الرئيسية

اللغة والاشياء

ali mohamadalyousifاللغة والوجود: (اللغة هي استفهام حول المعنى والوجود). بول ريكور

يتوسط الوجود بين حقيقة الشيء واللغة المعبّرة عنه، وكلاهما الحقيقة واللغة، مفاهيم وتصورات نسبية، تنعكس عن الوجود المستقل للاشياء، وحقيقة اللغة كما يعبّر عنها عالم اللغات دي سوسير(نظام معرفي قائم بذاته) من جهة، ونسبية الحقيقة الوجودية من جهة اخرى.وفي تعالقهما الثنائي بالاشياء والموجودات يتعيّن بهما الوجود الحقيقي.

(كما ان الانسان لا يوجد في المطلق، بل يوجد في الزمان والتاريخ، يوجد حيث يفكّر، ويفكّر حيث هو موجود، ولا يمكن فهم الذات من دون توسّط اللغة والعلامة والرمز والنص).1

هذه الجدلية التعالقية العلائقية بين الوجود والفكر كان تم حسمها منذ قرون، في اما ان تكون علاقة (مثالية) او ان تكون علاقة (مادية) ويتوضّح معنا هذا لاحقا.

ان اللغة ادراك عقلي مفاهيمي تداولي، شفاهي ومكتوب ومرئي، وتعبير رمزي صوري تواصلي. اما لغة الصمت فهي نوعين من التعبير اللغوي، من حيث الادراك العقلي لها، فهي لغة حيّة لا تقل اهميتها الوظائفية عن اللغة المنطوقة او المكتوبة، او المرئية، حين تكون لغة الصمت ادراكا ذاتيا واعيا بضروراته التواصلية والوظائفية، كما نجده في طقوس الديانة البوذية التأملية وبعض الاديان الوثنية الاخرى المعبّر عنها بلغة الصمت الطقسي الشعائري، واليوغا، المسرح الصامت، رقص الباليه، ولغة بعض المتصوفة المجذوبة الاغترابية عن المجموع.*

اما ان تكون لغة الصمت غير مدركة عقليا، بمعنى التعطيل الوظائفي لها في الحياة، عندها تكون وهما، وتعبيرا زائفا عن وجود الاشياء، بل تكون وهما خارج فاعلية الوجود، فهي لغة خارج المدرك الحسّي والعقلي للاشياء والموجودات، وهذه اللغة نجدها عند بعض الحيوانات وفي غطرفة وهذاءات المجانين العصّية على التلقي والاستقبال. فهي لغة غير منطوقة بنظام لغوي تعبيري تعريفي، ولا تهتدي بالعقل ادراكيا، وهي بلا معنى ولا هدف. فلغة الحيوان هي نوع من اللغة التواصلية(غريزيا) فقط، ليست لها امتدادات وظائفية خارج الحاجات البيولوجية الغريزية المحدودة للحيوان، بينما اللغة العقلانية لدى الانسان، لغة تواصل تداولي لمحمولات وظائفية لا حصر لها تغطّي جوانب الحياة بمجملها من ابسط الامور والى أعقدها.وبذا تكون اللغة المؤنسنة بالنوع خاصية انسانية لا يشاركه بها الحيوان، هنا الانسان يتأنسن باللغة وهي تتأنسن به، مثلها مثل علاقة الانسان بالطبيعة فهو يتأنسن بها وهي بدورها تتأنسن به .

اللغة وجود ادراكي عقلي يتفرّد الانسان بحيازته ويختّص به دون غيره من الكائنات. واللغة هنا وسيلة العقل لأثبات وجود الاشياء، وبحسب غاديمير:(الكائن الذي يمكن ان يفهم هو الكائن اللغوي، وان اللغة هي الفهم، وهي التي تحدد علاقة الانسان بالعالم).2

يذكر الزواوي بغورة ان الفلسفة الوضعية المنطقية حوّلت التحليل اللغوي المنطقي الى واقع فلسفي قائم، وحصرت مهمة الفلسفة في التحليل اللغوي، واعطت اولوية اللغة على الفكر. كما سبق لفنتجشتين قوله (ان اللغة هي الفكر).

تساؤلنا ايهما أسبق ادراكيا الوجود ام اللغة؟

في معرض اجابتنا اود تثبيت هنا تناقض كبير في عبارة عالم وفيلسوف اللغة دي سوسير يقول: (وجود الاشياء يسبق فكرتنا عنها) وهذا منطق مادي سليم ليس فلسفيا وحسب وانما علميا ايضا، لكن لنتأمل تكملة العبارة حين يقول: (الا انه يمكن القول بأن تصوراتنا هي التي تخلق الاشياء)؟؟؟ كيف؟؟

طبعا هذا التناقض في عبارة واحدة، ينكردي سوسير موضوعة فلسفية معرفية ان مثالية التفكير تقود لمثل تلك الاستنتاجات الفكرية البائسة، في تقاطع ان وجود الشيء يسبق فكرتنا عنه، وهذه نظرة علمية مادية صحيحة، اما اننا ندّعي اننا نستطيع خلق اشياء من تصوراتنا عنها فهو لا يستقيم مع اي منطق عقلي اوعلمي.وجود الشيء لا يحدده التفكيربه، وانما يحدد الفكر وجود الشيء السابق على الفكر.

في هذا التناقض المثالي لسوسير نجده ينسف ابجدية الفكر المادي حين يقول بامكانية المفاهيم المدركة واللغة خلق وجود الاشياء، فالجدل الماركسي يقول ان وجود الشيء يسبق ادراكنا له، وليس بأمكان تصوراتنا ان تخلق واقعا حقيقيا لوجود الاشياء، وانما وجود الشيء يخلق تصوراتنا التجريدية والمفاهيم عنه، واللغة او التصورات المنبثقة عنها لا تخلق حقائق الوجود، وانما الوجود يخلق حقائقه لغويا تجريديا بعد ادراك العقل له.

اما اذا أخذنا في نفس السياق مقولة فينجشتين(اللغة هي الفكر) فيكون معنا ادراك العقل للوجود والاشياء هي أسبق على أدراك العقل للفكر، من حيث ان الفكر هو انعكاس تجريدي وصوري لغوي في فهم الواقع والوجود.والعقل مستودع الافكار ومكمن انطلاقها، لذا فان ادراك العقل للوجود والاشياء يسبق ادراك العقل للافكار او اللغة المتعالقة بالتبعية التراتبية لوجود الاشياء.والادراك اللغوي مستمد من علائقية ادراك العقل للاشياء.وهذا الادراك يكون قاصرا وظيفيا ما لم تسعفه اللغة كنسق منظّم في تبيان خواص وتمظهرات الاشياء والموجودات المدركة عقليا (الحواس+العقل)، وكذلك وجود الانسان في الطبيعة ومحدداته كينونته وجوهره.

انه من المهم جدا ان لا نغفل ان اروع الافكار هي التي تصوغها عبقرية اللغة، ولا يعطي وجود الاشياء المادية اللغة جمالية التعبير العبقري.

اهمية ادراك اللغة للاشياء

ادراك العقل للوجود والاشياء ادراك ناقص ولا فاعلية له من دون مدركات اللغة التعبيرية الافصاحية عنه. الوجود يتم ادراكه عقليا كموضوع مستقل فقط قبل ادراك اللغة له، الوجود من غير ادراكه لغويا وجود مكتف بذاته يفتقد الحيوية والفاعلية والتأثير، اللغة كشف ادراكي عقلي للاشياء والموجودات، والوجود الواقعي لا ندركه ادراكا واعيا حقيقيا في تجريدنا ادراك اللغة له، ومن غير الادراك العقلي وتزامن الادراك اللغوي معه تصبح معرفتنا للوجود قاصرة غير منتجة.

وتعجز اية فكرة مدركة عقليا، أن يكون ادراكها مثمرا تواصليا منتجا من غير ادراك اللغة لها تداوليا، والفكرة التي لا تستوعبها اللغة بأرقى درجات التعبير التواصلي تبقى ناقصة ومشوّهة كفكرة ادركها العقل ولا يستطيع البوح بها ومقيّدة لا تستطيع التعبير عن نفسها.

نجد في دعوة كروتشة ان اهمية اللغة، يجب ان تكون مقتصرة على دراستها (جماليا) على صعيد الشعر تحديدا، فيها الكثير من التطرّف في تجاوز أهمية دراسة ابعاد اللغة كوسيط تداولي تعبيري، فلسفيا، اجتماعيا، وثقافيا واقتصاديا.ودراسة اللغة جماليا هو دراسة لواحدة من خصائصها الوظائفية العديدة وليس منتهاها .

ومثل ذلك ذهب هيدجر في اهمية دراسة اللغة، وايضا الشعر تحديدا لتبيان(المقاصد الوجودية من اللغة) وهي دعوة ايضا تستبطن اهمية اللغة جماليا، وفي تعطيل السمات والخصائص المتعددة للغة وظائفيا.

ان اهمية ادراك الشيء والتواصل به ومن خلاله ومعرفته لغويا، هو اكبر من اهميته كمدرك عقلاني (موضوع) مكتف بذاته خارج فاعلية واهمية اللغة له، اللغة بعد العقل هي المتعيّن الوجودي لجميع الافكار في ان تكون تداولية تواصلية ذات حيوية واثراء نافع للحياة.

 

علي محمد اليوسف/الموصل

....................

هوامش

(1) و(2) نقلا عن الزواوي بغورة، شذرات عن كتاب الفلسفة واللغة، عرض وتلخيص.

* احيل الى دراستنا الخيال واللغة والتصوف، صحيفة المثقف الغراء