صحيفة المثقف

قراءة في اصل الدين لفويرباخ

علي محمد اليوسفعمد فويرباخ ان يجعل من الطبيعة منشأ الدين وينصّب الانسان (الها) بها ومن خلالها وعليها، فهو جعل الانسان يقدّس ويؤله الطبيعة بتأملاته الخيالية والميتافيزيقية المحدودة عقليا، وأن يعتبر (الانسان) دون وعي منه، الطبيعة بكل ماتمتلكه من هيئات وتنوعات جغرافية وبيئية وتضاريس وانهار وجبال وحيوانات ما هي الا (الاله) الذي يحتاجه روحيا وماديا ايضا في تعليل اسباب وجوده او المساعدة في ايجاد حلول لجميع المشكلات التي تعترضه والظواهر والموجودات الاخرى التي تجاوره وتحيط به.

فويرباخ كما معلوم أبرز فيلسوف أنشق مع آخرين من تلامذة هيجل واطلقوا على أنفسهم الشبان اليساريين الهيجليين، منهم ماركس وانجلز وشتيرنر وشتراوس وغيرهم. وربما يكون اهم انجاز فلسفي تركه فويرباخ هو كتابيه (اصل الدين) و(جوهر المسيحية) في محاولته تثبيت نزعته الالحادية وشرح فلسفته في منشأ الدين.

ولقّب فويرباخ بانه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي او تأملي ذاتي، (البعض ينعت فويرباخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوعة اغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له) ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التاثير المادي لفويرباخ على ماركس، بنفس معيار انكارهم الجدل الهيجلي على اعتباره هو الآخر مثاليا تجريديا تأمليا، واقفا على راسه بدلا من قدميه، علما ان جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون الى ان المادية الفويرباخية والجدل او الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتا الديالكتيكية المادية، والجدل المادي التاريخي الذي اعتمدهما ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليصه مادية فويرباخ من تصوفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة.

المهم أن هذا ليس موضوعنا، لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الانسانية، هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما اعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد ..الخ.كما يتعذر ولادة معارف علمية ولا فلسفية من فراغ سابق عليهما.

يقول ماركس في عبارته المتعالقة مع فويرباخ: (ان الدين باق معنا، في بقاء الاسباب التي أدّت الى نشوئه)1

لا نجانب الصواب حين نرد وننسب التقاء ماركس وفويرباخ في نشأة المسألة الدينية لديهما في اشتراكهما في طبيعة الحادهما وحسب، وانما في طبيعة نسبة مصدر الدين ومنبع وسبب نشوئه الى الطبيعة ذاتها والانسان ذاته ايضا.معتبرين الدين من صنع الانسان والطبيعة معا.

الطبيعة الارضية الحية التي وجد الانسان نفسه مقذوفا بها من غير ارادته مع باقي المخلوقات والمكونات الطبيعية والحياتية النباتية والجمادية، من حيوانات متنوعة واشجار ونباتات وجبال عملاقة وصخور وبيئة وغير ذلك. وكان محتّما ومحكوما على الانسان ان يتكيّف ويتعايش مع هذه الطبيعة شاء أم أبى، ويتماشى مع مراحل تطورها التاريخي، محاولا فهم صفاتها وقوانينها وكيفية التعامل والتكيّف والتعايش معها.

هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة روحيا بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي الذي يعدم تسؤلات ما وراءها، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا الى ماوراء ظواهر الطبيعة.

في هذا التأمل الروحاني البسيط، حسب فويرباخ أخذ الانسان يخلع على الطبيعة، بعضا من خصائصه الذاتية عليها، ليصل بعدها خطوة او مرحلة متقدمة في (تأليه) اغترابه عن الطبيعة، متصورا ان قدراتها وما تمتلكه الطبيعة من صفات لا يمتلكها هو تجعله بالضرورة يجعل منها كائنا يفوقه بالقدرة والمكانة، ويستوجب عليه تقديسه واعتباره (الها) له يعبده ويعمل بجميع الوسائل كسب مرضاته ووقايته من الحاق ضرره المقصود به في كل خوارق العواصف والزلازل والفياضانات وهكذا.

هنا بدا الانسان يفهم ان الطبيعة الاله، تمتلك وتستطيع فعل كل ما يعجز عنه تفكيره وعمله، في وجوده المادي الحسي والروحي على السواء.

ان تفسير فويرباخ (الوهية) الطبيعة المتخيّلة والمصنّعة انسانيا ذاتيا، هو ان (الانسان وضع اسمى خصائصه الانسانية، ماهيته، او جوهره في الطبيعة فقدسّها، ثم خلع عليها صفات وقدرات الالوهية في تجريدها من عينيتها اي واقعيتها المادية، ومن ثم رفعها الى السماء، وسماها (الله) بلغات مختلفة وكيفيات مختلفة ورموز مختلفة وخصائص مختلفة وهيئات مختلفة.)2

واضح ان الدين لدى فويرباخ هو الطبيعة، ويعتبر الانسان الديني هنا، انما يتعامل مع الطبيعة - الدين من خلال ذاته، كذات عقلانية مدركة للطبيعة والمحيط وتعي اغترابها عنهما معا (اغتراب ذاتي واغتراب عن الطبيعة). وبالتالي فان (اله) الانسان لا يعكس سوى حالته فقط، ذاتيته، وجوهره المتفرد الخاص به وحده دون غيره من الكائنات.

تأسيسا على ما ذكرناه يعتبر فويرباخ الطبيعة المبتدأ الاول والمنتهى الاخير لفهم نشوء الدين، لذا تكون تبعية الانسان لحاجة التديّن، هي لاشعور بتبعيته للطبيعة التي لا يستطيع تصوّر الحياة من دونها.

من المعلوم جيدا ان جدل الانسان مع الطبيعة يقوم على جوهر ومرتكز (أنسنة) الانسان لها، ومحاولته السيطرة على بعض تجليّاتها وتسخيرها لمنفعته، أو محاولة اكتشاف بعض قوانينها الطبيعية التي تعمل بمعزل عن رغباته ووجوده ومحاولته الاستفادة منها في تمشية حياته والتكيّف مع الطبيعة.

بالمقابل الجدلي المناقض للانسان نجده في سعي الطبيعة، تطبيع الانسان في مقابل محاولته هو انسنتها، في افتراض واقعي علمي ان جدل التناقض في قطبيه الانسان والطبيعة لا يعيان عقليا تضادهما الجدلي ولا حتى النتائج المتولدة منه والمفصحة عنه. (الجدل والتضاد بينهما في قانون ماركس وحدة وتصارع الاضداد).

انه من المفهوم جيدا ان جدل الانسان في محاولته انسنة الطبيعة يقوم على خاصيتين يمتلكهما الانسان وتفتقدهما الطبيعة وهما عاملي الذكاء واللغة، لذا بالامكان ترجيح جدل التضاد بين الانسان والطبيعة في صالح الانسان وليس الطبيعة وهو ما ثبت انثروبولوجيا وعلميا. ثم اضيفت للانسان قدرات اضافية لا تجاريه فيها الطبيعة مثل انتصاب القامة واستعمال اليد بمساعدة اصبع الابهام الذي لا تمتلكه سائر الحيوانات، وفي مرحلة متقدمة جدا اخترع الانسان اللغة مع دخوله عصر الزراعة، عصر صنع الحضارة الانسانية. (عصر الزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد، وعصر اختراع الكتابة بحدود (2200 – 2300) ق. م.*

نعود لنكمل مع فويرباخ (اذا كان الانسان يؤمن بكائن مختلف مستقل عنه، والذي ليست له طبيعة بشرية، وليست له صفات بشرية، فان ذلك الكائن ليس شيئا سوى الطبيعة في الحقيقة، وان كل الاسماء التي يمنحها هذا الانسان لكائن متخيّل ما هي في الاصل الا سمات الطبيعة ذاتها).3

ويمضي قائلا في تأليهه الطبيعة ( انه اذا كان الله بنظر اللاهوتيين عبارة عن كائن خالد لا يفنى، فانه لا يوجد في الحقيقة كائن خالد سوى الطبيعة، حيث يموت جيل ويعقبه جيل آخر، في حين نجد أن الارض، الشمس، الماء خالدين الى الابد)4

كما يرى فويرباخ أن جوهر الدين هو جوهر الانسان، وماهية الدين هي ماهية الانسان نفسه، وبهذا المعنى فان فويرباخ بحسب الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي (لا يؤسس للالحاد، بل يؤسس الدين برده الى اصله (الانسان) وعلة وسبب نشوء الدين هو اغتراب الانسان الذاتي وعن الطبيعة معا).5

وبهذا الفهم الاغترابي الادماجي المركب حسب فويرباخ يصبح كلا من الانسان والطبيعة والاله المصنّع خياليا ميتافيزيقيا (الها واحدا) متمثلا في محورية ومركزية الانسان وليس الطبيعة ولا اله ما وراء الطبيعة.

من الواضح ان فويرباخ جعل قدم الوهية الطبيعة متقدمة على الوهية الانسان لئلا يقع في التفسير المثالي الذي تحاشاه وهو ان الطبيعة الالهية والاله الميتافيزيقي كلاهما من صنع الانسان، وبهذا المنطق المثالي الذي تحاشاه فويرباخ ابقى الطبيعة وجودا ماديا بمعزل عن كل وجميع رغائب الانسان وذهب الى ان الطبيعة منشأ الدين وليس الدين من صنع وخلق الانسان المحض. ولو ان حقيقة التفسير العقلي المنطقي بغض النظر عن ماديته او مثاليته يذهب الى ان الطبيعة وحدها لا تستطيع صنع دينها بنفسها لولا توّسل الانسان بها.عندها يصبح التفسير المثالي في ان الدين لم تصنعه الطبيعة بقواها الذاتية لولا توّسل الانسان بها واعتمادها مقبولا صحيحا، وبالتالي يبطل قول فويرباخ ان الطبيعة مصدر ومنشأ الاديان.

فقد عمد الانسان تأليه الطبيعة التي يجهل خلقها ومن أوجدها، لذا فقد اعتبرت الطبيعة منذ تلك الحقب التاريخية السحيقة والى يومنا هذا ميراثا للانسان ووجوده الارضي لا ينازعه بها احد منذ انقراض الديناصورات والماموث وغيرها من الكائنات التي كانت تهدد وجوده بالانقراض.

وسواء ورث الانسان الارض هبة من الخالق ام كنزا وجده مصادفة هيأته له ارادة اخرى مجهولة خفية في التطور البيولوجي والكوسمولوجي، فهو وجد نفسه حاكما متحّكما في الكثير من امورها الغامضة او الواضحة ليكون سيّد الطبيعة.

وحسب فويرباخ فان الانسان خلع على الطبيعة من صفاته رغبة منه في حل الغاز وجوده، ونضيف تماشيا مع تصور فويرباخ انه لما كانت الطبيعة عاجزة عن حمل رسالة الالوهية بما يلبي رغبات الانسان ويبعث الطمانينة بنفسه، فهي لا تجترح المعجزات ولا تجيب على اسئلة عقل الانسان المحيّرة ووجوده النوعي، فأن الانسان لم يمتلك سوى الارتداد الى ذاته في تصنيعه الطبيعة (الها)، الى مرحلة لم يكن يعيها جيدا انه بامكانه ان يكون هو (الها) للطبيعة والمخلوقات الأخرى معه.

بالحقيقة لم يكن يدرك الانسان ان من خصائص الاله اجتراح المعجزات عصر ذاك، لذا كانت الوهية الانسان لا ارادية ولا عقلانية، سواء اكانت الطبيعة الها ام لم تكن، او اكان الانسان مخلوقا عبدا ام الها مرسلا ام غير مرسل.

ولأن الانسان بحسب فويرباخ ( كائن غير ميتافيزيقي فان تفكيره الميتافيزيقي (نقض) بمعنى السلب النفي، لفن التفكير كأنه سلب مطلق، والطبيعة له ليست الا المقابل العقلي له)6 (والكائن الذي يوجد في الفكر بالنسبة للمفكر، هو الجوهر الحقيقي، ومع هذا فانه يكون واضحا بذاته له، والكائن الذي لا يوجد في الفكر لا يمكن ان يكون جوهرا صحيحا)7

كما ان الذي لا يعطيه لنا الفكر بفعل التفكيركناتج تفكيري الذي هو الموضوع المادي المدرك لذاته، او الكائن المدرك خياليا (الروحي) عندها يكون المخيال الغاءا افتراضيا مطلوبا لادراك وجود الطبيعة ماديا.التي يرغب الانسان اعطاءها صفة المتعالي والمقدس والالوهية، على حساب الغاء فاعلية العقل الحسي في تحقق وجود الاشياء.على وفق قصدية روحانية دائمة التصادم والتضاد، في عجز الانسان والطبيعة معا اي الخالق الطبيعة والمخلوق الانسان العبد كليهما وجدا عجز اثبات ان الطبيعة تمتلك سمات الالوهية والمقدس في اجتراح المعجزات وتحقيق اماني العبد الانسان في درء الاخطار المحدقة به وحمايته.هذه السمات لم تكن الطبيعة تمتلكها اولا، ولا هي (الطبيعة) ارغمت الانسان خلعها عليها، وتصنيع الهه منها وعبادته لها على وفق ما يطلبه ويتمناه لا وفق ماترغبه الطبيعة، فهي لم تكن ولن تكون مستقبلا بحاجة الى انسان روحي يستمد تدينه من الطبيعة.

بمعنى ان ذاتية الانسان هي التي جعلت من الطبيعة الها افتراضياهو من صنع خيال الذات الانسانية في ايجاد وسيلة تخلع عليها صفات الالوهية، ويعبدها الانسان فلا يجد غير الصفات التي تتفرد بها الطبيعة، او الصفات المشتركة بينهما، ويصنع من الطبيعة الها ماهو الا ذاته هو، التي خلعها على الطبيعة.

تم هذا بواقع تفسير خيالي افتراضي ان الطبيعة قادرة ان تعطي كل متطلبات معيشة الانسان، وبالتالي فهي تستحق التأليه الذي يحتاجه الانسان روحيا في فزعه من الموت والفناء.

 

علي محمد اليوسف/الموصل

...............

الهوامش:

• اعتمدت في هذه المقالة المداخلة، مقالة الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي/الالحاد لا يقي من المثالية والغيبيات/موقع مؤمنون بلا حدود، نيسان 2018 في عرض اراء فويرباخ كتابه اصل الدين تعريب وترجمة الاستاذ احمد عبد الحليم.

1. المصدر اعلاه نفسه

2. المصدر اعلاه نفسه

3. المصدر اعلاه نفسه

4. المصدر اعلاه نفسه

5. المصدر اعلاه نفسه

6. المصدر اعلاه نفسه

7. المصدر اعلاه نفسه

• هذا الموضوع شائك وغير محسوم ايهما سبق الاخر الكتابة ام الكلام؟اذا اعتبرنا ان النقوشات والمحفورات البدائية الصورية على جدران الكهوف هي اسبق على الكلام، قد يبدو صحيحا، لكن اذا اعتبرنا الكلام هو غير لغة التخاطب والتدوين، عندها تكون اللغة المكتوبة المدونة اسبق على الكلام. (كاتب المقالة)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم