صحيفة المثقف

آيات الجهاديين

قد ينقص من الموضوعيّة الشيء الكثير، عندما يكون الدافع إلى العمل البحثيّ دافعًا شخصيًّا. وأنا لا أكشف سرًّا إذا قلت إنّ الآيات التي اعتمدها الجهاديّون لتبرير اندفاعاتهم، هي نفسها كانت حاضرةً في أدبيات القوميين منذ أواسط القرن الماضي. يذكر ذلك كلّ من كان متابعًا لإذاعة صوت العرب من القاهرة، أو صوت الجماهير من بغداد، أو إذاعة دمشق، أو صوت فتح صوت الثورة الفلسطينية.

قد يحتج بعضهم الآن بقوله إنّ القوميين كانوا في غالبيتهم علمانيين، وما كانوا يستحضرون هذه الآيات إلا لشحذ الهمم. هذا صحيح، ونضيف أيضًا أنهم لم يكونوا طائفيين أو مذهبيين (وسيبقى هذا الكلام صحيحًا ريثما تسنح فرصة لباحث "شجاع" يكشف زيف هذا الادعاء). والمفارقة هنا، أنّ استخدام هذه الآيات في سياق الدعوة والقتال من أجل الدولة الدينيّة، قد نفّر الكثيرين من الإسلام والقرآن والتاريخ. وصرنا نستسهل القول بأنّ الإسلام دين عنفٍ وإرهاب، حتى أن بعضهم، يقول الإسلام دين بدوي قبلي عشائري. وهناك من يقول إنّ الحل لكلّ مآزقنا الحضارية، هو بالقضاء على الإسلام كليًا.

أنا لا أتحدّث عن كتّابٍ فرنسيين أو بريطانيين، بل عرب عرقًا وثقافةً ولغة. ويعتقد بعضهم أنّ العرب كانوا أحرارًا فجاء الإسلام وحرمهم هذه الحرية وسلّط عليهم أممًا وشعوبًا وقبائل مختلفة باسم الإسلام؛ ليحكموهم، ويدبروا شؤونهم، ويغيروا عاداتهم، وأفكارهم، وتصوراتهم عن الكون والإنسان... إلخ.

أشعر بإزاء هذه الأقوال وسواها، أني مسؤول شخصيًا عن درء الثقافة السلبية التي تستهدف البنية الثقافية لمجتمعاتنا العربيّة، أقول شخصيًا ولا أقول وحدي. ربما لم يكن هذا الشعور لينمو لو أن الإسلام الرسمي تولّى الردّ على هؤلاء بشكلٍ علمي؛ فهو يكتفي بتدبيج الخطابات والبيانات التي تنفي العنف والإرهاب عن الإسلام، وتقول بأن القرآن يدعو إلى السلم، وما دفع الجزية إلا لحماية غير المسلمين ووو... هكذا. بصراحة، إنّ الدواعش أكثر إقناعًا وتأثيرًا، لأنهم يعتمدون التفسيرات التي تراكمت من دون أن تتناقض على مدى قرون مديدة. أما الإسلام الرسمي فهو متلعثمٌ على الدوام، ولن أدخل في أسباب تلعثمه لأنّ ذلك موضوعٌ آخر ليس لي أنْ أتناوله بأدواتي العلمية المتاحة الآن.

ما العمل؟

إذًا، تحت تأثير الحاجة الشخصية بدأ التفكير بهذا العمل، وآمل أن لا يقلل هذا الاعتراف من علمية النظر وموضوعيته في هذه الأوراق. وذاك أن من شروط الموضوعية الأولى شرط الحيادية، وهذا ليس ممكنًا بالنسبة إليَّ؛ فالإسلام مكوّن أساسٌ من مكوناتي ولا أستطيع تحييده ولا ينبغي لي، إلا أني مؤمنٌ بأن الإسلام شيء والتاريخ الإسلامي شيء آخر، ومؤمنٌ أيضًا أنّ الإسلام البشريّ الذي اقتضته الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تتحدى الناس في تلك الأزمان شيء، والإسلام القرآني شيء آخر، ومؤمن أيضًا أنّ التفسيرات البشرية الموروثة للآيات القرآنية كانت تحت تأثير واقع سياسي وحضاري غير الواقع السياسي والحضاري اليوم، ومؤمنٌ أيضًا وأيضًا أنّ الرسول - عليه السلام - كان يطبق القرآن الكريم في واقعه، وهذا الواقع لم يعد موجودًا فلا ينبغي استِنانُ سلوكه في القرن الحادي والعشرين.

هل يقلل من الموضوعية عدم الحيادية في معاينة النصوص؟ فأنا عربي مسلم أتطلع إلى بناء عربيّ حضاري متماسك ومتنوع عرقًا وثقافة، ويسعى لأن يكون فاعلًا من موقعٍ إيجابيّ في بناء الحضارة الإنسانية، باسترداد إنسانيتها المستترة وراء شهوة الدماء والدمار عند قادتها؛ أنا أعمل تحت ضغط الحاجة إلى فهم إسلامي جديد مغاير لكلّ الفهوم السائدة. أتعامل مع النص القرآني على أنه يستهدفني في توصيل رسالته، وبالتالي لا يكون عدلًا أن ألجأ إلى القرون الخوالي كي أفهم هذه الرسالة، مع أنه يستخدم لغتي وأساليب القول فيها، ونُظُمها البيانية والمجازيّة والنحوية والصرفية.

وجدت أن حجة الدعاة إلى العنف تقوم على مبدأ أساسٍ هو طاعة الرسول وأولي الأمر، وهذا يجعل لهم سلطةً بلا منازع، فتساءَلتُ "كيف يمكن للقرآن الكريم، أن يأخذَ على العرب اتّباعَهم ما ألفَوا عليه آباءهم دون تبصرٍ منهم فيما لو كان هؤلاء الآباء يعقلون أو لا يعقلون، يهتدون أو لا يهتدون! وفي الوقت نفسه، يؤسَّس لاتباعيّةٍ يكون فيها الآباءُ الرسولَ وصحبَه وآلَ بيته والتابعين وتابعي التابعين"؟ الأمر الذي دعاني إلى تناول الآيات التي تطلب الطاعة والاتباع ودرستها في سياقها النصيّ بعيدًا من أسباب النزول وآراء المفسرين والفقهاء وسواهم، دراسةً أسلوبيةً دلاليةً نحويةً صرفيةً وبلاغيةً، بهدف الوقوف على اليقين الممكن من هذه الآيات.

كما أني سمعت أحد قادة* تنظيم الدولة الإسلامية يقول: "... ومن زعم أن تغيير المنكر، وإحقاق الحق، ورفع الظلم، يكون بالدعوة السلمية بلا قتال ولا دماء؛ فقد زعم أنه أعلم وأَرْأَف من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن هدْيَهُ أفضل من هدْيهِ، حاشاه صلى الله عليه وسلم. ومن زعم أن دين الله يقوم بالدعوات السلمية؛ فقد ضرب بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عرض الحائط واتبع هواه". وبإزاء هذا القول كانت لديّ إشكاليتان عبرت عنهما بالقول: "هل الإسلامُ حقيقةً دين السيف والإكراه؟ هل الشرك والكفر والمغايرة سبب للقتل"؟ ورأيت أن العدناني وسواه قد اعتمدوا آياتٍ كثيرةً تبرر ما ذهبوا فيه، ومن أبرز هذه الآيات ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ* وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ*فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[1] عمدت إلى هذه الآيات أتناولها بالتحليل والتعليل والقراءة الأسلوبية والدلالية والصرفية والنحوية. بهدف استجلاء الموقف.

إلى ذلك، وقفت على آيتين كريمتين يحتجّ بهما السلفيون الجهاديون لتبرير عنفهم والجزية ضد أبناء قومهم لاختلاف اعتقادهم ليس إلا، وهما آيتان بالاستناد إلى الفهوم السابقة والتفسيرات المعتمدة، والروايات والأحاديث المصححة وفق أصول التصحيح السنّي تشكلان إحراجًا لكل من يؤمن بشرعة حقوق الإنسان وحق كل إنسان باعتناق الدين الذي يريد، وباللادينية. وهاتان الآيتان هما: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَ-ٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[2] ،﴿قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[3]. تناولتهما بالتحليل والتعليل والتأويل لأستنتج ما أستنتج.

واستوقفني أيضًا في خطاب هؤلاء الجهاديين الدمويين اعتمادهم القرآن الكريم مرجعيةً لهم في تحديد الموقف من السلم والحرب، وحجةً لقتل المرتد، ووجدت أنّ اعتمادهم هذا له جذوره الضاربة في التفسيرات السالفة، ما يشكل مناقضة صريحةً للآية الكريمة التي لا تقول "لا إكراه في الدين" فصار لزامًا عليّ معاينة هذه الآيات واستنباط دلالاتها التي تشي بها حقيقةً وهي الآية 208 من سورة البقرة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[4] والآية 216 من السورة نفسها ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[5]. لنتبيّن الموقف الذي تدل عليه هذه المركّبات اللغويّة في سياقها النصي، خاصةً أن المفسرين والفقهاء قد وقفوا عند الفعل المبني للمفعول "كُتِب" على أنه "فُرِض"، وهذا تعسف كبيرٌ بحق الصيغة الصرفية وبحق المعنى الدلاليّ للفعل كتب. ورأيت أن الآية التالية فيها الكثير من الإشارات التي أهملها المشتغلون بعلم المناسبة وهي الآية 217 ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[6].

أما المنهج المعتمد في هذه الأعمال عمومًا، فهو المنهج التحليلي الوصفي الذي يتوسل الأسلوبية والسياقية الدلالية، معتمدًا بالدرجة الأولى على التحليل النحوي والصرفي والبياني. وقد استبعدت المواقف المسبقة والقراءات السالفة، وذاك لأننا نعدّ هذه المنهجية من شأنها المساعدة في فتح مغاليق النصوص لكثرة ما تحفز على طرح الأسئلة، فكانت وسيلتي الفضلى في تحقيق أهدافي.

وبالنسبة إلى المصادر والمراجع بعد القرآن الكريم، كانت المعاجم وأمّهات كتب النحو والصرف هي المستندات الثقات، إضافةً إلى بعض كتب البيان وفلسفة اللغة التي أسعفتني كثيرًا في تعقّب المعاني والوقوف على الممكن منها.

وهناك مراجع كان لا بدّ لي من الاطّلاع عليها وإن لم آخذ منها شيئًا، كمثل كتب التفاسير الشهيرة عند السنة والشيعة والأباضية والمتصوفة، وما ورد منها في المتن سيرد ذكره في مسرد المصادر والمراجع.

وقد قسمت عملي إلى أربعة أقسام وخاتمة هي على التوالي:

أولًا: الاتباعية بين القرآن الكريم والسنة

ثانيًا: آية السيف أم آية الرحمة

ثالثًا: العلاقة مع المشركين ومع أهل الكتاب

رابعًا: السلم والقتال والردّة في القرآن الكريم

ونختتم بخلاصة عامة نقف فيها على أبرز ما توصلنا إليه في عملنا هذا لعلنا نضع بين أيدي القراء والمهتمّين ما يعود بالفائدة لجهة تغيير المناهج المعتمدة في تناول النصوص المقدّسة وخاصةً النصوص المؤسِّسَة.

 

د. سعد كموني

 .................

* طه صبحي فلاحة، المعروف بأبي محمد العدناني، الناطق الرسمي السابق باسم تنظيم الدولة الإسلامية، ولد في سورية سنة 1977م. وقتل في العراق في 30/ 8/ 2016م.

[1] القرآن الكريم، التوبة، 9: 1،2،3،4،5 .

[2] م.ن، السورة نفسها، الآية 28.

[3] م.ن.السورة نفسها، الآية 29.

[4] القرآن الكريم، البقرة، 2: 208.

[5] القرآن الكريم، البقرة، 2: 216.

[6] القرآن الكريم، البقرة، 2: 217.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم