الرئيسية

نحو ديمقراطية تجمع العلماني والديني

ali mohamadalyousifالعلمانية: العلمانية وعلاقتها بالدين، هو في اختلاف تطبيق مايعنيه ويتضمنه مصطلح (العلمانية) بالنسبة لدول اوربا والكنيسة الكاثوليكية تحديدا، المختلف عن فضاء تداوله بالنسبة لنا، في فهمنا انه يمثّل علاقة الدولة، او انظمة الحكم العربية الاسلامية بالحركات السياسية والاحزاب الدينية (الاسلامية). وليس في العلاقة مع الدين كما هو شائع متداول.اي ان مجال العلمانية عندنا يبدا بالعلاقة مع السياسة اولا وليس بعلاقة التضاد مع الدين كما يحلو للبعض الترويج له.

ولو ذهبنا قليلا مع مصطلحي (اللائكية) و(العلمانية) والتفريق بينهما، نجد ان اللائكية مصطلح يعني فصل المؤسسة الدينية (الكنيسة الكاثوليكية) عن الدولة كما تضمن ذلك القانون الفرنسي عام 1905، وهذا الفصل لم يتم بموجبه الغاء الدين، وان اللائكية تعني ايضا عدم انتظام الافراد في الكهنوت الكنسي المسيحي.

اما مصطلح (العلمانية) الذي نتداوله عندنا فهو يذهب الى اهمية وضع فقه الفكر الديني التشريعي وليس الدين في مقابل الفضاء المجتمعي في تنظيم الحياة، وفصل وصاية التشريعات الدينية على مؤسسات الدولة، كما ان العلمانية عندنا ايضا لا تلغي الدين او الاديان الاخرى بل تعتمدها في تنظيم الكثير من شؤون حياة الافراد في دياناتهم المختلفة بالنسبة لأمور عديدة منها الزواج والطلاق والميراث واقامة الشعائر، والاحوال المدنية واختلافاتها الدينية وهكذا.

وفي حال انجرارنا وراء التفريق المصطلحي مابين العلمانية واللائكية، نجد هناك من يخرج التجربة التركية الديمقراطية بالحكم منذ عام 1924 في الغاء الخلافة الاسلامية واقامة النظام العلماني كما هومتداول اليوم بانها تجربة لائكية وليست علمانية !! وكذلك مع نظام الحكم في امريكا وبلجيكا.

وعليه نرى ان مصطلح العلمانية الذي نحاوله في تجاربنا السياسية العربية الاسلامية ونناقشه، هو العلاقة التي تحاول تنظيم مؤسسات الدولة على وفق نهج ديمقراطي علماني – ديني متعايش بدلا من النزاعات والاحترابات العقيمة التي ليس لها آخر، مابين الاحزاب العلمانية من جهة والاحزاب الدينية الاسلامية وتنازعهما المستميت على الحكم من جهة ثانية.وهو مايهمنا من العلمانية لا غير.

مصالحة الاحزاب العلمانية والاحزاب الدينية:

تجربتنا في موروثنا السياسي المعاصر نعثر على اشكالية متجذّرة في تقاطع الفكر الديني والاحزاب الاسلامية مع النهج العلماني بالحكم وادارة مؤسسات الدولة، التي اخذت الكثير من التثقيف الجماهيري الممنهج والتعبئة الايديولوجية السياسية التي ترفض التعايش والالتقاء مع احزاب او انظمة حكم ترفع شعار العلمانية، وجرى ويجري تحشيد اعلامي متعدد النوايا والغايات لترويج هذا التقاطع وايصاله حد القطيعة النهائية، كما ان هناك ارث فكري تنظيري في مؤلفات عديدة رسّخت ايديولوجيا التعصّب والارهاب، التي اخذت من عمر المجتمعات العربية عقودا لا يستهان باهميتها،  من منطلق لا يجوز الجمع بين الالحاد والايمان، ولا بين الحق والباطل، ولا بين المعروف والمنكر، ولا حتى امكانية مزج الابيض مع الاسود لنحصل على اللون الرمادي الذي يسهم بتشكيله اللونين.

هذه القطيعة والاحتراب المتبادل في الغاء الآخر وتكفيره مهّد لظهور طبعات متعددة من الارهاب الديني البشع (القاعدة وداعش) وغيرهما من التسميات والتنظيمات الدينية المتطرفة التي الحقت الدمار باقطار الوطن العربي (سوريا، العراق، ليبيا، مصر وغيرها العديد) ونكبت شعوبها البريئة قتلا وممارسات وحشية غير مسبوقة في تاريخ الوطن العربي، ولا زالت بقايا هذه الحثالات ترتع في ارتكاب مجازر التفجيرات الانتحارية.

هكذا ورثنا تجربة وصاية ايديولوجيا الدين على الدولة ومؤسساتها بل ومفاصل الحياة باكملها، منذ مايزيد على قرنين من تاريخنا السياسي الحديث، اخذت فيها اشكالية معاداة الدين السياسي للعلمانية مرحلة تاريخية طويلة من غير حسم مجد، خاصة بعد خلاص الشعوب العربية من الاستعمار الكونيالي القديم، وقيام انظمة التحرر الوطني التي مارست الاستبداد والدكتاتورية عقودا طويلة في القمع ومصادرة الحريات الاساسية، وبروز زعامات اعتمدت نوع من الكاريزما الوطنية التي اضفاها عليهم نضال الشعوب العربية المرير من اجل نيل حريتها واستقلالها.زعامات مستّبدة سقطت مثل قطع الدومينو في ما سمي ثورات الربيع العربي.

***

من الملفت للانتباه ان هذه القطيعة المستدامة والتي لا مخرج منها في معاداة الدين السياسي للعلمانية وبالعكس، كانت سببا كارثيا مباشرا لكل مصائب الشعوب العربية، ليس على الصعيد السياسي وحده بل في كل مفاصل الحياة، في وقت انه بدا التراجع عنها تدريجيا في اوربا وامريكا، في وجوب التعايش المجتمعي بين القطبين المتنازعين ليس على الصعيد السياسي كما هو مطلوب عندنا، لا ستحالة الغاء احدهما في بقاء الآخر وتفرده في الحياة المجتمعية والثقافية تحديدا. هذه المهادنة بدىء التفكير بها في المجتمعات الغربية ليس من منطلق تصحيح مسارات سياسية خاطئة او غيرها في ميادين العلم انجزتها القوانين العلمانية الوضعية في فصل الدين، او بالاحرى استبعاد وصاية الكنيسة على منجزات العلوم والحياة الاجتماعية والحريات الاساسية المتحققة، وانما المراجعة واعادة النظر تأتي من اهمية التديّن في طغيان الحياة المادية والسياسية والعلمية في المجتمعات الاوربية التي استطاعت وانفردت باقامة نظم ديمقراطية علمانية، ازاحت من امامها وطريقها النفوذ الديني المهيمن ممثلا بوصاية الكنيسة وحشرتها في زوايا هامشية عقودا طويلة.

قد يبدو التشخيص دقيقا عنما نقول ان محاولات اعادة اللحمة مابين الدين والمجتمع في الغرب لا حاجة ولا مبرر لها، بعد هذه المدة الطويلة من القطيعة التي راكمت خلالها الانجازات العلمية الهائلة وفي كل شؤون ومجالات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بمعزل عن ان يكون للدين اي دور في تحقيق تلك الانجازات العلمية والحضارية الهائلة .

اذن ما الداعي لمثل هذه المساعي، علما ان احياء هذا التلاقي الذي يبدو مصطنعا ظاهريا، في انتفاء ضرورته، والذي ينحصر تأثيره في اوربا في امور اجتماعية صرف لا علاقة لها بتأمين استقرار سياسي او تصحيح مسار مصيري خاطيء، كما هو الحال عندنا في اهمية حضور وفك اشكالية العلمانية مع الفكر الديني الايديولوجي من تأثيره في مجمل الحياة، في مقدمتها السياسة.

ان الكنيسة الكاثولوكية من جهة وبعض رجال الفكر من جهة ثانية، لا بد من انهم واجدين في عودة نوع من المصالحة بين الاجتماعي والديني، كمجتمعات مدنية ومؤسسات لا تعير اهتمامها للسياسة الرسمية الحاكمة، انها نوع من الاثراء الروحي وملء الفراغ القيمي والاخلاقي المفقود من وجوب واهمية الحضورالديني في مجتمعات اصبحت مستلبة روحيا،  مجتمعات بلغت شأوا متقدما جدا في التقدم العلمي الحضاري. وجدت نفسها في تعذّر تجاوز الدين والعبور من فوقه وتجاهله اكثر، وانه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان.ومن ابرز الفلاسفة الذين يتبنون هذه الفكرة اليوم الفيلسوف الفرنسي الشهير(هابرماس) في فلسفة فضاء التواصل للجميع من اجل وخدمة الجميع.

***

ذكر الاستاذ د.عز الدين عناية في مقال له نشرته المثقف الغراء تاريخ 29/1/2018 بعنوان (امبرتو ايكو والدين) انه كان هناك في ايطاليا تحديدا، البابوية والفاتيكان سعي مثير للانتباه في احياء مصالحة بين الكنيسة الكاثوليكية ورجال الفكر، في مبادرة نشرت بكتيب صغير جرى تداوله منذ عام 1996، وطبع عدة طبعات مترجمة الى 16 لغة اجنبية ومحلية، الكتيب يحمل عنوان (في ما يعتقد من لا يعتقد) وهوعبارة عن مناظرة حوارية، قطباها الكاتب اومبرتو ايكو ممثلا عن العلمانية الرصينة الهادئة المنفتحة من جهة، ومن الجهة الاخرى كردينال الكنيسة الكاثوليكية في روما اليسوعي العريق كارلو ماريا مارتيني، في مناقشتهما كلا من جانبه مسائل تخص الدين والعلمانية، كاشكالية ترتب على حسمها انها نقلت تلك البلدان والشعوب الى تقدم علمي وصناعي وحضاري غير مسبوق، حينما تم انجاز فك وصاية الدين او بالتحديد الكنيسة على الدولة بمؤسساتها السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية عن هيمنة رجال الدين في منظورهم اللاهوتي الكنسي الرجعي.

وبعد تجربة قرون طويلة مزدهرة في ممارسة اوربا حكم التحرر من الكنيسة، في انتهاج الديمقراطية بمختلف اشكالها، نجد ان المجتمعات الاوربية وجدت نفسها بحاجة الى ردم هوة التباعد والقطيعة مابين الدولة العلمانية الديمقراطية، مع الخطاب الكنسي الديني، من منطلق ان القيم الدينية الروحية والاخلاقية لا زالت تمتلك الحيوية في الحضور الاجتماعي، وانه من الصعوبة الاستغناء عنها مهما توفرت للناس والمجتمع سبل العيش والرفاهية المادية.وان عودة التغذية المجتمعية من ينابيع الدين، حاجة ضرورية في مجتمعات اجدبت الحياة فيها من كل ضروب الروحانيات الدينية واخلاقيات التدّين.

***

واذا نحن نقلنا الى واقعنا هذه الاشكالية المصيرية، العميقة الجذور والتأثير في مجمل الحياة، نجد ان المفكر العربي الكبير صادق جلال العظم(1934 – 2016) كان دعا الى اهمية ايجاد حل اشكالية العلمانية، ووجوب اعادة النظر في اسباب معاداة الفكر الديني والاحزاب الاسلامية للعلمانية السياسية، وانه باتت الحاجة ضرورية في البحث عن مشتركات تجسير هوّة العداء المستحكم والاحتراب فيما بينهما.وقد جاء هذا التنويه من قبل المفكر العظم في آخر مؤلف له قبل وفاته بعنوان (الاسلام والنزعة الانسانية والعلمانية).

واشار العظم الى التجربة التركية بما معناه، ان التجربة الديمقراطية التركية، حزب العدالة والتنمية بزعامة اردوغان، جديرة بالاستفادة منها فهي استطاعت ان تنشيء نظاما شعبيا جامعا لمختلف التيارات السياسية في البلاد، وعدم التقاطع فيما بينها بغير وسائل الاقتراع الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، وممارسة الاختلاف والتنوع الايديولوجي يأتي عن طريق البرامج الانتخابية، واثبتت التجربة التركية مقبوليتها على الصعيد الداخلي، تشكيلة الاجزاب السياسية العلمانية والليبرالية المتنوعة بضمنها استيعاب معادلة العسكر والجنرالات.

وعلى الصعيد الخارجي الدولي تم قبول تركيا عضوا في حلف الناتو، ومحاولات ضمها الى الاتحاد الاوربي، وان التجربة التركية في مجال التعددية الحزبية بين اليسار العلماني والاحزاب الاسلامية الدينية يتزعمها حزب العدالة والتنمية، كلها شكّلت توليفة ناجحة في قيادة الدولة بروح علمانية منفتحة تستوعب الجميع. من هنا رغم كل التحفظات على السياسة التركية الا انها في مجال تطبيق العلمانية مجتمعيا ناجحة اكثر من نجاحها في العلمنة سياسيا.

علما ان اشادة العظم بالنموذج الديمقراطي العلماني التركي لم يأت من فراغ ولا مجّانيا، واشادة مفكر مثل العظم المعادي طيلة مسيرته الفكرية لأي منحى ديني يجري توظيفه في تسيير شؤون الحياة، ومعاداة العظم للفكر الديني المسيّس وغير المسيّس هو نهج مبدئي ثابت نهجه في كل مؤلفاته التي هاجم بها التفكير الديني بكل قسوة، لعل اهمها كتابيه (نقد الفكر الديني) والاخر (النقد الذاتي يعد الهزيمة).يمكن للانظمة العربية الاستفادة من تركيا في ديمقراطيتها العلمانية.

***

بضوء ما مر بنا ذكره نجد ان علاقة انظمة الحكم في كل من العراق، سوريا، مصر، تونس، ليبيا، السودان، الجزائر، جميعها مع غيرها تعاني من اشكالية ومأزق احتراب الاحزاب العلمانية والليبرالية مع الاحزاب السياسية الاسلامية الدينية، ومعاداتها مبدأ العلمانية في قيادة امور الدولة والحياة، والجميع يقر في نفسه انه لم تعد هناك حاجة الاصرار على تصفية الحسابات مابين الاحزاب السياسية الدينية والاحزاب العلمانية، وان صفحة الاحتراب المستدامة ليست في صالح شعوب تلك الاحزاب، وانه بات من المرحب به فتح قنوات الحوار والتواصل من اجل اقامة نظم ديمقراطية تمثّل وتستوعب الجميع في تنويعتها الايديولوجية وتكون صناديق الاقتراع هي الفيصل في تبادل السلطة.

(وان ما نفتقر اليه في تقليدنا الراهن في البلاد العربية حيث نجد قدحا متبادلا بين الجبهتين (الاحزاب العلمانية والاحزاب الاسلامية) او حوار الديكة، زادت من حدته في السنوات الاخيرة التقاليد التي ارستها بعض القنوات التلفزيونية التي تروج للتناطح المقيت وهي تزعم انها تفسح المجال للرأي والرأي الآخر.)1

ان مرتكز خلاص الوضع العربي السياسي الذي لا يزال يعاني من آثار صفحات داعش، يتمّثل حاليا في حل اشكالية التجاذبات والنزاعات الدموية مابين الاحزاب الدينية والاحزاب العلمانية، وفي اقامة نظم ديمقراطية تستوعب التعايش فيما بينها، وتضمن تمثيلها لمكونات الاقليات في المشاركة بالحكم، وتكون صناديق الاقتراع هي الفيصل والاسلوب الوحيد في تبادل استلام السلطة.خاصة بعد فشل تجارب الاستفراد بالسلطة على مدى عقود طويلة، خرج الجميع وقبلها الشعوب العربية بالخسارة التي تمثّلها هذه الاشارة السريعة:

- فشل تجربة حكم اليسار العربي في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي (الاحزاب الشيوعية واليسار الاشتراكي العربي).

- فشل تجارب حكم الاحزاب القومية العربية بجميع عناوينها، بما عرف بالمشروع العربي النهضوي، الذي افرز لنا ابشع الدكتاتوريات التي لفظت انفاسها الاخيرة على يد ما سمي ثورات الربيع العربي.

- فشل تجارب الاحزاب الاسلامية العربية من تقديم ابسط نموذج تمديني في الحكم مثال ذلك تجربة الاخوان في مصر1928، في مصادرتها الحريات العامة، ورعاية معامل تفريخها للطائفية ومعاداة المسيحية وميلاد موجات القاعدة وداعش الارهابية.

***

اصبح من المتعذّر بعد كل تلك الاخفاقات المريرة ان تبقى الانظمة العربية تسير على نفس النهج الاقصائي للآخر ومصادرة حق الاختلاف المشروع ضمن ضوابط العمل الديمقراطي والدستوري، ومحاولات تصفية الاحزاب السياسية بعضها البعض الآخر دونما فائدة او جدوى، وثبت بالتجربة القاطعة استحالة الاستفراد الطائفي او الايديولوجي بالحكم، في غياب نموذج دولة ديمقراطية علمانية جامعة، لاتقصي الاحزاب الدينية ولا يسمح لها باقصاء المختلف معها من علمانيين ولبراليين.

في ختام هذه المقالة اود الاشارة الى بادرة اجدها تبشّر بخير في تحالف الحزب الشيوعي العراقي مع كتلة حزبية دينية تمثل طائفة اسلامية، ورغم استغراب البعض من هذا التقارب السياسي الذي وجده مفتعلا الا اني اجد فيه بوادر تعاطي حزبي ناضج سيكتب له النجاح اذا ما اثمرت الانتخابات 2018 عن المؤمل المرجو من مثل هذه التحالفات.

 

علي محمد اليوسف/الموصل

.......................

هامش 1 انظر مقالة الدكتور عزالدين عناية 29/1/2018

http://www.almothaqaf.com/a/b1d/924770