الرئيسية

تساؤل في مستقبل الفلسفة

ali mohamadalyousif1. هل للفلسفة مستقبل؟: الفلسفة ضرب من ضروب المعرفة البشرية، او مايطلق عليه الانساق الفلسفية الفكرية التي عنت بالوجود الانساني كموجود في الطبيعة وعلاقته بها وبالكوني والآخر والمجهول والميتافيزيقيا. هذا على الاقل السائد في تأكيد ان الفلسفة لم تكن (علما طبيعيا) يوما ما وليس بمقدورها مستقبلا، وانما هي تبقى نسق لغوي منطقي متعالي نخبوي. وقد تداخلت الفلسفة من جهتها، والعلم الانساني غير التجريبي الطبيعي من جهته مع كل ضروب وانساق المعرفة البشرية الاخرى، فأخذنا ندرس علم الانثروبولوجيا، وفلسفة الانثروبولوجيا، ومثل ذلك علم وفلسفة الدين وفلسفة وعلم التاريخ وكذا مع الاجتماع والنفس وهكذا بما لايحضرنا حصره.علما ان صفة العلم الملتصقة بهذه الضروب المعرفية والانساق الفكرية هي غيرها علمية علوم التجريب المخبرية والرياضية الطبيعية، العلوم الطبيعية التي تحكمها رياضيات التفكير والمعادلات التي تنسحب على التجربة العلمية في اثبات واقعية وعقلانية صحة الافكار او النظريات من عدمها اوضحالتها وعدم الاخذ بها.امثلة ذلك ان المعادلات في الرياضيات والفلك والفبزياء والكيمياء والطب والهندسة وغيرها في العلوم الطبيعية ليست فلسفة.

2. ذاتية النسق الفلسفي:

ثمة جملة مواصفات طبعت التفكير الفلسفي الانساني منذ عصور ما قبل التاريخ الميلادي اليوناني القديم، وصولا الى مابعد الميلاد بمجيء سقراط وافلاطون وارسطو و فلاسفة عديدين غيرهم يتمايزون بالاهمية في تاريخ الفلسفة.

اهم تلك الصفات ان النص الفلسفي (بنية) انشائية (ذاتية) وليست موضوعا مستقلا، بمعنى انها خاصية انسانية فكرية وجهد ابداعي منفرد لمؤلف، وان الفلسفة تلتقي كثيرا مع فكرة انها شكل من اشكال التعبير الثقافي او حتى الادبي - الفني. وذاتية المعرفة الفلسفية تلتقي بضروب الفكرالابداعي اللغوي الاخرى، وتتشابه معها من حيث مصدر الخلق والمنشأ، كما هي في النص الاسطوري او الميثولوجي او القصص الديني اوالسرد التاريخي او الادبي والفني.فهذه جميعها انتاجية ابداعية (ذاتية) تنسب لمؤلفها او منشئها، وبهذا المعنى يكون النص الفلسفي بنية معرفية فكرية انسانية، مولّدة للافكار الشارحة والناقدة والمضيفة. شأنها شأن اي نص ابداعي كتب ويكتب في مجالات السرد المعرفي والجمالي والثقافي الخاضع لسلطة التناول النقدي الشارح والتفسير والتأويل. من هنا تكون البنية الفلسفية الانشائية تمتلك ذاتيتها (الآنية) في تناولها وتداولها الحاضروالماضي. بمعنى ان جميع المحاولات والمعالجات الفلسفية حاضرا لم ولن يكن بمقدورها اوبمستطاعها دفع الفعالية الفلسفية ان تشكل لها حضورا مستقبليا دائما كحقائق فكرية لا يمكن دحضها وتفنيدها. او حقائق تمتلك حيوية التواجد عبر العصوركفعالية دائمة التأثير حاضرا وفي المستقبل. مؤلفات فلسفية هامة شغلت التفكير الفلسفي طويلا لم يعد لها اي حضور او اهتمام في الوقت الحاضر. ومن الطبيعي جدا ان تتجه الفلسفة المعاصرة دوما في محاولتها سحب التفلسف الماضوي الى رقعة الحاضر والاعتياش على تفسيره بنوع من التكرار والاجترار والاعادة باكثر مما يحتمل (النص) ، الذي يحكمه منحيين، :

منحى احتفاظ النص الفلسفي بحيوية الماضي و نقد الحاضروليس حضور المستقبل فيه، وان ما تسحبه الفلسفة اليوم وتناقشه على انه مفاهيم فلسفية من الماضي هو في حقيقة الامر يمثل (مستقبلا) للنص الفلسفي نتداوله حاضرا فقط. والمنحى الثاني ان النص الفلسفي مكتف (بذاتيته ) التي لا تصلح ان تكون تفسيرا لعالم متغير بوتيرة عالية سريعة جدا، يقودها العلم بجدارة واستحقاق لا ينازعه احد تلك السلطة، تلكم هي تطورات العلوم الطبيعية في كل مجالات الحياة الطب والذرة والتكنولوجيا والهندسة الوراثية والفلك وهكذا.

3. نخبوية التفلسف:

هل ننساق مع الآراء التي تذهب ان التفلسف قيمة مفارقة، وان الفلسفة انفصلت منذ نشأتها عن الحياة الواقعية التي تسير الامور بها (علميا) في غير ما حاجة الى الفلسفة، وان الفلسفة لم يعد لها ذلك التأثير والاهتمام في حياة اليوم وتشكيل ملامح العصر؟! وان ما قيل في الفلسفة عن الانسان والوجود والماهية والجوهر والموت، .والظواهر الطبيعية المؤثرة والفاعلة في ذلك الوجود استنفدت نفسها ولا مجال في مكابرتها ومزاحمتها العلم الطبيعي التجريبي، وان ما استهلكته الفلسفة مفهوميا عن الوجود والماهية والحياة والانسان لم يعد يشكل اهتماما في عالم المعاصرة والحداثة وما بعد الحداثة الفكرية والمعرفية وفي عصر العولمة، مقارنة و قياسا مع اي منجز علمي نقل البشرية طفرات نوعية مطردة ونامية متطورة على الدوام متجددة بالافعال وليس بالافكار المجردة في تفسيرها الواقع كما تفعل الفلسفة.

اذا توخينا الدقّة اكثرفأن الفلسفة كضرب معرفي نخبوي، لم يعد يلق اهتماما سوى في المنتديات و الصالونات والمؤسسات الثقافية التخصصية ومراكز الابحاث والمجلات المنعزلة في غالبيتها تماما عن مؤثرات المسار الحيوي الحضاري العصري وانعدام قدرة الفلسفة الاسهام بصنعه، ونخبوية البحوث الفلسفية تلتقي مع الانسانيات البحثية التي لم تعد لها اهمية اكثر من اهتمامات صالونات مغلقة ومؤسسات جامعية تمنح وتصدّر شهادات واطاريح دراسية اكاديمية لا تغني ولا تسمن من جوع واكثرها قيمة دالة لها هي في اضفاء المكانة التدريسية للاستاذ.واغلب تلك الاطاريح والدراسات لا قيمة لها في دراسة هذا الفيلسوف او ذاك، في جنبة او اكثرلا مجال الاضافة لها، استنفدت نفسها وكذا الحال في الدراسات الادبية والتاريخية والتراثية في تراكمها الكمي الذي تختزنه المكتبات والارشفة المتحفية، ولا يمتلك قيمة علمية في حياة المجتمع، او اية اسهامة في تغييره.ويجري التمويل من المؤسسات الجامعية ومراكز البحوث.

نخبوية التفلسف والمفاهيم الفلسفية خلال ما يزيد على الفي عام واكثر، بقيت السمة الذاتية تحسب للفلسفة على انها افكار متعالية على الفهم والاستيعاب الجمعي، لكن المفارقة اليوم هي ان تلك النخبوية المتعالية اصبحت مثلبة في تعطيلها الاستيعاب الجمعي والتوظيف العملاني في تقدم الحياة.بخلاف ماتنجزه العلوم الطبيعية في تقدم الانسان المعاصر والتقليل من معاناته وتذليل صعوبات الحياة امامه.

4. بين الفلسفة والعلم:

من الملاحظ جيدا ان جميع ضروب المعارف الانسانية او مايطلق عليها للتفخيم العلوم الانسانية، بضمنها الفلسفة وانساق الفكرالمعرفي المجردة الاخرى، تلجأ الى نوع من التعاضد الانتشالي المسعف احدهما للآخر، سواء بالتبعية او الانضمام اوالتمازج بين بعضها البعض في الاشتراك بمعالجة قضية او اكثر.فاخذت الفلسفة تزاحم ما يطلق عليه (علوم) الانسانيات والمنهجيات، في دراسة التاريخ او الاجتماع اوالسياسة بما يسمي اليوم الفلسفة السياسية، او فلسفة او علم الاقتصاد او فلسفة او علم التاريخ (لاحظ التداخل بين كلمة فلسفة وكلمة علم) ، وهكذا مع الهوية الثقافية، وفلسفة وعلوم الاديان الى آخر القائمة من امثلة التداخل التوظيفي والدراسي على صعيد المنجز الاكاديمي المعرفي الصرف. (فلسفة اوعلم كمنهج في اعادة دراسة ضرب معرفي او اكثر) .

هذا التداخل التوظيفي بين الفلسفة وعلوم الانسانيات، هو بخلاف ما تحضره العلوم الطبيعية على نفسها وترفضه، كفيل بافقاد الفلسفة اية قدرة على النزوع المستقبلي وفي ادامة حياتها المعاصرة، بفاعلية التأثيرفي ان تكون لها فعالية فلسفية مستقبلية مكتسبة تشير الى حضورها الحيوي الدائم في مصنع الحيوية البشرية التي يتسيّدها ويقودها العلم التطبيقي التجريبي الطبيعي منفردا ومتقدما كل ضروب المعرفة الاخرى واهتماماتها.

بهذا الفهم الذي المحنا له، هل يحق لنا الجزم ان مفاهيم الفلسفة العظيمة، انتهت مكتفية بذاتها على ايدي عظام الفلاسفة هيراقليطس، سقراط، افلاطون، ارسطو، ديكارت، نيتشة، هيدجر، وسارتر، وآخرين؟! في تناولهم الوجود الانساني فلسفيا من كافة جوانبه واشكالياته التي استولدت شروحات واضافات تراكمية ونوعية على مدار عصور طويلة من التناول والتداول المعرفي.وحتى مفاهيم الميتافيزيقيا المرتبطة بالفلسفة تم السخرية منها الهزء بها في وجوب مجاوزتها ومغادرتها لانها اصبحت شغل من لا شيء عملي يشغله في الحياة.

هل بامكان الفلسفة ان تصبح علما طبيعيا من غير ان تفقد كل امتيازاتها عبر العصور؟

ان انتفاضة عصر التنويرفي القرن الثالث عشر الميلادي، وعصر النهضة وعلمنة الحياة في اوربا، لم يكن بتأثير ( فلاسفة ) عصر التنوير وجهودهم (وحدهم) ، وانما كانت الانتقالة الحقيقية الواقعية بفضل (علماء) عصر التنوير امثال كوبرنيكوس و نيوتن وغاليلو وبرونو وكبلر ومن على شاكلتهم من علماء الطبيعة والفلك والرياضيات وصولا الى داروين وفرويد وليس انتهاءا بانشتاين.وبجهود هؤلاء العلماء الصفوة كان الفضل الاكبر في التقدم وفي السبق وتحقيق التقدم العلمي والحضاري لعموم البشرية وليس اوربا وحدها.ان عظمة هؤلاء العلماء غير الفلاسفة ليس فقط انهم قلبوا مفاهيم علوم الفلك والرياضيات والطب والنفس وغيرها التي كانت سائدة، بل عظمتهم في وضعهم حدا لوصاية اللاهوت الكنسي الديني على واقع الحياة كل الحياة وتحريرها اجتماعيا واقتصاديا وفكريا وخلاصها بحرية الاجتهاد والابداع.

ومن هنا كانت اهمية الحاجة في الماضي والحاضرعندنا، ضرورة رفع وصاية وجبروت الفكر الديني المتزمت في تقاطعه، بالضد من العلم ومنجزاته واشاعة التفكير العلمي، ان ياخذ دوره في تشكيل حياتنا المعاصرة حاضرها ومستقبلها.

وعبرة تخلفنا في الماضي وعجزنا والى يومنا هذا ان فلاسفتنا العرب المسلمين اخفقوا قديما في تحقيق ما استطاع قدامى الاوربيين تحقيقه، حيث كانت ولا تزال وصاية الفكر الديني الرجعي عندنا، وسيلة الحاكم الغاشمة في القمع والهيمنة الوحشية، على حملة افكار التنوير والتقدم، ورميهم بتهمة الزندقة والكفر الجاهزة في وجه من يجرؤ تشخيص العلّة والداء.بما يشبه محاكم التفتيش التي سادت اوربا القرون الوسطى وربما اقسى..

مفارقة هذه الحقيقة التاريخية نجدها عندنا ولدى غيرنا من الشعوب التي ظهر فيها فلاسفة عقلانيون كبار لكنهم اخفقوا من تحقيق نهضة حضارية لشعوبهم او لغيرهم من امم وشعوب الارض.

ظهر عندنا نحن العرب المسلمون فلاسفة تنوير عظام بدءا من الكندي والفارابي وابن سينا والرازي وجابر بن حيان وابن رشد وغيرهم نتنّطع اليوم بانهم كانوا (عقلانيين) مؤثرين وسطاء في نهضة اوربا لكنهم اخفقوا بنهضة امتهم. متناسين في مكابرة عقيمة اننا لم نكن نمتلك علماء امثال كوبرنيكوس او نيوتن او غاليلو او برونو الى جانب هؤلاء الفلاسفة التنويريين. الفرق الذي حصل في اوربا ان عمل الفيلسوف اكمله عمل العالم، في حين لم يستطع فلاسفتنا تحقيق نهضة تنويرية تقدمية عندنا متكاملة عمادها مزاوجة الفلسفة و العلم.لان كل جهود الفلاسفة المسلمين كانت منصّبة على ايجاد توافق تلفيقي افتعالي بين الفلسفة والدين وتزكية هيمنة الدين على الفلسفة وقيادته لها، وليس الربط بين الفلسفة والعلم في تكامل تنويري نهضوي يشاكل ما حققته اوربا في ترابط العلم والفلسفة.

ألم يكن عندنا المعتزلة واخوان الصفا؟ الم يكن بيننا ابن رشد؟ من الذين نادوا بعظمة العقل. الم يتسلم الراية الطهطاوي وخير الدين التونسي والافغاني ومحمد عبدة وعشرات غيرهم من بعدهم دعوا الى نهضة الامة وذهبت جهودهم ادراج الرياح في تأكيد حقيقة ان الفلسفة والمفاهيم العزلاء من غير تطبيق واقعي علمي لا يجعل من الفلسفة علما يقود الحياة كما حصل في التجربة الاوربية التي حققت لشعوبها نهضة حضارية غير مسبوقة في التاريخ بفضل اسبقية العلم التجريبي على الفلسفة، او في تلازمهما معا.

المهم ان اوربا اليوم لا تحتفي بالفلسفة احتفائها بالعلم في معترك الحياة، وتراجعت المفاهيم الفلسفية القديمة لنستلم نحن الراية في المعارف والعلوم الانسانية فقط من غير العلوم الطبيعية التطبيقية، في الاطاريح والمنتديات والجامعات والبحوث، بما غادرته ليس اوربا وحسب ولكن اليونان المعاصرة مبتدأ ومنتهى الفلسفة القديمة ومستودع الارث الفلسفي العالمي، التي تستجدي العالم اليوم في ضائقتها المعيشية والمالية والاقتصادية ولا يشفع لها كل ارث الفلسفة التي امتلكته. ..من المؤكد الواضح اني لا ادين الفلسفة كمنهج في التفكيرالمعرفي ان يفقد معناه وحاجة الانسان له، ولكن تحّفظي اننا ربما نعتمد المفاهيم الفلسفية والانسانيات عوضا عن ميادين العلم التطبيقي في نشدان وتحقيق نهضتنا المرجوة وفي ذلك عقم المسعى والهدف، في تصورنا القاصر ان بحوث الانسانيات كفيلة بتحقيق نهضة حضارية وهو مالم تشهده البشرية في اي بقعة او عصر ولا في اوربا لا قديمها ولا حاضرها.

امام عجز الفلسفة الكلاسيكية القديمة ان تضيف جديدا متطورا بالحياة، لجأت المفاهيم الفلسفية الحديثة والمعاصرة تنحى منحى الاعتياش التكاملي مع اللغة والالسنيات، والحفرالمعرفي الاركيولوجي، وانثروبولوجيا الحضارات والاديان وغيرها.ولجأت الفلسفة الحديثة الى مغادرة الاهتمامات الفلسفية الكلاسيكية القديمة التي اصبح اجترارها مؤونة الاطاريح والبحوث الجامعية والدراسات في تناولها مواضيع لم يكن في وارد عناية واهتمام الفلسفة الكلاسيكية القديمة بها كالجنس والهوية والتواصل والمهمّشين بالحياة كالمجانين والمصّحات.و من مواضيع اهتمامات الفلسفة اليوم مفهوم حقوق الانسان، صدام الحضارات وحرب الثقافات، ظاهرة الارهاب، التواصل بين المجتمعات، الحاسوب والانترنيت، الفضاء العمومي للنقاش (هابرماس) ، نظرية العدالة والدول المارقة (جون راولز) ، البيئة المعاصرة والعدالة المناخية وغيرها. كل هذه المواضيع التي تشغل الفلسفة المعاصرة لا يربطها مع كلاسيكيات الفلسفة القديمة اي رابط يعتد الاخذ به، وغريبة جدا على اهتمامات الفلسفة القديمة بشكل قاطع.

5. الفلسفة الماركسية والفلسفة الذرائعية (البراجماتية) كيف اصبحتا (علما) في التطبيق:

ان اكبر انتقالة جاءت كطفرة نوعية متمايزة في تاريخ الفلسفة، كانت من قبل ماركس حين اطلق عبارته الشهيرة، ان الفلاسفة قبلي كان جلّ اهتمامهم هو وضع تفسيرات وشروحات الوجود الانساني ومشاكله، من غير التفكير بكيفية ووسائل تغييره وتبديله.

درس ماركس تاريخ الفلسفة الانسانية كاملا مع انجلز، بعدها وضع فلسفته المادية الديالكتيكية التي تحكم الماددة والتاريخ وظواهروقوانين الحياة الاخرى.مستفيدا من ديالكتيك هيجل المثالي الذي وصفه ماركس بانه اوقف التاريخ الانساني على رأسه فأعدته الى وضعه الطبيعي. من المعروف جدا ان هيجل ذهب الى اسبقية الفكر على الوجود (المادة)، وذهب ماركس الى العكس في اسبقية المادة والوجود على الفكر . وان الفكر لايحدد وجود الانسان كما ذهب هيجل، بل ان الوجود المادي والاجتماعي والطبقي للانسان هو من يحدد وجوده الذي هو مبعث تفكيره وتشكيل ثقافته ايضا.

ميزة ماركس كفيلسوف انه جعل من الفلسفة مفاهيما ورؤى علمية تطبيقية في هدف تغيير الحياة، اي جعل من الفلسفة (علما تطبيقيا) ، ومثالية هيجل الفلسفية التي ادانها ماركس كونها افكارا فلسفية مقطوعة الصلة التاثيرية في تغيير الحياة، بمعنى انها فلسفة منطقية ديالكتيكية متماسكة وحسب، اي عمد ماركس وباصرار عنيد قلب تاريخ الفلسفة المثالي في تداول الفلسفة كقيمة فكرية متعالية في علاقتها المقطوعة التاثير بما يجري في الحياة، الى منهج علمي تطبيقي يغيّر الحياة على الارض والواقع، ولم يهتم ماركس بالفلسفة كنمط من النسق الفلسفي والمنطق الفكري المقطوع الصلة والتاثيرفي مجرى الحياة، وقد اخذت الفلسفة الماركسية تطبيقها الميداني في تجربة الاتحاد السوفييتي الشيوعي القديم بنجاح لمدة سبعين عاما. ومثيلاتها في الصين وفيتنام وكوبا وغيرها ماثلة الى اليوم.

هذا يقودنا الى تساؤل لا يمكننا تجاوزه، هل نجح ماركس ان يجعل من الفلسفة (علما)؟

والجواب المنصف نعم ولاول مرة في تاريخ الفلسفة وتاريخ البشرية على السواء.

السؤال الاهم هل جرى او ممكن تكرار التجربة ان تصبح الفلسفة (علما) تجريبيا وتطبيقيا بعد اخفاق التجربة الماركسية المحدود؟

نعم جاء ذلك على ايدي الفلاسفة الاميركان الثلاثة وليم جيمس وجون ديوي وتشارلز بيرس في جعل الفلسفة علما تطبيقيا في الحياة كما سبق وفعلها ماركس، المهم والجوهري ان الماركسية في التطبيق والذرائعية (البراجماتية) في التطبيق كلاهما اخرجا الفلسفة من ميادين المماحكات المنطقية والتنظيرية البعيدة عن مجرى الحياة، الى فلسفة علمية تقود الحياة وتعمل عل تغييرها ايضا، وهذا يدعو فعلا للتثمين والاعجاب. ان الفلسفة البراجماتية انزلت الفلسفة من برجها العاجي الى معترك الحياة كم فعل ماركس، باختلاف جوهري كبير، اذ ذهبت البراجماتية انه لاقيمة لأية فلسفة او نظرية او مجموعة افكار، ولا صحة للأخذ بها مالم تحقق (منفعة) بالحياة.وان صحة وصواب الافكار الفلسفية ليس في اتساقها المنطقي الفلسفي ونسقها المفهومي المتماسك، بل اهميتها وصوابها ان تحقق التقدم والرخاء والفائدة للناس في معترك الحياة.

هنا نجد ايضا ان الفلسفتين الماركسية والبراجماتية، اخرجتا وانقذتا نفسيهما من طابعهما المميزالذي يسم الفلسفة انها معرفة منطقية مجردة بدلا ان تكون منهجا علميا في قيادة وتبديل الحياة. وفي ذلك يقول لورانس سامرز رئيس جامعة هارفارد الذي احد اساتذتها صوموئيل هنتكتون صاحب كتاب نهاية التاريخ، (ان مثالا (عمليا) واحدا هو اجدى من الف نظرية ونظرية.) مكتوبة متداولة على الورق في صالات واروقة الجامعية.

في النموذجين اللذين مررنا بهما اصبح واضحا عندنا ان التقدم البشري لم تصنعه الفلسفة بل العلوم التطبيقية الميدانية، وبذا يكون للعلوم الطبيعية دورا اقصائيا للمفاهيم الفلسفية المجردة التي اعتاشت ولا تزال على بعضها البعض، وجعل العلم التطبيقي من مسار الفلسفة مسارا متوازيا مع المسيرة العلمية.، لا يلتقي بها ولا يتقاطع معها في احتدام مفتعل لا طائل ولا نتيجة من ورائه.

6.عود على بدء:

هل نمتلك حقا مشروعية التساؤل، ان كانت المفاهيم الفلسفية القارّة القديمة وشروحاتها المتعالقة معها، منذ عهد اليونان القديمة وعصر الرومان والى يومنا هذا لها امكانية ان يكون لها مستقبلا ينتظرها؟ وأيا من الفلسفات التي تمتلك نسقا فكريا ومعرفيا ومفهوميا في مكنتها اليوم وبمستطاعها النفاذ الى المستقبل قادمة من الماضي ومغادرة محطة الحاضر لتمتلك حضورها المستقبلي.؟

من الواضح الجلي انه لم تعد مفاهيم الفلسفة ومواضيعها الاثيرة نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين هي نفسها المواضيع والانساق الفكرية المعرفية التي شغلت تفكير وبال الفلسفة ودونت التاريخ الفلسفي منذ الارهاصات الاولى التي ترجع الى عصور ماقبل الميلاد عند اليونانيين.كما ان الفلسفة بقيت اشمل من فلسفة الاطاريح والشروحات الجامعية الطفيلية.في نزول معظم الفلاسفة المعاصرين الى ميادين الحياة.

طيلة هذه الاحقاب الزمنية احتفظت الفلسفة بما امتازت به واحتازته من انساق فكرية منطقية ذات طابع شمولي تحليلي للوجود الانساني، وتوليدي مستمر للافكار قبل انبثاق العلوم الطبيعية بمعناها الحديث، حيث كانت الفلسفة متربّعة على هرم المعرفة انها ام كل المعارف الانسانية بلا منازع. وتناسلت الفلسفة بمرور الوقت عبر النقودات والتفسيرات والشروحات ومحاولات الاضافة والتجديد. لكن مع انبجاس التفكير العلمي الطبيعي وتطور الحياة وتبدّل المفاهيم المصاحبة وصولا الى دخول البشرية عصر الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة، تبدلت الانساق الفلسفية و الفكرية التي سادت عصورا طويلة لتخلي في المجال ظهور مجالات اشتغالات فلسفية جديدة في علم النفس واللسانيات والحفريات المعرفية، وعلوم اللغة، كما ظهرت ما يسمى بالفلسفة التطبيقية التي تعالج ما تطرحه العلوم المعاصرة في مباحث الهندسة الوراثية واخلاقيات علوم الحياة، وقضايا المرأة والفقروغيرها.

وعن هذا التبدل الفلسفي الجوهري يحدثنا الاستاذ عبد الرزاق الدواي: (العولمة غيرت الظروف وشروط انتاج الخطاب الفلسفي ذاته، فحياة الفلاسفة اليوم وخطاباتهم الجديدة تسير على ايقاع فعاليات الجمعيات الفلسفية والمجلات المتخصصة والندوات والمؤتمرات الفكرية الدولية، وتكاد ان تكون اليوم مهجورة المسائل الفلسفية الكبرى التي ظلت المنبع الذي يمد الفكر بالحيوية منذ العصر اليوناني، فقد حلت محلها اهتمامات اخرى جديدة لم تكن تخطر على بال الفلاسفة السابقين.)

7. شيء عن الميتافيزيقيا:

احتلت الميتافيزيقيا موقعا محوريا مركزيا اعتاشت عليه الفلسفة قرونا عديدة، بحيث اصبح من غير المستهجن او المرفوض اليوم الدعوة، ان ينحصر التفكير الفلسفي في تحقيب زمني يشير الى (ماقبل) و (مابعد) ميتافيزيقيا الفلسفة. (ان الميتافيزيقيا كانت المبحث الاول في الفلسفة، الفلسفة الاولى، وهي في الوقت ذاته اكثر المباحث الفلسفية اثارة للجدل، وما زال التشكيك في الميتافيزيقيا يتسع، والخوف على مستقبلها يتسع، والحق انه ثمة سؤالين ملازمين للميتافيزيقيا على مدى التاريخ هما :سؤال المشروعية، باي حق يمكن للانسان ان ينتج افكارا ميتافيزيقية؟ وهل الدعوة لتلك الافكار من مبرر معقول؟ والسؤال الآخر هو سؤال المستقبل، اي مستقبل ينتظر الميتافيزيقيا؟ اليست هي سائرة ان تلقى مصيرها المحتوم، الاختفاء الى الابد؟.) الاستاذ الباحث عبد الرزاق الدواي.

ذهب عديد من الفلاسفة شوبنهور وكانط ونيتشة وهيدجر وآخرين، الى ان نشاط العقل الفلسفي وموضوعاته الفلسفية جميعها تقع خارج اهتمامات وشواغل القوانين الطبيعية التي تعمل بمعزل عن الانسان، من حيث ان ميتافيزيقيا التفكير الفلسفي بقي محورا مركزيا في تاريخ الفلسفة وتناول موضوعاتها، وان الميتافيزيقيا بقيت احقابا زمنية طويلة الشغل الفلسفي الشاغل لدى العديد من الفلاسفة.

ربما كانت اراء عديد من الفلاسفة المتأخرين تمهيدا مسوّغا لمغادرة وتجاوز المفاهيم الميتافيزيقية الفلسفية، عبر عنه المفكر محمد الشيخ: اهم انعطافة فلسفية، هي ذهاب العصور الحديثة في فهم الوجود فهما معرفيا قصّيا متطرفا، وذلك في جعل الوجود الموجود صنيعة الانسان.

مقولة عالم اللغات فيتجنشتاين في ان افكارنا مهما تكن اهميتها لا يمكنها ادخالنا قطار المستقبل (انت لاتستطيع ان تشكّل السّحاب، وهذا هو السبب في ان المستقبل الذي تحلم به لا يصبح حقيقة ابدا.)

وفي عبارة نيتشة مقاربة لذلك (ان الحس التاريخي بالماضي هو الثقل العظيم والاكبر، ويتوجب على الانسان ان ينحّيه جانبا ويقمعه ويعيق مسيرته كعبء خفي مشؤوم، وان هناك درجة من الارق من الحس التاريخي الذي يصيب كل شيء حي ويدمره في النهاية سواء اكان انسانا او شعبا او حضارة.)

نخلص ان تفكيرنا في المستقبل هو تفكيرنا بماضينا وحاضرنا فقط والمستقبل كفيل ان يصنع نفسه بقواه الذاتية والظروف المستجدة المصاحبة له، وكفيل ان يمنحنا الوجود والافكار التي سنتاولها بالخلق والنقد والدراسة كحاضرنعيشه وليس كمستقبل نتمنى حضوره.

 

علي محمد اليوسف/الموصل