صحيفة المثقف

حول معنى ومضمون مفهومي "الفلسفة" و"الفيلسوف"

تدعي الإسطورة الإغريقية بان فيثاغورس هو اول من نطق بالكلمة الإغريقية "فيلوصوفيا" المركبة من كلمتي "فيلوص" والتي تعني "الصديق" او "الحبيب" و"صوفوص" والتي تقابلها بالعربية "الحكمة". ولكن لماذا الحديث يدور هنا عن حب الحكمة وليس عن الحكمة بعينها؟ الإسطورة تجيبنا عن هذا السؤال بان فيثاغورس إعتبر الحكمة صناعة إلهية خالصة، بحيث لا يتبقى للإنسان في هذه الحالة إلأ حبها، إلأ التعلق بها وتقديسها. وفي مقابل ذلك نجد إن اول نص موثّق يصلنا ترد فيه كلمة "فيلسوف"، والتي تصبح بعد ذلك مصطلحاً، يعود إلى هيراقليطس الإفسوسي. ففي احدى الشذرات التي وصلتنا منه يعرّف هيراقليطس الفيلسوف كباحث في طبيعة واصول الأشياء. فالفيلسوف، إذن، هو كل من يدرس الأشياء ويفهمها وفق طبائعها الخاصة. ومن الجدير بالملاحظة إن ما أُخذ يعرف بالفلسفة لاحقاً كان لدى اوائل فلاسفة الطبيعة الإغريق تعاليماً عن المادة الأولى التي تتكون منها كافة الأشياء، التي تنشأ عنها هذه الأخيرة عند ولادتها وتنحلّ اليها عند موتها. ولكن بعد تبلور مفهوم الفلسفة وتحوله إلى مصطلح نظري اخذ المفكرون المختلفون الذين أُسقطت عليهم من الآن فصاعداً تسمية الفلاسفة، اخذوا يضمنونه محتويات متمايزة. وإنني سوف لن اجانب الحقيقة إن قلت بان كل فيلسوف له رؤيته الخاصة للفلسفة ويفهم موضوعها كحقل معرفي على طريقته (او على طريقة المدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها). فمن وجهة نظر بارمينيدس وبقية رواد المدرسة الإيلية وكذلك إفلاطون تصبح الفلسفة معرفة عن الواحد الأحد، الموحد غير المتجزء، الثابت،الأزلي الخالد والمطلق. اما ارسطوطاليس فيحدد موضوع الفلسفة بالوجود بشكل عام. إن الفلسفة، او ما يدعوه ارسطو ب"الفلسفة الأولى"، تمييزاً لها عن "الفلسفة الثانية"، اي علم الطبيعة (الفيزياء)، هي، وفق تصوره، تعاليم عن الموجود كموجود بحد ذاته، اي عن العلل الأولى او مبادىء الأشياء. في حين إن سقراط، وبخلاف من تقدم ذكره، يقوم بإختزال موضوع الفلسفة وذلك بإقصاره على الإنسان. فالفلسفة في رأيه ليست تعاليماً عن جوهر العالم، والذي هو سر إلهي لا يمكن سبر غوره، بل هي تعاليم عن الإنسان وطبيعته ومعنى حياته وعن الفضيلة كشكل اعلى يتجلى فيه وجوده. ويحذو سقراط هنا حذو السوفسطائيين الأقدمين الذين حوّلوا مركز ثقل الفلسفة وقضيتها المركزية من العالم (الوجود بشكل عام) إلى الإنسان (الوجود الإنساني).

من الجهة الأخرى نجد ان الإفلاطونية المحدثة تقوم بتعزيز وتطوير الأساس الغيبي للفلسفة الذي اضفاه عليها فيثاغورس ومدرسته. فوفق مؤسس هذا المذهب امينيوس سقاص وتلميذه إفلوطين ومدرسة هذا الأخير تصبح الفلسفة تعاليماً عن المبدأ الالهي الواحد المتعالي اللانهائي السرمدي، والذي يفيض من ذاته كل شيء من الأكمل إلى الأنقص. وبهذا تحديداً تصبح الإفلاطونية المحدثة واحدة من اهم مناهل الفلسفة المسيحية وكذلك بعض تيارات الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط، وفي ضوء ذلك تصبح الفلسفة تعاليماً عن الجوهر الالهي. بهذه الصورة يتم التخلي كلياً في هذه الفلسفات عن فكرتي المركزية الكونية والمركزية البشرية اللتين ميزتا اهم تيارات الفلسفة الإغريقية وإستبدالهما بفكرة المركزية الالهية.

و لم يبدأ التخلي تدريجياً عن فكرة المركزية الالهية وعلمنة موضوع الفلسفة مجدداً، بل وأنسنته في الفكر الفلسفي الأوربي إلأ مع عصر النهضة. ويتوطد هذا المنحى في الفلسفة اكثر في العصر الحديث. فرينيه ديكارت، مثلاً، يستلهم التعريف الأرسطي للفلسفة حين يحدد موضوعها بالبحث في العلل الأولى والكشف عن المبادىء الأولية للأشياء. إنه في "مبادىء الفلسفة"، او بالأحرى في رسالته إلى مترجمها الفرنسي، يكتب: "إن كلمة الفلسفة تعني التعامل مع الحكمة"، اما "الحكمة فتعني ليس التعقل في الأعمال وحسب، بل والمعرفة الكاملة ايضاً لكل ما يستطيع الإنسان إدراكه ؛ إن هذه المعرفة هي التي توجه حياتنا وتؤمن لنا الصحة والإكتشافات في كافة الفنون. وفي سبيل ان يكون بمقدور هذه المعرفة النهوض بكل ذلك ينبغي لها ان تكون مستخلصة من العلل الأولى بتلك الصورة التي تمكن من يسعى إلى إمتلاكها (و التفلسف يعني في حقيقته الفوز بهذه المعرفة) ان يبدأ البحث في هذه العلل الأولى والتي تسمى بالمبادىء الأولية"[1].

إلأ إن واضع اصول الفلسفة الكلاسيكية الألمانية عمانؤيل كانت فضل ان ينحو منحى ارسطو بصورة اخرى حين شطر الفلسفة إلى فلسفة نظرية وفلسفة عملية، مؤكداً، بخلاف ارسطو، على إن الفلسفة النظرية هي وحدها التي تمتلك موضوعها في المجال المعرفي. كما ويرى كانت إن المهمة الأساسية لهذه الفلسفة ووظيفتها الرئيسية تتلخص في وضع حدود للمعرفة بغية الوقاية من الأوهام، وذلك من خلال نقد القدرات المعرفية. إنه يكتب في هذا الخصوص في "نقد العقل الخالص" ما يلي: "إن الفائدة الكبرى، بل والوحيدة لأي من فلسفات العقل الخالص هي سلبية فقط: إن فلسفة العقل الخالص لا تشكل اداةً للتوسع، بل هي مادة لتحديد الحدود، وبدلاً من إستكشاف الحقيقة، فإنها تؤدي خدمة متواضعة، الآ وهي الوقاية من الأوهام"[2]. ومن الجهة الأخرى، يتمركز موضوع الفلسفة العملية في المجال الأخلاقي، ولذا فإن المهمة الأساسية لهذه الفلسفة، كما يحددها كانت، تتلخص في بلورة اوصياغة القانون الأخلاقي الأعلى.

اما الرائدالأشهر للفلسفة الكلاسيكية الألمانية جيورج ويلهلم فريدريك هيجل، فيرى إن الفلسفة تتطابق في موضوعها مع الدين، لأن الموضوع في كلا المجالين هو الحقيقة[3]. إنه يعرّف الفلسفة "بشكل عام كدراسة متفكرة للأشياء"[4] ، نظراً لأن "التفكير قبل كل شىء يحوي في ذاته بشكل عام مبدأ (نحن نردد هنا هذه الكلمة بمعنى البداية ايضاً) الفلسفة ..."[5]. ولهذا "اصبحوا يُسمون فلسفةً كل معرفة تجد موضوعها في إدراك المعيار الثابت وكذلك الأعم في عالم الفرديات التجريبية، في دراسة الضرورة، القانون في ما يبدو فوضى في الكثرة اللامتناهية للمصادفات، اي المعرفة التي تستمد مضمونها من تأملها الخاص لتصورات الخارجي والداخلي في الطبيعة المقابلة، وكذا في الروح المقابل وفي القلب الإنساني"[6]. وفي ضوء ذلك يذهب هيجل إلى القول بان "الفلسفة تمتلك نقطة بدايتها في التجربة، في الوعي التفكيري المباشر. إن التفكير، المثار بواسطة التجربة كمثير، في مجراه اللاحق يرتقي فوق الوعي الطبيعي الحسي المتفحص، متحولاً إلى مجاله الخاص، الخالص والخالي من الشؤائب، واضعاً نفسه من خلال ذلك في البداية كعلاقة جانبية سلبية مع نقطة بدايته. إنه بدءً يجد قناعته في ذاته، في فكرة الجوهر الأعم لهذه الظواهر؛ إن هذه الفكرة (المطلق، الإله) من الممكن ان تكون فكرة مجردة في الكثير او القليل"[7]. وعليه يصبح من الواضح لماذا إن مهمة الفلسفة تتلخص، وفق هيجل، بإدراك "ما هو موجود...، لأن ما هو موجود هو العقل"[8]. اما هدف الفلسفة، كما يراه هذا الفيلسوف فهو "طرد اللامبالاة ومعرفة ضرورة الأشياء، بحيث الآخر يصبح معارضاً لما هو آخر بالنسبة له"[9]. بهذه الصورة ينتهي مؤسس المثالية المطلقة إلى فهم الفلسفة كالتجسيد الأرفع للمطلق، اي كذلك الشكل الأرقى لوجود هذا الأخير، والذي فيه يدرك المطلق جوهره بصورة كاملة وكلية.

و يختلف كارل ماركس وفريدريك إنجلز بصورة جوهرية مع هيجل ومن سبقه في فهم طبيعة الفلسفة وموضوعها. فالفلسفة ليست علماً يقف فوق بقية العلوم ويملي عليها احكامها وتصوراتها. إن موضوع الفلسفة يتلخص، كما يراه مؤسسا المادية الجدلية والتأريخية، في الرابطة العامة لظواهر الواقع. إنهما يعرّفا فلسفتهما كتعاليم عن القوانين الأعم للطبيعة والمجتمع والمعرفة. إن هذه المعرفة التي، كما يقول إنجلز، تعمم المعطيات الأحدث للعلم، "لم تعد بحاجة إلى اي فلسفة تقوم فوق سائر العلوم الأخرى". وهذا امر مفهوم، لأن الحاجة إلى "علم خاص عن هذه الرابطة الأعم" ستسقط حالاً ، عندما ياخذ كل علم مستقل بالكشف عن وتحديد المكانة التي يحتلها "في الرابطة الأعم للأشياء والمعارف عن الأشياء". وآنذاك سوف لن يتبقى من الفلسفة السابقة سوى التعاليم عن التفكير وقوانينه – المنطق الصوري والديالكتيك[10].

إن الفلاسفة الوضعيون كذلك يزعمون بان فلسفتهم هي الأخرى ذات صلة بالعلم، بل ويقدمونها كفلسفة للعلم بعينه. إنهم لا يكتفوا برد كل الفلسفة إلى فلسفة العلم، إذ لا يعترفون بوجود فلسفة سواها، مصورين إياها بحد ذاتها كعلم وحسب، بل ويقومون بإختزال موضوعها وذلك بإقصاره على التحليل المنطقمنهجي للغة العلم.

إن التمايز الجوهري بين التصورات التي اوردتها آنفاً عن الفلسفة وموضوعها يبدو جلياً ، ولكن على الرغم من ذلك هنالك، في تقديري، ما هو مشترك وجامع بين غالبية هذه التصورات والذي يتمثل، كما ارى، في الإعتراف بعقلانية الفلسفة ومعقولية موضوعها. وبالفعل، إن غالبية الفلاسفة الذين مر ذكرهم لا يشكون في إمكانية إدراك موضوع الفلسفة وفهمه بواسطة العقل البشري، معلنين من خلال ذلك الفلسفة معرفةً عقلانيةً. غير إننا وبالضد منهم نجد عدداً لا يستهان به (و لو هو اقل منهم بكثير) من الفلاسفة يذهب مذهباً مغايراً لذلك تماماً، حين يؤكد على إن العقل الإنساني عاجز عن إدراك وفهم موضوع الفلسفة لأنه موضوع غير معقول اصلاً. ومن بين هؤلاء من الممكن ان اشير إلى رواد فلسفة الحياة الفلاسفة الألمان آرثور شوبنهاور وفريدريك نيتشه وويلهلم دلتاي وجيورج سيمّل والفيلسوف الفرنسي هنري-لويس برجسون وآخرين ممن إعتبروا الحياة الموضوع الحقيقي في الفلسفة، مصورين إياها في الوقت نفسه كبداية مطلقة ولا عقلانية للوجود. فالحياة من وجهة نظرهم لا يمكن إدراكها وفهمها بواسطة العقل ومن الممكن الكشف عن مكنونها حدسياً بواسطة المعاناة فقط.

و إلى دائرة اللاعقلانيين في فهم الفلسفة وموضوعها ينتمي الفيلسوف واللاهوتي الدانماركي سورين كيركيجارد، الذي رفض الفلسفة التأملية السابقة لنزعها الطابع الشخصاني عن موضوعها، معتقداً بان الفلسفة لا يمكن ان تنطلق من او تصدر عن بداية غير شخصانية. وبهذا، فإن الموضوع الأصيل للفلسفة لا يمن ان يكون، في رأيه، إلأ الشخصية الإنسانية، او ،بتعبير ادق، طريقة وجودها. وبكلمات اخرى، إن هذا الموضوع ما هو في الحقيقة سوى وجود الموحد الواحد والذي يفهم به كيركيجارد "الأنا الحقة". وبما ان اساس الشخصية الإنسانية، وإذن، جوهرها يتمثل في ما يدعوه هذا الفيلسوف ب "ألإكزيستنتيا" ("الوجود")، لذا، فإن هذه الأخيرة تحديداً هي التي تؤلف الموضوع الحقيقي والوحيد للفلسفة. والإكزيستنتيا هذه ذات طبيعة لاعقلانية لأن في اساسها يقوم إعتقاد غير معقول ك "ولع اعلى في الإنسان". وبسبب ذلك لا يمكن إدراكها والكشف عن مكننونها إلأ عبر المعاناة، إلأ عبر المشاعر العميقة المؤثرة والإنفعالات.

و تستلهم الفلسفة الوجودية افكار كيركيجارد هذه وتعتمد تصوره وفهمه لموضوع الفلسفة ووظيفتها. فوفق تصور احد مؤسسَيْ الوجودية الألمانية كارل ياسبرس إن اي معرفة عقلانية ما هي في الواقع إلأ "شفرةً للوجود"، اي تعبير او تجسيد إستعاري للمعنى الحقيقي للوجود ولمضمونه المتمثل بالإكزيستنتيا اللاعقلانية. إن الوظيفة الأساسية للفلسفة تتلخص، في رأيه، في حل الشفرة المذكورة والكشف عن هذا المعنى وتحديد هذا المضمون، الأمر الذي لا يمكن ان يتم إلأ بواسطة معاناة الفرد المستقل ومن خلالها. وفي ضوء ذلك يعرّف ياسبرس الفلسفة الوجودية كذلك التفكير الذي "لا يدرك الأشياء، بل يستوضح ويستكشف الوجود في الإنسان"[11].

و هكذا نرى إن فهم الفلسفة وموضوعها يتميز بتنوع وتباين كبيرين في وجهات النظر، تنوع وتباين يجيزان لي ان اعيد واكرر ما سبق وان اكدته آنفاً من ان لكل فيلسوف، او لكل مدرسة فلسفية في الأقل، تصوراتهم الخاصة عن الفلسفة وموضوعها. ومن هنا اخلص إلى إستنتاجين. الأول يتلخص في ان فهم موضوع ووظيفة الفلسفة يتميز بطابع تاريخي، حيث نجده يتغير في مجرى تطور الفكر الفلسفي بالإرتباط مع تغير الظروف الإجتماعية لوجود الناس، اي مع تغير انظمة علاقاتهم الإجتماعية. إن هذا الأمر يجد تفسيره في ان موضوع ومضمون الفلسفة لا يتناسبا شكلياً مع الظروف والعلاقات المذكورة وحسب، بل ويقوما بعكسهما وتجسيدهما بصورة مكثفة بهذا القدر او ذاك. وفي ضوء هذه الحقيقة يصبح من الواضح والمفهوم لماذا ذهب هيجل إلى القول بان الفاسفة هي "الزمن المدرك في الفكرة"[12] ، ولماذا ماركس قد اكد على "ان كل فلسفة اصيلة ما هي إلأ الجوهر الروحي لزمانها"[13]. وفي السياق نفسه نجد إن فرنسيس بيكون كان قد قال قبلهما ب "ان الحقيقة بنتُ زمانها"[14]. اما الإستنتاج الثاني، فمفاده هو إن الفلسفة، وبخلاف العلم الذي هو ذو طبيعة احادية، تتميز بالتعددية لأن مشكلاتها غير قابلة للحل بطريقة واحدة وبشكل نهائي. فكل يصوغ هذه المشكلات ويحلها وفق ما تمليه عليه المنطلقات الأساسية والمضمون العام للنظام الفلسفي الذي ينظوي تحت لوائه او يقوم هو شخصياً ببنائه. إن التعددية كخاصية مميزة للفلسفة هي التي تتيح إمكانية إضفاء طابع قومي او وطني عليها. فبخلاف العلم الذي بحكم احاديته لا يمكن ان يكتسب دلالة قومية او ان يتمتع بطابعٍ وطنيٍ نجد ان الفلسفة بحكم تعدديتها تستطيع ان تمتلك صفة قومية او وطنية. وبالفعل، إننا في الوقت الذي لا يمكن ان نميز فيه فيزياء إنجليزية او كيمياء عربية، نستطيع ان نتحدث فيه عن فلسقة إنجليزية او فلسفة عربية.

هذا وإن حاولنا ان نعمم التصورات الكثيرة عن الفلسفة وموضوعها، والتي اوردت اعلاه جزءً منها، فبإمكاننا، عندئذٍ، ان نصوغً تصوراً اعلى تجريديةً لهما يذهب إلى تعريف الفلسفة كتلك التعاليم الشاملة عن العالم ككل موحد على نفسه وعن موقع الإنسان فيه. ومن هذا التعريف سانطلق في تحديدي لمضمون مصطلح "الفيلسوف". إنني أُميّز ثلاثة معاني لهذا المصطلح: ضيق وواسع واوسع. ففي معناه الضيق (الدقيق، المباشر، الفعلي، الأصيل ...إلخ) الفيلسوف يعني المفكر الذي قام بإضافات نوعية مهمة إلى تعاليم من سبقه من الفلاسفة سواء ببناء نظام فلسفي جديد، ام بتطوير تعاليم مدرسة فلسفية ونقلها إلى مستوى نوعي جديد. وبهذا المضمون الضيق، الدقيق والمباشر، اي الأصيل نطلق هذا المصطلح، مثلاً، على ديمقريطس وإفلاطون، على ارسطو وإبيقورس، على إفلوطين ونيقولا الكوزي، على إبن سينا والغزالي، على إبن رشد وإبن خلدون، على ديكارت ولوك، على كانت وهيجل وماركس ونيتشة وبوشلار وفوكو والكثيرين غيرهم من المفكرين الذين تأثروا بمن سبقهم واثروا بمن لحقهم. وهؤلاء هم الفلاسفة في المعنى الحقيقي، الصادق والأصلي للكلمة.

اما في معناه الواسع، فيحتضن مفهوم "الفيلسوف" في مضمونه فضلاً عمن تقدم ذكره كل من دَرَسَ الفلسفة وقام بتدريسها وشرحْ وتبسيط مفاهيمها المعقدة ونشرها وكذلك الباحثين في تاريخها والمفسرين لتعاليم الآخرين، وليست لديهم إسهامات مشهودة في تطوير الفكر الفلسفي. هذا يعني إن المضمون الواسع لمفهوم "ألفيلسوف" يحتضن على حد سواء كل من ساهم بتطوير الفلسفة ومن لم يساهم بذلك ولكن يمتلك صلة فعلية بالفلسفة.

واخيراً، في معناه الأوسع، والذي هو اقرب إلى صيغة المجاز منه إلى الأصل، مفهوم "الفيلسوف" يصبح تعبيراً عن كل إنسان كحامل للثقافة، بحكم كون الثقافة هي بالتحديد الصفة الجوهرية التي تميز الإنسان عن سائر الحيوان. هذا يعني إن كل إنسان هو فيلسوف بالفطرة. وبالفعل، من الصعب ان نتخيل إنساناً بالغاً بكامل قواه العقلية لا يمتلك بهذا القدر او ذاك من الوعي صورته عن العالم وعن الموقع الذي يحتله الإنسان فيه، لا يمتلك تصوراته الشخصية للخير والشر، للفضيلة والرذيلة، للبديع والقبيح، للبطولي والمأساوي، للعدالة والظلم، للشجاعة والجُبنْ..إلخ. وبطبيعة الحال إن هذه الصورة وهذه التصورات تختلف من إنسان لإنسان بمدى واقعيتها ودرجة وضوحها وبمقاييس عديدة اخرى. فلدى البعض هي بدائية فظة، ولدى البعض الآخر هي ملموسة واضحة ومدركة. ولكن في كافة الأحوال إنها موجودة لدى كل إنسان يتمتع بكامل قواه العقلية. ولهذا لا يمكنني إلأ ان اتفق هنا مع فكرة هيجل القائلة بان "الإنسان ككائن مفكر هو ميتافيزيقي بالولادة" (هيجل ج.و.ف. موسوعة العلوم الفلسفية. ج 1، ص. 240) مع ضرورة الإضافة إلى ذلك إن االإنسان يبدو كذلك ككائن متأمل ايضاً. وفي هذا، كما ارى، يكمن احد اسباب فشل الفلسفة الوضعية في إجتتثاث وإستأُصال التأمل، وبالتالي الميتافيزيقا، ليس من الفلسفة، بل ومن العلم ايضاً.

وفي ضوء كل ما تقدم لا ارى اي ضير في تسمية كل من دَرَسَ الفلسفة وتواصل معها تدريساً وشرحاً وبحثاً وتوليفا..ً إلخ، دون ان يضيف شيئاً جديد نوعياً إلى رصيد الإنسانية الفلسفي، فيلسوفاً. وهو كذلك لأنه فعلاً فيلسوف في المعنى الواسع للكلمة، كما بينت اعلاه. كما ولا ارى ما يمنع من الإعتراف ايضاً بوجود فلسفة عربية معاصرة وضرورة تدريسها تحت هذا العنوان وليس تحت إسم الفكر العربي المعاصر، والذي كمصطلح ياتي مغايراً لمصطلح "الفلسفة العربية المعاصرة" في حجمه ومضمونه. ومن الغريب حقاً في هذا الخصوص ان يقر الرأي على وجود فكر عربي معاصر وينكر في الوقت ذاته وجود فلسفة عربية معاصرة، او لا يعترف علناً بوجودها. فهل، يا ترى، من الممكن مبدئياً ان يتبلور الفكر عموماً بدون رؤية فلسفية؟! وعليه، فمما لا شك فيه ان هنالك فكر عربي فلسفي معاصر يشكل واحداً من اهم مكونات الفكر العربي المعاصر، وإن هنالك فلاسفة عرب معاصرين، منهم المجدد، ومنهم المقلد، وقد حان الوقت للتخلص من التواضع الزائد وترك التوجس جانباً والإعتراف بهذه الحقائق. وبالإرتباط مع ذلك ينبغي التوجه الجاد لدراسة والبحث في ما خَلّفه وما يقدمه هؤلاء الفلاسفة من افكار وتصورات بغية بلورة صورة شاملة للفلسفة العربية المعاصرة بتياراتها ومدارسها المختلفة وكتابة تاريخها.

 

نمير العاني

سانت بطرسبورج– روسيا

..........................

[1] ديكارت ر. رسالة المؤلف إلى مترجم "مبادىء الفلسفة" الفرنسي والتي هي مناسبة هنا كمقدمة: ديكارت ر. المؤلفات بمجلدين. المجلد الأول. موسكو: دار نشر "ميسل"، 1989، ص. 301 (بالروسية).

[2] كانت ع. نقد العقل الخالص: كانت ع. المؤلفات في ستة مجلدات. المجلد الثالث. موسكو، 1964، ص. 655 (بالروسية).

[3] انظر: هيجل ج.و.ف. موسوعة العلوم الفلسفية. ج 1، موسكو: ميسل، 1975، ص. 84؛ هيجل ج.و.ف. فلسفة الحق. ، موسكو: ميسل، 1990، ص. 254 (بالروسية).

[4] هيجل ج.و.ف. موسوعة العلوم الفلسفية. ج 1، ص. 85 (بالروسية).

[5] المصدر نفسه، ص. 91.

[6] المصدر نفسه، ص. 91.

[7] المصدر نفسه، ص. 96.

[8] هيجل ج.و.ف. فلسفة الحق، ص. 55.

[9] هيجل ج.و.ف. موسوعة العلوم الفلسفية. ج 1، ص. 279 (بالروسية).

[10] انظر: ماركس ك. وإنجلز ف. المؤلفات. الطبعة الثانية. المجلد 20، ص. 20؛ المجلد 21 ، ص. 325 (بالروسية).

[11] ياسبرس :. معنى وغرض التاريخ. موسكو، 1991، ص. 387 (بالروسية)

[12] هيجل ج.و.ف. فلسفة الحق، ص.55 (بالروسية).

[13] ماركس ك. وإنجلز ف. المؤلفات. الطبعة الثانية. المجلد 1، ص 105 (بالروسية).

[14] بيكون ف. المؤلفات، المجلد 2 . موسكو، 1978، ص. 46 (بالروسية).

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم