون كان تأثر وهو شاب بـ (اقريطليوس) وكان هذا تلميذا لهيراقليطس وقد فاق استاذه لا في التشديد المتطرف على (التغيّر) والاضداد التي نادى بها استاذه هيراقليطس بل ذهب إلى القول (بانك لا تستطيع ان تخطو خطوة واحدة إلى النهر حتى ولو مرة واحدة) كذلك على حزنه الشديد على استحالة خلاصه وافلاته من الموت، ولايذكر ارسطو وهو مصدر كل معلوماتنا عن افلاطون شيئا عن اقراطيليوس.

وتجدر الاشارة إلى ان كل من هيجل وماركس اخذا فكرة التغيير ووحدة الاضداد فطبقها الأول مثاليا على المادة والمادية التاريخية، في حين ذهب ماركس إلى تطبيقها المادي الجدلي في المادة والمادية التاريخية بما بات يعرف بالقانون الثاني في جدل ودياكلتيك المادية (قانون نفي النفي).

انساق ارسطو في شبابه مع استاذه افلاطون، فهو مؤيد لافلاطون في خلود النفس وان وجود الروح سابق على البدن، وكذلك انتقالها من جسم لآخر، ويؤكد ان الجسم هو سجن النفس. وبعد ان نضجت فلسفته في كتابه النفس (De Avime) يضرب صفحا عن انتقال الروح (النفس) من جسم لآخر ويصفها بالاسطورة. وأكد ارسطو ان ما يميز الانسان عن الحيوان هو عقله (Nous) أي قدرته على التفكير واعتبر العقل عنصر إلهي في الانسان يأتي للانسان من الخارج وهو وحده لايفنى عند الموت.

من الواضح جدا انه ليس فقط بمقاييس عصرنا اليوم، وانما بمقاييس ذلك العصر القديم الاغريقي، فكلام ارسطو فتح افقا علميا بحتا لازال معتمدا إلى يومنا هذا، ان ما يميز الانسان عن الحيوان العقل وخاصية التفكير والتأمل، والذكاء في توليد الافكار، انما الخطأ الذي التبس على الكثيرين قوله العقل لايفنى عند الموت، الارجح بان ارسطو قصد بالعقل لايفنى عند الموت هو العقل العلمي الفلسفي الذي يخلف وراءه منظومات الافكار المعرفية للاجيال سواء بالنسبة للفيلسوف الفرد، أو بالنسبة للعقل الجمعي، محصلة جمع النتاج العقلي المفكر في صنع التاريخ والحضارة والقيم للانسان، فاذن كان المقصود بالعقل عند ارسطو هي الفلسفة والتفكير وناتج الممارسة التطبيقية العملية للافكار والمعارف الفطرية والمكتسبة، وهي لا تفنى طبعا، لانها ليست كائنات بيولوجية حية، وما يفنى من ناتج العقل هو الافكار العقلية التي هي الافكار ذات القيمة (الكمية ) فقط وليست القيمة (النوعية).

بمعنى تفنى الافكار التي تدحضها النظريات العلمية اللاحقة عليها. والعالم ليس خالدا ولايقبل الفناء فحسب، وانما هو يتضمن غرضا وخطة كما يشهد بشكل خاص التنظيم الغرضي للكائنات الحية (ان الله والطبيعة لا يفعلان شيئا بغير تخطيط) حسب تعبير تايلور.

وعلى الرغم من انه ليست هناك عناية إلهية ترعى سعادة كل كائن مفرد، وان شخصية الانسان لاتبقى بعد الموت، وقد احس ارسطو بقوة بالغة ان للوجود الانساني معنى، وانه هام في تلك الخطة الكونية، فقد يكون الموت شرا لابد منه لكنه رغم ذلك ليس عبثا(5).

الموت والخلود في العهد القديم – الكتاب المقدس – بوسع المرء القول بان الموت قد احتل مرتبة هامة في افكار العبرانيين القديمة، فقد ورد في الاصحاح الثاني عشر لسفر دانيال: (وكثيرون الراقدون في تراب الارض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الابدية، وهؤلاء إلى الازدراء والعار الابدي) وتأكيد ان فكرة الخلود والبعث لم تكن فكرة غريبة لدى اليهود (ففي الاصحاح السادس والعشرين من سفر اشعيا: (تحيا امواتك تقوم الجثث) وورد ايضا كي لايسقط الانسان ضحية الموت ( واما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها) ويوجد تعليق هام لجاك شورون، انه كانت هناك شجرة اخرى في جنة عدن، هي شجرة الحياة، ولم يكن ثمة تحريم إلهي يدور حولها، انها لاتؤدي دورا في قصة السقوط ذاتها، لكن الانسان طرد من جنة عدن، لان شجرة الحياة موجودة هناك، ولانه كان بوسعه ان يستعيد الخلود ويأكل ثمارها ويشير فريزر في كتابه الفلكور في العهد القديم إلى افتراض بارع لتفسير سبب وجود مثل هذه الشجرة على الاطلاق إلى جوار شجرة المعرفة، يظهر الانسان في القصة الاصلية التي يقصد بها تفسير فنائه وقد خلق غير فانٍ وغير خالد، وانما وهب له الخيار بين ثمار أي من الشجرتين، واذ تضلله الحّية يقوم باختيار شجرة المعرفة التي هي بالفعل شجرة الموت (6).

وفي سفر ميخيا 6 8، : الرب اعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركا. وفي سفر ايوب: 1/21: يبلع الموت إلى الابد، ويمسح السيد الرب الدموع.

(2)

يطرح العهد الجديد انتصاره على الموت، وجوهر هذا الانتصار ان النظرية المسيحية تركز ببعث الموتى في يوم الدينونة، فتفتح القبور ويقف القديس والخاطئ امام الرب ويحاكم، وذلك هو بعض الجسم وليس خلود النفس، فخلود النفس ليس من المسيحية، وانما هو في الوثنية (7).

بالنسبة للوثنية البوذية مثلا نجد ان هذه المقولة معكوسة تماما فهي تعتبر الروح خالدة، عندما تحرق اجداث الموتى وتنثر في الانهر، كما هي عند الهندوس ايضا، فاعدام الجسد إلى ذرات حرقا، يجعل من القيام من القبور يوم الدينونة مسألة تحتاج إلى براهين وليس إلى برهان، وهذا مصداق ماحدث حينما كان القديس بولص يعظ الناس في اثينا كان الجمهور يصغي باهتمام ولكن حينما اتى ذكر بعث الموتى: أو (قيامة الاجساد الميتة) سخر البعض منه، فقد ألغوا مبدأ خلود النفس ولكن حينما شرع صانع الخيام الاسيوي البليغ في القول – يقصد بولص – بان الاجساد الميتة ستنهض وتسير لم يستطيعوا حمله على محمل الجد(8).

وحينما مثل القديس بولص في حضرة الملك اجريبا، وسمعه فيتوس الوالي الروماني لم يستطيع ان يكبح جماح غضبه وقال بصوت عظيم انت تهذي يابولص، الكتب الكثيرة تحولك إلى الهذيان. ويعلل ما كان يفعله القديس بولص كان الشكل الوحيد، أو اللغة الوحيدة المتاحة له في افهام سكان القرى والمدن الصناعية الكثيرة في آسيا الصغرى البالغي الجهل مبدأ الخلود(9).ويهون جاك شورون الامر بعقلانية مقبولة حين يقول، ان تعاليم بولص في ذلك العصر، اذ ازدهرت فيه بروما تجارة صكوك الخلود، وفي مثل هذا العالم الممتلئ ذعرا انتشرت الانباء التي تقول بان البعث قد شوهد بالفعل.

وامام هذا البعث للجسد الذي كان موضع سخرية الفلاسفة الوثنيين، لايمكن فهمه الا اذا تأملنا نظرة القديس بولص إلى الانسان، فهو يفرق بين الانسان الطبيعي (الناسوتي والفيزيائي) بين الانسان الروحي , والانسان الطبيعي الفيزيائي مهما كانت سمو اخلاقه فهو يبقى في حدود ما هو انساني فحسب، في مواجهة الانسان الروحي، الذي يتلقى روح الرب، ويعرف انه يتقّبل ويحرس القبس الالهي، بيد ان الانسان الروحاني ليس نوعا مختلفا من البشر، وانما هو ينشأ من الانسان الطبيعي. ومما له مغزاه ان الانسان الروحاني يمكن ان يكون ادنى عقليا واخلاقيا من الانسان الطبيعي، لكنه رغم ذلك يفوقه كثيرا من حيث انه طفل الرب ومعبد الروح الالهية(10).

في عصر النهضة كان رد الفعل شديدا مهّد لانهيار السيادة الكاملة للمسيحية على الفكر الغربي وحامت شكوك جادة مهمة حول  الوعد بالخلود والبعث، وخلقت توترات يقين حول الوان العذاب الخالدة في العالم الاخر. وانتشر وعي حاد بالموت في هذه المقولة: (اننا في الموت حينما نكون في قلب الحياة)(11).

وانتشرت منذ القرن الثالث عشر المواعظ الشعبية لانظمة الرهبان، المتسولين من الدعوة الخالدة لذكر الموت جوقة كئيبة يتردد انشادها على امتداد العالم، تؤكد ان الموت خير من الحياة، وكان الاستسلام لذلك تاما.

اما رقصة الموت التي اشار لها (هو زينجا) فيشرحها د.امام عبدالفتاح عن كتاب ستاملر (رقصة الموت) ميونيخ 1948، بانه لم يكن واضحا المقصود بها فايهما معني بالرقص, الموتى ام الموت هو الذي يرقص؟ ويجيب ستاملر ان المقصود المعنيين معا. وتصور قصة الملك الذي لم يضحك ابدا، الحزن العميق واليأس من الايام، وحينما سئل عن سره في عدم الضحك اجابهم: (لان ثمة حراب اربع موجهة إلى قلبي وستخترقه اذا ما اظهرت ادنى علامات الفرح والابتهاج، الاولى هي المعاناة المريرة للمسيح، والثانية فكرة الموت، والثالثة عدم الاحاطة بساعة الموت، اما الاخيرة فهي الخوف من ساعة الدينونة)(12).

لاول مرة يأتي بترارك (1304 - 1374) بمتناقضة لاهوتية مسيحية في الصراع بين الانسحاب من العالم وهو ما دعا له آباء الكنيسة، وما بين الاهتمام القوي به فدعا لاول مرة ما أسماه (البرهان التجريبي). كان بترارك يشعر في اعماقه بان الموت اكثر يقينا من الخلود، وانه لايمكن حتى للجماعة ان تسود في مواجهة الموت، على هذا النحو كان وفر انشودته: ان الحياة وياللحسرة قصيرة ومثقلة بالاخطار، وان الروح لاينبغي ان يضللها غرور الجمال.(13)

ان بيان عصر النهضة انذاك هو ابعد ما يكون عن الموقف السلبي المسيحي والرواقي فهو يستبدل بذلك الموقف, المقاومة الايجابية للقدر، وذلك بهدف تحقيق الذات وادراكها، لقد شعر انسان عصر النهضة بحيوية لا حد لها كما احس بقوة تجاوز تقريبا قدرة الانسان وانه جزء لا يتجزأ من عالم بديع فسيح لا تحلل فيه ولا دمار، وانما تغاير وتحول فحسب، وهذه التجارب والمشاعر جعلت من الرغبة في البقاء الشخصي شيئا اقل الحاحا، كما بدأ نكران البقاء الشخصي بعد الموت له ميزة منفردة هي تحرير البشر من ألم الخوف من الجحيم والهلاك الابدي. وقد عجلت به كذلك اعتبارات اخلاقية فقد كانت هناك أولا: الحاجة إلى التوافق أو بالاحرى إلى اعادة الكشّاف الحقيقي، وقد جعل الدليل التجريبي والعقل الطبيعي للخلود، سواء اكانت حياة خالدة ام خلودا للروح امرا غير صحيح، ثانيا: بدا الايمان بحياة خالدة، امام الذهن المتحرر، امرا يؤدي إلى افساد الفضيلة إلى المضي بها قدما، وقبل وقت ليس بالطويل كان دانتي لايزال يصر على ان عدم الايمان بحياة اخرى هو اكثر المواقف حماقة وفسادا وخطورة(14).

تعبر روح عصر النهضة عن نفسها بشكل صارخ كذلك لدى ليوهان فون ساز، في مؤلفه (الرجل العادي في بوهيميا) ظهر عام 1400م والذي يعده البعض اعمق ابداع للنزعة الانسانية الالمانية، وتستمد جدارته ليس من واقعة ان الانسان يجرؤ على ان يتجادل مع الموت، وانما كذلك كون الحجج التي استخدمها المؤلف تستند إلى سلطة الفلاسفة الوثنين في العهود القديمة، لا على سلطة اباء الكنيسة. وليس الرجل العادي الوارد ذكره في المحاورة حرفيا (صاحب مهنة) وانما هو مثقف يكدح بقلمه، انه ارمل يستدعي الموت امام القاضي الاعظم – أي الله – ويتهم الموت بقتل زوجته الشابة المتسمة بالكمال وهي ام اطفاله الصغار. وفي محاولة تفنيد الاتهامات يتحدث الموت على غرار الفلاسفة الرواقين فيقول: الا تعلم ان كافة المخلوقات الارضية ايا كانت حكمتها وامتلاؤها بالحياة والقوة يتعين عليها ان تواجه العدم؟ ان على المرء ان لا يبكي موت الفانين... فقد خلقت الحياة من اجل الموت، ولو لم تكن هناك حياة، لما كان لموتنا معنى... ولكن بدون الموت لن يكون هناك عالم، إنك تطلب النصح حول كيفية اجتناب حزنك من قلبك، لقد علمنا ارسطو منذ زمن طويل ان الفرح والحزن والخوف والاجل يجلب المتاعب، فالروح والخوف يقصران الحياة، والمعاناة والامل يجعلانها طويلة... ان الارض وما تحويه قابلة للتغيير، وفي هذه الايام اصبح كل شيء اكثر اقترانا من ذلك.... لقد حولت العامة الصواب إلى الخطأ، والبشر كافة اكثر ميلا إلى فعل الشر من القيام بالخير، واذا ما أتى احد الخير فان ذلك يرجع إلى خوفه منا.

ويبدو ان القاضي الأعلى (الله) قد حكم لصالح الموت، ان المدعي يبكي خسارته كما لو كانت شيئا له، وهو لايدرك اننا قد منحناه اياه، ان اله العهد القديم يتحدث هنا، ويبدو العمل كله استمد وحيه من سفر ايوب، لكن مشكلة الموت تحتل محاولة التصالح مع موت المرء ذاته المكانة الجوهرية(15).

غير انه من الضروري ادراك فيما يتعلق (ببومبوناتنزي) نفسه، فان نزعته الارسطية المتشددة في الفلسفة ليست رده النهائي على مشكلة الموت والبقاء، فهو يعلن في ختام مقالة بعنوان (لمن الخلود) ان خلود النفس هو مشكلة محايدة شأن مشكلة خلود العالم، وان ايا من تأكيده أو نكرانه لايمكن اظهاره من خلال العقل الطبيعي، وفي مؤلفه بعنوان (الدفاع) يقوم بالدفاع عن نفسه ضد الاتهام بالهرطقة.

 

علي محمد اليوسف/الموصل

.......................

(1) تايلور، افلاطون: الرجل واعماله، نيوريورك، 1956، ص183.

(2) من محاورات افلاطون، 1937.

(3 ) جاك شورون، مصدر سابق، ص54.

(4) نفس المصدر السابق بتصرف، ص54.

(5) نفس المصدر السابق بتصرف، ص63.

(6) جاك شورون، مصدر سابق، ص88.

(7) جاك شورون، مصدر سابق، ص92.

(8) نقلا عن جاك شورون/ عن جلبرت موراي – الرواقيون والانسانيون – بوسطن / 1950 ص32.

(9) جلبرت موراي، مصدر سابق، ص33.

(10) جاك شورون، مصدر سابق بتصرف، ص93.

(11) جاك شورون، مصدر سابق بتصرف، ص99.

(12) جاك شورون، مصدر سابق بتصرف، ص101.

(13) نقلا عن جاك شورون، نقلا عن (الفن والحرية) نيويروك، 1942.

(14) جاك شورون، مصدر سابق، ص306.

(15) جاك شورون، مصدر سابق، ص307.