صحيفة المثقف

صناعة الفن والفنانين

khadom shamhod2يبدو ان النظام الراسمالي الاستغلالي اليوم سيطر على معظم مفاصل حركة الحياة بكل حقولها الفكرية والمادية وقضى على معظم النظريات الاخلاقية والجمالية في الفن التي كان ينادي بها الفلاسفة والمفكرون وعلماء الاجتماع واهل الادب والفن منذ زمن الاغريق حتى المدرسة الاشتراكية في بداية القرن العشرين،.. وكان الفيلسوف تولستوي قد اقترب في افكاره من الفنان هنري ماتيس في عملية التعبير عن المشاعر واختلف معه في مسألة - الاتصال – comunicación اي ما يحدث بين الفنان والمشاهد المتلقي .. وهي نظرية قديمة طرحها ارسطوا (بان هدف الدراما هو ان تظهر مشاعرنا) . الاول اوجب نقل مشاعر واحاسيس الفنان الى الآخرين وممارستها، مهما كانوا فلاحين او مثقفين . وهذا ما اعترض عليه بعض النقاد، بينما الثاني اراد بعمله ان ينقل –الفهم- اي ان يفهم الفنان الآخرين مشاعره ويظهر احاسيسه لهم فقط وليس بالظرورة ان يشاطروه في ذلك . هذه الافكار قد شغلت المفكرين والفنانين طيلة القرون الماضية . . وبعد الحركة الصناعية في اوربا تغيرت المفاهيم وظهر النظام الراسمالي ولو انه كان سابقا له جذور موجودة في النظام الاقطاعي في القرون الوسطى ’ حيث كانت تباع وتشترى اراضي وقرى باكملها مع ناسها وانعامها بين الاقطاعيين ورجال الدين مثلها كأي بضاعة مادية اخرى . والى حد قريب كان هذا النظام موجودا في العراق ومصر وغيرها ؟؟؟؟ . . .

اليوم مسحت معظم تلك النظريات الجمالية وحلت محلها مقاييس جديدة للفن قد استغلها تجار الفن وصناع الفنانين والمتاحف، والذين ربحوا من ورائها ملايين الدولارات .

قرأت بعض الكتب التاريخية التي تتحدث عن ابرز تجار الفن في اوربا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وكان من ابرزهم هو Ambroesi Vollard 1868-1939 وكان في البداية رجل اعمال ثم مال الى الفن بولع شديد ففتح له كالري في باريس سنة 1890 وعرض فيه اعمال الفنانين الانطباعيين، كما عمل معرض للفنان بيكاسو عام 1909 ثم اخذ يهتم بالاعلام ونشر الكاتالوكات والكتب التي تتحدث عن هؤلاء مثل كوكان، سيزان، رينوار ’ فان كوخ، بيكاسو، وغيرهم من رواد الحداثة واخذت اسمائهم ترتفع شيئا فشيئا .. ويذكر المؤرخون انه كان يشتري اعمال هؤلاء باثمان منخفضة جدا، مثلا انه اشترى من سيزان 250 لوحة بسعر 50 فرانكو لكل لوحة . ؟؟ حيث كان وضع سيزان المالي في ذلك الوقت سيئ جدا .. هذه المجموعة اشتراها تاجر آخر يدعى Leo Gastelli 1907- 1999، ثم صعد سعرها فاصبح ما بين 3000 و4000 مليون دولار ..

سوق الفن:

من هم الفنانين الحقيقيين الكبار ؟؟ سؤال طرح في الاعلام وجاء الجواب سريعا انهم تجار اللوحات ؟؟؟ ولكن من هو الذي يخلق ويصنع الفنان الحديث ؟؟؟ ايضا جاء الجواب، هم تجار اللوحات ؟؟ اسألة كثيرة طرحت في هذا المجال منذ عقود وتعمقت بعد ضياع المقاييس والموازين النقدية في موجة الفن الحديث والفوضى العارمة في انتاجه .

من المعروف ان الاوائل من الفنانين قد انتجوا اعمالا محدودة وفريدة وقد رسموها وراجت في الاسواق وعلقت في المتاحف وانتهى الامر، مثل فان كوخ وسيزان وبول كلي، دالي، بيكاسو، وغيرهم . ولكن السوق الفني اليوم يحتاج الى اعمال جديدة وفنانين جدد وسط تنامي وازدياد ثروات الاغنياء، (على حساب ازدياد الفقراء) ويذكر انه وصل عدد المليونيرية الكبار اليوم الى 17 مليون غني . ولهذا ازداد الطلب على الاعمال الفنية واقتنائها . وفي هذا الظرف برز تجار اللوحات لسد حاجة السوق الفني وعطش الاغنياء . .. وكان اكثرهم نشاطا وذكاءا هو Leo Gastlli المذكر سابقا . ويعتبر ليو شخصية حاسمة في حركة تجارة الفن وتطوره في العالم طيلة القرن العشرين، وهو ابن شخصية بانكية من اصل هنغاري، فاستقر في نيويورك وفتح له كالري، وكان ذكيا ومغامرا وشراب ونسائي (...)، وكان له الفضل في اكتشاف كبار الفنانين الامريكان وتقديم اعمالهم الى الجمهور مثل وارهول، سي تومبلي، السوث كلي، جاسبر جون .. كما كان له الفضل في اكتشاف فن البوب آرت .. وكان ليو يتفق مع عدد من الفنانين ويضع لهم راتبا شهريا مقابل انتاج لوحات فنية، ثم يعمل على تضخيم هذه الاعمال من خلال المعارض والاعلام والحفلات المترفة والبراقة، فترتفع اسعارها بالملايين ويرتفع اسم الفنان ايضا، كما حدث للفنان Frank Stella الذي اصبح مشهورا بفضل ليو . وهو نفس ما حدث للفنان الامريكي الشاب خوان مغيل باسكيت- 1960 - 1988- الذي استغل استغلالا بشعا ادى به بالاخير الى الانتحار مخدرا دروكادو واصبحت اعماله اليوم تباع بالملايين .

 وكان مقتني اللوحات من الاغنياء والاثرياء لا يهتمون بالابعاد الفكرية والفلسفية والنوعية للعمل الفني بقدر اهتمامهم بالسمعة والشهرة وانهم يفتخرون بامتلاكهم لوحة لفنان معروف او لتاجر معروف، حيث لديهم من الاموال ما تغرق العالم وهدفهم هو الترف والمتعة . ولما كانت هناك ظاهرة تنامي سريعة لثروات الاغنياء (وبجشع وسرقة) فلا بد من خلق خط تجاري للفن السريع الانتاج ..

في اسبانيا ظهر برنامج يتحدث عن هذه الظاهرة واطلق عليها مصطلح Hamparte اي الانتاج الفني السريع الهابط، وجاءت على غرار كلمة hamburguesa التي يفهم منها الوجبات الغذائية السريعة ..

المتاحف وتجارة اللوحات:

نرى اليوم ان بعض المتاحف العالمية غصت قاعاتها ومخازنها من المقتنيات الفنية مثل متحف اللوفر - 1793 - حيث يذكر انه يملك 445 الف قطعة فنية معروض منها 35 الف قطعة فقط .. وكذلك متاحف نيويورك -1929 -الثلاثة والتي تعتبر من اهم متاحف العالم منها MoMA الذي يملك 100 الف قطعة فنية . ومعظم المعروضات الاثرية سواء كانت في باريس او نيويورك او غيرها كانت قادمة من الشرق اما مسروقة واما حملها معه الاحتلال الاستعماري ..؟؟ كما نجد هناك ظاهرة اليوم في تحويل هذه الاعمال الفنية والآثار الى مادة تجارية مربحة حيث يتحث المسؤلون في متحف اللوفر عن مشروع تأسيس متاحف في عدد من الدول تحمل اسم – اللوفر- وكذلك نجد نفس الفكرة والمشروع عند المسؤلين في متاحف نيويورك وانهم سينافسون الفرنسيين بذلك . وقد نفذ الفرنسيون مشروعهم الاول في ابو ظبي عام 2007 . وهوعبارة عن متحف فني بُنيَ في مدينة أبوظبي،. قام المهندس المعماري الفرنسي جان نوفل بتصميمه. بدأ العمل به عام 2007 وتمّ افتتاحه في 8 من نوفمبر 2017، واُنشأ المتحف الذي عُقدت النية لبناؤه بموجب الاتفاقية الموقّعة بين مدينة أبوظبي مع الحكومة الفرنسية، والمتداولة لمدة ثلاثين عاماً على مساحة تصل لـ 24 ألف متر مربع تقريباً في جزيرة السعديات،وذلك بتكلفة تُقّدر ما بين 83 و108 مليون يورو .. وسوف تدفع ابوظبي الى فرنسا 525 مليون دولار لاستخدام اسم – اللوفر- و747 مليون دولار للتبادل الفني وتنظيم المعارض، يضاف الى ذلك دفع اجور كل نشاط سنوي من معارض او نقل الآثار او الى العمال والفنانين ومهندسي الصيانية والتأمينات وغيرها .. وهي اكبر صفقة تجارية مربحة ولاول مرة تحدث في تاريخ الفن والمتاحف بهذه الضخامة والارباح لصالح فرنسا .

وقد احتجت بعض المنظمات الثقافية على هذه الاتفاقية وعلى المعروضات بحجة انها اكثرها مسروقة من العراق وسوريا ومصر .. وان الامارات تعمل لتحسين صورة نظامها الاستبدادي وانها تنفق كل ما لديها من اموال في سبيل ذلك . كما ان الاتفاقية تتضمن عرض كل شئ ؟؟ ؟؟

امثلة مختصرة:

1 - وفي الفترة الاخيرة-2017- قام متحف ابو ظبي بشراء لوحة لدافنشي تمثل صورة شخصية – بورتريت - بسعر 382 مليون يورو ربما كانت بمقاييس 50 في 70 سم .؟؟ ولو فكر العقلاء من هؤلاء انسانيا، يمكن لهذا السعر ان يحل مشاكل كثيرة في العالم كايقاف ودعم الحروب والقضاء على المجاعات .

2 - كما شاهدت وقرأت في الصحافة ان هناك فنان ياباني يدعى (اوكاورا) يعمل لوحات تختصر على رسم التواريخ فقط . مثلا(8-12-2015) - وتنفذ وسط لوحة ذات مساحة سوداء . وقد نال هذا (الفنان) شهرة كبيرة، واصبحت اعماله (الفارغة المضحكة) تباع اليوم بملايين الدولارات ..؟؟

 3 - وظهر تاجر وفنان آخر للوحات انكليزي الاصل اشتهر في عقد التسعينات من القرن العشرين في انكلترا اسمه Damien Hirst اسس له كالري في لندن وعرض فيه جميع مقتنياته الفنية، ثم اخذ يرسم سلسلة من الاعمال على شكل نقاط او دوائر لونية تشبه علب اقراص الالوان المائية التي تباع في الاسواق، كما اخذ يعرض حيوانات محنطة، هذه الاعمال اخذت تباع بملايين الدولارات، بطريقة عجيبة .. وهو ما يشير الى سخرية السوق وضحالة هذه الاعمال، ويعتبر هيرستHirst نفسه انه مكتشف هذه النقاط اللونية، بينما توجد هذه النقوش منتشرة في ملابس الغجر والافلامنكو الاسباني وبالوان مختلفة زاهية .. وقد وصل بعض لوحات هيرست الى سعر 250 الف دولار ؟؟

4 - وايضا نجد فنان آخر يدعى Jeff Koons امريكي الاصل انشأ ورشة عمل على غرار ورشة الفنان وارهول تتألف من عدد من المساعدين، كما انشأ في نفس الوقت شركة للدعاية، وقد اخذت هذه الشركة على عاتقها الاعلام البراق والدعاية المستمرة لانتاجاته واعماله الفنية حتى طرشت الآذان .. وكانت اعماله عبارة عن مناطيد ونفاخات مترابطة وباشكال ملونة ومختلفة، وكذلك منحوتات طفولية، ملونة منها عمل نحتي صغير يمثل مايكل جكسون بيع باكثر من 5 ملايين دولار؟؟؟ ..

هناك عدد من الكتب نشرت في اللغة الاسبانية تتحدث عن هذه المهزلة والسخرية التجارية للفن الحديث الهابط منها – El tiburón de 12 millones / Don Thompson: كما يجد كتاب آخر يتحدث عن برنامج وثائقي يدعى: La burbuja del arte contemporáneo -

 .. تحياتي

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم