الرئيسية

مباغتة التّجلّي يفضي إلى الارتباك اللّغويّ.. قراءة في "تجلّيات" للشّاعر الجزائريّ عبد الرحمن سالت

madona askarتجلّيات

وجهتي...

بوصلة الوقت

غربتي صهد أنثى

على عتبات القلب

ترعف الحروف

تباغتني اللّغة

هي وحدها...

من أذنت بالمتاهات

النّساء اللّائي جئن

من حمحمات الرّوح

من ضلع الخطيئة

يتأوّهن بالشّبق

2

متاهة

للبحر..

جهات أربع

أبحرت لكن...

نوافذ القلب مقفلة

سرّ الحكاية... أنثى

غيمة... ووطن ممتدّ

3

وشاية

نقتفي أثر الرّمل

لعلّ أثر أقدامكم ليس..

اعترافا أخيرْ

4

اعتراف

القلب...

الّذي ينبض وشاية

.. محبّين

عقرب الوقت يمرّ...

موعدنا..

ربع السّاعة الأخير

5

شظايا

خلف تقاسيم وجهك

أقرأ المستحيل

رجل أتعبه السّفر

لكنّ أنثاه ليست

بالمستحيل

- القراءة:

التّجلّي، الظّهور والانكشاف المفعم بالرّؤى واستحضار عالم الغيب، أو بمعنى أدقّ عالم الألوهة، الّذي يتخطّى الزّمان والمكان، ولا يمكن الإحاطة به إلّا جماليّاً. فنتلمّس حضور الجمال ونعاينه بما هو أبعد من الحسّ. وتجلّي عالم الألوهة أيْ الحضور الإلهيّ المستبين للإنسان في حالة رؤيويّة خاصّة ينير العقل ويحرّر النّفس والرّوح. فيتاح المجال للإنسان أن يصغي إلى أعماقه ويعبّر عن كينونته. وقد يأخذ التّجلّي منحىً آخر شعريّاً فيكون مصدراً لصياغة القصيدة على ضوء هذا الصّوت الدّاخليّ الكامن في أعماق الشّاعر. فتأتي القصيدة صدىً لهذا الصّوت، يصغي له الشّاعر فيكتب. وإلّا أتت القصيدة على شكل تركيب لغويّ أو صياغات تعبيريّة انفعاليّة لا تمتّ للتّجلّي بأيّة صلة.

إذا أدرك الشّاعر أنّه في حضرة تجلٍّ خاصّ غاب عن اللّغة حتّى تتجلّى القصيدة، وإن لم يدرك ذلك نأت القصيدة عن منبع الشّعر بل انتفى معناها. ولا بدّ أن ترتبط القصيدة بعنوانها لتكشف تدريجيّاً للقارئ هذا التّجلّي، فيرتحل مع الشّاعر خطوةً وخطوة ويتوغّل في عالمه، وينغمس في الوحي الشّعريّ حدّ الثّمالة.

بين العنوان "تجليّات" والمقاطع الخمسة الّتي أرادها الشّاعر "عبد الرّحمن سالت" بعدٌ نسبيّ يدفع القارئ للبحث عن تلمّس هذا التّجلّي دون بلوغه، حتّى وإن كان الشّاعر قد استدعى لحظات التّكوين الأولى والسّقطة الأولى، باستخدامه عبارة (ضلع الخطيئة). إلّا أنّه تباعد عن تلك اللّحظة ليجعل القصيدة خارجها. فالتّعابير الّتي اعتمدها الشّاعر أبعد ما يكون عن التّجلّي؛ لأنّها مرتبطة بالزّمان والمكان. (بوصلة الوقت/ المتاهات / للبحر جهات أربع...) ولعلّ رمزيّة الجهات الأربع الدّالّة على أربع أقطار الأرض تحدّ من التّجلّي واستبانة الرّوح الشعريّة؛ فالجهات الأربع تحدّ البحر الّذي لا يحدّ، ما يقودنا إلى حرّيّة مفقودة. كما يلحظ القارئ الجوّ القاتم المسيطر على تلك المقاطع في حين أنّ التّجلّي نور يتفجّر من قلب الشّاعر ليغمر القارئ، فتنطلق القصيدة من علوّها لتتدفّق دفعة واحدة في قلب القارئ.

ما لا نلحظه في "تجليّات" ثمّة ظلمة تحتجب بين السّطور لتخلق هوّة بين العنوان والنّصّ (حمحمات الرّوح/ ضلع الخطيئة/ نوافذ القلب مقفلة)، ما يجعل التّجلّيات ملتبسة المعنى، خاصّة أنّنا أمام خمسة مقاطع قد يرمز عددها إلى النّقص، أي إلى عدم اكتمال القصيدة. خاصّة أنّ الشّاعر يرنو إلى المستحيل حتّى وإن أنقذ قصيدته في السّطور الختاميّة:

خلف تقاسيم وجهك

أقرأ المستحيل

رجل أتعبه السّفر

لكنّ أنثاه ليست

بالمستحيل.

استناداً إلى الدّلالات اللّفظيّة (وجهتي/ متاهة/ وشاية/ اعتراف/ شظايا) يُهيّأ للقارئ وكأنّ الشّاعر في متاهة واقعيّة ظاهريّاً وداخليّاً تتّسم بالاندفاع نحو الرّغبة، أو البحث عنها في أنثى محدّدة. واللّافت أنّ الشّاعر لا يتحدّث عن المرأة وإنّما عن الأنثى. فإذا كان الحديث عن تجلٍّ فالأجدر أن تتّجه اللّغة نحو المرأة ككائن كونيّ، لا إلى الأنثى كصفة بشريّة محدّدة. وإذا استخدم الشّاعر لفظ "الأنثى" فليعبّر عن واقع جسديّ ماديّ بمنأى عن الكينونة الإٌنسانيّة (غربتي صهد أنثى/

النّساء اللّائي جئن

من حمحمات الرّوح

من ضلع الخطيئة

يتأوّهن بالشّبق)

وإذا كان الشّاعر يفصل أنثاه عن باقي النّساء، فلأنّه لم يلقَ حضورها التّام، وما زال في طور بحث متعب عنها، دلّ عليه ارتحاله المستمرّ (رجل أتعبه السّفر).

بين قتامة الرّوح، ومتاهات الشّاعر، والقلب المقفل، والارتباك الضّمنيّ الّذي ظهر في مطلع النّصوص (تباغتني اللّغة/ هي وحدها.../ من أذنت بالمتاهات) تكمن حيرة ما، عكست معنى هذه العبارات. فبدل أن تباغته اللّغة، لأنّها عجزت عن إيصال صدى أعماقه، باغتته لتخلص به إلى التّيه.

 

مادونا عسكر/ لبنان