الرئيسية

العالم السفلي عند السومريين والبابليين

ali mohamadalyousifعالم الآثار الجليل صموئيل نوح كرايمر الذي يدين العراقيون له بالكثير لفضائله في اكتشاف كنوز مرتكزات آثارهم وأساطيرهم  وطقوسهم الثقافية القديمة المخبأة تحت الأرض، وبالتأكيد سيتذكرونه بكرمهم المعروف في المستقبل، اكتشف "رقَمْاً" جديدة أعطت تفسيراً جديداً منطقياً، لسجن الإله تموز، وهبوط آلهة الخصب السومرية أنانا – والبابلية عشتار إلى العالم السفلي لإنقاذهِ، حيث أكدتْ هذه الرُقم التي كتبتْ في عام 1750 ق.م، على أن تسليمها حبيبها الإله (ديموزي – تموز) إلى شياطين العالم الأسفل في فورة غضب، ولكن سبب نزولها إلى هناك قبل ذلك لم يفسر بشكل مقنع (1).

وحسب ما يذهب له د. فاضل سوداني، أننا نفهم من هذه الرُقُمْ، بأن تحدي (أنانا) لقوانين الظلام والعالم السفلي والموت، كان نتيجة لنزوة من الاعتداد والغرور والقوة والامتلاك وجشع السيطرة التي هي من سمات سيدة البلاد الأولى الآلهة (إنانا)، بالإضافة إلى أن فكرة التضحية والفداء كانت شائعة في ديانات الشرق القديم عموماً والشرق الأدنى بخاصة. فمن أجل أن يتم الخصب لابد من قربان وتضحية، ولابد أن تكون هذه التضحية عظيمة ومقدسة، لهذا فأن نزول الآلهة السومرية إنانا إلى العالم السفلي يعني غياب قوّة الاخصاب الكونية عن الحياة (2). إذن إنانا ذاقت طعم الموت من أجل الحبيب الإله ديموزي (تموز) الإنسان ومن أجل خصب الطبيعة، وكان لابد من نزول إله إلى عالم الأموات.

كما يشيد صموئيل نوح كرايمر في كتابه القيّم (طقوس الجنس المقدس عند السومريين) عرض د. فاضل سوداني أن الآلهة إنانا اعتزمت النزول إلى العالم السفلي، إلى بيت الأموات بسبب عدم قناعتها في أن تكون ملكة الأعلى العظيم فقط، وإنما بسبب رغبتها في أن تستولي على الأسفل العظيم أيضاً، لذلك فإنها تزّينت بشارات سلطانها وامتيازاتها المقدسة وعزمت على النزول إلى بلاد "اللاعودة".

وبما أنها تعلم مسبقاً بكونها ستخرق قوانين مثل هذا العالم الذي لا عودة منهُ، وأن أختها (أرشكيجال) ملكة العالم السفلي وعدوتها اللدودة سوف لن تغفر لـ "إنانا" جرأتها في هذا النزول والاختراق، أرسلت وزيرها وطلبت منه في حال عدم عودتها من العالم السفلي بعد ثلاثة أيام عليه أن يستجدي عطف "إنليل" في أور، وعطف "أنكي" في أريدو (3). للوقوف إلى جانبها ومساعدتها.

وتبدأ إنانا رحلتها بصرخة مدوّية جريئة بوجه "ناتي" بواب عالم الموت أن يفتح لها، فيتشاور البواب مع سيدته آلهة العالم السفلي أختها أرشكيجال، فتعتزم الأخيرة على الانتقام، وتشير إلى بوّابها بالسماح لـ "إنانا" الدخول من الأبواب السبعة لعالم الموتى. ومن الوصف المعبِّر للشاعر السومري القديم، نعرف بأن إنانا تفقد شاراتها وسلطاتها واحدة إثرَ أُخرى من دون أن تكون قادرة على الاعتراض أو الرفض لأن نواميس العالم السفلي تحكم بذلك، ويصف ذلك الشاعر بأبياته:

لدى ولوجها البوابة الأولى "الشوجرا"

يُنزع عنها تاج السهل

رحماك ما هذا؟

صمتاً إنانا

نواميس العالم السفلي

نواميس كاملة

لا تجادلي إنانا بمراسيم العالم السفلي

لدى ولوجها البوابة الثانية

صولجان القياس وأحجار اللازورد

نزعت عنها

ويستمر الشاعر في تقديم هذا المشهد المكثف بلغة رمزية لها دلالاتها المعبّرة، لغة شرطية لا تحتمل التفصيلات الفائضة، من خلالها نفهم أن إنانا تفقد جميع شاراتها الألوهية حتى تصبح عاجزة عن فعل أي شيء أمام ملكة الأسفل العظيم:

(انحنتْ خفيضة

جيء بها عارية أمام أختها أرشجيكال) (4)

ويمضي الشاعر في وصف حال إنانا في العالم السفلي قائلاً:

أرشجيكال المقدسة اعتلتْ سدة العرش

الانوناكي القضاة السبعة

نطقوا الحكم أمامها

سلطت عينيها، عيني الموت

نطقت الكلمة بحقّها، حكمة الغضب

صدرتْ عنها الصيحة بوجهها

صيحة الأدانة

ضربتها، أحالتها جثة هامدة

الجثة علقت بمسمار

وهذا يدلل رمزياً على أن الإنسان ينتقل من الحياة عارياً إلى عالم الموت مستسلماً، تاركاً وراءه خداعه ومكره وطمعه ووحشيته وحقده وحسده وتبجحه (5).

وينتخي الإله "أنكي" ويقرر مساعدة انانا في العالم السفلي، بأن يخلق مخلوقين يتناسبان مع العالم السفلي، ويعلمهما حيلة لإنقاذها من الموت قائلاً: أحدكما يرش لها طعام الحياة، والآخر ماء الحياة، إنانا سوف تقوم.

وتنفّذ الخطة، وتعود إنانا للحياة بصحبة حرس العالم السفلي شياطين (الجلاد) الذين يعودون معها إلى عالم الأرض للإتيان بالبديل عنها، وفي الأرض بعد خروجها من عالم الأموات تجد إنانا، هناك زوجها وحبيبها الإله "دموزي، تموز" مرتدياً فاخر الثياب، جالساً على عرشه يتلّهى بإقامته احتفالاً كبيراً كما يليق بإله، غير مبالٍ ولا آبه لفراق حبيبته أو الحزن عليها، وهو ما أغضب إنانا فسلطتْ عليه عينيها، عيني الموت، ونطقتْ الكلمة بحقه كلمة الغضب، وبدون ضجّة، أسلمته إلى شياطين العالم السفلي (الجلاد) ليأخذوه كبديل إلى عالم الأموات، وأطلقت بوجهه صرخة الألم والغصب(6) (أما هذا فخذوه).

وعندما قادوا الإله "ديموزي" إلى العالم السفلي فإن أحد أركان الخصب جفّ ومات، وبالتأكيد فإن هذا سيؤدي إلى جفاف الحياة، وسيربك القانون الأبدي للطبيعة والبشر، ولأهمية هذا الأمر يعتبر موت وقيامة الإله تموز (ديموزي) أحد الطقوس التراجيدية المهمة بسماته الأسطورية والطقوسية والفلسفية، فامتلأت الميثولوجيا والآداب السومرية والبابلية بمناحات وأساطير وملاحم وطقوس تعزية خاصة بمآسي آلهة الخصب الشهيرة هذه وغيابها عن الحياة ومن قيامتها من جديد ويعتبر كل هذا وحتى وقتنا الحاضر من أرقى وأغنى ما كتب في ميثولوجيا شعوب وادي الرافدين بل العالم أجمع نتيجة تقدمها في التاريخ البشري (7).

لكن الآلهة عشتار، الامتداد البابلي للآلهة السومرية إنانا، أرادت أن تكّفر وتتلافى خطأها حيث بدون الإله تموز لا يتم أي إخصاب بمختلف أشكاله سواءٌ في الطبيعة أو لدى الإنسان، مما دفعها للهبوط إلى العالم السفلي للبحث عنهُ وتحمّل المآسي والصعوبات التي رافقت رحلتها، وتعبيراً عن ضرورة الخصب في الكون، مارس شعب وادي الرافدين الحزن الجماعي على ديموزي السومري – تموز البابلي ومشاركته الآلهة إنانا – عشتار في مصابها فقدان حبيبها نصفها الآخر (8).

ولما كان هذا الطقس الحزين، هو نقيض المراسيم والأعياد وإخراج الزواج، وعندما سلمت الآلهة إنانا السومرية الإله ديموزي كبديل لها لشياطين العالم السفلي، فإن الآلهة عشتار في النسخة البابلية للأسطورة هي التي هبطت إلى العالم السفلي من جديد من أجل إنقاذهِ ومن أجل أن تستمر الحياة، ويعد هذا العمل والإنقاذ هو بعث الحياة في الطبيعة وكل ما يمت بعلاقة مع الإنسان.

وقد بدأت مأساة الإله ديموزي حيث وقع في قبضة شياطين العالم السفلي واقتادتهُ لعالم الأموات الذي لا يرحم، وهذه الشياطين مخلوقات لا تعرف الرحمة وتقتات على الطين.

وتنفيذاً لتطبيق نواميس العالم السفلي قاموا بشد وثاقه في الحال، وعذّبوه تمهيداً لإنزاله في جحيم الموت، وبعد توسلاته جميع الآلهة أن يرحموه ويساعدوه وتوسلاته إلى صهره إله الشمس:

"ايه اوتو، أنا صديقك

أنا الفتى الذي تعرفهُ/اتخذتُ أختك زوجةً

استبدلتني لأكون عوضاً عنها في العالم السفلي،

لا تدعني أموت/ ايه اوتو، أنت القاضي العادل

لا تدعني أموت/غيّر يدي، بدّل صوتي/ دعني

أفلت من شياطيني، فلا يمسكوا بي/ مثل حيّة ساجال سوف اجتاز مروج الروابي/

سوف أنقل روحي إلى بيت أختي، جشت نانا (9).

ويستجيب إلهُ الشمس اوتو لإنقاذه، ويحوّلهُ إلى ثعبان يختفي في الحقول، الإله المنفي تموز مطارداً، بدون سقف يحميه، أو ملاذاً يأويه، ما من مكان يحتمي فيه، منفي مطارد وحيد، وهو لا يملك سوى جذوة روحه أنه هذا الإله المنفي سيد البلاد المعذّب.

وينقل الشاعر السومري حسب الأسطورة أن ديموزي رأى في نومه كابوساً مخيفاً، له دلالات رمزية، فقد رأى (الأسل) يتكاثف من حولهِ فقط، هناك حزمة من القصب تحني رأسها أمامهُ، وعلى مثواه المقدّس لا يسكب ماء، وطاسة اللبن المقدّسة المعلقة إلى وتد تسقط وتنكسر، وعصا الراعي دموزي تختفي وبازاً يمسك حملاً ببراثينهِ (10).

وعندما تبدأ (جشتي نانا) أخته بتأويل وتفسير حلمُ أخيها ديموزي، يكون التأويل أكثر رعباً وفزعاً وتراجيدياً من الحلم ذاته، حيث تنبئه بأن الأسل الذي يلتف حول عنقه، يرمز لسفاحين سينقضون عليه والأشرار سيرعبونه، وحضيرة الغنم ستغدو خراباً .. وهكذا، مما يجعله يؤثر الاختباء في مكان لا يعلمهُ سوى أخته، وبعد علمه بتعذيبهم لأخته يشعر بالذنب لما سببه لأخته من أذى، مردداً: إن اختبأت في المدن أكون جلبت النهاية لأختي!! فيسمح لمطارديه أن يمسكوا به بطريقة ما، وهو مختبئ في حضيرته في الصحراء، ويعذبونه من أجل أن يرسلوه إلى عالم الموت الأبدي، وبهذا يتحقق كابوسه وحلمهُ.

لكن أخته (جشت نانا) تفتديه بنفسها، وتعرض على شياطين العالم السفلي أن تحل محل أخيها في عالم اللاعودة وتكون البديل عنهُ. فيحكمون على دموزي عقاباً له على هروبه، بأن يقيم نصف سنة في عالم الأموات، وتأخذ أخته محلهُ في عالم اللاعودة (الموت) كبديل عنهُ النصف الثاني من السنة، وعند موت ديموزي في نصف العام يعم الجفاف الكون، ويمتلئ قلب عشتار حزناً على غياب حبيبها، فتصاب بالندم كونها السبب في تسليم ديموزي لشياطين العالم السفلي، وبالتالي فهي المسؤولة عن الخراب والجفاف الذي يعم مدينتها، فيبدأ شعب وادي الرافدين ممارسة الطقوس الحزينة مع آلهته إنانا – عشتار، وفي النسخة البابلية يبدأ أيضاً طقس الندم الجمعي وتقود الآلهة عشتار نواحاتها على الإله تموز، وتهبط إلى العالم السفلي لإنقاذه مرة أخرى حتى تتم قيامته من جديد، عندها يبدأ الخصب في الربيع والصيف بعد الموت والجفاف، وهكذا تبدأ دورة الحياة، وتقام في وادي الرافدين الاحتفالات بعودة الإله تموز من أسره في عالم الأموات العالم السفلي.

علي محمد اليوسف/الموصل

........................

(1) د. فاضل سوداني/مجلة الثقافة الجديدة ع 340-341/2010 ص190.

(2) المصدر السابق، نفس الصفحة.

(3) المصدر السابق ص191.

(4) المصدر السابق ص192.

(5) المصدر السابق ص192.

(6) المصدر السابق ص192-193.

(7) المصدر السابق ص193.

(8) المصدر السابق نفس الصفحة.

(9) المصدر السابق ص194.

(10) المصدر السابق نفس الصفحة.